الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

قال : والعقل فيه كثرة ، هي : الوجوب والإمكان ، وتعقّل الواجب وتعقّل ذاته ؛ ولذلك صدر عنه عقل آخر ، ونفس ، وفلك مركّب من الهيولى والصورة. ويلزمهم أنّ أيّ موجودين فرضا (١) في العالم كان أحدهما علّة للآخر بواسطة أو بغيرها. وأيضا : (٢) التكثّرات التي في العقل الأوّل إن كانت موجودة صادرة عن البارئ تعالى ، لزم صدورها عن الواحد ، وإن صدرت عن غيره لزم تعدّد الواجب ، وإن لم تكن موجودة لم يكن تأثيرها في الموجودات معقولا.

أقول : هذا تتمّة كلامه فيما نقل عن الحكماء وما يلزمهم من المحال.

وبيانه : أنّهم إنّما قالوا : «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد» على تقدير الوحدة المحضة ، ولم يمكن فرض كثرة في الفاعل. وأمّا إذا أمكن فرض كثرة فإنّه يجوز صدور الامور المتكثّرة حينئذ منه كما في العقل الأوّل ؛ فإنّه واحد في ذاته لكن عرض له امور بالنسبة إلى اعتبار ماهيّته عند وجوده ، فله ماهيّة ووجود صادر عن المبدأ. فمن حيث نسبة وجوده إلى ذاته يعرض له الإمكان. ومن حيث نسبته إلى مبدئه يعرض له الوجوب الغيريّ ، وهو أيضا يعقل المبدأ ويعقل ذاته لتجرّده ، فله ستّة أشياء : ماهيّة ، وإمكان ، ووجود ، ووجوب ، وتعقّل لذاته ، وتعقّل لمبدئه. ثلاثة بالنسبة إلى ذاته هي : الهويّة والإمكان والتعقّل لذاته. وثلاثة بالنسبة إلى المبدأ وهي : الوجود والوجوب وتعقّل المبدأ. فلمّا تكثّرت اعتباراته تكثّرت الموجودات ؛ فباعتبار وجوده يصير مبدأ لعقل آخر ، وباعتبار تعقّله للمبدإ ووجوبه يصير علّة لنفس ، ومن حيث إنّ له هويّة وإمكانا وتعقّلا لذاته يصير مبدأ لفلك. ويصدر من العقل الثاني على هذا الوجه عقل ثالث وفلك آخر ونفس له. وهكذا إلى العقل العاشر المسمّى ب «العقل الفعّال» ، وهو المؤثّر في عالم الكون والفساد ، وصورة الجسميّة والنوعيّة ، ثمّ المركّبات المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة.

قال المصنّف رحمه‌الله : «ويلزمهم أنّ أيّ موجودين فرضا في العالم أن يكون أحدهما علّة للآخر بواسطة أو بغيرها» ؛ وذلك لأنّه لا يجوز صدورهما معا عن علّة

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : فرضنا.

٢ ـ الفصول النصيريّة بزيادة : إنّ.

٨١

واحدة بل أحدهما ، والآخر إمّا أن يكون صادرا عن المعلول أو عن العلّة المفروضة بشرط المعلول ؛ لاستحالة صدوره عنها باستقلالها ، وإلّا لصدر عن الواحد اثنان وهو باطل. وعلى التقديرين يلزم أن يكون أحدهما بالنسبة إلى الآخر إمّا علّة أو جزء علّة أو شرط علّة ، فيلزم حينئذ من عدم أحدهما عدم الآخر ضرورة ؛ إذ يلزم من عدم العلّة أو جزئها أو شرطها عدم المعلول وبالعكس ، إذ عدم المعلول دليل على عدم علّته أو جزئها أو شرطها.

وأيضا : يلزمهم بطريق النقض الإجماليّ وتقريره أن نقول : إنّ دليلكم لو صحّ بجميع مقدّماته لكان عندنا ما يبطله. وهو أنّ التكثّرات المفروضة في العقل الأوّل إمّا أن تكون امورا وجوديّة في الخارج أو عدميّة فيه ، فإن كان الأوّل فإمّا أن تكون صادرة عن الواجب الواحد حقّا أو عن غيره. والأوّل مناقض لقولكم : «الواحد لا يصدر عنه إلّا الواحد». والثاني يلزم منه تعدّد الواجب. وإن كان الثاني لم يكن تأثيرها في الموجودات الخارجيّة معقولا وهو المطلوب.

وفي الإلزام الأوّل نظر ؛ فإنّ لهم أن يقولوا : إنّهما صادران عن علّة واحدة ، لكن كلّ منهما باعتبار ، كما قلناه في العقل الأوّل. وصدور العقل الثاني والنفس والفلك كلّ واحد باعتبار. فلا يتمّ هذا الإلزام إلّا بإبطال صلاحيّة تلك الاعتبارات لمبدئيّة التأثير. نعم ، الإلزام الثاني متّجه.

قال : أصل ـ قد ثبت أنّ فعل البارئ سبحانه ، تبع لداعيه. وكلّ من كان كذلك كان عالما ؛ لأنّ الداعي هو الشعور بمصلحة الإيجاد أو الترك.

أقول : لمّا فرغ من إثبات كونه تعالى قادرا شرع في إثبات كونه عالما. والمراد من كونه عالما هو ظهور الأشياء له وانكشافها بحيث لا يعزب عنه منها شيء.

واستدلّ المصنّف على ذلك بأنّه تعالى مختار ، وكلّ مختار عالم. ينتج : أنّه عالم. أمّا الصغرى فقد تقدّمت. وأمّا الكبرى فلأنّ المختار هو الذي فعله تبع لداعيه. والداعي هو الشعور بما في الفعل أو الترك من المصلحة الباعث ذلك على الإيجاد أو الترك. ولأنّه تعالى فعل الأفعال المحكمة المتقنة أي المشتملة على الخواصّ الغريبة والفوائد الغزيرة ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم. أمّا الصغرى فظاهرة لمن نظر في تشريح العالمين : الفلكيّ

٨٢

والعنصريّ ، وأمّا الكبرى فبديهيّة.

قال : ويجب أن يكون عالما بكلّ الممكنات ، قادرا على كلّها ؛ لأنّ تعلّق علمه تعالى وقدرته ببعض الأشياء دون بعض تخصيص من غير مخصّص.

أقول : لمّا أثبت كونه تعالى عالما وقادرا في الجملة شرع في إثبات عمومهما لكلّ معلوم ومقدور. وبيانه أنّه كلّما ثبت كونه عالما بشيء وقادرا عليه ، وجب كونه عالما بكلّ الأشياء قادرا على كلّها ، لكنّ المقدّم حقّ وكذا التالي. أمّا حقّيّة المقدّم فقد تقدّمت. وأمّا الشرطيّة فلأنّ المقتضي لكونه عالما وقادرا هو ذاته ؛ لاستحالة افتقاره إلى أمر مغاير لذاته وإلّا لزم إمكانه. وذاته متساوية النسبة إلى كلّ شيء لتجرّدها ، فلو لم يعلم الكلّ ويقدر عليه لزم التخصيص بغير مخصّص ، هذا خلف.

واعلم أنّ معلومه تعالى أعمّ من مقدوره وإن كانا معا غير متناهيين ، فإنّ معلومه يكون واجبا وممكنا وممتنعا لتساوي كلّها في صحّة المعلوميّة. فهو تعالى يعلمها كلّها على ما هي عليه ، أي الواجب واجبا والممكن ممكنا والممتنع ممتنعا والكليّ كلّيا والجزئيّ جزئيّا. وأمّا مقدوره فلا يكون إلّا ممكنا ؛ لاستحالة كون الواجب والممتنع مقدورين ، إذ أثر القدرة في إيجاد المعدوم وإعدام الموجود ، وذلك غير متصوّر في الواجب والممتنع ، وحينئذ لا وجه لتخصيص المصنّف العلم بالممكنات.

