ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة : «إنها خصوصية في نظم الكلم وضمّ بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة ، أو على وجوه تظهر بها الفائدة» ، أو ما أشبه ذلك من القول المجمل ، كافيا في معرفتها ، ومغنيا في العلم بها ، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلّها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التّصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص ، وضمّ لطاقات الإبريسم (١) بعضها إلى بعض على طرق شتّى. وذلك ما لا يقوله عاقل.
وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصّناعات علما تمرّ فيه وتحلي ، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب ، ويفصل بين الإساءة والإحسان ، بل حتّى تفاضل بين الإحسان والإحسان ، وتعرف طبقات المحسنين.
وإذا كان هذا هكذا ، علمت أنه لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما ، وأن تصفها وصفا مجملا ، وتقول فيها قولا مرسلا ، بل لا تكون من معرفتها في شيء ، حتى تفصّل القول وتحصّل ، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدّها واحدة واحدة ، وتسمّيها شيئا شيئا ، وتكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم الذي في الديباج ، وكلّ قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطّع ، وكل آجرّة من الآجرّ الذي في البناء البديع.
وإذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا النظر ، وطلبتها هذا الطّلب ، احنجت إلى صبر على التأمّل ، ومواظبة على التدبّر ، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتّمام ، وأن تربع (٢) إلّا بعد بلوغ الغاية ، ومتى جشمت (٣) ذلك ، وأبيت إلا أن تكون هنالك ، فقد أممت (٤) إلى غرض كريم ، وتعرّضت لأمر جسيم ، وآثرت التي هي أتمّ لدينك وفضلك ، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك ، وذلك أن تعرف حجّة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه (٥) لها ، وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا ، وكوكبها طلوعا ، وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشكّ ، وأبعد من الرّيب ؛ وأصحّ لليقين ، وأحرى بأن يبلّغك قاصية التبيين.
__________________
(١) وهو الحرير. القاموس / برسم / (١٣٩٥).
(٢) أي وقف وانتظر. اه القاموس / ربع / (٩٢٧).
(٣) جشم الأمر جشما وجشامة تكلفه على مشقة. اه القاموس / جشم / (١٤٠٦).
(٤) الأمّ بالفتح القصد. اه مختار الصحاح / أمم / (٢٦).
(٥) ناه الشيء ينوه ارتفع فهو نائه. اه الصحاح / نوه / (٦٢٣).