الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

أصحابنا فلمّا كان الإمام واجب الوجود في كلّ عصر وهو واجب العصمة وسيّد العلماء فإذا فرض اتّفاق العلماء كلّهم في أيّ عصر كان فإنّ قوله داخل في قولهم ، فيكون ذلك الإجماع حقّا ؛ لاستحالة الخطأ على الإمام ، فدليل حجّيّة الإجماع هو قوله عليه‌السلام (١).

واعلم أنّ الأمر المجمع عليه يجب أن لا يكون مخالفا للعقل ؛ فإنّه لو خالفه لوجب المصير إلى الدليل العقليّ.

قال : أصل ـ لمّا ثبت وجوب عصمة الإمام ، ولم تثبت العصمة في غير الأئمّة الاثني عشر ، باتّفاق الخصم ، فثبتت إمامة الاثني عشر لعصمتهم ، فتجب متابعتهم على كلّ أحد.

أقول : لمّا فرغ من شرط الإمامة شرع في تعيين الأئمّة عليهم‌السلام ، وهم الاثنا عشر : عليّ ، والحسن والحسين ، وعليّ ابنه ، ومحمّد بن عليّ ، وجعفر بن محمّد ، وموسى بن جعفر ، وعليّ بن موسى ، ومحمّد بن عليّ ، وعليّ بن محمّد ، والحسن بن عليّ ، والخلف الحجّة محمّد بن الحسن صلوات الله عليهم أجمعين.

وتقرير الدليل أنّا نقول : كلّما وجب كون الإمام معصوما كان هؤلاء هم الأئمّة ، لكن المقدّم حقّ فالتالي مثله. أمّا حقيّة المقدّم فقد تقدّم الدلالة عليها ، وأمّا بيان الشرطيّة فلأنّه لولاه لزم خرق الإجماع وهو باطل لما تقدّم ، وذلك لأنّ القائل قائلان : إمّا مشترط

__________________

الامّة على ضلالة». و «لا يجمع الله أمّتي على ضلالة». سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ ، الحديث ٣٩٥٠ ، المستدرك للحاكم ١ : ١١٥.

١ ـ لا خلاف بين العامّة والخاصّة في أصل حجّيّة الإجماع ، إنّما الخلاف في مناط حجّيّته. فالإماميّة قائلون بأنّ مناط حجّيّته انضمام قول المعصوم إليه. قال الشيخ الطوسيّ في «العدّة» ، والمحقّق في «المعتبر» : الإجماع عندنا هو حجّة بانضمام المعصوم ، فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجّة. عدّة الأصول : ٣٧ ، المعتبر ١ : ٣١.

وأمّا عند العامّة فملاك حجّيّته مجرّد الإجماع ، واستدلّوا على ذلك بقوله عليه‌السلام : «لا تجتمع أمّتي على خطأ». وقال ابن ماجة : في إسناده أبو خلف الأعمى ، واسمه حازم بن عطاء ، وهو ضعيف. وقد جاء بطرق ، في كلّها نظر. سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣.

وقال السيّد المرتضى : أمّا الأخبار المدّعاة فنحو ما يرويه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من قوله : «لا تجتمع أمّتي على خطأ». وهذا خبر ينقله الآحاد ، وليس بموجب للعلم ، ولا قامت به الحجّة. الذخيرة في علم الكلام : ٤٢٧ ، تلخيص الشافي ١ : ١٧٠.

١٦١

للعصمة فالأئمّة هؤلاء ، أو غير مشترط فالأئمّة غيرهم. فالقول بوجوب العصمة ـ والأئمّة غيرهم ـ لم يقل به أحد ، فيكون خارقا للإجماع فيكون باطلا ، وهو المطلوب.

واعلم أنّ المصنّف رحمه‌الله اقتصر من الأدلّة على هذا الدليل ، وهنا أدلّة اخر فنشير إلى بعضها.

الأوّل : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١). فالمراد إمّا من علمت عصمتهم أولا ، والثاني باطل وإلّا لزم الأمر بطاعة جائز الخطأ أمرا مطلقا ، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم. فالأوّل هو المراد وكلّ من قال بذلك قال : إنّهم هم المعنيّون (٢). ويؤيّده حديث جابر الأنصاريّ (٣) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا سأله عن اولي الأمر ، فقال عليه‌السلام : «هم خلفائي يا جابر أوّلهم أخي عليّ ، ثمّ الحسن ثمّ الحسين» وعدّ تسعة من ولد الحسين عليهم‌السلام (٤).

الثاني : قوله تعالى : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٥). وتقريره كما تقدّم.

الثالث : إنّ كلّ واحد منهم ادّعى الإمامة وظهر المعجز على يده ، وكلّ من كان كذلك فهو إمام والكبرى سبق تقريرها في النبوّة ، وأمّا الصغرى فقد تواترت الإماميّة بنقل جزء منها.

الرابع : نقلت الإماميّة تواترا النصّ الجليّ على عليّ عليه‌السلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كقوله : «هذا خليفتي عليكم» (٦). وقوله : «أنت وليّ كلّ مؤمن (٧) بعدي» (٨). وقوله : «سلّموا على عليّ

__________________

١ ـ النساء / ٥٩.

٢ ـ واستدلّ بها العلّامة على العصمة وإمامة الأئمّة : الألفين : ٣٠٧ ، نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٠٣.

٣ ـ جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام أو حرام ، الأنصاريّ الخزرجيّ. شهد بدرا وثماني عشرة غزوة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهو من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومن الأصفياء من أصحابه ، عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تارة ، وأخرى من أصحاب عليّ عليه‌السلام ، وثالثة من أصحاب الحسن عليه‌السلام ، ورابعة من أصحاب الحسين عليه‌السلام ، وخامسة من أصحاب السجّاد عليه‌السلام ، وسادسة من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، وعدّه ابن حجر من المكثرين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : غزا مع رسول الله تسع عشرة غزوة. مات سنة ٧٨ ه‍. رجال الطوسيّ : ١٢ ، ٣٧ ، ٦٦ ، ٧٢ ، ٨٥ ، ١١١ ، الجمع بين رجال الصحيحين ١ : ٧٢ ، الإصابة ١ : ٢١٣ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٤٢.

٤ ـ كفاية الأثر : ٥٣ ، البرهان في تفسير القرآن للبحرانيّ ١ : ٣٨١.

٥ ـ التوبة / ١١٩.

