واعلم أنه لا سبيل إلى أن تعرف صحّة هذه الجملة حتى يبلغ القول غايته ، وينتهي إلى آخر ما أردت جمعه لك ، وتصويره في نفسك ، وتقريره عندك.
إلّا أن هاهنا نكتة ، إن أنت تأملتها تأمّل المتثبّت ، ونظرت فيها نظر المتأنّي ، رجوت أن يحسن ظنّك ، وأن تنشط للإصغاء إلى ما أورده عليك ، وهي أنّا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا : لو لا أنهم حين سمعوا القرآن ، وحين تحدّوا إلى معارضته ، سمعوا كلاما لم يسمعوا قطّ مثله ، وأنهم رازوا (١) أنفسهم فأحسّوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريبا منه لكان محلا أن يدعوا معارضته وقد تحدّوا إليه ، وقرّعوا فيه ، وطولبوا به ، وأن يتعرّضوا لشبا الأسنّة (٢) ويقتحموا موارد الموت.
فقيل لنا : قد سمعنا ما قلتم ، فخبّرونا عنهم ، عمّا ذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانية وحسنها وصحّتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم : عن الألفاظ ، فما ذا أعجزهم من اللّفظ ، أم ما بهرهم منه؟.
فقلنا : أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه ، وخصائص صادفوها في سياق لفظه ، وبدائع راعتهم من مبادئ آية (٣) ومقاطعها ، ومجاري ألفاظها ومواقعها ، وفي مضرب كل مثل ، ومساق كل خبر ، وصورة كل عظة وتنبيه ، وإعلام وتذكير ، وترغيب وترهيب ، ومع كل حجّة وبرهان ، وصفة وتبيان.
وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة ، وعشرا عشرا ، وآية آية ، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها ، ولفظة ينكر شأنها ، أو يرى أن غيرها أصلح هناك أو أشبه ، أو أحرى وأخلق ، بل وجدوا اتساقا بهر العقول ، وأعجز الجمهور ، ونظاما والتئاما ، وإتقانا وإحكاما ، لم يدع في نفس بليغ منهم ، ولو حكّ بيافوخه السماء ، موضع طمع ، حتى خرست الألسن عن أن تدّعي وتقول ، وخذيت القروم (٤) فلم تملك أن تصول.
نعم ، فإذا كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل ، فبنا أن ننظر : أيّ أشبه بالفتى في عقله ودينه ، وأزيد له في علمه ويقينه ، أأن يقلّد في ذلك ، ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه ، ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي؟ ومن أين
__________________
(١) راز الشيء اختبره وامتحنه وجرّبه. انظر القاموس (٦٥٩) مادة / روز /.
(٢) أي حدّها وطرفها الذي يصيب ويقتل. والشبا : حدّ كل شيء. انظر القاموس. مادة / شبا / (١٦٧٤).
(٣) الآي : مفردها الآية.
(٤) وهو الفحل أو ما لم يمسه حبل أي ترك عن الركوب والعمل. القاموس / قرم / (١٤٨١).