قال : نقض وجواب شبهة ـ قالت الفلاسفة : البارئ تعالى لا يعلم الجزئيّ الزمانيّ ، وإلّا لزم كونه تعالى محلّا للحوادث ؛ لأنّ العلم هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم. فلو فرض علمه بالجزئيّ الزمانيّ على وجه يتغيّر ، ثمّ تغيّر ، فإن بقيت الصورة كما كانت كان جهلا ، وإلّا كانت ذاته تعالى محلّا للصور المتغيّرة بحسب تغيّر الجزئيّات.

أقول : ذهبت الفلاسفة إلى أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّ الزمانيّ ، من حيث أنّه جزئيّ زمانيّ يتغيّر ، بل يعلمه على وجه كلّي ، كما يعلم أنّ كسوفا جزئيّا يعرض في أوّل الحمل مثلا ، ثمّ ربّما وقع هذا الكسوف ولم يكن عند العاقل له إحاطة بالوقوع أم لا (١).

__________________

١ ـ كذا في جميع النسخ.

٨٣

واستدلّوا على ذلك بأنّه لو علمه على الوجه الزمانيّ المتغيّر كما إذا علم وجود زيد الآن في الدار ، فعند خروجه منها إن بقي العلم بكونه في الدار كان جهلا ، لعدم مطابقة العلم للمعلوم. وإن زال ذلك العلم وحصل العلم بخروجه لزم حصول علم لم يكن حاصلا أوّلا ، فيحلّ في ذاته علوم حادثة بحسب تجدّد المعلومات ، وأيضا : يلزم التغيّر في صفاته الذاتيّة المستلزم ذلك لتغيّر الذات المقدّسة ، وكلاهما عليه تعالى محالان.

والحاصل : أنّه لو علم الجزئيّ الزمانيّ على وجه يتغيّر ، لزم إمّا نسبة الجهل إليه تعالى ، أو كونه محلّا للحوادث ، أو تغيّر ذاته. واللوازم بأسرها باطلة اتّفاقا ، فكذا الملزوم (١).

وذهب المسلمون كافّة إلى كونه عالما بالجزئيّات الزمانيّة ، مستدلّين بما تقدّم من كونه عالما بكلّ ما يصحّ أن يكون معلوما الذي من جملته هذه الجزئيّات. وما ذكره الفلاسفة غير صالح لعدم تعلّق العلم بها ، لما يأتي من جواب شبهتهم.

قال : وهذا الكلام يناقض قولهم : إنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، وإنّ ذات البارئ تعالى علّة لجميع الممكنات ، وإنّه تعالى يعلم ذاته. والعجب أنّهم مع دعواهم الذكاء ، كيف غفلوا عن هذا التناقض؟! فهم بين أمور خمسة : إمّا أن يثبتوا للجزئيّات الزمانيّة علّة لا تنتهي في السّلسلة إلى العلّة الأولى ، أو لم يجعلوا العلم بالعلّة موجبا

__________________

١ ـ قال القوشجيّ في «شرح العقائد» : من الفلاسفة من قال : إنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيّات المتغيّرة ؛ لأنّه إذا علم مثلا أنّ زيدا في الدار الآن ، ثمّ خرج عنها ، فإمّا أن يزول ذلك العلم ويعلم أنّه ليس في الدار ، أو يبقى ذلك العلم بحاله. والأوّل يوجب التغيّر في ذاته ، والثاني يوجب الجهل ، وكلاهما نقص يجب تنزيه الله عنه. شرح العقائد للقوشجيّ : ٣٣١.

وقال العلّامة في «كشف المراد» عند قول المصنّف : وتغيّر الإضافات ممكن. أقول : هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين : بنفي علمه تعالى بالجزئيّات الزمانيّة. وتقرير الاعتراض أنّ العلم يجب تغيّره عند تغيّر المعلوم وإلّا لانتفت المطابقة ، لكنّ الجزئيّات الزمانيّة متغيّرة ، فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغيّر علمه تعالى ، والتغيّر في علم الله تعالى محال. وتقرير الجواب أنّ التغيّر هذا إنّما هو في الإضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقيّة كالقدرة التي تتغيّر نسبتها وإضافتها إلى المقدور عند عدمه وإن لم يتغيّر في نفسها. وتغيّر الإضافات جائز لأنّها امور اعتباريّة لا تحقّق لها في الخارج. كشف المراد : ٢٢٢.

وأورد المصنّف في «إرشاد الطالبين» على هذا الجواب وقال : يلزم أن يكون له تعالى صفة زائدة على ذاته ، وهو باطل. بل الجواب أنّ جميع الموجودات من الأزل إلى الأبد كلّ منها على ما هو عليه منكشف له. إرشاد الطالبين : ١٩٩.

٨٤

للعلم بالمعلول ، أو اعترفوا (١) بالعجز عن إثبات عالميّته تعالى ، أو لم يجعلوا العلم حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، أو جوّزوا (٢) كونه تعالى محلّا للحوادث.

والجواب عن الشبهة : أنّ ما ذكروه إنّما يلزم على تقدير كون علمه تعالى زائدا على ذاته ، وأمّا إذا كان عين ذاته ، ويتغاير بتغاير (٣) الاعتبار فلا يلزم تغيّر علمه تعالى ؛ لأنّا نعلم ضرورة أنّ من علم متغيّرا لم يلزم من تغيّره تغيّر ذاته.

أقول : لمّا فرغ من تقرير شبهتهم شرع في إلزامهم التناقض أوّلا ، ثمّ الجواب عن شبهتهم ثانيا.

أمّا الأوّل فنقول : لا شكّ أنّهم قرّروا مقدّمات يلزم من اعتقادها كونه عالما بالجزئيّات ، وأوردوا شبهة تستلزم كونه غير عالم بالجزئيّات ، فيكون عالما بها غير عالم بها وهو التناقض الصريح. أمّا المقدمات فأمور :

الأوّل : أنّ العلم التامّ بالعلّة يوجب العلم بالمعلول ، واستدلّوا على ذلك بأنّ العلم التامّ بالعلّة هو أن يعلم الماهيّة بذاتها ولوازمها ومعروضاتها وما لها من ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير ، ولا شكّ أنّ ذلك العلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها ، وهو ظاهر.

الثاني : أنّ ذاته تعالى علّة لجميع الممكنات التي من جملتها الجزئيّ الزمانيّ ولو بوسائط ، ودليله تقدّم.

الثالث : أنّه تعالى يعلم ذاته ، ودليله أنّ ذاته مفهوم يصحّ أن يكون معلوما له تعالى ، وكلّ ما صحّ أن يكون معلوما له تعالى وجب كونه معلوما له تعالى ؛ لأنّ صفاته ذاتيّة كلّما صحّت وجبت وإلّا لم تكن ذاتيّة ، هذا خلف. فلزم من هذه المقدّمات لزوما بيّنا كونه عالما بالجزئيّات وهو المطلوب.

وحيث اعتقدوا صحّة شبهتهم لزم كونه غير عالم بها ، وهو تناقض جامع لشرائطه. ولا خلاص لهم حينئذ عن هذا التناقض إلّا بالالتزام بأحد امور خمسة :

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : يعترفوا.