٦ ـ كنز العمّال ١٣ : ١١٤ حديث ٣٦٣٧١.

٧ ـ «ح» «م» بزيادة : ومؤمنة.

(٨) ـ كنز العمّال ١١ : ٦٠٨ حديث ٣٢٩٤١.

١٦٢

بإمرة المؤمنين» (١). ونصّ عليّ عليه‌السلام على الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ونصّ كلّ واحد من الباقين على من بعده (٢) فيكونون أئمّة ، وهو المطلوب.

الخامس : نقل الجمهور ، عن جابر بن سمرة (٣) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يكون بعدي اثنا عشر أميرا كلّهم من قريش» (٤). ونقل مسروق (٥) ، عن ابن مسعود (٦) أنّه قال لمّا سأله سائل : هل عهد إليكم نبيّكم كم يكون من بعده خليفة؟ قال : نعم اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل (٧). وكلّ من قال بهذا العدد قال إنّهم الأئمّة.

السادس : روى سلمان الفارسيّ (٨) ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال للحسين عليه‌السلام : «هذا ولدي

__________________

١ ـ الأصول من الكافي ١ : ٢٩٢ حديث ١ ، الإرشاد ، للمفيد ١ : ٤٠. قال : هو مشهور معروف بين العلماء بأسانيد يطول شرحها.

٢ ـ الأصول من الكافي ١ : ٢٩٧ ـ ٣٢٨ ، الإرشاد للمفيد ٢.

٣ ـ جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب ... بن عامر بن صعصعة السوائيّ. صحب النبيّ ، وقال : جالست النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر من ألفي مرّة. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان جابر بن نمرة السوابيّ. رجال الطوسيّ : ١٣ ، الجمع بين رجال الصحيحين ١ : ٧٢. الإصابة ١ : ٢١٢ ، تهذيب التهذيب ٢ : ٣٩.

٤ ـ كفاية الأثر : ٤٩ ، كمال الدين : ٢٧٢ ، الطرائف لابن طاوس : ١٧٠ ، كشف الغمّة ١ : ٥٧ ، مسند أحمد ٥ : ٨٦ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ١٠١ ، ١٠٦ ، ١٠٨ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤٥٢ حديث ١٨٢١ ، سنن الترمذيّ ٤ : ٥٠١ حديث ٢٢٢٣ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ٦١٧ ، ٦١٨. بتفاوت في اللفظ في بعض المصادر.

٥ ـ مسروق بن الأجدع بن مالك بن أميّة ، الهمدانيّ الوداعيّ الكوفيّ. روى عن عليّ عليه‌السلام ، وأبي بكر وعمر وعثمان ومعاذ بن جبل وابن مسعود وأبيّ بن كعب ، وروى عنه ابن أخيه وأبو وائل والشعبيّ. مات سنة ٦٣ ه‍. تهذيب التهذيب ١٠ : ١٠٩.

٦ ـ عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب ... أبو عبد الرحمن الهذليّ. أسلم بمكّة قديما ، وهاجر الهجرتين ، وشهد بدرا والمشاهد كلّها. وكان صاحب نعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن سعد بن معاذ ، وروى عنه ابناه عبد الرحمن وأبو عبيدة ، وأبو سعيد الخدريّ ومسروق وجمع كثير. مات بالمدينة سنة ٣٢ ، أو ٣٣ ه‍. وقيل : مات بالكوفة. تهذيب التهذيب ٦ : ٢٧.

٧ ـ مجمع الزوائد ٥ : ١٩٠.

(٨) ـ سلمان الفارسيّ ، أبو عبد الله ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعرف بسلمان الخير. كان أصله من فارس من رام هرمز من قرية يقال لها : «جي». وكان أوّل الأركان الأربعة ، وهو المفتخر بقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سلمان منّا أهل البيت». ومن الذين قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم : «إنّ الله أمرني بحبّ أربعة ...» ، منهم سلمان. وهو في الدرجة العاشرة من الإيمان. عدّه الشيخ في رجاله من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام. رجال الطوسيّ : ٢٠ ، ٤٣ ، الاستيعاب بهامش الإصابة ٢ : ٥٦.

١٦٣

إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسعة ، تاسعهم قائمهم» (١).

السابع : ورد في التوراة أنّ الله تعالى قال لإبراهيم عليه‌السلام : «قد أجبت دعاءك في إسماعيل وعظّمته جدّا جدّا ، وسيلد اثني عشر عظيما» (٢).

الثامن : قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) (٣).

وجه الدلالة أنّهم أقرب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ من ادّعى الإمامة ، وكلّ من كان كذلك كانوا أئمّة وهو المطلوب ، أمّا الصغرى فظاهرة.

إن قلت : العبّاس (٤) وأولاده أقرب.

قلنا : ممنوع ؛ إذ هو عمّ من الأب لا غير ، وعليّ عليه‌السلام ابن عمّ من الأبوين. سلّمنا ، لكنّه خرج بالدليل المشترط للعصمة والأفضليّة ، والحسنان ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويحرم نكاح بناتهم عليه فيكونون أقرب. وأمّا الكبرى فللآية ؛ لأنّ أولويّة أولي الأرحام إمّا في كلّ ما للرجل أن يتصرّف فيه أو بعضه ، فإن كان الأوّل لزم انتقال ولاية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليهم قضيّة للعموم ، وإن كان الثاني فالبعض إمّا الولاية أو غيرها ، والثاني باطل لعدم القرينة فيكون هو الولاية ؛ لدلالة قرينة قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٥). وولاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هي الولاية المقصودة من الاستدلال.

التاسع : تواتر النقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل

__________________

١ ـ كفاية الأثر : ٤٥ ، كمال الدين : ٢٦٢.

٢ ـ التوراة (العهد القديم) : ٢٦ سفر التكوين فصل ١٧ ، آية ٢١ ، والتوراة (عهد عتيق) : ٢١ ، سفر الخروج باب ١٧ ، آية ٢١.

٣ ـ الأحزاب / ٦.

٤ ـ العبّاس بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ ، عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. يكنّى أبا الفضل ، كان أسنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنتين ، وقيل بثلاث سنين. وكان رئيسا في الجاهليّة ، وممّن خرج مع المشركين يوم بدر واسر يومئذ فيمن اسر ، أسلم قبل فتح مكّة. وكان له في الجاهليّة السّقاية والعمارة. روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروى عنه أولاده وعامر بن سعد والأحنف بن قيس. مات بالمدينة سنة ٣٢ ه‍. اسد الغابة ٣ : ١٠٩ ، الإصابة ٢ : ٢٧١.

