كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليّين المتأخّرين ، (١) أم أنّ المراد أنّ طريقيّته ذاتيّة؟
وإنّما صحّ أن يسأل هذا السؤال ، فمن أجل قياسه على الظنّ حينما نقول : «إنّه حجّة» ، فإنّ فيه جهتين :
١. جهة طريقيّته للواقع : فحينما نقول : «إنّ حجّيّته مجعولة» ، نقصد أنّ طريقيّته مجعولة ؛ لأنّها ليست ذاتيّة له ؛ لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقا إلى الواقع ؛ بإلغاء احتمال الخلاف ، كأنّه لم يكن ، فتتمّ بذلك طريقيّته الناقصة ليكون كالقطع في الإيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو المجعول للشارع.
٢. جهة وجوب متابعته : فحينما نقول : «إنّه حجّة» ، نقصد أنّ الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظنّ ، والأخذ به ، أمرا مولويّا ؛ فينتزع من هذا الأمر أنّ هذا الظنّ موصل إلى الواقع ، ومنجّز له ؛ فيكون المجعول هذا الوجوب ، ويكون هذا معنى حجّيّة الظنّ.
وإذا كان هذا حال الظنّ فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان الجهتان ، فنلاحظهما حينما نقول ـ مثلا ـ : «إنّ حجّيّته ذاتيّة» إمّا من جهة كونه طريقا بذاته ، وإمّا من جهة وجوب متابعته لذاته.
ولكن في الحقيقة أنّ التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة ، منشؤها ضيق العبارة عن المقصود ؛ إذ يقاس على الظنّ. والسرّ في ذلك واضح ؛ لأنّه ليس للقطع متابعة مستقلّة غير الأخذ بالواقع المقطوع به ، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقلّ غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به ـ أي وجوب طاعة الواقع المنكشف بالقطع من وجوب ، أو حرمة ، أو نحوهما ـ ؛ إذ ليس وراء انكشاف الواقع شيء ينتظره الإنسان ، فإذا انكشف الواقع له فلا بدّ أن يأخذ به.
وهذه اللابدّيّة لابدّيّة عقليّة (٢) منشؤها أنّ القطع بنفسه طريق إلى الواقع ، وعليه ، فيرجع
__________________
(١) كالمحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٣ : ٦.
(٢) هذه اللابدّيّة العقليّة هي نفس وجوب الطاعة الذي هو وجوب عقليّ ؛ لأنّه داخل في الآراء المحمودة التي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء ، كما شرحناه في الجزء الثاني * ـ منه قدسسره ـ.
__________________
* راجع المقصد الثاني : ٢٤٤ ـ ٢٤٥.