يا موسى أبناء الدنيا وأهلها فتن بعضهم لبعض فكل مزين له ما هو فيه والمؤمن من زينت له الآخرة فهو ينظر إليها ما يفتر قد حالت شهوتها بينه وبين لذة العيش فادلجته بالأسحار كفعل الراكب السائق إلى غايته يظل كئيبا ويمسي حزينا فطوبى له لو قد كشف الغطاء ما ذا يعاين من السرور.
______________________________________________________
قوله تعالى : « ولا تمكن أبناء الدنيا » أي لا تخطرهم ببالك ولا تشغل قلبك بالتفكر فيهم ، وفيما هم فيه من نعيم الدنيا ، فإنه إذا اعتدت ذلك ومكنت الشيطان من نفسك فيه يصير صدرك وكرا لذكرهم ، ولا يمكنك إخراج حب أطوارهم عن صدرك ، فيصير ذلك سببا لرغبتك إلى دنياهم ، فتصير إلى مأواهم ، ويحتمل أن يكون المراد عدم الإصغاء إلى كلام المفتونين بالدنيا الذاكرين لها فيجعلون الصدر وكرا لكلامهم الذي يوجب الافتتان بالدنيا.
قوله : « ما يفتر » كلمة « ما » نافية ، وضمير شهوتها راجع إلى الآخرة.
قوله تعالى : « فأدلجته » الإدلاج : السير بالليل وظاهر العبارة أنه استعمل هنا متعديا بمعنى التسيير بالليل ، ولم يأت فيما عندنا من كتب اللغة ، قال الفيروزآبادي (١) : الدلج محركة والدلجة بالضم والفتح : السير من أول الليل ، وقد أدلجوا فإن ساروا من آخره فأدلجوا بالتشديد انتهى. ويمكن أن يكون على الحذف والإيصال أي أدلجت الشهوة معه ، وسيرته بالأسحار كالراكب الذي يسابق قرنه إلى الغاية التي يتسابقان إليها ، والغاية هنا الجنة والفوز بالكرامة ، والقرب والحب والوصال أو الموت وهو أظهر.
قوله تعالى : « يظل كئيبا » الكآبة : الغم وسوء الحال والانكسار من الحزن والمعنى أنه يكون في نهاره مغموما وفي ليله محزونا لطلب الآخرة ، ولما فاته من الطاعات ولكن لو كشف له الغطاء حتى يرى ما أعد له في الآخرة يحصل له من السرور ما لا يحصى.
__________________
(١) القاموس المحيط : ج ١ ص ١٨٩.