٥ ـ الأحزاب / ٦.

١٦٤

بيتي ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا» (١).

إن قلت : هذان الوجهان يعمّان كلّ أهل البيت ، فيصحّ قول الزيديّة.

قلنا : ممنوع ؛ فإنّ اشتراط العصمة يخرج من عداهم. خصوصا ، وقد جعل التمسّك بهما مانعا من الضلال ، وذلك لا يتمّ إلّا فيمن تحقّقت عصمته. وكلّ من قال بذلك قال : إنّ المراد الاثنا عشر عليهم‌السلام.

قال : فائدة ـ سبب حرمان الخلق عن إمام الزمان ليس من الله تعالى ؛ لأنّه لا يخالف مقتضى حكمته ، ولا من الإمام لعصمته ، فيكون من رعيّته. وما لم يزل سبب الغيبة لم يظهر. والحجّة بعد إزاحة العلّة وكشف الحقيقة لله تعالى على الخلق. والاستبعاد في طول عمره مع (٢) ثبوت إمكانه ، ووقوعه في غيره ، جهل محض.

أقول : لمّا اعتقد أصحابنا وجوب الإمامة في كلّ زمان ، وتواتر نقلهم بحصر الإمامة في الاثني عشر : وأنّ الثاني عشر عليه‌السلام قد ولد ، وأنّه قد شاهده جماعة منهم يفيد قولهم العلم بنصّ أبيه على عينه عليه‌السلام ، وأنّهم نقلوا عنه مسائل وفتاوى (٣) ، وكان له نوّاب يصدر الأمر منهم ، عنه عليه‌السلام (٤).

__________________

١ ـ حديث الثقلين متواتر عند المسلمين ، وقد كتب العلماء في سند الحديث كتبا ، منها عبقات الأنوار للسيّد حامد حسين ، فإنّه خصّ المجلّد الأوّل منه بأسانيد الحديث. يراجع خلاصة العبقات : ١. وينظر : الحديث في مصادر أخرى من الشيعة والسنّة ، منها : بصائر الدرجات : ٤١٢ ، الغيبة للنعمانيّ : ١٧ ، أمالي الصدوق : ٤١٥ ، الشافي في الإمامة ٣ : ١٢٠ ، كنز الفوائد : ٣٧٠ ، الطرائف لابن طاوس : ١١٣ ، كشف اليقين : ٣٣٥ ، مسند أحمد ٥ : ١٨١ ، صحيح مسلم ٢ : ٢٣٧ ، سنن الترمذيّ ٢ : ٢١٩ ، ٢٢٠ ، المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٠٩ ، المناقب لابن المغازليّ : ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، النقض لعبد الجليل الرازيّ : ١٥٥ ، ٣٣٦ ، كنز العمّال ١٥ : ١٢٢.

٢ ـ الفصول النصيريّة : بعد.

٣ ـ الأصول من الكافي ١ : ٣٢٩ ، باب في تسمية من رآه عليه‌السلام ، كمال الدين : ٤٣٤ ، باب ذكر من شاهد القائم عليه‌السلام ورآه وكلّمه ، الإرشاد ، للمفيد ٢ : ٣٣٠ ، باب ذكر من رأى الإمام الثاني عشر عليه‌السلام ، الاحتجاج ٢ : ٤٦١.

٤ ـ كان لصاحب الأمر عليه‌السلام غيبتان : صغرى وكبرى. والصغرى دامت مدّتها نحوا من أربع وسبعين سنة ، وفي هذه المدّة كان له نوّاب أربعة وهم :

١ ـ أبو عمرو عثمان بن سعيد العمريّ. وكان بابا لأبيه وجدّه عليهما‌السلام من قبل ، وثقة لهما ، ثمّ تولّى من قبله عليه‌السلام.

٢ ـ أبو جعفر محمّد بن عثمان. توفّي في آخر جمادي الآخرة سنة ٣٠٤ ، أو ٣٠٥ ه‍.

٣ ـ أبو القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت. مات في شعبان سنة ٣٢٦ ه‍.

١٦٥

ثمّ إنّه بعد ذلك غاب واستتر وانقطعت تلك السفارة والمشاهدة له عليه‌السلام ، فتوجّهت همم الخصوم إلى الطعن أوّلا في تلك القاعدة الموجبة لوجود الإمام في كلّ وقت بأنّه غير ظاهر بالاتّفاق ولا ناه ولا آمر ، وثانيا بعد تسليم تلك القاعدة بالسؤال عن علّة الغيبة إذ العبث والقبح عندكم منفيّان عن الحكيم تعالى ، وثالثا بمنع إمكان بقاء شخص هذه المدّة الطويلة وله هذا العمر الخارج عن العادة.

فأجاب أصحابنا ، أمّا عن الأوّل : فبمنع انخرام تلك القاعدة ، وإنّما يتمّ ذلك لو لم نقل بوجوده وولادته ومشاهدته.

قولكم : بأنّه غير ظاهر ولا ناه ولا آمر.

قلنا : ذلك غير قادح ؛ فإنّ نفس وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر ، فاللطفيّة حاصلة حال ظهوره وغيبته ، وهما بالنسبة إلى معتقديه سيّان ، كحال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في استتاره في الغار ، وحال غيبة جماعة من الأنبياء عن اممهم (١).

وأمّا عن الثاني : فأجاب المصنّف وجماعة بأنّه ليس من الله تعالى ؛ لحكمته ، ولا من الإمام ؛ لعصمته. بل من الرعيّة ، لسوء اختيارهم ، وعدم قبولهم وإذعانهم. وإذا كان كذلك تكون الغيبة حاصلة ما دامت العلّة حاصلة ، وإنّما تكون الحجّة بعد إزالة السبب المانع من الظهور.

وأجاب غيرهم بأنّ السبب غير معلوم لنا ، إذ لا يجب علينا معرفة علّة خلق كلّ شيء ، فنعرف علّة خلق الحيّات والعقارب وغيرها تفصيلا. بل يكفي الإجمال بأنّ

__________________

٤ ـ أبو الحسن عليّ بن محمّد السّمريّ. توفّي في النصف من شعبان سنة ٣٢٨ ه‍. وفي آخر سفارته صدر توقيع من الناحية المقدّسة عليه‌السلام إليه :

«بسم الله الرّحمن الرّحيم. يا عليّ بن محمّد ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ؛ فقد وقعت الغيبة التامّة ، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ، وذلك بعد طول الأمد ، وقسوة القلب ، وامتلاء الأرض جورا. ألا فمن يدّعي المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كذّاب مفتر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم». كشف الغمّة ٢ : ٥٣٠.

