فقالوا : إذا كان غدا باهلناك ، فقال القوم بعضهم لبعض : حتى ننظر بما يباهلنا غدا بكثرة أتباعه من أوباش الناس ، أم بالقلة (١٢) من أهل الصفوة والطهارة ، فإنهم وشيج (١٣) الأنبياء ، وموضع نهلهم.
فلما كان من الغد غدا النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بيمينه علي ، وبيساره الحسن والحسين ، ومن ورائهم فاطمة (صلى الله عليهم) ، عليهم النمار النجرانية (١٤) ، وعلى كتف رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كساء قطواني (١٥) رقيق خشن ليس بكثيف ولا لين ، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما ، ونشر الكساء عليهما ، وأدخلهم تحت الكساء ، وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء معتمدا على قوسه النبع ، ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة ، وأشرف (١٦) الناس ينظرون واصفر لون السيد والعاقب وزلزلا (١٧) حتى كادا أن تطيش عقولهما.
فقال أحدهما لصاحبه : أنباهله؟ قال : أو ما علمت أنه ما باهل قوم قط نبيا فنشأ صغيرهم أو بقي كبيرهم؟
ولكن أره أنك غير مكترث ، وأعطه من المال والسلاح ما أراد ، فإن الرجل محارب ، وقل له : أبهؤلاء تباهلنا؟ لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته.
فلما رفع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يده إلى السماء للمباهلة ، قال أحدهما لصاحبه : وأي رهبانية؟ دارك الرجل ، فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهل ولا مال. فقالا : يا أبا القاسم ، أفبهؤلاء تباهلنا؟ قال : «نعم ، هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدي إلى الله عز وجل وجيهة ، وأقربهم إليه وسيلة».
قال : فبصبصا ـ يعني ارتعدا وكرا ـ وقالا له : يا أبا القاسم ، نعطيك ألف سيف ، وألف درع ، وألف حجفة (١٨) وألف دينار كل عام ، على أن الدرع والسيف والحجفة عندك إعارة حتى يأتي من ورائنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا ، فيكون الأمر على ملأ منهم ، فإما الإسلام ، وإما الجزية ، وإما المقاطعة في كل عام.
فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قد قبلت ذلك منكما ، أما والذي بعثني بالكرامة ، لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عز وجل عليكم الوادي نارا تأجج تأججا ، حتى يساقها إلى من ورائكم في أسرع من طرفة عين فأحرقتهم تأججا».
فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين عليهالسلام ، فقال : يا محمد ، إن الله يقرئك السلام ، ويقول لك : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لو باهلت بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لتساقطت السماء كسفا متهافتة ،
__________________
(١٢) في المصدر : بأهله.
(١٣) الوشيجة : عرق الشجرة. واستعير هنا لاشتباك القرابة والصّلة.
(١٤) النّمار : جمع نمرة : كساء مخطط. «مجمع البحرين ـ نمر ـ ٣ : ٥٠٣».
(١٥) في «ط» : قرقف ، ولعلّه تصحيف قرطف : القطيفة ، والقطواني : نوع من الأكسية منسوبة إلى موضع في الكوفة ، والقطوانيّة : عباءة بيضاء قصيرة الخمل. «القاموس المحيط ـ قطا ـ ٤ : ٣٨١» ، «لسان العرب ـ قطا ـ ١٥ : ١٩١».
(١٦) في المصدر : واشرأبّ : أي رفع رأسه لينظر إليه.
(١٧) في «ط» والمصدر : وكرّا.
(١٨) الحجفة : الترس ، وذلك إن كانت من جلود وليس فيها خشب ، وتسمى درقة أيضا. «مجمع البحرين ـ حجف ـ ٥ : ٣٥».