الضمير بخشونة وقساوة بالغين بحيث كانوا يقولون له مرّة : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وهنا قالوا له : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) لكنّهم كانوا غافلين عن الحقيقة التي كان يتحلّى بها يعقوب وعن صفاء قلبه ، ويتصوّرون انّ قلب يعقوب كقلوبهم القاسية المظلمة وانّه لا يطّلع على حقائق الأمور ماضيها ومستقبلها.
وتمضي الليالي والايّام ويعقوب في حالة الانتظار ... الانتظار القاسي الذي يستبطن السرور والفرح والهدوء والاطمئنان ، الّا انّ المحيطين به كانوا مشغولين عن هذه الأمور لاعتقادهم بأنّ قضيّة يوسف مختومة والى الأبد.
وبعد عدّة ايّام من الانتظار ـ والتي لا يعلم الّا الله كيف قضاها يعقوب ـ ارتفع صوت المنادي معلنا عن وصول قافلة كنعان من مصر ، لكن في هذه المرّة ـ وخلافا للمرّات السابقة ـ دخل أولاد يعقوب الى المدينة فرحين مستبشرين ، وتوجّهوا مسرعين الى بيت أبيهم ، وقد سبقهم ال (بشير) الذي بشّر يعقوب بحياة يوسف والقى قميص يوسف على وجهه.
امّا يعقوب الذي أضعفت المصائب بصره ولم يكن قادرا على رؤية القميص فبمجرّد ان احسّ بالرائحة المنبعثة من القميص شعر في تلك اللحظة الذهبية بأنّ نورا قد شعّ في جميع ذرّات وجوده وانّ السّماء والأرض مسروران ونسيم الرحمة يدغدغ فؤاده ويزيل عنه الحزن والألم ، شاهد الجدران وكأنّها تضحك معه ، واحسّ يعقوب بتغيّر حالته ، وفجأة راى النّور في عينيه واحسّ بأنّهما قد فتحتا ومرّة اخرى راى جمال العالم ، والقرآن الكريم يصف لنا هذه الحالة بقوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً).
هذه الحالة التي حصلت ليعقوب اسالت دموع الفرح من عيون الاخوة والأهل ، وعند ذلك خاطبهم بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).
هذه المعجزة الغريبة ، جعلت الأولاد يعودون الى أنفسهم ويتساءلون عنها ويفكّرون في ماضيهم الأسود المليء بالاخطاء والذنوب ، وما اعتورهم من