٢ ـ الفصول النصيريّة : يجوّزوا.

٣ ـ الفصول النصيريّة : ويتغيّر بحسب تغاير.

٨٥

الأوّل : أنّ الجزئيّات الزمانيّة لا تنتهي في سلسلة الحاجة إلى الواجب ؛ لأنّها إذا لم تكن معلولة له لم يلزم من علمه بذاته العلم بها ، لكن هذا باطل لما قرّروه واعتقدوه.

الثاني : أن يثبتوا انتهاءها في سلسلة الحاجة إليه ، لكن لا يقولون بأنّ العلم التامّ بالعلّة موجب للعلم بالمعلول ؛ لأنّه وإن كانت معلولة له (١) ، لكنّ العلم بالعلّة لا يوجب العلم بالمعلول ، لكنّه باطل لما قلناه.

الثالث : أن يعترفوا بالعجز عن إثبات كونه عالما بذاته وبغيره ، فإنّه لا يلزم حينئذ من انتهائها إليه وأنّ العلم بالعلّة يوجب العلم بالمعلول كونه عالما بها ؛ لأنّه غير عالم بذاته التي هي العلّة ، لكنّه باطل لما سلّموه.

الرابع : أن لا يجعلوا العلم حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، فإنّهم إذا لم يقولوا بذلك لا يلزم حلول الصور في ذاته تعالى ، فلم تتمّ شبهتهم فلم يلزمهم التناقض ، لكنّهم يثبتوا ذلك ، واستدلّوا عليه : بأنّا ندرك أشياء لا تحقّق لها في الخارج ، فلو لم تكن منطبعة في النفس كانت عدما محضا ونفيا صرفا ، فتستحيل الإضافة إليها.

الخامس : أن يجوّزوا كونه محلّا للحوادث ؛ فإنّه مع تجويز ذلك لا يلزم من علمه تعالى بالجزئيّات المتغيّرة محال ، فيكون عالما بها ، فيكون موافقا للمقدّمات المتقدّمة ، المستلزمة لكونه عالما بالجزئيّات ، فلا يكون بين كلامهم تناقض ؛ لأنّ التناقض اختلاف القضيّتين لا توافق القضيّتين ، لكن بيّنوا محاليّة كونه تعالى محلّا للحوادث ، لما يلزم من حدوثه ، فيلزمهم استحالة علمه بالجزئيّات المستلزم للتناقض في كلامهم.

وأمّا الثاني فأجاب المتكلّمون عنها بوجوه :

الأوّل : جواب أبي هاشم (٢) : وهو أنّ علمه الأوّل بأنّ زيدا في الدار لم يزل ولم يتجدّد له علم آخر ، ويلتزم بأنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد هو العلم بوجوده إذا وجد.

__________________

١ ـ «ح» : وإن كان عالما بها.

٢ ـ عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب الجبائيّ ، ابن أبي علي الجبائيّ. المتكلّم ، شيخ المعتزلة ومصنّف الكتب على مذاهبهم. له آراء انفرد بها ، وتبعته فرقة سمّيت «البهشميّة». له مصنّفات منها : العدّة في اصول الفقه. مات سنة : ٣٢١ ه‍. تاريخ بغداد ١١ : ٥٥ ، الأعلام للزركلي ٤ : ٧.

٨٦

الثاني : جواب محمود الخوارزميّ (١) : وهو أنّ التغيّر في الصفة الذاتيّة إنّما لا يجوز إذا كانت مطلقة ، أمّا إذا كانت مشروطة بشرط فجاز التغيّر بحسب تغيّر ذلك الشرط. فإنّه تعالى كان قادرا في الأزل على خلق العالم فلمّا خلقه زالت تلك القدرة وإن كانت ذاتيّة ؛ وذلك لأنّ إيجاب الذات لتلك القدرة كان مشروطا بعدم المقدور فلمّا وجد زالت تلك القدرة لزوال شرطها. فكذا هنا كان عالما بكون زيد في الدار مشروطا بعدم خروجه فلمّا خرج زال ذلك العلم.

الثالث : جواب أبي الحسين البصريّ (٢) : وهو أنّ علمه الأوّل لم يزل ؛ لاستحالة زوال الصفة الذاتيّة ، وتجدّد له علم آخر لتجدّد شرطه وهو وجود المعلوم.

الرابع : جواب بعض شيوخنا المتقدّمين (٣) وقريب منه جواب المصنّف ، وهو : أنّ ما ذكروه إنّما يتمّ على تقدير كون علمه زائدا على ذاته وهو باطل كما يجيء ، بل علمه عندنا نفس ذاته المقدّسة. ويلزمه أنّ العلم مطلق الإضافة إلى المعلوم الذي لا يتغيّر ، وإذا تغيّر المعلوم تتغيّر الإضافة الخاصّة التي بينه وبين الذات ، ولا يلزم من تغيّرها تغيّر الذات ؛ لعدم كون تلك الإضافة بخصوصيّتها ذاتيّة أو لازمة. وأيضا : فإنّا نعلم ضرورة أنّ من علم متغيّرا لم يلزم من تغيّره تغيّر في ذاته.

قال : فائدة ـ الحيّ عند المتكلّمين : كلّ (٤) موجود لا يستحيل أن يقدر ويعلم. والبارئ تعالى ثبت أنّه قادر عالم ، فوجب أن يكون حيّا بالضرورة.

أقول : هذه أيضا من صفاته الثبوتيّة ، فقال الحكماء : معنى أنّه حيّ أنّه الدرّاك الفعّال.

__________________

١ ـ محمود بن أحمد بن محمّد بن العبّاس بن أرسلان ، أبو محمّد الخوارزميّ. فقيه شافعيّ من أهل خوارزم مولدا ووفاة ، سمع الحديث بها ، وصنّف : الكافي في نظم الشافي. الأعلام للزركلي ٧ : ١٨١.

٢ ـ أبو الحسين البصريّ محمّد بن علي بن الطبيب. شيخ المعتزلة ، والمتكلّم على مذهبهم ، وصاحب التصانيف الكلاميّة ، منها : المعتمد ، وتصفّح الأدلّة ، وشرح الأصول الخمسة. سكن بغداد ومات بها سنة ٤٣٦ ه‍. العبر ٢ : ٢٧٣. شذرات الذهب ٣ : ٢٥٩.

٣ ـ لعلّه إشارة إلى ما أجاب به العلّامة في «كشف المراد» عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى بالجزئيّات الزمانيّة ، بأنّ التغيّر إنّما هو في الإضافات ، لا في الذات ولا في الصفات الحقيقيّة ، كالقدرة التي تتغيّر نسبتها وإضافتها إلى المقدور عند عدمه وإن لم تتغيّر في نفسها. وتغيّر الإضافات جائز لأنّها امور اعتباريّة. كشف المراد : ٢٢٢.

٤ ـ الفصول النصيريّة : هو.

٨٧

وأمّا المتكلّمون ، فقالت الأشاعرة : إنّ حياته تعالى صفة قديمة قائمة بذاته تعالى ، يقتضي له صحّة القدرة والعلم.

وقال أكثر المعتزلة : إنّها حالة زائدة على ذاته ، يقتضي لها صحّة القدرة والعلم.

واحتجّ الفريقان على الزيادة بأنّه لولاها لزم التخصيص بغير مخصّص في إثبات القدرة والعلم له ؛ لاشتراك الذوات في الذاتيّة.