١ ـ لتوضيح حكمة الغيبة وبيان حال غيبة الأنبياء : ينظر : كمال الدين : ٤٥ ، ١٢٧.

١٦٦

الحكيم لا يفعل إلّا لغرض صحيح ، وحينئذ جاز أن يكون ذلك لمصلحة استأثر الله بعلمها. وفي قول المصنف : «وكشف الحقيقة لله» إيماء إلى هذا الجواب ، فيما أظنّه (١).

وأمّا عن الثالث : فبأنّه ممكن ، والله قادر مختار ، فدفعه جهل محض ومكابرة لصريح العقل وخروج عن الملّة. هذا مع أنّه قد وجد أضعاف عمره عليه‌السلام ، أمّا في حقّ الأشقياء فكالسامريّ والدجّال ، وأمّا في حقّ السعداء فكنوح عليه‌السلام والخضر.

قال : تبصرة ـ لمّا كان الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام تحتاج إليهم الأمّة ، للتعليم والتأديب وجب أن يكونوا أعلم وأشجع. ولمّا كانوا معصومين وجب أن يكونوا أقرب إلى الله تعالى. ولمّا كان الإمام من رعيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وجب أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نسبته في الفضل إلى الإمام كنسبة الإمام إلى الرعيّة.

أقول : في هذه التبصرة مسائل :

الأولى : أنّه يجب كون الأنبياء والأئمّة أفضل من كلّ واحد واحد من الأمّة. والمراد بالأفضليّة : أن يكون أجمع لخصائص الكمال كمّا وكيفا. وإنّما قلنا بوجوب ذلك ؛ لأنّ العلّة في وجوب رئاستهم نقص الرعيّة واحتياجهم إلى التعليم والتأديب. فلو لم يكن المحتاج إليهم أفضل لما تحقّق معنى حيثيّة الاحتياج إليهم ، لكنّ الفرض خلاف ذلك ، فيدخل في وجوب كونهم أفضل من رعاياهم أن يكونوا أعلم وأشجع وأكرم ، إلى غير ذلك من الخصائص.

الثانية : أنّه يجب كونهم أقرب إلى الله تعالى ، بمعنى أنّهم أكثر ثوابا أو بمعنى أنّهم أكثر حظوة عنده بإرادة الخير لهم ، أو بمعنى أنّهم أكثر استحقاقا لمراتب التعظيم والتبجيل.

__________________

١ ـ إنّ أصحابنا قد أثبتوا أنّ علّة غيبة صاحب الزمان أرواحنا فداه ليس من الله ؛ لأنّ ما يجب عليه تعالى عقلا هو خلق الإمام وتمكينه بالتصرّف والعلم والنصّ عليه باسمه ونسبه ، وهذا قد فعله الله. وليس من ناحية الإمام عليه‌السلام ؛ لأنّ ما يجب عليه هو تحمّله للإمامة وقبوله لها ، وهذا قد فعله الإمام. فتكون من المكلّفين ؛ لأنّ ما يجب عليهم هو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره ، وهذا لم يفعله المكلّفون.

وقد ذكروا أنّه بعد إثبات أنّ الله حكيم والإمام معصوم فلا تخلو غيبته من حكمة ، هي إمّا لخوف على نفسه من أعدائه وخوفه على أوليائه ، وإمّا لمصلحة خفيّة استأثر الله تعالى بعلمها. تلخيص الشافي ١ : ٧٨ ، ٩٧ ، تلخيص المحصّل : ٤٣٣ ، كشف المراد : ٢٨٥ ، نهج المسترشدين : ٧٠.

١٦٧

ولا شكّ أنّ هذه المعاني كلّها لازمة ومعلولة للقيام بكمال الطاعات واجتناب المقبّحات الذي هو معنى التقوى لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١). إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّه لمّا وجب عصمة الأنبياء والأئمّة وجب حصولهم على كمال الطاعات واجتناب كلّ المقبّحات ، فلا جرم كانوا أقرب بالمعاني المذكورة.

الثالثة : أنّه تقدّم وجوب كون الإمام أفضل من رعيّته ؛ لما قلناه من الاحتياج إليه. ولأنّه لولاه لكان إمّا مساويا ، فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، أو مفضولا وهو قبيح عقلا وشرعا ، لقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢).

إذا عرفت هذا فالإمام لمّا كان من رعيّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لأنّه محتاج إليه في التكميل ـ وجب كون النبيّ أفضل منه ؛ لما قلناه. هذا تقرير كلام المصنّف رحمه‌الله ، وليس فيه هضم لمنصب الإمامة كما تراه ، لا كما ظنّه بعضهم حتّى قال : إنّ عليّا عليه‌السلام نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) في آية المباهلة (٣). وإذا كان نفسه لا يكون نسبته إليه كنسبة الرعيّة في النقص.

قلنا : كونه نفسه أو كنفسه لا يمنع من احتياجه إليه في تحصيل الكمالات العلميّة والعمليّة الذي هو مرادنا ؛ فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل منه بذلك الاعتبار. ومن تصفّح كلام عليّ عليه‌السلام ظهر له حقيقة ما ذكرناه ، كقوله : وقد قيل له : لقد اوتيت علم الغيب؟ فقال : «ليس ذلك بعلم غيب ، إنّما هو علم علّمه الله نبيّه ثمّ علّمنيه» (٤) ، وكقوله عليه‌السلام في وصف حاله مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يرفع لي كلّ يوم علما من أخلاقه» (٥) ، إلى غير ذلك. والحكم الفاصل بينهما ما حكاه عليّ عليه‌السلام أنّه قال له : «يا عليّ إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، لكنّك

__________________

١ ـ حجرات / ١٣.

٢ ـ يونس / ٣٥.

٣ ـ آل عمران / ٦١.

٤ ـ نهج البلاغة : ١٨٦ الخطبة ١٢٨.

٥ ـ نهج البلاغة : ٣٠٠ الخطبة ١٩٢.

١٦٨

لست بنبيّ وإنّما أنت وزير» (١).

