ويردّه ما عرفت من أنّ الحقّ كان محتجبا في الأزل بجميع الوجوه ، والآن كذلك محتجب عن كلّ شيء كما كان في الأزل بلا تفاوت وتغيير.
ولا بمعنى أنّه يصير عين الأشياء وحقيقتها ، فالعارف بحقائق الأشياء عارف بذات الحقّ وهويّته بما هو عليه ؛ كما هو مذهب بعض آخر من تلك الطائفة.
وفساده أوضح من أن يبيّن ، ولقد فصّلنا الكلام في ذلك في بعض فوائدنا الشريفة.
أبدع المشيّة بنفسها (١) من نفسها لنفسها في نفسها ، بمعنى أنّه تعالى ما أبدعها بواسطة علّة هي غيرها من الخلق ، بل كان العلّة لوجودها : الحقّ تعالى بلا واسطة ، بمعنى أنّها كانت أوّل صادر منه تعالى ، لم يتخلّل بينهما شيء ، ولم يسبق عليهما شيء سوى الحقّ.
فما تصوّره أوّلا لا بتلك الصفة فهو غير المشيّة ، فإنّها أوّل كلّ أوّل يتصوّره المتصوّر ، فليس لها علّة سوى الباري تعالى من مراتب الخلق حتّى تكون هي الواسط بين الحقّ وبينها ، بل ما تجعله واسطا بين الحقّ والخلق بحيث لا ترى بعد عالم الحقّ إلّا عالمه هو عالم المشيّة خاصّة ، وما كان ذلك السبق إلّا بقضيّة كانت في نفس المشيّة في الأزل ، أي في عالم الثوابت الأزليّة لكمال قربها من الحقّ بحيث لم يكن شيء أقرب إليه ذاتا منها ، فكانت نفسها مقتضية لوجود نفسها ، فهي منها مخلوقة ، وبها مبدعة لا من غيرها وبغيرها ، وإلّا لكان ذلك الغير سابقا عليه بإحدى الحيثيّات.
__________________
(١) قولنا : أبدع المشيّة ، جواب لقولنا : لمّا كان في الأزل. منه رحمه الله.