الغامضة الدقيقة ، أعجب طريقا في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك ، وتكدّ فيه فكرك ، وتجهد فيه كل جهدك ، حتى إذا قلت قتلته علما ، وأحكمته فهما ، كنت بالّذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة ، ويعرض فيه من شك ، كما قال أبو نواس : [من الطويل]
ألا لا أرى مثل امترائي في رسم |
|
تغصّ به عيني ويلفظه وهمي |
أتت صور الأشياء بيني وبينه |
|
فظنّي كلا ظنّ ، وعلمي كلا علم (١) |
وإنّك لتنظر في البيت دهرا طويلا وتفسّره ، ولا ترى أنّ فيه شيئا لم تعلمه ، ثم يبدو لك فيه أمر خفيّ لم تكن قد علمته ، مثال ذلك بيت المتنبي : [من الكامل]
عجبا له! حفظ العنان بأنمل |
|
ما حفظها الأشياء من عاداتها (٢) |
مضى الدهر الطويل ونحن نقرؤه فلا ننكر منه شيئا ، ولا يقع لنا أن فيه خطأ ، ثمّ بان بأخرة أنه قد أخطأ. وذلك أنه كان ينبغي أن يقول : «ما حفظ الأشياء من عاداتها» ، فيضيف المصدر إلى المفعول ، فلا يذكر الفاعل ، ذاك لأن المعنى على أنّه ينفي الحفظ عن أنامله جملة ، وأنه يزعم أنّه لا يكون منها أصلا ، وإضافته الحفظ إلى ضميرها في قوله : «ما حفظها الأشياء» ، ويقتضي أن يكون قد أثبت لها حفظا. ونظير هذا أنك تقول : «ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي» ، ولا تقول : «ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي» ، وكذلك تقول : «ليس ذمّ النّاس من شأني» ، ولا تقول : «ليس ذمّي الناس من شأني» ، لأن ذلك يوجب إثبات الذّمّ ووجوده منك. ولا يصحّ قياس المصدر في هذا على الفعل ، أعني أنه لا ينبغي أن يظنّ أنه كما يجوز أن يقال : «ما من عادتها أن تحفظ الأشياء» ، كذلك ينبغي أن يجوز : «ما من عادتها حفظها الأشياء» ، ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي
__________________
(١) البيتان في ديوانه (٣١٣) ، في باب الخمريات ، وهما في مقدمة سبعة أبيات وبعدهما :
فطب بحديث من نديم موافق |
|
وساقية سن المراهق للحلم |
إذا هي قامت والسداسي طالها |
|
وبين النحيف الجسم والحسن الجسم |
(٢) البيت في ديوانه (١ / ٢٣١) من قصيدة في مدح أبي أيوب أحمد بن عمران ومطلعها :
سرب محاسنه حرمت ذواتها |
|
داني الصفات بعيد موصوفاتها |
أوفى فكنت إذا رميت بمقلتي |
|
بشرا رأيت أرق من عبراتها |
والعنان : سير اللجام ، الأنمل : رءوس الأصابع.