واعلم أنّ كلام المصنّف الذي قرّرناه إنّما يتوجّه في إمام نسب إلى نبيّ شريعته وأمّا بالنسبة إلى غير شريعته فلا ، فإنّ أئمّتنا عليهم‌السلام لا نقول : إنّ نسبتهم إلى أيّ نبيّ كان نسبة رعيّته إليه حتّى يكون عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام نسبته إلى آحاد أنبياء بني إسرائيل كذلك ، كلّا وحاشا. بل عند جماعة من أصحابنا أنّ أئمّتنا عليهم‌السلام أفضل من جميع الأنبياء عدا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعند بعضهم إلّا اولي العزم منهم ، وتوقّف شيخنا المفيد في ذلك (٢). والحقّ عندي أنّ عليّا عليه‌السلام أفضل من كلّ أحد ، إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأمّا باقي الأئمّة أفضل ممّن عدا اولي العزم ، وأمّا أولو العزم فعندي في ذلك توقّف ، والله أعلم.

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ٣٠١ الخطبة ١٩٢.

٢ ـ قال المفيد : قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمّة من آل محمّد [صلى‌الله‌عليه‌وآله] على سائر من تقدّم من الرسل والأنبياء سوى نبيّنا [صلى‌الله‌عليه‌وآله]. وأوجب فريق منهم لهم الفضل على جميع الأنبياء سوى اولى العزم منهم. وأبى القولين فريق منهم ، وقطعوا بفضل الأنبياء كلّهم على سائر الأئمّة. وهذا باب ليس للعقول في إيجابه والمنع منه مجال ، ولا على أحد الأقوال فيه إجماع. وقد جاءت آثار عن النبيّ في أمير المؤمنين وذرّيته من الأئمّة والأخبار عن الأئمّة الصادقين من بعد. وفي القرآن مواضع تقوّي العزم علي ما قاله الفريق الأوّل في هذا المعنى ، وأنا ناظر فيه. أوائل المقالات : ٨١.

١٦٩
١٧٠

الفصل الرابع : في المعاد

١٧١
١٧٢

قال : الفصل الرابع في المعاد.

أصل (١) ـ إنّ الله تعالى خلق الإنسان ، وأعطاه العلم والقدرة والإرادة والإدراك والقوى المختلفة ، وجعل زمام الاختيار بيده ، وكلّفه بتكاليف شاقّة ، وخصّه بالألطاف الخفيّة والجليّة ، لغرض عائد إليهم. وليس ذلك إلّا نوع كمال لا يحصل إلّا بالكسب ، إذ لو أمكن بلا واسطة ، لخلقهم عليه ابتداء. ولمّا كانت الدنيا هي دار التكليف فهي دار الكسب ، يعمّر الإنسان فيها مدّة يمكن تحصيل كماله فيها ، ثمّ يحوّل إلى دار الجزاء ، وتسمّى دار الآخرة.

أقول : المعاد مفعل مشتقّ من العود ، وصيغة مفعل ، تجيء للزمان والمكان ، أي زمان العود أو مكانه. والمراد به هاهنا : الوجود الثاني للأبدان وعود النفس إليها بعد مفارقتها.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ، كما حكاه في كتابه الكريم (٢) ، فعدّل مزاجه بحسب ما يقتضيه نوعه للأفعال المطلوبة منه ، فزاده ـ بعد تعديل أركان بدنه ـ إفاضة النفس الناطقة وتعلّقها ببدنه ، وجعل لها تصرّفا في ذلك البدن وبه. فوهبه قوى مختلفة تنقسم إلى مدركة وإلى محرّكة.

أمّا المدركة فهي إمّا للكلّيّات وهي القوّة العقليّة المحصّلة للعلوم ، وإمّا للجزئيّات. فإمّا ظاهرة ، وهي السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس ، وإمّا باطنة ، وهي خمس أيضا :

__________________

١ ـ من الفصول النصيريّة.

٢ ـ التين / ٤.

١٧٣

الحسّ المشترك والخيال والوهم والحافظة والمفكّرة.

وأمّا المحرّكة فهي إمّا اختياريّة أو طبيعيّة. فالاختياريّة إمّا باعثة ، فإمّا أن تحثّ على جلب النفع وهي الشهوانيّة أو على دفع الضرر وهي الغضبيّة. وإمّا فاعلة وهي القدرة التي تفعل بانضمام الإرادة إليها. والطبيعيّة إمّا عاديّة أو مولّدة. وتخدمها قوى أربع : الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة ، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثمّ إنّه جعل زمام الاختيار بيده ، ولم يجعله مرخى العنان مهملا كغيره من الحيوانات ، بل كلّفه بتكاليف شاقّة ، وخصّه بألطاف خفيّة كالعقل الذي يعلم به حسن الأفعال وقبحها ، وجليّة كبعث الرسل ونصب الأئمّة.

ثمّ إنّه لمّا استحال على هذا الفاعل الحكيم العبث وفعل القبيح وجب أن يكون ذلك الخلق والإنساء لغرض لا يعود إلى الفاعل الحكيم ؛ لاستغنائه وكماله ، فوجب عوده إلى هذا الإنسان. وليس مفسدة له لاستحالة ذلك على الحكيم فيكون مصلحة. وليست إلّا نوع كمال وهو المنافع الدائمة المقارنة للتعظيم والتبجيل ، بل أعظم من ذلك وهو الفوز بالرضا منه تعالى كما قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (١).

لكن ذلك لا يحصل إلّا بالكسب ؛ لأنّ العقل الصريح يحيل الرضوان والتعظيم لغير مستحقّه. ولأنّه لو أمكن حصوله بدونه لخلقه عليه ابتداء ، فكان توسّط التكليف عبثا ، تعالى الحكيم عنه. فإذن المقصود بالذات الفوز بتلك السعادة ، والحصول على ذلك الرضوان المستحقّ ذلك بالكسب ، فيكون لذلك الإنسان حالان :

أحدهما : الكسب ، وهي دار الدنيا.

وثانيهما : الجزاء ، وهي الدار الآخرة المعبّر عنها ب «المعاد» ، كما يعبّر عن الأولى ب «دار التكليف».

قال : مقدّمة ـ الذي يشير إليه الإنسان حال قوله : «أنا» ، لو كان عرضا لاحتاج إلى محلّ يتّصف به ، لكن لا يتّصف بالإنسان شيء بالضرورة ، بل يتّصف هو بأوصاف غيره ، فيكون جوهرا. ولو كان هو البدن أو شيئا من جوارحه لم يتّصف بالعلم ، لكنّه

__________________

١ ـ التوبة / ٧٢.

