غفلا. وذلك أنك لا تدّعي شاهد الصفة ودليلها إلّا والأمر ظاهر معروف ، وبحيث لا يشكّ فيه ، ولا يظنّ بالمخبر التجوّز والغلط.
وأمّا «الاستعارة» ، فسبب ما ترى لها من المزيّة والفخامة ، أنك إذا قلت : «رأيت أسدا» ، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة ، حتى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثّبوت والحصول ، وكالأمر الذي نصب له دليل يقطع بوجوده. وذلك أنه إذا كان أسدا ، فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة ، وكالمستحيل أو الممتنع أن يعرى عنها. وإذا صرّحت بالتشبيه فقلت : «رأيت رجلا كالأسد» ، وكنت قد أثبتها إثبات الشيء يترجّح بين أن يكون وبين أن لا يكون ، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء.
وحكم «التمثيل» ، حكم «الاستعارة» سواء ، فإنك إذا قلت : «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى» ، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحيّر والتردد ، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر. فتقول : قد جعلت تتردّد في أمرك ، فأنت كمن يقول : أخرج ولا أخرج ، فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى.
فصل
اعلم أنّ من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة ، وأن تتفاوت التفاوت الشديد. أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العاميّ المبتذل ، كقولنا : «رأيت أسدا ، ووردت بحرا ، ولقيت بدرا». والخاصّيّ النادر الذي لا تجده إلّا في كلام الفحول ، ولا يقوى عليه إلّا أفراد الرجال ، كقوله : [من الطويل]
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح (١)
أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة ، وكانت سرعة في لين وسلاسة ، حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.
ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللّطف وعلوّ الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر : [من البسيط]
__________________
(١) البيت لكثير عزة في ديوانه وصدره :
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وفي زهر الآداب (ص ٣٤٩) ، وبلا نسبة في اللسان (طرف) ، وفي الإيضاح (٢٦٤) ، وعروس الأفراح كلاهما بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ، وأساس البلاغة (سيل) ، وتاج العروس (طرف) ومعجم البلدان (منى). والأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصى. اللسان (بطح).