وإذا كان ذلك كذلك ، علم علم الضرورة أن مصرف ذلك إلى دلالات المعاني على المعاني ، وأنهم أرادوا أنّ من شرط البلاغة أن يكون المعنى الأوّل الذي تجعله دليلا على المعنى الثاني ووسيطا بينك وبينه ، متمكّنا في دلالته ، مستقلّا بوساطته ، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة ، ويشير لك إليه أبين إشارة ، حتى يخيّل إليك أنك فهمته من حاقّ (١) اللفظ ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك ، وسرعة وصوله إليك ، فكان من «الكناية» مثل قوله : [من المنسرح]
لا أمتع العوذ بالفصال ، ولا |
|
أبتاع إلّا قريبة الأجل (٢) |
ومن «الاستعارة» مثل قوله : [من الطويل]
وصدر أراح الليل عازب همّه ، |
|
تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب (٣) |
ومن «التمثيل» مثل قوله : [من المديد]
لا أذود الطّير عن شجر |
|
قد بلوت المرّ من ثمره (٤) |
إن أردت أن تعرف ما حاله بالضدّ من هذا ، فكان منقوص القوّة في تأدية ما أريد منه ، لأنه يعترضه ما يمنعه أن يقضي حق السّفارة فيما بينك وبين معناك ، ويوضح تمام الإيضاح عن مغزاك ، فانظر إلى قول العباس بن الأحنف : [من الطويل]
سأطلب بعد الدّار عنكم لتقربوا |
|
وتسكب عيناي الدّموع لتجمدا (٥) |
__________________
(١) حاقّه : أي وسطه وحاق الجوع : صادقه. القاموس / حقق / (١١٢٩).
(٢) العوذ : جمع عائذ وهي التي مر على ولادتها عشرة أيام أو خمسة عشر يوما ، والفصال : جمع فصيل ، وهو ولد الناقة ، والبيت لإبراهيم بن هرمة الشاعر المعروف ، ومعناه : أنه لا يمتع الأمهات من الإبل بأبنائها بل يذبحها ، ولا يشتري منها إلا قريبة الأجل.
(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه (٢٩) ، من قصيدة : كليني لهم يا أميمة ، وقبله :
كليني لهم ، يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
تطاول حتى قلت ليس بمنقض |
|
وليس الذي يرعى النجوم بآيب |
ومعنى البيت : أن الليل الطويل جدد همومه وأعادها بعد أن كادت أن تزول.
(٤) البيت لأبي نواس في ديوانه (٦٤) ، من قصيدة في مدح العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور وقبله :
أيها المنتاب من عفره |
|
لست من ليلى ولا سمره |
والمعنى : أي لا أشفق على من ذممت صحبته ولا أمنع غيري من إنسان قد بلوته فلم أجد عنده خيرا ، كما أن ثمر الشجر إذا كان مرّا لم يطرد عنه الطير ولم يبل به.
(٥) البيت في ديوانه (١٠٦) طبعة دار الكتب العلمية ، والإيضاح (٧) ، والإشارات والتنبيهات (١٢).