١٧٤

يتّصف به بالضرورة ، فيكون جوهرا عالما ، والبدن وسائر الجوارح آلاته في أفعاله (١) ، ونحن نسمّيه هاهنا : الروح.

أقول : لمّا كان المعاد هو الوجود الثاني للإنسان افتقرنا إلى معرفة الإنسان. واختلف الناس فيه اختلافا لا يكاد ينضبط ، لكنّ حاصله يرجع إلى أنّه إمّا جوهر أو عرض ، والجوهر إمّا جسمانيّ أو روحانيّ ، فالأقسام ثلاثة :

الأوّل : أن يكون عرضا ، فقيل : هو المزاج المعتدل. وقيل : هو الحياة. وقيل : تخاطيط الأعضاء وتشكّل البدن (٢).

الثاني : أن يكون جسما أو جسمانيّا ، فقيل : هو الهيكل المحسوس. وقيل : الأخلاط الأربعة. وقيل : أحد العناصر الأربعة. فكلّ ذهب إليه قوم (٣) ، وقال النّظّام : جسم لطيف داخل البدن (٤). وقال الراوندي (٥) : جزء لا يتجزّأ في القلب (٦). وقيل : الروح وهو جسم مركّب من بخاريّة الأخلاط (٧).

والمحقّقون من المتكلّمين قالوا : إنّه أجزاء أصليّة في البدن باقية من أوّل العمر إلى

__________________

١ ـ من الفصول النصيريّة.

٢ ـ من عرّف الإنسان بالعرض اختلف في أنّه ما المراد بهذا العرض الذي هو الإنسان؟ قال بعضهم : هو المزاج المعتدل الإنسانيّ. وبعضهم قالوا : هو العرض المسمّى بالحياة. وبعضهم قالوا : هو تخاطيط الأعضاء. نقل عنهم المحقّق الطوسيّ في قواعد العقائد : ٤٥ ، والفخر الرازيّ في التفسير الكبير ٢١ : ٣٩ ـ ٤٩.

٣ ـ القائلون بأنّ حقيقة الإنسان جسم أو جسمانيّ اختلفوا في مصداقه ، فبعضهم قالوا : إنّ الإنسان هو الهيكل المحسوس. نسب هذا القول الفخر الرازيّ في تفسيره إلى المتكلّمين ، والأشعريّ في مقالات الإسلاميّين إلى أبي الهذيل من المعتزلة. وقال بعضهم : إنّه الأخلاط. نقل الأشعريّ عن برغوث أنّه قال : إنّ الإنسان هو الأخلاط من اللون والطعم والرائحة. مقالات الإسلاميّين ٢ : ٢٤ ، التفسير الكبير ٢١ : ٤٠.

٤ ـ نقل عنه الأشعريّ في مقالات الإسلاميّين ٢ : ٢٤ ، والمحقّق الطوسيّ في قواعد العقائد : ٤٥.

٥ ـ أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراونديّ ، أو ابن الراونديّ ، البغداديّ العالم المقدّم المشهور. له مقالة في علم الكلام ، وله مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وله من الكتب المصنّفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابا ، وكان عند الجمهور يرمى بالزندقة والإلحاد. توفّي سنة ٢٩٨ ه‍ وقيل : سنة ٢٥٠ ه‍. لسان الميزان ١ : ٣٢٣ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٨٣ ، الأعلام للزركليّ ١ : ٢٦٧.

٦ ـ مقالات الإسلاميّين ٢ : ٢٤ ، الذخيرة في علم الكلام : ١١٤ ، قواعد العقائد للمحقّق الطوسيّ : ٤٥٠.

٧ ـ القائلون بأنّ الإنسان هو الروح اختلفوا في تعريف الروح ، قيل : هو جسم مركّب من بخاريّة الأخلاط. قواعد العقائد للمحقّق الطوسيّ : ٤٥ ، التفسير الكبير ٢١ : ٤٤.

١٧٥

آخره لا يتطرّق إليها الزيادة والنقصان ، وهو الأقرب (١).

الثالث : أن لا يكون جسما ولا جسمانيّا ، وهو المعبّر عنه بالروح. وهو قول الحكماء وبعض المعتزلة وبعض الإماميّة. واختاره المصنّف (٢) واستدلّ على إبطال القسمين الأوّلين ، ليثبت مطلوبه.

أمّا الأوّل : فلأنّ العرض قائم بغيره ، فيحتاج إلى محلّ يقوم به يكون ذلك المحلّ موصوفا بذلك العرض. لكنّ الإنسان لا يتّصف به شيء وهو معلوم ضرورة ، بل الإنسان يكون موصوفا بأوصاف مغايرة له ، فلا يكون عرضا وهو المطلوب.

وأمّا الثاني : وهو أن يكون جسما أو جسمانيّا كهذا البدن أو شيء من أجزائه ، فاستدلّ على نفيه بأنّ الإنسان موصوف بالعلم ، ولا شيء من هذا البدن وأجزائه موصوف بالعلم ، فلا يكون الإنسان هذا البدن ولا شيئا من أجزائه.

أمّا الصغرى فظاهرة ، ولأنّه إنّما كان إنسانا بإدراك الكلّيّات لا بإدراك الجزئيّات ؛ لأنّه ما من حيوان إلّا ويشاركه في إدراك الجزئيّات. وأمّا إدراك العلوم الكلّيّة فشيء يمتاز به عن باقي الحيوانات.

وأمّا الكبرى فلوجهين :

الأوّل : أنّ العلم حصول صورة المعلوم في العالم ، فإذا حصل صورة الكلّيّ في الجسم أو جزء منه لزم أن يكون الكلّيّ جزئيّا ؛ لأنّ جزئيّة المحلّ تستلزم جزئيّة الحالّ فيه.

الثاني : أنّ الإنسان يعلم البسيط كالنقطة والوحدة ، فيكون علمه به أيضا بسيطا ؛ لوجوب مطابقة العلم للمعلوم. وإذا كان العلم بالبسيط بسيطا وجب أن يكون محلّه أيضا بسيطا ؛ لاستحالة حلول البسيط في المركّب. ولا شيء من هذا البدن أو جزئه بسيطا

__________________

١ ـ قال المحقّقون من المتكلّمين : إنّه أجزاء أصليّة في البدن. نسب هذا القول المحقّق الطوسيّ إلى المتكلّمين في قواعد العقائد : ٤٥ ، واختاره المصنّف في اللوامع الإلهيّة : ٣٦٨.