وقال أبو الحسين البصريّ ومن تابعه من المحقّقين : إنّ معناه أنّه لا يستحيل أن يقدر ويعلم ؛ لما تقرّر من استحالة كون صفاته تعالى زائدة على ذاته. ونفي الاستحالة لا يستلزم عدميّة مفهومها ، إذ معناه الإمكان العامّ الشامل للواجب والممكن ، فلفظها سلب ومعناها إثبات.

إذا عرفت هذا ففي قول المصنّف : «الحيّ عند المتكلّمين كلّ موجود لا يستحيل أن يقدر ويعلم» نظر ، إذ ذاك مذهب أبي الحسين ومن تابعه لا غير ، لما تلوناه من النقل عن الأشاعرة والمعتزلة (١).

قال : فائدة ـ علمه تعالى بأنّ في الإيجاد أو الترك مصلحة يسمّى إرادة ، وعلمه بالمدركات يسمّى إدراكا ، وعلمه بالمسموعات والمبصرات يسمّى سمعا وبصرا ، فهو تعالى باعتبارها يسمّى مريدا (٢) ومدركا وسميعا وبصيرا.

أقول : ذكر في هذه الفائدة صفات أربعا ثبوتيّة له تعالى :

الأولى : كونه مريدا ، ولا شكّ أنّ الواحد منّا إذا علم أو ظنّ أو توهّم في فعل ما من الأفعال مصلحة من المصالح يجد من نفسه ميلا وداعيا إلى تحصيل ذلك الفعل وإيجاده.

وأيضا : تقرّر في العلوم الإلهيّة كون كلّ حركة اختياريّة مسبوقة بالتصوّر الجزئيّ

__________________

١ ـ قال المصنّف في شرحه على «نهج المسترشدين» : اتّفق العقلاء على وصفه تعالى بالحياة. واختلفوا في معنى ذلك ، فذهب الذين يقولون بزيادة الصفات على ذاته ـ وهم جمهور المعتزلة والأشاعرة ـ إلى أنّ له تعالى صفة ثبوتيّة زائدة على ذاته هي الحياة ، لأجلها يصحّ أن يقدر ويعلم. وذهب نفاة زيادة الصفات ـ وهم الحكماء وأبو الحسين البصريّ والمحقّقون ـ إلى أنّها صفة سلبيّة ، ومعناها أنّه لا يستحيل أن يقدر ويعلم. ولا شكّ أنّ هذا الوصف ثابت له تعالى ضرورة بعد ثبوت كونه تعالى قادرا وعالما. والحكماء فسّروا الحيّ بأنّه الدرّاك والفعّال. إرشاد الطالبين : ٢٠٢.

٢ ـ الفصول النصيريّة بزيادة : وكارها.

٨٨

والإرادة الجازمة والشوق وحركة العضلات ، ولمّا استحال عليه تعالى الظنّ والوهم ، وكان الميل الزائد والشوق من القوى الحيوانيّة لم يبق في حقّه سوى العلم ، فتكون إرادته هي علمه بأنّ في الإيجاد أو الترك مصلحة. هذا عند المحقّقين.

واستدلّوا على ثبوت الإرادة له بهذا المعنى بأنّه تعالى خصّص أفعاله بوقت دون آخر ، وبصفة دون أخرى مع تساوي الأوقات والأحوال بالنسبة إليه وإلى القابل. فذلك المخصّص ليس القدرة الذاتيّة ؛ لتساوي نسبتها إلى الطرفين ، ولا العلم المطلق ؛ لكونه تابعا للوقوع ، ولا غير ذلك من الصفات ، وهو ظاهر. فلم يبق إلّا العلم الخاصّ باشتمال ذلك الفعل على المصلحة ، وهو المطلوب.

وأثبتت الأشاعرة له تعالى صفة قديمة مغايرة للعلم قائمة بذاته تعالى. ويبطله استحالة قديم سواه ، واستحالة صفة زائدة له على ذاته.

وقالت المعتزلة : إنّه مريد بإرادة محدثة لا في محلّ (١). ويبطل ذلك باستحالة عرض لا في محلّ ضرورة ، وباستلزام التسلسل ؛ إذ كلّ حادث يستدعي سبقيّة إرادة فاعله المختار.

الثانية : كونه تعالى مدركا ؛ لقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (٢).

تمدّح بكونه مدركا فيجب إثباته له.

الثالثة : كونه سميعا.

الرابعة : كونه بصيرا ؛ لقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (٣).

إذا عرفت هذا فنقول : لا شكّ أنّ المراد بالإدراك في الاصطلاح العلميّ ، هو اطّلاع الحيوان على الامور الخارجيّة بواسطة الحواسّ. وأنواعه خمسة : السّمع والبصر ، والشّمّ ،

__________________

١ ـ اتّفق المسلمون على أنّه تعالى مريد ، لكنّهم اختلفوا في معناه. فأبو الحسين جعله نفس الداعي ، على معنى أنّ علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة الداعية إلى الإيجاد هو المخصّص. وذهبت الأشعريّة إلى إثبات أمر زائد على ذاته قديم ، هو الإرادة. وقال أبو علي وأبو هاشم من المعتزلة : إنّ إرادته حادثة لا في محلّ. كشف المراد : ٢٢٣.

٢ ـ الأنعام / ١٠٣.

٣ ـ النّساء / ١٣٤.

٨٩

والذّوق ، واللّمس. والمراد بالسمع هو إدراك الأصوات والحروف بالقوّة المودعة في الصّماخ ، الذي هو العصب المفروش داخل الاذن. والمراد بالإبصار هو إدراك الألوان والأضواء بالذات وغيرهما بواسطتهما بالقوّة المودعة في العين ، أو بالانطباع ، أو بخروج الشعاع. والمراد بالشمّ هو إدراك الروائح بالقوّة المودعة في الحلمتين النابتتين في مقدّم الدّماغ. والمراد بالذوق هو إدراك الطعوم بالقوّة المودعة في سطح اللسان بتوسّط الرطوبة اللعابيّة. والمراد باللمس هو إدراك الكيفيّات الأربع وتوابعها بقوّة منبثّة في البدن كلّه. فقد ظهر توقّف هذه الإدراكات على الحواسّ. وحيث ورد النقل الشريف بوصفه بالإدراك استحال حمله على هذه المعاني ؛ لاستحالة الحواسّ عليه تعالى. فوجب حمله على غير ذلك لما تقرّر أنّه مع معارضة العقل النقل يجب تأويل النقل بما يطابق العقل ، فحملنا ذلك على العلم مجازا ، تسمية للمسبّب ـ الذي هو العلم ـ باسم سببه ـ الذي هو الإدراك ـ لأنّ الحواسّ مبادي اقتناص العلوم الكلّيّة. فمن فقد حسّا فقد فقد علما ؛ فلذلك فسّرنا كونه مدركا بأنّه عالم بالمدركات ، وكونه سميعا بأنّه عالم بالمسموعات ، وكونه بصيرا بأنّه عالم بالمبصرات. ودليل ذلك كلّه كونه عالما بكلّ معلوم الذي هذه المدركات من جملتها ، فيكون عالما بها وهو المطلوب.

قال : أصل ـ كلّ ما في الجهة محدث ، والواجب ليس بمحدث ، فلا يكون في جهة. وإذا لم يكن في جهة لم يكن إدراكه بآلة جسمانيّة ؛ لأنّه لا يدرك بها إلّا ما كان في جهة قابلا للإشارة الحسّيّة. ويعلم من ذلك أنّه لا يرى بحاسّة البصر ؛ لأنّ الرؤية بها لا تعقل إلّا مع المقابلة وهي لا تصحّ إلّا في شيئين حاصلين في الجهة ، فكلّ ما ورد ممّا ظاهره الرؤية اريد به الكشف التامّ.

