يتصوّروا انّه يمكن ان يكون أخوهم يوسف قد ارتقى منصب الوزارة وصار عزيزا لمصر ، اين يوسف واين الوزارة والعزّة؟! لكنّهم تجرّأوا أخيرا وسألوه مستفسرين منه (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ).
كانت هذه الدقائق أصعب اللحظات على الاخوة ، حيث لم يكونوا يعرفون محتوى اجابة العزيز! وانّه هل يرفع الستار ويظهر لهم حقيقته ، ام انّه سوف يعتقد بأنّهم مجانين حيث ظنّوا هذا الظنّ.
كانت اللحظات تمرّ بسرعة والانتظار الطويل يثقل على قلوبهم فيزيد في قلقهم ، لكن يوسف لم يدع اخوته يطول بهم الانتظار ورفع الحجاب بينه وبينهم واظهر لهم حقيقة نفسه و (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) لكن لكي يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعمه من جميع هذه المواهب والنعم ، ولكي يعلّم اخوته درسا آخر من دروس المعرفة قال : إنّه (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).
لا يعرف احد كيف مرّت هذه اللحظات الحسّاسة على الاخوة كما لا يعرف احد مدى انفعالهم وما خامرهم من السرور والفرح وكيف تعانقوا واحتضنوا أخاهم والدموع الغزيرة التي ذرفوها وذلك حينما التقوا بأخيهم وبعد عشرات السنين من الفراق ، لكنّهم في كلّ الأحوال كانوا لا يطيقون النظر إلى وجه أخيهم يوسف لعلمهم بالذنب والجريمة التي اقترفوها في حقّه ، فترقّبوا اجابة يوسف وانّه هل يغفر لهم إساءتهم اليه ويعفو عن جريمتهم ام لا؟ فابتدءوا مستفسرين بقولهم : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (١) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد فضّلك علينا بالعلم والحلم والحكومة (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٢).
__________________
(١) (آثرك) أصله من (الإيثار) وفي الأصل بمعنى البحث عن اثر الشيء ، وبما انّه يقال للفضل والخير : اثر ، فقد استعملت هذه الكلمة للدلالة على الفضيلة والعلو ، فبناء على هذا يكون معنى قوله (آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) اي انّ الله سبحانه وتعالى قد أكرمك وفضّلك علينا لما قمت به من الأعمال الخيّرة.
(٢) يرى الفخر الرازي في تفسيره انّ الفرق بين الخاطئ والمخطئ هو انّ الخاطئ يقال لمن تعمّد الخطأ ، والمخطئ لمن