٢ ـ اختاره الشيخ المفيد في أوائل المقالات : ٨٨ ، ونسبه الفخر الرازيّ في تفسيره الكبير ٢١ : ٤٥ ، إلى أكثر الإلهيّين من الفلاسفة ، وجماعة عظيمة من المسلمين مثل الراغب الأصفهانيّ والغزاليّ من الأشاعرة ، ومعمّر بن عبّاد السلميّ من المعتزلة ، ومن الشيعة الشيخ المفيد. واختاره المحقّق الطوسيّ في «التجريد». كشف المراد : ١٣٨.

وللوقوف على جميع الأقوال المتقدّمة في تعريف الإنسان ينظر : اللوامع الإلهيّة : ٣٦٩.

١٧٦

فلا يكون عالما به فلا يكون إنسانا ، وهو المطلوب.

وهذا التقرير مبنيّ على أنّ العلم حصول صورة المعلوم في العالم. وللخصم أن يمنع ذلك لجواز أن يكون إضافة بين العالم والمعلوم بسبب القوّة الغريزيّة التي في القلب المسمّاة بالعقل ، وحينئذ جاز أن يكون العالم بالكلّيّ والبسيط هذا البدن أو أجزاء أصليّة فيه. وأيضا مبنيّ على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ ، والخصم قد أثبته.

وقوله : «فيكون جوهرا عالما» لمّا أبطل كونه عرضا أو هذا البدن أو شيئا منه قال بذلك ، فهو عنده جوهر مجرّد عالم متعلّق بهذا البدن تعلّق التدبير. وهذا البدن وأجزاؤه آلات له يتصرّف به في أفعاله ، ويسمّى ذلك الجوهر بالروح. قالوا : وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١).

قال : مقدّمة ـ جمع أجزاء بدن الميّت وتأليفها مثل ما كان ، وإعادة روحه المدبّرة إليه يسمّى حشر الأجساد. وهو ممكن ، والله تعالى قادر على كلّ الممكنات وعالم بها ، والجسم قابل للتأليف ، فيكون قادرا عليه.

أقول : حشر الأجساد هو عبارة عن جمع أجزاء البدن بعد تفرّقها ، وتأليفها على النحو الذي كان عليه ، وخلق الأعراض التي تشاكله فيه ، وإعادة تعلّق الروح به كما كان أوّلا. ولا شكّ في إمكان ذلك ، وإلّا لما وجد أوّلا. وهذا الإمكان موقوف على مقدّمتين :

إحداهما : كونه قادرا.

وثانيهما : كونه عالما بالجزئيّات ليعيد الجزء المعيّن إلى الشخص المعيّن ، وقد تقدّم بيان ذلك كلّه. ولكون الإمكان موقوفا على هاتين المقدّمتين لم يذكر المعاد الجسمانيّ في موضع من القرآن إلّا وأردفه بذكرهما كما في قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٢).

قال : أصل ـ الأنبياء بأسرهم أخبروا بحشر الأجساد ، وهو موافق للمصلحة

__________________

١ ـ الإسراء / ٥٨.

٢ ـ يس / ٧٨ ـ ٧٩. وهناك آيات اخر نورد بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر : البقرة / ٢٥٩ ، الإسراء / ٩٩ ، الكهف / ٤٨ ، مريم / ٦٦ ـ ٦٧ ، النحل / ٧٠ ، الحجّ / ٥ ـ ٦ ، العنكبوت / ١٩ ـ ٢٠ ، الروم / ٥٤ ، الأحقاف / ٣٣.

١٧٧

الكلّيّة فيكون حقّا ، لعصمتهم. والجنّة والنار المحسوستان كما وعدوا بهما حقّ أيضا ؛ ليستوفي المكلّفون حقوقهم من الثواب والعقاب. وكذلك عذاب القبر والصراط والكتب ، وإنطاق الجوارح وغيرها ممّا أخبروا به (من أحوال الآخرة) (١) حقّ ؛ لإمكانها. وإخبار الصادق بها.

أقول : في هذا الأصل مسائل :

الأولى : وجوب حشر الأجساد ، لما تقدّم بيان إمكانه ، والممكن لا يجب وقوعه إلّا بسبب خارجيّ. ودليل وجوبه أنّ الأنبياء عليهم‌السلام أخبروا بوقوعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو واجب الوقوع ، أمّا الصغرى فظاهرة لمن نظر في الكتب الإلهيّة وتواتر النقل عنهم به خصوصا كتابنا العزيز ، وأمّا الكبرى فلعصمتهم الدافعة للكذب عنهم ، هذا مع أنّ ذلك موافق للمصلحة الكلّيّة ، كما تقدّم تقريره من الغرض في خلق الإنسان.

الثانية : يجب اعتقاد وجود الجنّة والنار المحسوستين ؛ لدلالة القرآن على ذلك كقوله تعالى في الجنّة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢). والإعداد يستلزم الوجود ، وقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) (٣). وأيضا ليستوفى المكلّفون حقوقهم من الثواب والعقاب. وإنّما قيّدهما بالمحسوستين ليدفع بذلك تأويل منكر المعاد الجسمانيّ بحمل الوعد والوعيد على الروحانيّ ، وهو باطل ؛ لأنّا نعلم ضرورة من دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يقول بالمعاد الجسمانيّ والجنّة والنار ، ويحكي ما فيها من المأكل والمشرب والمنكح ، وأنّه دخلها ، فإنكار ذلك خروج عن الملّة.

الثالثة : يجب اعتقاد وقوع هذه الامور وهي عذاب القبر ونعيمه والحساب والصراط والكتب وإنطاق الجوارح وكيفيّات النعيم والجحيم وغير ذلك ؛ لأنّها امور ممكنة موافقة للمصلحة واللّطفيّة ، والصادق المعصوم أخبر بها ، وكلّ ما كان كذلك فهو حقّ.

قال : هداية ـ إعادة المعدوم محال ، وإلّا لزم تخلّل العدم في وجود واحد ، فيكون

__________________

١ ـ ما بين القوسين من الفصول النصيريّة.

٢ ـ آل عمران / ١٣٣.

٣ ـ غافر / ٤٦.

١٧٨

الواحد اثنين (١). ولمّا كان حشر الأجساد حقّا ، وجب أن لا يعدم أجزاء أبدان المكلّفين وأرواحهم ، بل يتبدّل التأليف والمزاج. والفناء المشار إليه كناية عنه.

