الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

أصل الدين ؛ ولذلك صار علم الكلام أشرف العلوم ؛ لأنّ كلّ ما كان موضوعه أشرف فهو أشرف. ألا ترى أنّ علم الجوهر أشرف من علم الدّباغة وصنعة النعال؟ وذلك ظاهر.

الثالثة : أنّ معرفة حقيقة ذاته المقدّسة ، على ما هي عليه ، غير مقدورة للأنام ؛ وذلك لأنّ العلم إمّا ضروريّ أو كسبيّ وكلاهما هنا منفيّ.

أمّا الضروريّ فظاهر ، خصوصا وقد وقع فيها النزاع والتشاجر ومع ذلك فإنّ المعلوم ضرورة إمّا بمجرّد توجّه العقل إليه أو بأدنى تنبيه وهما منفيّان هنا ، أو بمشاركة حسّ ظاهر أو باطن بتكرار أولا ، وذلك أيضا منفيّ هنا ؛ لكونه غير محسوس.

وأمّا الثاني ، فلأنّ كلّ كسبيّ لا بدّ له من كاسب ، وهو في باب التصوّرات التعريف بالحدّ أو الرسم ، وهما أيضا منفيّان.

أمّا الحدّ ، فلأنّ تامّه يكون بالجنس والفصل القريبين ، المستلزم لتركّب الماهيّة ، المستحيل ذلك على الذات المقدّسة. وكذا ناقصه إذ لا بدّ فيه من الجنس ، ولا جنس له ، فلا حدّ له.

وأمّا الرسم بقسميه ، فلأنّه تعريف بالخارج ، وظاهر أنّه لا يفيد الاطّلاع على الحقيقة. ولأجل هذا الامتناع صرّح صاحب شريعتنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «يا من لا يعلم ما هو إلّا هو» (١). والكليم عليه‌السلام لمّا سأله فرعون عن الذات بإيراد ما في السؤال بقوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢) ، أجاب بالصفات تنبيها له على استحالة ذلك ، وإنّه غالط في قوله أو مغالط فقال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٣). فاستوخم الجواب ورجع إلى إنظاره في جهله فقال : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٤)؟! أسأله عن الحقيقة فيجيبني بالصفات! فعاد الكليم إلى جوابه بما هو أظهر دلالة على وجود الربّ فقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٥). أي منشئكم وموجدكم ؛ فإنّ ذلك أظهر عندهم من كونه موجدا لجملة هذا

__________________

١ ـ ينظر : البحار ٩٥ : ٣٩٤ ، دعاء المشلول.

٢ ـ الشعراء / ٢٣.

٣ ـ الشعراء / ٢٤.

٤ ـ الشعراء / ٢٥.

٥ ـ الشعراء / ٢٦.

١٠١

العالم ، فإنّ ذلك مفتقر إلى تحقيق أنظار وتسديد أفكار ، فعاند ذلك الجاهل ورأى إصرار موسى عليه‌السلام على ذكر الصفات وهو يطلب الجواب عن الذات ، فقال منهمكا في جهله ومتهكّما في قوله : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (١)! فإنّي أسأله ب «ما هو»؟ فيجيبني بما يقع جوابا ل «أيّ». فأبلغ عليه‌السلام في جوابه متّبعا للأمر الإلهيّ باللّين في خطابه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢). إنّ حقيقته غير ممكنة المعلوميّة (٣) ، لأنّ تجرّدها وبساطتها يمنعان من إمكان تحديدها.

الرابعة : المعلوم لنا في هذا المقام من معرفة الذات ليس إلّا أنّها موجودة ، ومن الصفات ليس إلّا السلوب ككونه ليس بجسم ولا عرض ، والإضافات ككونه قادرا وعالما ، والإضافات والسلب ككونه موجدا للعالم لا سواه. ومع ذلك فنحن نخشى أن نثبت له بذلك صفة حقيقيّة تزيد على ذاته ؛ فإنّ ذلك مناف لكماله ، وإلّا لكان مفتقرا إلى تلك الصفة بل كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

قال : ومن أراد الارتقاء عن هذا المقام ، ينبغي أن يحقّق (٤) أنّ وراءه شيئا هو أعلى من هذا المرام ، فلا يقصر همّته على ما أدركه ، ولا يشغل عقله الذي ملكه بمعرفة الكثرة التي هي أمارة العدم ، ولا يقف عند زخارفها التي هي مزلّة القدم ، بل يقطع عن نفسه العلائق البدنيّة ، ويزيل عن خاطره الموانع الدنيويّة ، ويضعف حواسّه وقواه ، التي بها يدرك الامور الفانية ، ويحبس بالرياضة نفسه الأمّارة بالسوء التي تثير التخيّلات الواهية ، ويوجّه همّته بكلّيّتها إلى عالم القدس ، ويقصر أمنيّته على نيل محلّ الرّوح والانس.

أقول : لمّا ذكر معرفة الله تعالى والطريق إليها على قاعدة أهل البحث والنظر ، الذين

__________________

١ ـ الشعراء / ٢٧.

٢ ـ الشعراء / ٢٨.

٣ ـ «م» بزيادة : لأحد.

٤ ـ «خ» والفصول النصيريّة : يتحقّق.

