بدأ فدلّ بسكب
الدموع على ما يوجبه الفراق من الحزن والكمد ، فأحسن وأصاب ، لأن من شأن البكاء
أبدا أن يكون أمارة للحزن ، وأن يجعل دلالة عليه وكناية عنه ، كقولهم : «أبكاني
وأضحكني» ، على معنى «ساءني وسرّني» ، وكما قال : [من السريع]
أبكاني
الدّهر ، ويا ربّما
|
|
أضحكني
الدّهر بما يرضي
|
ثم ساق هذا
القياس إلى نقيضه ، فالتمس أن يدل على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله : «لتجمدا»
، وظنّ أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرّة والسلامة من الحزن ، ما بلغ سكب الدمع
في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن ونظر إلى أنّ الجمود خلوّ العين من البكاء
وانتفاء الدموع عنها ، وأنه إذا قال «لتجمدا» ، فكأنه قال : «أحزن اليوم لئلّا
أحزن غدا ، وتبكي عيناي جهدهما لئلا تبكيا أبدا» ، وغلط فيما ظنّ. وذاك أن الجمود
هو أن لا تبكي العين ، مع أن الحال حال بكاء ، ومع أن العين يراد منها أن تبكي ،
ويستراب في أن لا تبكي ، ولذلك لا ترى أحدا يذكر عينه بالجمود إلا وهو يشكوها
ويذمّها وينسبها إلى البخل ، ويعدّ امتناعها من البكاء تركا لمعونة صاحبها على ما
به من الهمّ ، ألا ترى إلى قوله : [من الطويل]
ألا إنّ عينا
لم تجد يوم واسط
|
|
عليك بجاري
دمعها لجمود
|
فأتى بالجمود
تأكيدا لنفي الجود ، ومحال أن يجعلها لا تجود بالبكاء وليس هناك التماس بكاء ،
لأنّ الجود والبخل يقتضيان مطلوبا يبذل أو يمنع ، ولو كان الجمود يصلح لأن يراد به
السلامة من البكاء ، ويصحّ أن يدلّ به على أن الحال حال مسرة وحبور ، لجاز أن يدعى
به للرجل فيقال : «لا زالت عينك جامدة» ، كما يقال : «لا أبكى الله عينك» ، وذاك
مما لا يشكّ في بطلانه.
وعلى ذلك قول
أهل اللغة : «عين جمود ، لا ماء فيها ، وسنة جماد ، لا مطر فيها ، وناقة جماد ، لا
لبن فيها» ، وكما لا تجعل السّنة والنّاقة جمادا إلّا على معنى أنّ السّنة بخيلة
بالقطر ، والنّاقة لا تسخو بالدّرّ ، كذلك حكم العين لا تجعل «جمودا»
__________________