أقول : يشير في هذا الأصل إلى ثلاث صفات سلبيّة ، كلّ واحدة منها مترتّبة على ما سبقها ، والسابق منها علّة ودليل على اللاحق.

الأولى : كونه ليس في جهة. والمراد بالجهة هو مقصد المتحرّك ومتعلّق الإشارة. والدليل على هذه الدعوى قياس من الشكل الثاني.

تقريره : الواجب ليس بمحدث ، وكلّ ما في الجهة محدث. ينتج : أنّ الواجب ليس

٩٠

في جهة. أمّا الصغرى فلما تقدّم ، وأمّا الكبرى فلأنّ ما في الجهة إمّا منتقل فيكون متحرّكا ، أو غير منتقل فيكون ساكنا. والحركة والسكون حادثان لاستدعائهما المسبوقيّة بالغير ؛ لأنّ الحركة هي الحصول في المكان الثاني ، فهو مسبوق بالمكان الأوّل. والسكون هو الحصول الثاني في المكان ، فهو مسبوق بالحصول الأوّل. فكلّ ما في الجهة مسبوق بالغير ، وكلّ مسبوق بالغير محدث ، فكلّ ما في الجهة محدث.

الثانية : أنّه لا يدرك بآلة جسمانيّة ؛ لأنّه لا يدرك بالآلة الجسمانيّة إلّا ما كان ملاقيا أو مقابلا لها أو في حكمه. ولمّا كانت الآلة الجسمانيّة في الجهة وجب أن يكون مقابلها كذلك ، فيصدق قياس هكذا : كلّ مدرك بآلة جسمانيّة في جهة ، ولا شيء من الواجب في جهة ، فلا شيء من المدرك بآلة جسمانيّة بواجب. وينعكس بالمستوي إلى قولنا : لا شيء من الواجب بمدرك بآلة جسمانيّة ـ والمقدّمتان سبق تقريرهما ـ فتصدق النتيجة ، وهو المطلوب.

الثالثة : أنّه لا يدرك بالبصر. وهذه المسألة ممّا وقع فيها التشاجر بين المتكلّمين ، فقالت المجسّمة (١) : إنّه مدرك بالبصر ؛ لكونه جسما عندهم.

وقالت المعتزلة والإماميّة (٢) : إنّه غير مدرك بالبصر ؛ لكونه مجرّدا عندهم.

وقالت الأشاعرة : إنّه مدرك بالبصر. مع كونه مجرّدا عندهم ، فقد خالفوا جميع العقلاء (٣). وقد أشار المصنّف إلى دليل المعتزلة وأصحابنا بما تقريره : إنّ كلّ مدرك بالبصر فهو في جهة ، ولا شيء من الواجب في جهة ، فلا شيء من الواجب بمدرك بالبصر. والمقدّمتان سبق بيانهما.

__________________

١ ـ المجسّمة اسم يطلق على عامّة الفرق التي قالت بتجسيم الله تعالى. وزيدة كلامهم أنّهم يشبّهون الله بخلقه ويثبتون له مكانا. وهم فرق ، منهم الكراميّة. مقالات الإسلاميّين ١ : ٢٥٧ ، الملل والنحل ١ : ٩٦ ، موسوعة الفرق الإسلاميّة : ٤٤٩.

٢ ـ الإماميّة : هم القائلون بإمامة علي عليه‌السلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّا ظاهرا وتعيينا صادقا ، من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعين. وقد عيّن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا في مواضع تعريضا وفي مواضع تصريحا. مقالات الإسلاميّين ١ : ٨٧ ، الملل والنحل ١ : ١٤٤.

٣ ـ اعلم أنّ أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى. والمجسّمة جوّزوا رؤيته لاعتقادهم أنّه تعالى جسم ، ولو اعتقدوا تجرّده لم يجوّزوا رؤيته. والأشاعرة خالفوا العقلاء كافّة هنا ، وزعموا أنّه تعالى مع تجرّده يصحّ رؤيته. والدليل على امتناع الرؤية أنّ وجوب الوجود يقتضي تجرّده ونفي الجهة والحيّز عنه ، فينتفي الرؤية عنه. كشف المراد : ٢٣٠.

٩١

قوله : «فكلّ ما ورد ممّا ظاهره الرؤية اريد به الكشف التامّ» ، إشارة إلى ما استدلّ به الأشاعرة من النقل ، وهو نوعان : قرآنيّ وحديثيّ.

أمّا الأوّل : فآيات :

الأولى : قوله تعالى حكاية عن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١).

ولو كانت ممتنعة لما سألها موسى عليه‌السلام ؛ إذ هو عالم بصفات الله.

الثانية : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢). والنظر المقرون ب «إلى» يفيد الرؤية.

الثالثة : قوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٣). علّق الرؤية على استقرار الجبل الممكن ، فتكون ممكنة.

وأمّا الثاني : فما رووه من قوله عليه‌السلام : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر» (٤).

والجواب عن الأوّل : أمّا الأولى فإنّ السؤال لقومه ، بدليل : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٥). أو لتعاضد الأدلّة ولذلك اجيب ب (لَنْ تَرانِي) النافية على التأبيد.

وأمّا الثانية : فإنّ (إِلى) (٦) هنا اسم ، واحد الآلاء ، أي ناظرة نعم ربّها. أو في الكلام إضمار تقديره : إلى ثواب ربّها. ونمنع كون النظر المقرون ب «إلى» يفيد الرؤية ، وسند المنع قولهم : نظرت إلى الهلال فلم أره.

وأمّا الثالثة : فإنّ الرؤية معلّقة على استقرار الجبل حال حركته التي هي حالة التجلّي ، واستقراره حال الحركة محال ، فالمعلّق عليه محال أيضا.

__________________

١ ـ الأعراف / ١٤٣.

٢ ـ القيامة / ٢٢ ، ٢٣.

٣ ـ الأعراف / ١٤٣.

٤ ـ روى جرير بن عبد الله قال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جلوسا ، فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : «إنّكم سترون ربّكم عيانا كما ترون هذا القمر ...». تفسير القرطبيّ ١٩ : ١٠٨.

٥ ـ النساء / ١٥٣.

٦ ـ جاء في لسان العرب ١٤ : ٤٣ : الآلاء : النّعم ، واحدها ألى ـ بالفتح ـ وإلي ، وإلى.

٩٢

وعن الثاني بمنع صحّة الحديث أوّلا ، وبكونه خبر واحد على تقدير صحّته فلا يفيد علما ثانيا ، وبإمكان حمله على الكشف التامّ أعني معرفته معرفة ضروريّة ثالثا.

واعلم أنّ الكشف التّام يمكن أن يكون جوابا عن كلّ واحدة من هذه الآيات المتقدّمة ؛ لإمكان استعمال الرؤية والنظر في العلم مجازا ، تسمية للمسبّب باسم السبب ، لقيام الدليل العقلي على امتناع رؤيته تعالى. فلذلك أطلق المصنّف ، مكتفيا عن تفصيل الأجوبة في قوله : اريد به الكشف التامّ.

قال : هداية ـ البارئ تعالى قادر على كلّ مقدور ، فيكون قادرا على إيجاد حروف وأصوات منظومة في جسم جامد ، وهو كلامه تعالى ، وهو باعتبار خلقه إيّاه متكلّم. ويعلم من تركيبه من الحروف والأصوات كونه غير قديم ؛ لأنّه عرض لا يبقى ، فكيف يكون قديما؟!