١٠٢

يبنون علومهم على استخراج النتائج من المقدّمات ، مع مراعاة شرائط الإنتاج بطريق البرهان ـ كما هو مذكور في علم الميزان ـ أراد أن يشير إلى طريق الأولياء الذين مبنى علومهم على الفيض الإلهيّ والكشف الربّانيّ ، لكن بعد مجاهدات نفسانيّة ، وإزالة عوائق بدنيّة ونفسانيّة ، وتوجّه نحو طلب الكمال الذي يسمّى عندهم ب «السلوك». ولا شكّ أنّ التوجّه إلى شيء حرّكه ، ويفتقر المتحرّك فيها إلى معرفة مبدئها وشرائطها وإزالة العوائق عنها وما يلحقه في أثنائها وما يحصل له بعدها ، حتّى يصل إلى الغاية المطلوبة بها. وأشار المصنّف رحمه‌الله إلى شيء يشير من ذلك إشارة يحتاج إلى بسط ، فلنبسط ذلك مختصرا ممّا استفدناه من كلامه ، وذلك يتمّ بفوائد :

الأولى : مبدأ الحركة وشرائطها ، وهو امور :

الأوّل : الإيمان. وهو لغة التصديق ، وشرعا التصديق بكلّ ما علم ضرورة مجيء الرسول به. وذلك مستلزم لمعرفة الله تعالى وصفاته وأفعاله والقرآن والأحكام ، وبهذا الاعتبار لا يقبل الزيادة والنقصان. وقد يطلق على وجه الكماليّة ، بإضافة الأعمال الصالحة ، فيقبل حينئذ الزيادة والنقصان. وأدنى مراتب الإيمان هو اللّسانيّ (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (١). وبعده القلبيّ على وجه التصديق الجازم ، لكن يمكن زواله. وبعده الإيمان بالغيب المنبعث عن بصيرة في القلب تقتضي ثباته. وأعلى مراتب الإيمان اليقين الآتي ذكره.

الثاني : الثّبات. وهو حالة جزم بوجود كمال يقارن الإيمان ، وبدونها لم تحصل طمأنينة النفس التي هي شرط طلب الكمال ؛ فإنّ المتزلزل في اعتقاد كمال لا يكون طالبا له ، وإذا لم يتحقّق الطلب لم يتحقّق العزم ، ولم يمكن السلوك ؛ فإنّ صاحب العزم بدون الثبات كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، بل لا يكون له عزم ؛ فإنّه ما لم يتوجّه إلى جهة واحدة بقلبه لم تقع الحركة ، ولو تحرّك كانت حركته اضطرابيّة لا فائدة فيها. وعلّة الثبات بصيرة الباطن بحقيقة المعتقد ووجدان لذّة الإصابة وصيرورتها ملكة باطنة لا تقبل الزوال.

__________________

١ ـ الحجرات / ١٤.

١٠٣

الثالث : النيّة. وهي القصد ، وذلك واسطة بين العلم والعمل ؛ لأنّه إذا لم يعلم علما ثابتا بترجيح أمر لم يقصد فعله. وإذا لم يقصد فعله لم يقع ، فيكون قصد مقصد معيّن مبدأ للسير والسلوك. وإذا كان المقصد حصول الكمال من الكامل المطلق ينبغي اشتمال النيّة على طلب القرب إلى الحقّ تعالى ؛ إذ هو الكامل المطلق. وإذا كان كذلك كانت وحدها خيرا من العمل وحده ، كما جاء في الخبر : «نيّة المؤمن خير من عمله» (١). فإنّها بمنزلة

__________________

١ ـ الاصول من الكافي ٢ : ٨٤ / الحديث ٢ ، الوسائل ١ : ٣٥ الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات / الحديث ٣ ، المحاسن : ٢٦٠ / الحديث ٣١٥. وفيه : «نيّة المرء خير من عمله ، ونيّة الفاجر شرّ من عمله ، وكلّ عامل يعمل بنيّته».

يبدو في بادئ النظر أنّ الحديث يحتاج إلى توضيح وبيان ، ولقد أجاد المصنّف في «نضد القواعد» في توضيحه ، فقال :

العشرون : روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ : «نيّة المؤمن خير من عمله». وربّما روي : «ونيّة الكافر شرّ من عمله».

فورد سؤالان : أحدهما : أنّه روي أنّ : «أفضل العبادة أحمزها». (رواها المحقّق في «معارج الأصول» المخطوط ، ورقة : ٣٥ ، كما في هامش «القواعد والفوائد» ١ : ١٠٨ ، وفي «النهاية» لابن الأثير ١ : ٤٤٠ ، وفيه : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ الأعمال أفضل؟ فقال : «أحمزها»). ولا ريب أنّ العمل أحمز من النيّة ، فكيف يكون مفضولا؟

وروي أيضا : «إنّ المؤمن إذا همّ بحسنة كتبت بواحدة ، وإذا فعلها كتبت عشرا». (الأصول من الكافى ٢ : ٤٢٨ / الحديث ١ ، ٢ ، الوسائل ١ : ٣٦ الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات / الحديث ٦ ، ٧ ، ٨ ، بتفاوت يسير في اللفظ فيهما). وهذا صريح في أنّ العمل أفضل من النيّة وخير.

السؤال الثاني : أنّه روي : أنّ النيّة المجرّدة لا عقاب فيها. (الأصول من الكافي ٢ : ٤٢٨ / الحديث ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، الوسائل ١ : ٣٦ الباب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات / الحديث ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩ ، ٢٠) فكيف يكون شرّا من العمل؟

واجيب بوجوه : الأوّل : أنّ النيّة يمكن فيها الدوام بخلاف العمل ؛ فإنّه يتعطّل عنه المكلّف أحيانا. فإذا نسبت هذه النيّة الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه ، وكذا نقول في نيّة الكافر.

الثاني : أنّ النيّة لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ؛ لأنّا نتكلّم على تقدير النيّة المعتبرة شرعا ، بخلاف العمل فإنّه يعرضه ذينك.

ويرد على هذا أنّ العمل وإن كان معرضا لهما ، إلّا أنّ المراد به العمل الخالي عنهما ، وإلّا لم يقع تفضيل.

الثالث : أنّ المؤمن يراد به الخاصّ ، أي المؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فإنّ غالب أفعاله جارية على التقيّة ومداراة أهل الباطل. وهذه الأفعال المفعولة تقيّة ، منها ما يقطع فيه بالثواب كالعبادات الواجبة ، ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب كالباقي. وأمّا نيّته فإنّها خالية عن التقيّة ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ونطق بها بلسانه ، إلّا أنّه غير معتقد لها بجنانه ، بل آب عنها ونافر منها.

