جاءني» ، تريد أن رجل لا امرأة ، وقول العلماء إنه إنما يصلح (١) ، لأنه بمعنى «ما أهرّ ذا ناب إلّا شرّ».
بيان لذلك : ألا ترى أنك لا تقول : «ما أتاني إلّا رجل» ، إلا حيث يتوهّم السامع أنه قد أتتك امرأة ، وذاك لأنّ الخبر ينقض النّفي يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء ، وينفى عمّا عداه. فإذا قلت : «ما جاءني إلّا زيد» ، كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على زيد ، ونفيته عن كل من عداه. وإنّما يتصوّر قصر الفعل على معلوم ، ومتى لم يرد بالنكرة الجنس ، لم يقف منها السامع على معلوم ، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه ، وأخبره أنه كان منه دون غيره.
واعلم أنّا لم نرد بما قلناه ، من أنه إنما حسن الابتداء بالنكرة في قولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» ، لأنه أريد به الجنس ، أنّ معنى «شرّ» و «الشرّ» سواء ، وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن نبيّن أنّ الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير ، كما أنا إذا قلنا في قولهم : «أرجل أتاك أم امرأة؟» ، أن السؤال عن الجنس ، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال : «الرّجل أم المرأة أتاك» ، ولكنّا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي أهو من جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذن على أصلها من كونها لواحد من الجنس ، إلا أنّ القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا ، وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال.
وعكس هذا أنك إذا قلت : «أرجل أتاك أم رجلان؟» ، كان القصد منك إلى كونه واحدا ، دون كونه رجلا ، فاعرف ذلك أصلا ، وهو أنّه قد يكون في اللفظ دليل على أمرين ، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون الآخر ، فيصير ذلك الآخر ـ بأن لم يدخل في القصد ـ كأنه لم يدخل في دلالة اللفظ.
وإذا اعتبرت ما قدّمته من قول صاحب الكتاب : «إنّما قلت : «عبد الله» فنبهته له ، ثم بنيت عليه الفعل» (٢) ، وجدته يطابق هذا. وذاك أنّ التنبيه لا يكون إلّا على معلوم ، كما أن قصر الفعل لا يكون إلا على معلوم ، فإذا بدأت بالنكرة فقلت : «رجل» ، وأنت لا تقصد بها الجنس ، وأن تعلم السامع أنّ الذي أردت بالحديث رجل لا امرأة ، كان محالا أن تقول : «إني قدّمته لأنبّه المخاطب له» ، لأنه يخرج بك إلى أن تقول : إنّي أردت أن أنبه السّامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشكّ في استحالته ، فاعرفه.
__________________
(١) أي الابتداء بالنكرة.
(٢) القول لسيبويه في كتابه (١ / ٤١).