فصل
وإذ قد عرفت هذه المسائل في
«الاستفهام» ، فهذه مسائل في «النفي».
إذا قلت : «ما فعلت» ، كنت نفيت عنك فعلا لم يثبت أنه مفعول ، وإذا قلت : «ما أنا فعلت» ، كنت نفيت عنك فعلا يثبت أنّه مفعول.
تفسير ذلك : أنك إذا قلت : «ما قلت هذا» ، كنت نفيت أن تكون قد قلت ذاك ، وكنت نوظرت في شيء لم يثبت أنه مقول؟
وإذا قلت : «ما أنا قلت هذا» ، كنت نفيت أن تكون القائل له ، وكانت المناظرة في شيء ثبت أنه مقول. وكذلك إذا قلت : «ما ضربت زيدا» ، كنت نفيت عنك ضربه ، ولم يجب أن يكون قد ضرب ، بل يجوز أن يكون ضربه غيرك ، وأن لا يكون قد ضرب أصلا. وإذا قلت : «ما أنا ضربت زيدا» ، لم تقله إلا وزيد مضروب ، وكان القصد أن تنفي أن تكون أنت الضارب.
ومن أجل ذلك صلح في الوجه الأوّل أن يكون المنفيّ عامّا كقولك : «ما قلت شعرا قطّ» ، و «ما أكلت اليوم شيئا» ، و «ما رأيت أحدا من الناس» ، ولم يصلح من الوجه الثاني ، فكان خلفا أن تقول : «ما أنا قلت شعرا قط» ، و «ما أنا أكلت اليوم شيئا» ، و «ما أنا رأيت أحدا من الناس» ، وذلك أنه يقتضي المحال ، وهو أن يكون هاهنا إنسان قد قال كلّ شعر في الدنيا ، وأكل كلّ شيء يؤكل ، ورأى كل أحد من الناس ، فنفيت أن تكونه.
ومما هو مثال بيّن في أن تقديم الاسم يقتضي وجود الفعل قوله : [من المتقارب]
وما أنا أسقمت جسمي به |
|
ولا أنا أضرمت في القلب نارا (١) |
المعنى ، كما لا يخفى ، على أن السّقم ثابت موجود ، وليس القصد بالنّفي إليه ، ولكن إلى أن يكون هو الجالب له ، ويكون قد جرّه إلى نفسه.
__________________
(١) البيت للمتنبي في ديوانه (١١٨) ، وهو من قصيدة قالها ردّا على تنكر سيف الدولة له بسبب تأخره عن مدحه ، ومطلعها :
أرى ذلك القرب صار ازورارا |
|
وصار طويل السلام اختصارا |
والمعنى : أنه يعتذر بما عرض له من الهم الذي أسقم جسمه وجعل في قلبه نارا لحرارته ، فهو الذي كان السبب في انقطاع الشعر والنوم جميعا ، يقول : أنا لا أقدر أن أفعل شيئا من هذا. التبيان على شرح ديوان المتنبي للعكبري.