وإلى هذا الإشارة بقول أبي عبد الله عليه‌السلام وقد سأله أبو عمر والشاميّ عن الغزو مع غير الإمام العادل : «إنّ الله يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة». (المحاسن : ٢٦٢ / الحديث ٣٢٥ ، الوسائل ١ : ٣٤ الباب ٥ من أبواب مقدّمة العبادات / الحديث ٥). وروي مرفوعا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، (مسند أحمد ٢ : ٣٩٢).

١٠٤

__________________

قال شيخنا (أي الشهيد) : وهذه الثلاثة من السوانح (أي من عوارض فكري).

الرابع : ما قاله بعض العلماء : إنّ خلود المؤمن في الجنّة إنّما هو بنيّته أنّه لو عاش أبدا لأطاع الله أبدا. وخلود الكافر في النار بنيّته أنّه لو بقي أبدا لكفر أبدا.

الخامس : ما حكاه المرتضى رحمه‌الله ، أنّ المراد أنّ نيّة المؤمن بغير عمل خير من عمله بغير نيّة. وأجاب عنه بأنّ أفعل التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل بغير نيّة لا خير فيه فكيف يكون داخلا في باب التفضيل؟! ولهذا لا يقال : «العسل أحلى من الخلّ».

السادس : أنّه عامّ مخصوص أو مطلق مقيّد ، أي نيّة بعض الأعمال الكبار ـ كنيّة الجهاد ـ خير من بعض الأعمال الخفيفة كتسبيحة أو تحميدة أو قراءة آية ، لما في تلك النيّة من تحمّل النفس المشقّة الشديدة والتعرّض للغمّ والهمّ الذي لا يوازيه تلك الأفعال. وبمعناه قال المرتضى نضّر الله وجهه ، قال : وأتى بذلك لئلّا يظنّ أنّ ثواب النيّة لا يجوز أن يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال. ثمّ أجاب بأنّه خلاف الظاهر ؛ لأنّ فيه إدخال زيادة ليست في الظاهر. قال شيخنا المصنّف : المصير إلى خلاف الظاهر متعيّن عند وجود ما يصرف اللفظ إليه ، وهو هنا حاصل ، وهو معارضة الخبرين السالفين. فيجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وبينهما.

السابع : للمرتضى أيضا ، أنّ النيّة لا يراد بها التي مع العمل ، والمفضّل عليه هو العمل الخالي من النيّة. وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف ، مع أنّه قد ذكره كما حكيناه عنه.

الثامن : له أيضا ، أنّ لفظة «خير» ليست التي بمعنى أفعل التفضيل ، بل التي هي موضوعة لما فيه منفعة ، ويكون معنى الكلام أنّ نيّة المؤمن من جملة الخير من أعماله ، حتّى لا يقدّر مقدّر أنّ النيّة لا يدخلها الخير والشرّ كما يدخل ذلك في الأعمال. وحكى عن بعض الوزراء استحسانه ، لأنّه لا يرد عليه شيء من الاعتراضات.

التاسع : له أيضا ، أنّ لفظة أفعل التفضيل قد تكون مجرّدة عن الترجيح ، كما في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً). (الإسراء / ٧٢.) ، (أمالي المرتضى ٢ : ٣١٥).

فإن قلت : فقضيّة هذا الكلام أن يكون في قوّة قوله : النيّة من جملة عمله ، والنيّة من أفعال القلوب فكيف يكون عملا؟

لأنّه يختصّ بالعلاج. قلت : جاز أن يسمّى عملا كما جاز أن يسمّى فعلا ، أو يكون إطلاق العمل عليه مجازا.

العاشر : ما أجاب به ابن دريد ، وهو أنّ المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير كالصدقة والصوم والحجّ ، ولعلّه يعجز عنها أو عن بعضها ، ويؤجر على ذلك ، لأنّه معقود النيّة عليه.

الحادي عشر : جواب الغزاليّ ، بأنّ النيّة سرّ لا يطّلع عليه إلّا الله تعالى ، وعمل السرّ أفضل من عمل الظاهر.

الثاني عشر : أنّ وجه تفضيل النيّة على العمل أنّها تدوم إلى آخره حقيقة أو حكما ، وآخر العمل لا يتصوّر فيها الدوام ، بل يتصرّم شيئا فشيئا.

الثالث عشر : لشيخنا رحمه‌الله ، أنّ النيّة لمّا كانت لا تقف عند حدّ ، بل هي مستمرّة بالنسبة إلى جميع الأوقات وجميع الأعمال وجميع التروك فكانت خيرا من العمل الذي يقع حينا ما ، ولهذا قال الصادق عليه‌السلام : «يحشر الناس يوم القيامة على نيّاتهم». قال : وهذا أجود الوجوه. والله أعلم. (القواعد والفوائد ١ : ١١٠).

١٠٥

الروح ، والعمل بمنزلة الجسد. والأعمال بالنيّات كما أنّ حياة الجسد بالروح.

الرابع : الصدق. وهو مطابقة القول لما هو في نفس الأمر. والمراد هنا الصدق في القول والفعل والنيّة والعزم وإتمام الأحوال العارضة له. والصّدّيق هو الذي صار صدقه في هذه الامور ملكة له ، ولا يقع خلافه البتّة لا في العين ولا في الأثر.

الخامس : الإنابة. وهي الرجوع إلى الله تعالى والإقبال عليه. ولا يتمّ ذلك إلّا بثلاثة امور :

باطنيّ ، وهو دوام التوجّه إليه تعالى بأفكاره وعزائمه.

وقوليّ ، وهو دوام ذكره وذكر أنعمه وذكر مقرّبي حضرته.

