ولا ينبغي أن يخلو كتابنا من الإشارة إليها. وهذه خير مناسبة لذكرها ، فنقول :
٤. تعادل وتراجيح المتزاحمين
لا شكّ في أنّه إذا تعادل المتزاحمان في جميع جهات الترجيح الآتية فإنّ الحكم فيهما هو التخيير. وهذا أمر محلّ اتّفاق وإن وقع الخلاف في تعادل المتعارضين أنّه يقتضي التساقط ، أو التخيير على ما سيأتي. (١)
وفي الحقيقة أنّ هذا التخيير إنّما يحكم به العقل ، والمراد به العقل العمليّ.
بيان ذلك أنّه بعد فرض عدم إمكان الجمع في الامتثال بين الحكمين المتزاحمين ، وعدم جواز تركهما معا ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر ، حسب الفرض ، ويستحيل الترجيح بلا مرجّح ، فلا مناص من أن يترك الأمر إلى اختيار المكلّف نفسه ؛ إذ يستحيل بقاء التكليف الفعليّ في كلّ منهما ، ولا موجب لسقوط التكليف فيهما معا. وهذا الحكم العقليّ ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء.
ومن هذا الحكم العقليّ يستكشف حكم الشرع على طبق هذا الحكم العقليّ ، كسائر الأحكام العقليّة القطعيّة ؛ لأنّ هذا من باب المستقلاّت العقليّة التي تبتني على الملازمات العقليّة المحضة.
مثاله ، إذا دار الأمر بين إنقاذ غريقين متساويين من جميع الجهات ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر شرعا من جهة وجوب الإنقاذ ، فإنّه لا مناص للمكلّف من أن يفعل أحدهما (٢) ويترك الآخر ، فهو على التخيير عقلا بينهما ، المستكشف منه رضى الشارع بذلك وموافقته على التخيير.
إذا عرفت ذلك ، فيكون من المهمّ جدّا أن نعرف ما هي المرجّحات في باب التزاحم؟ ومن الواضح أنّه لا بدّ أن تنتهي كلّها إلى أهمّيّة أحد الحكمين عند الشارع ، فالأهمّ عنده هو الأرجح في التقديم. ولمّا كانت الأهميّة تختلف جهتها ومنشؤها فلا بدّ من بيان تلك
__________________
(١) يأتي في المبحث السادس : ٥٥٧.
(٢) أي أحد الإنقاذين.