وكان الفرس قبل الهجرة النبوية بثماني سنين فتحوا الشام (سنة ٦١٣ ـ ٦١٤ م) فدافع هرقل عنها سنة ٦٢٦ وانتصر على كسرى ولكنه فقد بانونيا ودلماسيا من أجزاء مملكته ، سقطتا في أيدي الخرواتيين والصربيين وخوى نجم المملكة وساء طالعها وظهرت عليها أعراض الانحطاط ، فارتأى هرقل أن يلقي بقياده الى البطريرك سرجيوس القائل بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح (عليه الصلاة والسلام). وكانت النصرانية تشعبت الى مذاهب مختلفة كنحلة النساطرة واليعاقبة ، ويكره جميع أرباب هذه المذاهب حكومة الروم وكانت تضطهدهم باسم المذهب الأرثوذكسي وعداوتهم لها تزيد على الأيام تأصلا.
كانت مصر والشام من جملة الأقطار التي تحاول الانفصال عن بيزنطية وشغل الامبراطور وشعبه بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية ، فأخذ ينظر الى غارات العرب نظر العاجز الضعيف ، وزاده ضعفا شيخوخته واستسلامه لرجال الدين ، مع أنه كان على ضعف إرادته شجاعا عاملا بعيد النظر. وما حال ملك ينخر جسمه سوس الفساد في الداخل ، وهل لمن ضعف جسمه واختلت قواه أن يرسل نظره الى القاصية فيتقيها وهو على اتقاء ما لديه من المنهكات أعجز؟ فلا عجب أن أصبحت أحوال الشام من أشد ما يكون ملاءمة لفتوح العرب في تلك الحقبة من الزمن ، وأسباب الظفر موفورة لهم من كل وجه.
هذا وخزائن هرقل فارغة ، ومرتبات الأمير الغساني التي كانت الدولة تجريها عليه منقطعة. والنفوس في الشام مستاءة من المظالم والمغارم ، سئمت الحروب والغارات وهي عرضة لمطامع الفرس أو سوء إدارة الروم ، والناس يتحدثون بقرب انفراج الأزمة على أيدي الفاتحين من العرب ، وكان يبلغهم من أخبار عدلهم ما تثلج له الصدور ، وتود لو ترى قبل ساعة طلعة الدولة الجديدة التي أتت من الأعمال ما صعب على الفاتحين أن يأتوا مثله في باب العدل والرحمة والتسامح.