وعمليّ ، وهو المواظبة على الأعمال الصالحة ، والإحسان إلى خلق الله تعالى ودفع أسباب الضرر عنهم ، وبالجملة التزامه بأحكام الشرع تقرّبا إلى الله تعالى.

السادس : الإخلاص. وهو أنّ جميع ما يفعله السالك ويقوله يكون تقرّبا إلى الله تعالى وحده لا يشوبه شيء من الأغراض الدنيويّة والاخرويّة (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) (١).

ومتى مزج معه غرض دنيويّ أو اخرويّ ـ ولو ثوابا أو نجاة من العذاب ـ فذلك هو

__________________

الرابع عشر : ما خطر لهذا الضعيف ، وتقريره : أنّ العمل مع النيّة وإن اشتركا في حصول الثواب والفوز برضاء الرب تعالى ، لكنّ العمل بدون نيّة كالجهاد الذي لا حراك به ، بل كالصورة المنقوشة على الجدار التى لا حقيقة لها ، والنيّة كالروح السارية في الأعضاء والقوى ، وكان كمال العمل بها فكانت أكثر خيريّة. ولا ينافي ذلك حديث : «أفضل العبادة أحمزها» ؛ فإنّ حظوظ النفس وميولها كثيرة لا تكاد تحصر ، فحصول النيّة المشتملة على كمال الإخلاص خالصة من تلك الحظوظ ، والميول تفتقر إلى مجاهدات توجب لها الأحمزيّة ، فكانت أفضل ، فاستحقّت اسم الخيريّة. وعلى ذلك يخرج جواب : «إذا همّ بحسنة كتبت له».

الخامس عشر : ما خطر للضعيف أيضا ، وتقريره : أنّ النيّة لمّا كانت حقيقتها كمال الإخلاص ، كان حصولها يستلزم حصول المعارف الحقيقة ، واستحضار صفات الجمال ونعوت الجلال التي هي كالأسباب لذلك الإخلاص ، ـ بخلاف العمل ـ فكانت أفضل. وخلوصها أيضا عن الشبهات والمعارضات ، يفتقر أيضا إلى مجاهدات فكريّة توجب لها وصف الأحمزيّة ، فكانت أفضل.

السادس عشر : أنّ النيّة لمّا كانت لازمة لتعظيم مقام الربوبيّة ، وشكر أنعامه ، وكانت من لوازم الإيمان الذي هو واجب الدوام والبقاء ببقاء النفس الإنسانيّة ، ويستحيل تطرّق النّسخ والتغيّر إليه ، فحكمها حكمه ، بخلاف العمل الذي يجوز تغيّره ونسخه ، فكانت أفضل. وهذا أيضا من خواطر الضعيف. نضد القواعد الفقهيّة : ١٨٧.

١ ـ الزمر / ٣.

١٠٦

الشّرك الخفيّ ، ولا شيء أفسد للطالب من الشرك الخفيّ ؛ فإنّه مانع من السلوك ، فإذا زال سهل. من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (١).

الثانية : إزالة العلائق وقطع الموانع ، وذلك بامور :

الأوّل : التوبة. وهي الرجوع عن المعصية التي هي ترك الواجب وفعل الحرام ، سواء كانت قوليّة أو عمليّة أو فكريّة أو خياليّة. والضابط ما كان صادرا عن قدرة العبد. وأمّا ترك المندوب وفعل المكروه فذلك مرتبة أخرى هي بالمعصومين أنسب ؛ فإنّ علوّ مقامهم يقتضي ذلك. وأمّا السالك فتوبته عن التفاته إلى غير الحقّ الذي هو مقصده ، فإنّه معصية عندهم لمنعه عن المقصد. فالتوبة حينئذ ثلاثة : عامّ للعبيد كلّهم ، وهو الأوّل. وخاصّ بالمعصومين ، وهو الثاني. وأخصّ من الخاصّ ، وهو الثالث. وأمّا توبة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فمن الثالث ، ولذلك قال : «إنّه ليغان على قلبي ، وإنّي لأستغفر الله في اليوم سبعين مرّة» (٢). ومن هذا القسم قيل : «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» (٣).

الثاني : الزهد. وإليه أشار المصنّف بقوله : «ولا يشغل عقله الذي ملكه ...» إلى آخره. والزاهد هو الذي لا يرغب في مطلوب يفارقه عند موته ، وهو الحظوظ الدنيويّة كالمأكل والمشرب والملابس والمناكح والجاه والمال والذّكر الحسن والقرب من الملوك ، وغير ذلك من التكثّرات التي هي ملزومات العدم. ويكون ذلك منه لا للعجز والجهل وغرض من الأغراض ، وذلك هو الزاهد في المشهور. وهو الذي يترك متاع الدنيا لمتاع آخر يستأجله. وفي الحقيقة هو الذي لا يكون زهده المذكور للنجاة من النار والفوز بالجنّة ، بل يكون ذلك ملكة له تكبّرا على ما دون الحقّ وتقرّبا إلى رضاه. وتصير تلك الملكة صفة نفسانيّة تزجرها عن مشتهياتها وتروضها بالامور الشاقّة حتّى تصير راسخة فيها ، كما قال وليّ الله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «وأيم الله ـ يمينا أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضنّ نفسي رياضة تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما ، وتقنع بالملح

__________________

١ ـ هذه مضمون روايات ، وللاطّلاع عليها ينظر : عيون أخبار الرضا ٢ : ٦٩ ، عدّة الداعي : ٢١٨ ، الدرّ المنثور ٢ : ٢٣٧ ، كنز العمّال ٣ : ٢٤ / الحديث ٥٢٧١ ، بحار الأنوار ٧٠ : ٢٤٢.

٢ ـ مستدرك الوسائل ١ : ٣٨٧ الباب ٢٢ من أبواب الذكر / الحديث ٢.