فإن قيل : المراد من الكلام حقيقة تصدر عنها هذه الحروف والأصوات ، وهي قديمة ؛ لأنّها صفة الله تعالى.

قلنا : إنّا بيّنّا أنّ مصدرها ليس إلّا ذاته ، وأنّه لا قديم سواه ، فإن ساعدونا في المعنى فلا منازعة في اللفظ.

أقول : هذه المسألة أعني كونه سبحانه متكلّما لم يذكرها الحكماء ، وتفرّد المسلمون بالبحث عنها. وهي أوّل مسألة بحث المتكلّمون في صدر الإسلام عن تفاصيلها ، وبذلك سمّي هذا الفنّ علم الكلام (١).

__________________

١ ـ قيل : في تسمية علم الكلام وجوه ، الأوّل : وهو الذي أشار إليه المصنّف من أنّ أوّل مسألة بحث عنها المسلمون صفة التكلّم لله تعالى ، وأنّ كلامه قديم أو حادث. وهذه المسألة من أكثرها نزاعا وجدالا ، حتّى أنّ بعض المتغلّبة قتل كثيرا من أهل الحقّ لعدم قولهم بخلق القرآن.

الثاني : أنّه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيّات وإلزام الخصوم.

الثالث : أنّه لقوّة أدلّته صار كأنّه هو الكلام دون ما عداه.

الرابع : أنّ عنوان مباحثه كان قولهم : الكلام في كذا وكذا.

الخامس : أنّه أوّل ما يجب من العلوم التي تعلم وتتعلّم بالكلام. فاطلق عليه هذا الاسم لذلك. ثمّ خصّ به ولم يطلق على غيره تمييزا له.

٩٣

فقالت المعتزلة : المراد بالكلام هو الحروف والأصوات المنتظمة الدالّة على المعاني. والمراد بالمتكلّم من أوجد هذه الحروف والأصوات ، وأنّ تلك الحروف والأصوات حادثة. واستدلّوا على الأوّل بأنّ ذلك هو المتبادر إلى الذهن من إطلاق لفظ الكلام ، ولهذا لا يقال عن الأخرس : إنّه متكلّم. وعلى الثاني بأنّ المتكلّم اسم فاعل عند أهل اللغة وهم لا يطلقونه إلّا على من وجد منه الفعل. وعلى الثالث بأنّه عرض مفتقر إلى موضوع وهو غير باق ضرورة. وأيضا : هو مركّب من الحروف التي يعدم السابق منها بوجود اللاحق. وهذه كلّها دلائل الحدوث فلا يكون قديما.

وقالوا : المراد بكونه تعالى متكلّما هو أنّه أوجد حروفا وأصواتا في أجسام جامدة يعبّر بها عن مراده ؛ لأنّ هذا أمر ممكن والله تعالى قادر على كلّ الممكنات ، كما تقدّم.

وقالت الأشاعرة : إنّ الكلام وإن اطلق على ما ذكرتم لكنّه يطلق أيضا على معنى قائم بالنفس ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار ولا غير ذلك ، بل هذه الامور عبارات عنه ، كما قال الأخطل (١) :

إنّ الكلام لفي الفؤاد ، وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

والله تعالى متكلّم بمعنى أنّه قائم بذاته ذلك المعنى. قالوا : وهو قديم ؛ لأنّه صفة له تعالى ، وكلّ صفاته قديمة.

قوله : «فإن قيل» إلى آخره ، إشارة إلى كلام الأشاعرة هنا. وتقريره : أنّا لا ننكر كون الحروف والأصوات كلاما ، ولا أنّها حادثة ، بل نقول : إنّ له تعالى صفة قديمة قائمة بذاته ، تصدر عنها الحروف والأصوات. وتلك الصفة يعبّر عنها بالكلام.

قال المصنّف : إنّا بيّنّا أنّ هذه الحروف صادرة عنه بقدرة واختيار وعلم ، ولا يتصوّر

__________________

السادس : أنّه إنّما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام بين الجانبين ، وغيره قد يتحقّق بالتأمّل ومطالعة الكتب.

السابع : أنّه لابتنائه على الأدلّة القطعيّة المؤيّدة أكثرها بالأدلّة السمعيّة أشدّ العلوم تأثيرا في القلب وتغلغلا فيه ، فسمّي بالكلام المشتقّ من الكلم وهو الجرح. شرح العقائد النسفيّة : ١٥ ، جامع العلوم ٣ : ١٣٤ ، مذاهب الإسلاميّين ١ : ٢٩.

١ ـ غياث بن غوث بن الصلت بن طارقة بن عمرو. التّغلبيّ النصرانيّ ، الشاعر المعروف المقرّب عند خلفاء بني أميّة لمدحه إيّاهم وانقطاعه إليهم. وهو أحد الثلاثة المتّفق على أنّهم أشعر أهل عصرهم : جرير ، والفرزدق ، والأخطل. الكنى والألقاب ٢ : ١٢ ، الأعلام للزركليّ ٥ : ١٢٣.

٩٤

أمر آخر تصدر عنه هذه الحروف والأصوات. وصفاته عندنا نفس ذاته ، فتكون هذه الحروف والأصوات صادرة عنه. فإن وصفتم الذات باعتبار صدور الكلام عنها بأنّ لها صفة هي الكلام ، فنحن نقول : إنّ الذات ـ باعتبار صدور الحروف والأصوات ـ لها صفة هي القدرة ، فتكون منازعة في التسمية. ثمّ نقيم الدلالة على استحالة زيادة صفاته على ذاته ، وعلى بطلان قديم غيره.

قال : لطيفة ـ قد ثبت أنّه تعالى ذات واحدة مقدّسة ، وأنّه لا مجال للتعدّد والكثرة في رداء كبريائه ، فالاسم الذي يطلق عليه ـ من غير اعتبار غيره ـ ليس إلّا لفظة : «الله». وما عداه (١) إمّا أن يطلق عليه باعتبار إضافته إلى الغير ، كالقادر والعالم والخالق والبارئ والكريم. أو باعتبار سلب الغير عنه ، كالواحد والفرد والغنيّ والقديم. أو باعتبار الإضافة والسلب معا ، كالحيّ والعزيز والواسع والرحيم. فكلّ اسم يليق بجلاله ويناسب كماله ممّا لم يرد به إذن شرعيّ (٢) جاز إطلاقه عليه تعالى ، إلّا أنّه ليس من الأدب ؛ لجواز أن لا يناسبه من وجه آخر ، كيف ولو لا غاية عنايته ونهاية رأفته في إلهام الأنبياء والمقرّبين أسماءه لما جسر (٣) أحد من الخلق أن يطلق واحدا من أسمائه عليه سبحانه.

أقول : هذه اللطيفة تشتمل على ذكر أسمائه تعالى وضبط أقسامها ، وتحقيق ذلك يتمّ بفوائد :

الاولى : الاسم هو اللفظ الدالّ على المعنى بالاستقلال المجرّد عن الزمان. فقد يكون نفس المسمّى كلفظ الاسم ، فإنّه لمّا كان إشارة إلى اللّفظ الدّال على المسمّى ـ ومن جملة المسمّيات لفظ الاسم ـ فقد دلّ عليه. وقد يكون مغايرا له كلفظ الجدار الدالّ على معناه المغاير له.

الثانية : الاسم إذا اطلق على الشيء فإمّا أن يكون المسمّى به ذات الشيء ، أو ما

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : وأمّا ما عداه.

٢ ـ من الفصول النصيريّة.

٣ ـ «ن» والفصول النصيريّة : جزء.

