يعلمونها وما أعلمهم ذلك؟ ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه من المبالغة فيه ، ثم أردفوا الوصف بالعلم ، الوصف بالحكمة ، لأنه سبق قوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً). فلما صدر من هذا المجعول خليفة ، ما صدر من فضيلة العلم تبين لهم وجه الحكمة في قوله : وجعله خليفة.
فانظر إلى حسن هذا الجواب كيف قدموا بين يديه تنزيه الله ، ثم اعترفوا بالجهل ، ثم نسبوا إلى الله العلم والحكمة ، وناسب تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة ، لأنه المتصل به في قوله : (وَعَلَّمَ) ، (أَنْبِئُونِي) ، (لا عِلْمَ لَنا). فالذي ظهرت به المزية لآدم والفضيلة هو العلم ، فناسب ذكره متصلا به ، ولأن الحكمة إنما هي آثار العلم وناشئة عنه ، ولذلك أكثر ما جاء في القرآن تقديم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة. ولأن يكون آخر مقالهم مخالفا لأوله حتى يبين رجوعهم عن قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها) ، وعلى القول بأن الحكيم هو ذو الحكمة ، يكون الحكيم صفة ذات ، وعلى القول بأنه المحكم لصنعته يكون صفة فعل. وأنت : يحتمل أن يكون توكيدا للضمير ، فيكون في موضع نصب ، أو مبتدأ فيكون في موضع رفع ، والعليم خبره ، أو فضلا فلا يكون له موضع من الإعراب ، على رأي البصريين ، ويكون له موضع من الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم قبله ، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده ، والأحسن أن يحمل العليم الحكيم على العموم ، وقد خصه بعضهم فقال : العليم بما أمرت ونهيت ، الحكيم فيما قدرت وقضيت. وقال آخر : العلم بالسر والعلانية ، والحكيم فيما يفعله وهو قريب من الأول.
(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) : نادى آدم باسمه العلم ، وهي عادة الله مع أنبيائه ، قال تعالى : (يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) (١) ، (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢) ، (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٣) ، (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) (٤) ، (يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ) (٥) ، ونادى محمدا نبينا صلىاللهعليهوسلم وعلى سائر الأنبياء بالوصف الشريف من الإرسال والإنباء فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ) (٦) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (٧). فانظر تفاوت ما بين هذا النداء
__________________
(١) سورة هود : ١١ / ٤٨.
(٢) سورة هود : ١١ / ٤٦.
(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٤ ـ ١٠٥.
(٤) سورة القصص : ٢٨ / ٣٠.
(٥) سورة المائدة : ٥ / ١١٠.
(٦) سورة المائدة : ٥ / ٤١.
(٧) سورة الأنفال : ٨ / ٦٤ و ٦٥ و ٦٧.