٣ ـ كشف الغمّة ٣ : ٦٤ ، البحار ٢٥ : ٢٠٤ ، سرّ العالمين ، للغزاليّ : ١٨١ ، كشف الغمّة ٣ : ٦٤ ، البحار ٢٥ : ٢٠٥.

١٠٧

مأدوما» (١). وقال عليه‌السلام أيضا : «ما لعليّ ونعيم يفنى ولذّة لا تبقى» (٢).

الثالث : الفقر. وليس المراد به عدم المال ، بل عدم الرغبة في المقتنيات الدنيويّة ، لا للعجز عنها ولا للغفلة والبلاهة بل تكبّرا وتنزّها عنها. وبالجملة هو شعبة من الزهد المتقدّم وغير بعيد أن يكون قوله عليه‌السلام : «الفقر فخري ، وبه أفتخر» (٣). إشارة إلى هذا المعنى.

الرابع : الرياضة. والمراد بها منع النفس عن المطلوب من الحركات المضطربة ، وجعلها بحيث تصير طاعتها لمولاها ملكة لها. ويراد بها هنا منع النفس الحيوانيّة عن مطاوعة الشهوة والغضب وما يتعلّق بهما ، ومنع النفس الناطقة عن متابعة القوى الحيوانيّة من رذائل الأخلاق والأعمال ، كالحرص على جمع المال واقتناء الجاه وتوابعهما من الحيلة والمكر والخديعة والغلبة والغضب والحقد والحسد والفجور والانهماك في الشرور وغيرها ، وجعل طاعة النفس للعقل العمليّ ملكة لها على وجه يوصلها إلى كمالها الممكن.

ثمّ اعلم أنّ النفس إذا تابعت القوّة الشهويّة سمّيت بهيمة ، وإذا تابعت القوّة الغضبيّة سمّيت سبعيّة ، وإن جعلت رذائل الأخلاق ملكة لها سمّيت شيطانيّة. وسمّى الله تعالى هذه الجملة في التنزيل نفسا أمّارة (٤) ، أي أمّارة بالسوء إن كانت رذائلها ثابتة. وإن لم تكن ثابتة بل تكون مائلة إلى الشرّ تارة وإلى الخير أخرى وتندم على الشرّ وتلوم عليه سمّاها لوّامة (٥). وإن كانت منقادة للعقل العمليّ سمّاها مطمئنّة (٦). والمعين على هذه المتابعات هو قطع العلائق البدنيّة ، كما قال بعضهم نظما :

إذا شئت أن تحيى فمت عن علائق

من الحسّ خمس ، ثمّ عن مدركاتها

__________________

١ ـ نهج البلاغة : ٤١٩ / الكتاب ٤٥.

٢ ـ نهج البلاغة : ٣٤٧ / الكلام ٢٢٤.

٣ ـ بحار الأنوار ٧٢ : ٥٥ ، سفينة البحار ٢ : ٣٧٨.

٤ ـ يوسف / ٥٣.

٥ ـ القيامة / ٢.

٦ ـ الفجر / ٢٧.

١٠٨

وقابل بعين النّفس مرآة عقلها

فتلك حياة النفس بعد مماتها

وإزالة الموانع الدنيويّة عن خاطره ، والمعين على ذلك أيضا هو إضعاف قواه الشهوانيّة والغضبيّة بإضعاف حواسّه بتقليل الأغذية والتنوّق فيها ، فإنّ لذلك أثرا عظيما في حصول الكمال ، والتأهّل لخدمة حضرة ذي الجلال ، كما قال فيثاغورس (١) : عودوا أنفسكم الشيء الطفيف (٢) ؛ فإنّه أقلّ لاحتياجكم وأشبه بكم بالمبدإ الأوّل ، فإنّه غير محتاج.

ثمّ الغرض من الرياضة امور ثلاثة :

أوّلها : إزالة الموانع عن الوصول إلى الحقّ ، وهي الشواغل الظاهرة والباطنة.

وثانيها : جعل النفس الحيوانيّة مطاوعة للعقل العمليّ ، الباعث على طلب الكمال.

وثالثها : جعل النفس مستعدّة لقبول فيض الحقّ لتصل إلى كمالها الممكن لها.

الخامس : المحاسبة. وهي أن ينسب السالك طاعاته إلى معاصيه ليعلم أيّهما أكثر ، فإن فضّلت طاعاته نسب قدر الفاضل إلى نعم الله تعالى عليه التي هي وجوده ، والحكم المودعة في خلقته ، والفوائد التي أظهرها في قواه ، ودقائق الصنع التي أوجدها في نفسه ، التي هي تدرك العلوم والمعقولات فإذا نسب فضل طاعته إلى هذه النعم التي لا تحصى كما قال سبحانه : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٣) ، ووازنها ... وقف على تقصيره وتحقّقه. فإن ساوت طاعاته معاصيه تحقّق أنّه ما قام بشيء من وظائف العبوديّة ، وكان تقصيره أظهر له. وإن فضلت معاصيه فويل ثمّ ويل. فإذا عمل السالك ذلك مع نفسه لم يصدر منه غير الطاعة ، وعدّ نفسه مقصّرا دائما. وإذا لم يفعل ذلك وقع في العذاب الأبديّ والخسران السرمديّ. ويتبع المحاسبة المذكورة المراقبة ، وهي أن يحفظ ظاهره وباطنه لئلّا يصدر عنه شيء يبطل به حسناته التي عملها ، وذلك أن يلاحظ أحوال نفسه

__________________

١ ـ فيثاغورس بن منسارخس من أهل ساميا. وكان في زمان سليمان النبيّ عليه‌السلام ، قد أخذ الحكمة من معدن النبوّة ، وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي المتين والعقل الرصين ، يدّعي أنّه شاهد العوالم العلويّة بحسّه وحدسه. وهو أوّل من نطق في الأعداد والحساب والهندسة ، إليه يعزى تقويم الحساب المعروف ب «جدول فيثاغورس» في الضرب. تاريخ اليعقوبي ١ : ١١٩ ، الملل والنحل ٢ : ٧٨ ، تاريخ الحكماء للقفطي : ٣٥٥.