٩٥

يكون داخلا فيها ، أو ما يكون خارجا عنها ، والدالّ على الخارجيّ إمّا أن يدلّ على الصفة ، أو على الموصوفيّة بتلك الصفة ، أو على ذلك الشيء مع كونه موصوفا بتلك الصفة ، والدالّ على الصفة إمّا أن يدلّ على صفة حقيقيّة فقط ، أو إضافيّة فقط ، أو سلبيّة فقط ، أو ما يتركّب من هذه الأقسام.

الثالثة : اختلف الناس في أنّه تعالى هل لذاته اسم أم لا؟ قال الأوائل : لا يجوز ذلك ؛ لأنّ الواضع إن كان هو الله تعالى وقصد تعريف نفسه فهو محال ؛ لأنّه عالم بذاته قبل التعريف ، أو تعريف غيره ذاته ، فهو أيضا محال ؛ لأنّ ذاته غير معلومة لأحد كما يجيء. وإن كان الواضع غيره فباطل أيضا ؛ لأنّه لا بدّ أن يكون عارفا به ، وقد بيّنّا استحالته.

واتّفق الكلّ على أنّه لا يجوز أن يكون له اسم دالّ على جزء معناه ؛ لاستحالة التركيب عليه تعالى ، فلا جزء له (١).

وأمّا الأسماء الدالّة على الصفات والإضافات والسلوب فقد منعها قوم ، بناء على أنّه لا يجوز وصفه تعالى بما يوصف به غيره ، وهم الملاحدة (٢) وجهم بن صفوان (٣) ، قالوا : وإلّا لشارك غيره ، فيفتقر إلى مميّز ، فيقع التركيب. وهو خطأ ؛ فإنّ التركيب إنّما يتمّ على تقدير المشاركة والمباينة بالذاتيّات. ويبطل قولهم أيضا : الإجماع والقرآن العزيز ؛ فإنّه تعالى وصف نفسه فيه بكونه قادرا وعالما وغير ذلك. هذا مع أنّا نحن لا نثبت له صفات حقيقيّة نثبت لغيره مثلها حتّى يوجب ذلك الاشتراك ، بل ننفى عنه سائر الصفات كما يجيء بيانه ،

__________________

١ ـ اسم كلّ شيء إمّا أن يدلّ على ماهيّته ، أو على جزء ماهيّته ، أو على الأمر الخارج عن ماهيّته ، أو على ما يتركّب عنها. والخارج إمّا أن يكون صفة حقيقيّة أو إضافيّة أو سلبيّة أو ما يتركّب عنهما. وهل يجوز أن يكون لماهيّة الله اسم أم لا؟ فإن قلنا : ماهيّته معلومة للبشر ، جاز وإلّا فلا. وأمّا الاسم الدالّ على جزء ماهيّة الله تعالى فذلك محال ، لامتناع التركّب في حقيقة ذات الله تعالى. والأسماء الكثيرة وإن أمكن أن تطلق على الله تعالى من الوجوه التي ذكرها الفلاسفة ، إلّا أنّ أصحاب الشرائع لا يجوّزون إطلاق اسم عليه تعالى إلّا بإذن شرعيّ. تلخيص المحصّل : ٣٤٧.

٢ ـ تطلق على الدهريّة ، الذين يقولون بسرمديّة الدهر. ولكن في المقام المراد منهم طائفة من الجهميّة ، القائلون بالتجسيم ، وأنّ لله تعالى يدا ورجلا وغيرهما من الجوارح. وقد يعبّر عنهم بالزنادقة. ولأحمد بن حنبل كتاب «الرّد على الجهميّة والزنادقة» ، ذكر فيه آراءهم والجواب عنها. الملل والنحل : ٢٨.

٣ ـ جهم بن صفوان السمرقنديّ ، أبو محرز ، من موالي بني راسب. رأس الجهميّة ، كان من الجبريّة الخالصة التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، وزعم أنّ علم الله حادث ، وقال بحدوث كلام الله تعالى. المقالات والفرق : ١٣٢ ، الملل والنحل ١ : ٧٩ ، ميزان الاعتدال ١ : ٤٢٦ ، الأعلام للزركليّ ٢ : ١٤١.

٩٦

وإنّما أسماؤه بفرض اعتبارات أو سلوب أو هما معا كما سيجيء.

الرابعة : لمّا ثبت أنّه تعالى ذات واحدة وأنّه لا مجال للتكثّر والتعدّد في رداء كبريائه استحال أن يكون له تعالى اسم يدلّ على معنى خارجيّ قديم أو حادث ، خلافا للأشاعرة المثبتين له صفات سبعة قديمة (١) ، والكراميّة (٢) المثبتين له صفات حادثة ، بل أسماؤه إمّا أن تدلّ على الذات فقط من غير اعتبار أمر ، أو مع اعتبار أمر. وذلك الأمر إمّا إضافة ذهنيّة فقط ، أو سلب فقط ، أو إضافة وسلب. فالأقسام حينئذ أربعة :

الأوّل : ما يدلّ على الذات فقط من غير اعتبار ، وهو لفظة «الله» ؛ فإنّه اسم للذات الموصوفة بجميع الكمالات الربّانيّة المنفردة بالوجود الحقيقيّ ، فإنّ كلّ موجود سواه غير مستحقّ للوجود لذاته ، بل إنّما استفاده من الغير. ويقرب من هذا الاسم لفظة «الحقّ» ، إذا اريد به الذات من حيث هي واجبة الوجود ، فإنّ الحقّ يراد به دائم الثبوت ، والواجب ثابت دائم غير قابل للعدم والفناء ، فهو حقّ بل أحقّ من كلّ حقّ.

الثاني : ما يدلّ على الذات مع إضافة ك «القادر» ، فإنّه بالإضافة إلى مقدور تعلّقت به القدرة بالتأثير.

و «العالم» ، فإنّه أيضا اسم للذات باعتبار انكشاف الأشياء لها.

و «الخالق» ، فإنّه اسم للذات باعتبار تقدير الأشياء.

و «البارئ» ، فإنّه اسم للذات باعتبار اختراعها وإيجادها.

و «المصوّر» ، باعتبار أنّه مرتّب صور المخترعات أحسن ترتيب.

و «الكريم» ، فإنّه اسم للذات باعتبار إعطاء السؤالات والعفو عن السيّئات.

و «العليّ» ، هو اسم للذات التي هي فوق سائر الذوات.

__________________

١ ـ قال أبو الحسن الأشعريّ : البارئ تعالى عالم بعلم ، قادر بقدرة ، حيّ بحياة ، مريد بإرادة ، متكلّم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر. وقال : هذه الصفات أزليّة قائمة بذاته تعالى. الملل والنحل ١ : ٨٧.

٢ ـ أصحاب أبي عبد الله محمّد بن كرام. وهم يثبتون لله تعالى صفات أزليّة من العلم والقدرة ، ولأجل ذلك يعدّونهم في الصفاتيّة. وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة. ومن مذهبهم جواز قيام كثير من الحوادث بذات البارئ تعالى ، وأثبتوا لله تعالى صفات حادثة. وقد يطلق عليهم المشبّهة والمجسّمة ؛ لانتهاء قولهم إلى التشبيه والتجسيم. الملل والنحل ١ : ٩٩.

٩٧

و «العظيم» ، فإنّه اسم للذات باعتبار تجاوزها حدّ الإدراكات الحسّيّة والعقليّة.

و «الأوّل» ، وهو السابق على الموجودات.

و «الآخر» ، وهو الذي إليه مصير الموجودات.

