القول في الحذف
هو باب دقيق المسلك ، لطيف المأخذ ، عجيب الأمر ، شبيه بالسّحر ، فإنك ترى به ترك الذّكر ، أفصح من الذكر ، والصّمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق ، وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم تبن.
وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر ، وتدفعها حتى تنظر ، وأنا أكتب لك بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف ، ثم أنبهك على صحّة ما أشرت إليه ، وأقيم الحجّة من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب : [من البسيط]
اعتاد قلبك من ليلى عوائده |
|
وهاج أهواءك المكنونة الطلل |
ربع قواء أذاع المعصرات به |
|
وكلّ حيران سار ماؤه خضل (١) |
قال : أراد ، «ذاك ربع قواء أو هو ربع». قال : ومثله قول الآخر : [من البسيط]
هل تعرف اليوم رسم الدّار والطّللا |
|
كما عرفت بجفن الصّيقل الخللا |
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم |
|
بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا (٢) |
كأنه قال : تلك دار. قال شيخنا (٣) رحمهالله : ولم يحمل البيت الأول على أن «الرّبع» بدل من «الطّلل» ، لأن الرّبع أكثر من الطّلل ، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه ، فأما الشيء من أقلّ منه ففاسد لا يتصوّر. وهذه طريقة مستمرّة لهم إذا ذكروا الديار والمنازل.
وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون ، فقد يضمرون الفعل فينصبون ، كبيت الكتاب أيضا : [من البسيط]
__________________
(١) هو سيبويه ، ونسبهما البغدادي في شرح المغني لعمر بن أبي ربيعة ، وليسا في ديوانه ، والقواء : المكان القفر. أذاع المعصرات به : وهي الرياح العاصفات ذوات الغبار. والرهج ، وأذاع به ، ذهبت به وطمست معالمه ، وحيران : صفة لمحذوف ، وهو السحاب المتردد ، وسار : يسير ليلا ، وماؤه خضل : يحمل ماء غزيرا.
(٢) البيتان في الكتاب لسيبويه : (١ / ٢٨٢) ، وينسبان لعمر بن أبي ربيعة ، وهما في ملحقات ديوانه (٤٩٧) ، والبيت الثاني في اللسان (كنس) بدون نسبة. الخلل : جمع خلة بالكسر ، وهي بطانة يغشى بها تنقش بالذهب ، والصيقل : شحاذ السيوف وجلاؤها. مروة : اسم صاحبته ، الكانسية : موضع. نرعى اللهو والغزل : نلتزمهما ونحافظ عليهما وشبه رسوم الدار في اختلافها أو حسنها في عينه بخلل جفون السيوف التي صنعها الصيقل.
(٣) شيخنا : المقصود به أبو الحسن الفارسي.