٢ ـ الطفيف : مثل القليل وزنا ومعنى. المصباح المنير : ٣٧٤.

٣ ـ إبراهيم / ٣٤.

١٠٩

دائما لئلّا يقدم على معصية تشغله عن سلوك طريق الحقّ.

السادس : التقوى. وهو اجتناب المعاصي حذرا من سخط الله والبعد عنه. كما يجتنب طالب الصحّة كلّ ما يضرّه ويزيد به مرضه ليتمكّن من العلاج ، كذلك السالك يجتنب كلّ مناف للكمال وكلّ مانع من الوصول إليه ؛ لئلّا يشغله عن سلوك طريق الحقّ. وفي الحقيقة تركّب التقوى من ثلاثة : أحدها : الخوف. وثانيها : التحاشي عن المعاصي. وثالثها : طلب القرب من الربّ تعالى.

قال : ويوجّه همّته بكلّيّتها إلى عالم القدس ، ويقصر أمنيّته على نيل محلّ الرّوح والانس ، ويسأل بالخضوع والابتهال من حضرة ذي الجلال الذي من شأنه الجود والإفضال ، أن يفتح على قلبه باب خزانة رحمته ، وينوّره بنور الهداية الذي وعده بعد مجاهدته ، ليشاهد الأسرار الملكوتيّة والآثار الجبروتيّة ، ويكشف في باطنه الحقائق الغيبيّة والدقائق الفيضيّة.

أقول : هذا إشارة إلى ما يلحق السالك في أثناء حركته وبعدها. ونحن نورد ذلك متمّمين للفوائد التي وعدنا بها فنقول :

الثالثة : فيما يلحق السالك في سلوكه ، وهو امور :

الأوّل : الخلوة. وهي عزلة السالك عن جميع الموانع المتقدّمة ، فيختار موضعا لم يكن فيه مشغل له من المحسوسات الظاهرة والباطنة ، ويجعل القوى الحيوانيّة مرتاضة لئلّا تجذب النفس إلى ملائماتها ، ويعرض بالكلّيّة عن الأفكار المجازيّة التي ترجع غايتها إلى مصالح المعاش والمعاد. ومصالح المعاش هي الامور الفانية ، والمعاد هي امور ترجع غاياتها إلى اللذّات الباقية. أمّا السالك فيجب عليه بعد إزالة الموانع الظاهرة والباطنة إخلاء باطنه عن الاشتغال بما سوى الحقّ ، وأن يقبل بهمّته وجوامع نيّته إلى الحقّ ، مترصّدا للسوانح الغيبيّة ، ومترقّبا للواردات الحقيقيّة ؛ ليحصل له مضمون ما وعده بعد مجاهدته : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (١). ويسمّى ذلك تفكّرا.

الثاني : التفكّر المشار إليه. وهو سير باطن الإنسان من المبادي إلى المقاصد. كذا

__________________

١ ـ العنكبوت / ٦٩.

١١٠

عرّف معنى الفكر في اصطلاح العلماء ، وهو الحركة من المطالب إلى المبادي ثمّ الرجوع من المبادي إلى المطالب. ولا يمكن أن يصل من مرتبة النقصان إلى الكمال إلّا بالسير ، ولذلك كان النظر أوّل الواجبات ، وجاء الحثّ عليه في التنزيل والحديث (١). ومبادي السير التي منها ابتداء الحركة هي الآفاق والأنفس. والسير هو الاستدلال من آياتهما ، وهي الحكم المودعة في كلّ ذرّة من ذرّات هذين الكونين الدالّ على عظمة المبدع وكماله. ويظهر ذلك لمن نظر في تشريح العالمين : الآفاقيّ والأنفسيّ ، والفلكيّ والعنصريّ ، قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (٢). ثم يستشهد من حضرة جلاله على كلّ ما سواه من مبدعاته ، كما قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٣).

الثالث : الخوف والحزن. قال العلماء : الحزن على ما فات ، والخوف على ما لم يأت. فالحزن تألّم الباطن بسبب وقوع مكروه يتعذّر دفعه أو فوات فرصة أو أمر مرغوب فيه يتعذّر تلافيه. والخوف تألّم الباطن بسبب وقوع مكروه يمكن حصول أسبابه أو توقّع فوات مرغوب يتعذّر تلافيه. ولا يخلوان من فائدة في باب السلوك ؛ فإنّ الحزن إذا كان سببه ارتكاب المعاصي أو فوات مدّة (عاطلة عن العبادة) (٤) أو عن ترك السير في الطريق إلى الكمال صار باعثا له على تصميم العزم على التوبة. والخوف إن كان سببه ارتكاب المعاصي فيه ونقصانه وعدم وصوله إلى درجة الأبرار صار موجبا لاجتهاده في اكتساب

__________________

١ ـ حثّ الكتاب العزيز على النظر والتدبّر في آيات الله بتعابير مختلفة ، فتارة أمر بالنظر إلى ملكوت السماوات والأرض (الأعراف / ١٨٥) ، وأخرى بالنظر إلى بعض الموجودات كالإبل والسماء ، (الغاشية : ١٧). وثالثة بالنظر إلى أنفسهم. (الروم / ٨).

كما جاء الحثّ الأكيد في السّنّة أيضا على التفكّر ، وأنّه أفضل العبادة ، منها :

قال عليّ عليه‌السلام : «لا عبادة كالتفكّر في صنعة الله عزوجل». أمالي الطوسيّ : ١٤٦ / الحديث ٢٤٠ ، البحار ٧١ : ٣٢٤ ، سفينة البحار ٢ : ٣٨٢.