و «الظاهر» ، وهو اسم للذات باعتبار دلالة العقل على وجودها دلالة بيّنة.

و «الباطن» ، فإنّه اسم لها بالإضافة إلى خفائه عن إدراك الحسّ والوهم ... إلى غير ذلك من الأسماء.

الثالث : ما يدلّ على الذات باعتبار سلب الغير عنه ك «الواحد» ، باعتبار سلب النظير والشريك.

و «الفرد» ، باعتبار سلب القسمة والبعضيّة.

و «الغنيّ» ، باعتبار سلب الحاجة.

و «القديم» ، باعتبار سلب العدم.

و «السلام» ، باعتبار سلب العيوب عنه والنقائص.

و «القدّوس» ، باعتبار سلب ما يخطر بالبال عنه ... إلى غير ذلك.

الرابع : باعتبار الإضافة والسلب معا ك «الحيّ» ، فإنّه الدرّاك الفعّال الذي لا يلحقه الآفات.

و «الواسع» ، باعتبار سعة علمه وعدم فوات شيء منه.

و «العزيز» ، وهو الذي لا نظير له ، وهو ممّا يصعب إدراكه والوصول إليه.

و «الرحيم» ، وهو اسم للذات باعتبار شمول رحمته للمخلوقات أو المؤمنين وعدم خروج أحدهم من رحمته وعنايته ، وإرادته لهم الخيرات.

الخامسة : الأسماء بالنسبة إلى ذاته المقدّسة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما يمتنع إطلاقه عليه. وذلك كلّ اسم يدلّ على معنى يحيل العقل نسبته إلى ذاته الشريفة ، كالأسماء الدالّة على الامور الجسمانيّة ، أو ما هو مشتمل على النقائص والحاجة.

الثاني : ما يجوز عقلا إطلاقه عليه وورد في الكتاب العزيز أو السنّة الشريفة تسميته ،

٩٨

فذلك لا حرج في تسميته به ، بل يجب امتثال الأمر الشرعيّ في كيفيّة إطلاقه عليه بحسب الأحوال والأوقات والتعبّدات ، إمّا وجوبا أو ندبا.

الثالث : ما يجوز إطلاقه عليه ولكن لم يرد ذلك في الكتاب ولا السنّة الشريفة كالجوهر ، فإنّ أحد معانيه كون الشيء قائما بذاته غير مفتقر إلى غيره ، وهذا المعنى ثابت له تعالى.

قال المصنّف رحمه‌الله : يجوز تسميته تعالى به ؛ إذ لا مانع في العقل من ذلك ، لكنّه ليس من الأدب ؛ لأنّه وإن جاز عقلا إطلاقه ولم يمنع منه مانع لكنّه يجوز أن لا يناسبه من جهة أخرى لا نعلمها ؛ إذ العقل لم يطّلع على كافّة ما يمكن أن يكون معلوما ، فإنّ كثيرا من الأشياء لا نعلمها لا إجمالا ولا تفصيلا. وإذا جاز عدم المناسبة ولا ضرورة داعية إلى التسمية فيجب الامتناع من جميع ما لم يرد به نصّ شرعيّ من الأسماء ، وهو المطلوب. وهذا هو معنى قول العلماء : إنّ أسماءه تعالى توقيفيّة ، أي موقوفة على النصّ والإذن في إطلاقها.

قال : ختم وإرشاد ـ هذا القدر في معرفة الله تعالى وصفاته ـ التي هي أعظم أصل من اصول الدين ، بل هي أصل الدين ـ كاف ؛ إذ لا يعرف بالعقل أكثر منه ، ولا يتيسّر في علم الكلام التجاوز عنه ، إذ معرفة حقيقة ذاته المقدّسة غير مقدورة للأنام ، وكمال ألوهيّته أعلى من أن تناله أيدى الظنون والأوهام ، وربوبيّته أعظم من أن تتلوّث (١) بالخواطر والأفهام. والذي (تعرفه العقول) (٢) ليس إلّا أنّه موجود. إذ لو أضفناه إلى بعض ما عداه ، أو سلبنا عنه ما نافاه ، خشينا أن يوجد له بسببه وصف ثبوتيّ أو سلبيّ ، أو يحصل له به نعت ذاتيّ معنويّ ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

أقول : لمّا فرغ من باب التوحيد شرع في ختمه بأحسن إرشاد للطالب في ألطف عبارة وأوجز إشارة ، وبيان ذلك في فوائد :

__________________

١ ـ «م» : تتلوّن.

٢ ـ ما بين القوسين في «خ» : نعرف منه خاصّة. وفي «ن» «ح» : نعرفه. وفي الفصول النصيريّة : والذي يعرف منه خاصّة.

٩٩

الأولى : أنّ هذا القدر المذكور ـ أي المذكور في المباحث المتقدّمة من ذكر صفاته السلبيّة والثبوتيّة ـ كاف في القيام بالواجب من المعرفة ؛ فإنّه لمّا دلّ دليل وجوبها من كونه منعما فيجب شكره المستلزم ذلك لوجوب معرفته ، ليقوم المكلّف بشكره على قدر الممكن ممّا يليق بكماله لم يستلزم ذلك أكثر من معرفته بما تقدّم ؛ فإنّ التصديق لا يشترط في تحقّقه معرفة المحكوم عليه وبه بكنه الحقيقة ، بل بوجه ما خصوصا مع امتناع ذلك كما يجيء بيانه ؛ فإنّا نحكم على شبح نراه من بعيد بأنّه شاغل للحيّز مع جهلنا بحقيقته ، فلا جرم لم يتيسّر في علم الكلام التجاوز إلى أكثر من ذلك.

وعلم الكلام عرّفه بعضهم بأنّه : علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام (١). واحترز بقيد «على قانون الإسلام» عن الفلسفة الإلهيّة ، فإنّها يبحث فيها عن ذات الله وأحوال الممكنات لا على قانون الإسلام بل على قواعد الحكماء.

وقيل : هو علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتيّة للموجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام (٢). فموضوعه على الأوّل : ذات الله تعالى وذات الممكنات. وعلى الثاني : الموجود من حيث هو هو.

الثانية : أنّ معرفة الله تعالى أعظم أصل من اصول الدين. واصول الدين عندنا هي التوحيد ، والعدل ، والنبوّة ، والإمامة ، فهي حينئذ أربعة. يدخل في مباحث التوحيد بحث الذات والصفات ، وفي مباحث العدل وجوب التكليف واللطف والثواب والعقاب والمعاد وغيرها ، وفي بحث النبوّة وجوب اعتقاد اصول الشريعة وأحوال القيامة وكيفيّاتها وغير ذلك ، وفي الإمامة وجوب حفظ التكليف والشريعة في كلّ زمان. وإن شئت قلت : معرفة الله تعالى هي أصل الدين بالحقيقة ؛ لأنّ ما عداها كلّه من لوازمها وتوابعها ، فتكون هي

__________________

١ ـ علم الكلام علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام. والقيد الأخير لإخراج العلم الإلهيّ للفلاسفة ، وموضوعه ذات الله ؛ إذ يبحث فيه عن أعراضه الذاتيّة. التعريفات ، للشريف الجرجانيّ : ٨٠ ، جامع العلوم ٣ : ١٣٢.

٢ ـ قال التفتازانيّ في شرح المقاصد : المتقدّمون من علماء الكلام جعلوا موضوع علم الكلام : الموجود بما هو موجود ؛ لرجوع مباحثه إليه. ويتميّز عن الإلهيّ بكون البحث فيه على قانون الإسلام. شرح المقاصد : ١١.

١٠٠