فصل
[في تحليل مثال آخر للحذف]
قد بان الآن واتّضح لما نظر نظر المتثبّت ـ الحصيف الراغب في اقتداح زناد العقل ، والازدياد من الفضل ، ومن شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها ، ويتغلغل إلى دقائقها ، ويربأ بنفسه عن مرتبة المقلّد الذي يجري مع الظاهر ، ولا يعدو الذي يقع في أوّل الخاطر ـ أنّ الذي قلت في شأن «الحذف» وفي تفخيم أمره ، والتنويه بذكره ، وأنّ مأخذه مأخذ يشبه السحر ، ويبهر الفكر ، كالذي قلت.
وهذا فنّ آخر من معانيه عجيب ، وأنا ذاكره لك. قال البحتري في قصيدته التي أولها : [من الطويل]
أعن سفه يوم الأبيرق أم حلم (١)
وهو يذكر محاماة الممدوح عليه ، صيانته له ، ودفعه نوائب الزمان عنه : [من الطويل]
وكم ذدت عنّي من تحامل حادث |
|
وسورة أيّام حززن إلى العظم (٢) |
الأصل لا محالة : حززن اللّحم إلى العظم ، إلّا أنّ في مجيئه به محذوفا ، وإسقاطه له من النّطق ، وتركه في الضمير ، مزيّة عجيبة وفائدة جليلة.
وذاك أن من حذق الشاعر أن يوقع المعنى في نفس السامع إيقاعا يمنعه به من أن يتوهّم في بدء الأمر شيئا غير المراد ، ثم ينصرف إلى المراد. ومعلوم أنه لو أظهر المفعول فقال : «وسورة أيام حززن اللحم إلى العظم» ، لجاز أن يقع في وهم السامع إلى أن يجيء إلى قوله : «إلى العظم» ، أن هذا الحزّ كان في بعض اللحم دون كله ، وأنه قطع ما يلي الجلد ولم ينته إلى ما يلي العظم. فلما كان كذلك ، ترك ذكر «اللحم» وأسقطه من اللفظ ، ليبرئ السامع من هذا الوهم ، ويجعله بحيث يقع المعنى منه في أنف (٣) الفهم ، ويتصوّر في نفسه من أوّل الأمر أن الحزّ مضى في اللحم حتى لم يردّه إلّا العظم.
__________________
(١) هو صدر بيت وعجزه : «وقوف بربع أو بكاء على رسم» قاله البحتري وهو يمدح أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني ا. ه الديوان (١ / ١٩٠).
(٢) البيت للبحتري في ديوانه ، وأورده القزويني في الإيضاح (١١٢) ، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (٨٢) ، والمخاطب في البيت أبو الصقر ممدوح البحتري.
(٣) الأنف من كل شيء أوله أو أشهره. القاموس : / أنف / (١٠٢٥).