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام : «ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة ، إنّما العبادة كثرة التفكّر في أمر الله». الكافي ٢ : ٥٥ / الحديث ٤ ، سفينة البحار ٢ : ٣٨٢.

٢ ـ فصّلت / ٥٣.

٣ ـ فصّلت / ٥٣.

٤ ـ «م» : صالحة للعبادة.

١١١

الخيرات ومبادرته إلى السلوك في طريق الكمال ، (ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) (١). هذا في حال السير والسلوك ، وأمّا أهل الكمال فهم مبرّءون من الخوف والحزن (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢).

الرابع : الرجاء. كلّ متوقّع حصول مطلوب له مستقبلا وظنّ وجود أسبابه حصل له فرح مقارن لتصوّر حصوله ، فيسمّى ذلك الفرح رجاء. وإن تيقّن حصول الأسباب فيكون المتوقّع واجبا فيكون ذلك الفرح انتظارا ولا جرم يكون الفرح أقوى. وإذا خلا من الظنّ واليقين يسمّى تمنّيا. وإن كان عدم حصول الأسباب معلوما يسمّى غرورا وحماقة. والرجاء أيضا لا يخلو من فائدة ؛ فإنّه يبعث على الترقّي في درجات الكمال وسرعة السير في الطريق.

الخامس : الصبر. وهو لغة : حبس النفس عن الفزع من المكروه والجزع منه. وإنّما يكون ذلك بمنع باطنه من الاضطراب وأعضائه من الحركات غير المعتادة. وهو على أنواع ثلاثة :

الأوّل : صبر العوامّ ، وهو حبس النفس على وجه التجلّد وإظهار الثبات في التحمّل ، لتكون حاله عند الغير مرضيّة.

الثاني : صبر الزّهّاد والعبّاد ، لتوقّع ثواب الآخرة.

الثالث : صبر العارفين على جهة الالتذاذ به ، فإنّ لبعضهم التذاذا بالمكروه ؛ لتصوّر أنّ معبودهم خصّهم بذلك فصاروا ملحوظين بعين عنايته (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (٣).

السادس : الشكر. وهو لغة : الثناء على المنعم ليوازي نعمه. وإذا كان معظم النعم من الله فخير ما اشتغل العبد به هو الشكر. وهو يتمّ بثلاثة أشياء :

__________________

١ ـ الزمر / ١٦.

٢ ـ يونس / ٦٢.

٣ ـ البقرة / ١٥٦ ـ ١٥٨.

١١٢

الأوّل : معرفة نعمه.

الثاني : الفرح بما يصل إليه منها.

الثالث : الاجتهاد في تحصيل رضا المنعم بقدر الاستطاعة. وإنّما يكون ذلك بمحبّته في باطنه وثنائه وتعظيمه على وجه يليق بكبريائه ، واجتهاده بما ينبغي من المكافأة لخدمته واعترافه بالعجز.

الرابعة : في ما يقارن السالك ، وهو امور :

الأوّل : الإرادة. وهي مشروطة بثلاثة أشياء : الشعور بالمراد ، والشعور بالكمال الذي يحصل به ، وعينيّة المراد. فإن كان المراد من الامور التي يمكن حصولها من السالك وانضمّت القدرة إلى الإرادة حصل المراد. وإن كان من الامور الموجودة الغائيّة فبسببها وصل إلى المراد ، وإن كان في وصوله توقّف اقتضت الإرادة حالة في المريد تسمّى شوقا.

ثمّ الإرادة إنّما تكون مقارنة للسلوك باعتبار ، ومقتضية له باعتبار آخر ؛ فإنّ طلب الكمال نوع من الإرادة ، وإذا انقطعت الإرادة بسبب الوصول أو العلم بامتناعه انقطع السلوك. والإرادة المقارنة للسلوك تختصّ بأهل النقصان ، وأمّا أهل الكمال فإرادتهم عين المراد. ومن وصل في السلوك إلى درجة الرضا انتفت إرادته ، ومن هنا قال بعضهم : لو قيل لي : ما تريد؟ قلت : اريد أن لا اريد.

الثاني : الشّوق. وهو حالة تلزم فرط الإرادة ممزوجة بألم الفراق ، وفي حال السلوك بعد اشتداد الإرادة يصير ضروريّا. ويجوز حصوله قبل السلوك إذا حصل الشعور بكمال المطلوب وانضمّت إليه القدرة ، ويقتضي الصبر على المفارقة. والسالك كلّما أمعن في الترقّي ازداد شوقه وقلّ صبره ، إلى أن يصل إلى مطلوبه ، فيخلص له اللذّة بنيل الكمال عن شائبة الألم ، فينتفي الشوق.

الثالث : المحبّة. وهي الابتهاج بحصول كمال أو تخيّل وصول كمال مظنون أو محقّق ثابت في المشعور به. وبوجه آخر هي ميل النفس إلى ما في المشعور به من كمال أو لذّة. ولمّا كانت اللذّة إدراك الملائم ـ أعني : نيل الكمال ـ لم تخل المحبّة من لذّة أو تخيّل لذّة. وهي قابلة للشدّة والضعف ، وأوّل مراتبها الإرادة ، فإنّها محبّة أيضا ثمّ يقارنها

١١٣

الشوق. ومع الوصول التامّ الذي تنتفي عنده الإرادة والشوق تزداد المحبّة (وما دام أنّها تقارن طلب أمر باق كانت ثابتة) (١).

ثمّ المحبّة التي في نوع الإنسان سببها امور ثلاثة :

الأوّل : اللذّة ، وهي إمّا جسمانيّة أو وهميّة أو حقيقيّة.

الثاني : الشفقة ، وهي إمّا مجازيّة فهي لامور ينقرض نفعها ، أو حقيقيّة لما يدوم نفعها.

