فمضى على ذلك عدة سنين ، فلما مات الخطيب سألوه أن يدفنوه فامتنع وقال : هذا قبري قد حفرته وختمت فيه عدة ختمات ، لا أمكن أحدا من الدّفن فيه ، وهذا ممّا لا يتصور ، فانتهى الخبر إلى والدي رحمهالله فقال له : يا شيخ لو كان بشر بن الحارث الحافي في الأحياء ، ودخلت أنت والخطيب عليه ، أيّكما كان يقعد إلى جانبه أنت أو الخطيب؟ قال : لا ، بل الخطيب ، فقال : كذا ينبغي أن يكون في حالة الممات ، فإنه أحق به منك (١). فطاب قلبه ، ورضي بأن يدفن الخطيب في ذلك الموضع ، فدفن (٢) فيه.
وسمعت أبا عبد الله البلخي يحكي نحو هذا عن بعض شيوخه في دفنه.
قرأت على أبي محمد عبد الكريم بن حمزة ، عن أبي نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر الحافظ ، قال : إنّ أبا بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي كان آخر الأعيان ممّن شاهدناه معرفة وإتقانا ، وحفظا وضبطا لحديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتفننا في علله (٣) وأسانيده ، وخبرة ، برواته وناقليه ، وعلما بصحيحه وغريبه ، وفرده ومنكره وسقيمه ومطروحه ؛ ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن علي بن عمر الدّارقطني رحمهالله من يجري مجراه ، ولا قام بعده منهم بهذا الشأن سواه. وقد استفدنا كثيرا من هذا اليسير الذي نحسنه به وعنه. وتعلّمنا شطرا من هذا القليل الذي نعرفه بتنبيهه ومنه فجزاه الله عنا الخير ، ولقاه الحسنى ، ولجميع مشايخنا وأئمتنا ولجميع المسلمين.
سمعت أخي أبا الحسن هبة الله بن الحسن الحافظ رحمهالله يقول : سمعت أبا طاهر أحمد بن محمّد الحافظ ـ وأجازه لي أبو طاهر ـ يقول : سمعت المؤتمن بن أحمد بن علي الحافظ ببغداد يقول : ما أخرجت بغداد (٤) بعد الدّارقطني أحفظ من أبي بكر الخطيب.
قال : وسألت أبا علي أحمد بن محمّد البرداني الحافظ الحنبلي ببغداد : هل رأى الشيخ مثل أبي بكر الخطيب في الحفظ؟ فقال : لعل الخطيب لم ير مثل نفسه.
__________________
(١) عن المختصر وبالأصل «مثله».
(٢) عن المختصر وبالأصل «يدفن».
(٣) عن المختصر وبالأصل «علته».
(٤) بالأصل «ببغداد».