أقول : في هذه الهداية مسألتان :

الأولى : اختلف في أنّ الشيء إذا عدم عدما محضا وصار نفيا صرفا هل يمكن إعادته بعينه وشخصه ، أو لا بل يوجد مثله؟

قالت الأشاعرة والمثبتون من المعتزلة بالأوّل. وقال الحكماء وأبو الحسين البصريّ والمصنّف بالثاني. فبعض الناس ادّعى الضرورة على استحالة إعادته ، والمصنّف استدلّ بأنّه لو أمكن لزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه ، واللازم كالملزوم في البطلان (٢).

بيان الملازمة : أنّ الموجود في الزمن الأوّل لو عدم في الزمن الثاني ثمّ اعيد في الزمن الثالث ، فإن كان الوجود الثاني هو بعينه الوجود الأوّل تخلّل العدم في الثاني بين الوجود ونفسه ، وإن كان غيره لم يكن المعاد عين المبتدأ بل مثله. قيل : فيه نظر لجواز أن يكون الوجود الثاني هو عين الأوّل بالماهيّة. والظاهر أنّ مرادهم بإعادته هو وجوده ثانيا بوجود مساو للأوّل ، وقد حصل.

والحقّ أن يقال : إن اريد بإعادة المعدوم إعادته مع جميع لوازمه وعوارضه المشخّصة وغيرها تمّ الدليل. وإن اريد إعادته لا بعينه الشخصيّة لم يتمّ لما قلنا. هذا كلّه

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة بزيادة : وهو محال.

٢ ـ قال الأشعريّ : اختلف القائلون بأنّ الأجسام تعاد في الآخرة : هل الذي ابتدأ في الدنيا هو الذي يعاد في الآخرة أم لا؟ فقال قائلون وهم أكثر المسلمين : إنّ المبتدأ في الدنيا هو المعاد في الآخرة. مقالات الإسلاميّين ٢ : ٥٨.

وقال المحقّق الطوسيّ : إعادة المعدوم جائزة عند مثبتي المعتزلة ؛ لأنّ الذات باقية عند تعقّب الوجود والعدم عليها.

وكذلك عند بعض أهل السنّة ، فإنّهم قالوا : الممكن لا يغيّر بانعدامه ممتنعا. ومحال عند غيرهم لاستحالة تخلّل العدم بين شيء واحد بعينه ، فإذن لا يكون المعاد عين المبتدأ بل إن كان ولا بدّ ، فهو مثله. قواعد العقائد للمحقّق الطوسيّ : ٤٤.

واختلف الناس في أنّ الشيء إذا عدم عدما محضا بحيث لم يبق له هويّة في الخارج أصلا : هل يمكن إعادته بعينه مع جميع عوارضه ومشخّصاته التي كان بها شخصا معيّنا أم لا؟ فذهب مشايخ المعتزلة القائلون بثبوت المعدوم إلى أنّ ذلك ممكن ، بناء منهم على أنّ ماهيّته ثابتة حالة العدم ، فإذا وجد حصل له صفة الوجود لا غير وذاته باقية له في الحالين.

وقالت الأشاعرة بعدمه ؛ لأنّه قد بطلت ذاته وصار نفيا محضا ، لكنّه يمكن إعادته لما يأتي من دليلهم.

وقالت الحكماء والمحقّقون من المتكلّمين ـ كأبي الحسين البصريّ ومحمود الخوارزميّ وغيرهما ـ بامتناع إعادته بعينه ، واختاره المحقّق الطوسيّ والمصنّف. إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين : ٣٩٤.

١٧٩

إذا قلنا : بأنّ الوجود زائد على الماهيّة. أمّا إذا قلنا : إنّه نفس الماهيّة ، فالدليل تامّ.

احتجّ المجوّزون بأنّه لو امتنع لكان إمّا لذاته فلا يوجد أصلا لا أوّلا ولا ثانيا ، وإن كان بغيره جاز زوال ذلك الغير فيجوز وجوده حينئذ ، نظرا إلى ذاته.

واجيب بأنّه ممتنع ، لأمر لازم للماهيّة ، وهو كون الوجود بعد العدم. ولا شكّ في لزومه ، فامتناعه لأجل هذا اللازم لا يقتضي امتناعه مطلقا.

الثانية : المصنّف لمّا كان مذهبه أنّ المعدوم يستحيل إعادته بعينه ، وكذا أبو الحسين البصريّ ، لزمهما أن يقولا : بأنّ أجزاء أبدان المكلّفين وأرواحهم لا يجوز عدمها ؛ لأنّه لو عدمت لوجد مثلها ، فكان الثواب والعقاب يصلان إلى غير المستحقّ. فلذلك فسّر المصنّف العدم بتفرّق الأجزاء وتبدّل التأليف والمزاج ، كما في قصّة إبراهيم عليه‌السلام لمّا سأل ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى؟ أمره بأخذ أربعة أطيار وتفريق أجزائها (١) ، والقصّة مشهورة. ففيها إشارة إلى أنّ الإعادة بتأليف الأجزاء بعد تفرّقها.

قوله : «والفناء المشار إليه كناية عنه» جواب سؤال مقدّر ، تقريره أنّ حمل الأعدام على التفريق مخالف لظاهر قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٢). و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) ؛ فإنّ التفريق لا يسمّى فناء ولا هلاكا.

أجاب بالحمل على التفريق جمعا بين الدليل الدالّ على عدم إعادة المعدوم ، ووجوب إيصال الحقّ إلى مستحقّه ، وبين صحّة النقل ، ولا استبعاد في ذلك ، فإنّه قد يقال لغير المنتفع به : إنّه معدوم وفان وهالك.

قال : شبهة ـ قالت الفلاسفة : حشر الأجساد محال ؛ لأنّ كلّ جسد اعتدل مزاجه واستعدّ استحقّ فيضان النّفس عليه من العقل الفعّال. فلو اتّصف أجزاء بدن الميّت بالمزاج لاستحقّ نفسا من العقل ، واعيد إليه نفسه الأولى على قولكم ، فيلزم اجتماع نفسين على بدن واحد وهو محال. ونحن لمّا أثبتنا الفاعل المختار ، وأبطلنا قواعدهم

__________________

١ ـ البقرة / ٢٦٠.

٢ ـ الرحمن / ٢٦.

٣ ـ القصص / ٨٨.

١٨٠