لست في مقام الموازنة بينهما من جهة السياسة الّتي هي اللف والدوران ، ولا من جهة الأحساب والأنساب ، ولا من جهة الفضائل الخُلقية ، ففي جميع تلك الجهات بينهما البون الشاسع بُعد اليمين من الشمال ، أو قل بُعد المشرقين.
ولكن أردت التنبيه على ما يقتضيه المقام لنعرف لماذا كان يأبى معاوية وعمرو بن العاص أن يكون ابن عباس حَكَماً لأهل العراق؟ ولماذا كان يصرّ الأشعث واليمانية على أن يكون الحَكَم أبا موسى لا سواه؟
وإنّ الّذي يقرأ حقبة تلك الحرب الطاحنة ـ حرب صفين ـ من بدايتها لابدّ وأن يمر بحديث مساومة عمرو بن العاص لمعاوية في مناصرته على حرب الإمام ، ولا يغيب عنه حديث اشتراط مصر طعمة له وبيده صك على ذلك فيما يقولون. فهو من أحرص الناس على إنجاح التحكيم لصالح معاوية ليصيب مصلحته المحققة ويملك مصر طعمة له ، ويزداد من عاجل الدنيا ثمن دينه الّذي باعه لمعاوية بثمن بخس.
أمّا ابن عباس فهو منذ بداية الحرب وحتى منتهاها لم نجد له نبوة أو هفوة في قول أو فعل تنافي الدين. وهو لم يكن يرجو مطمعاً أو مطعماً في شيء يناله أزاء ما كان يبذله من جهد أو عمل ، وحتى لو أدى ذلك إلى ذهاب نفسه طعمة للرماح ودريئة للسيوف في سوح القتال ، وتلك سمة المخلصين من المؤمنين الذين كانوا مع الإمام (عليه السلام) ، فلم يكن أحدهم يبتغي سوى مرضاة الله تعالى والمثوبة منه سبحانه على نصرتهم للحقّ لوجه الحقّ ،