الثالث : مشاكلة الجوهر ، إمّا عامّة كما يكون بين شخصين متقاربين طبعا أو خلقا أو شمائل أو فعلا ، وإمّا خاصّة تختصّ بأهل الحقّ وهي محبّة طلب الكمال.

الرابع : المعرفة بالله. والمراد بها أعلى مراتبها ، فإنّ لها مراتب كثيرة ومثل مراتبها كمثل النار في معرفتها ؛ فإنّ أدناها من يسمع أنّ في الوجود شيئا يعدم كلّ ما يلاقيه ، إلى غير ذلك من خواصّه. ونظير ذلك في معرفة الله تعالى معرفة المقلّدين لأهل العلم.

وأعلى منها معرفة من وصل إليه دخان النار وعلم أنّه أثر لا بدّ له من مؤثّر. ونظيره في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر الحاكمين بالبراهين على وجود صانع ، استدلالا بوجود آثاره على وجوده.

وأعلى منها من أحسّ بأثر من حرارة النار بسبب مجاورتها وانتفع بذلك الأثر. ونظير ذلك في معرفة الله تعالى مرتبة من آمن بالله بالغيب من المؤمنين ، وعرفوا الصانع من وراء حجاب وابتهجوا به.

وأعلى منها مرتبة من شاهد النار بتوسّط نورها فشاهد الموجودات.

ونظير هذه المرتبة في المعرفة مرتبة العارفين ، فإنّ لهم المعرفة الحقيقيّة ، ولهم أيضا مراتب ويسمّون أهل اليقين. ومنهم جماعة لا ينفكّ عنهم المعرفة ـ وهم أهل الحضور ـ وهو نهاية المعرفة التي ينتفي فيها العارف نظير من يحترق بالنار.

الخامس : اليقين. وهو اعتقاد جازم مطابق ثابت لا يمكن زواله. وهو مؤلّف من علمين : علم بشيء ، وعلم بأنّ خلافه محال. وله مراتب ، وجاء في التنزيل : علم

__________________

١ ـ ما بين القوسين ليس في «ح».

١١٤

اليقين (١) ، وعين اليقين (٢) ، وحقّ اليقين (٣). ومثال ذلك في النار من شاهد عين النار بتوسّط نورها بمنزلة علم اليقين بها. ومعاينة جرم النار المقتضية (لتنوير كلّ قابل للنور) (٤) بمنزلة عين اليقين. وتأثير النار في كلّ ما يلاقيها حتّى تنتفي هويّته ويبقى صرف النار بمنزلة حقّ اليقين. ولمّا كانت نهاية الوصول انتفاء الهويّة كانت رؤيتها من البعد والقرب والدخول فيها المقتضي للانتفاء بإزاء المراتب الثلاثة المذكورة.

السادس : السكون ، وهو قسمان :

أحدهما من خواصّ الناقصين ، وهو مقدّمة السلوك الذي يخلو صاحبه من المطلوب والكمال ، ويسمّى غفلة.

وثانيهما بعد السلوك ، وهو من خواصّ الكاملين لحصوله عند الوصول إلى المطلوب ، ويسمّى اطمئنانا (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) (٥). والحال بين هذين السّكونين يسمّى حركة. والسير والسلوك والحركة من لوازم المحبّة التي قبل الوصول ، والسكون من لوازم المعرفة المقارنة للوصول ، ولهذا قيل : لو تحرّك العارف هلك ، ولو سكن المحبّ هلك. وقيل أيضا أبلغ من ذلك : لو نطق العارف هلك ولو سكت المحبّ هلك.

الخامسة : في الأحوال السانحة للسالك بعد وصوله ، وهي امور :

الأوّل : التوكّل. وهو لغة : تفويض الإنسان أمره إلى غيره. والمراد هنا أنّ العبد إذا عرض له أمر أو صدر عنه شيء إذا تيقّن أنّ الله أعلم منه وأقدر فوّض ذلك الشيء إليه ، ليدبّره بحسب تقديره ويفرح بما قدّره ويرضى به ، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (٦). وإنّما يحصل الرضا والفرح بما يفعله الله تعالى معه إذا تأمّل في أحواله

__________________

١ ـ التكاثر / ٥.

٢ ـ التكاثر / ٧.

٣ ـ الواقعة / ٩٥.

٤ ـ ما بين القوسين في «م» «ن» : لتنوّر كلّ ما قابل للنور ، وفي «خ» : لتنوّر كلّ قابل للتنوّر بها.

٥ ـ الرعد / ٢٨.

٦ ـ الطّلاق / ٣.

١١٥

الماضية ؛ فإنّه أخرجه من العدم إلى الوجود ، وأودع في خلقته من الحكم ما لو صرف عمره في معرفته لم يمكن معرفة جزء من ألف جزء منها ، ودبّر اموره أحسن التدبير داخلة وخارجة حتّى أوصلها إلى غاية الكمال الممكن من غير سؤال. فيقيس حينئذ أحواله المستقبلة على الماضية وأنّها لا تختلف ، فإذا تأمّل ذلك اعتمد على الله وترك الاضطراب.

وليس التوكّل هو ترك التصرّف في الامور بالكلّيّة ، ويقول : فوّضت أمري إلى الله. بل التوكّل هو أن يتيقّن أنّ ما عدا الله من الله لكن بعضها يتوقّف على شروط وأسباب ، فإنّ قدرته وإرادته تعالى لا يتعلّقان بكلّ شيء بل ببعض الأشياء ، فما تعلّقت قدرته وإرادته به هو الذي قارنه سببه وشرطه ، وما لم يتعلّق لم يقارناه ، فيكون الوجود والقدرة والإرادة من جملة الأسباب والشروط.

الثاني : الرضا. وهو ثمرة المحبّة ، ومقتض لترك الإنكار ظاهرا وباطنا اعتقادا وقولا وعملا. ومطلوب أهل الحقيقة هو أن يرضوا عن الله. وإنّما يحصل لهم ذلك إذا لم يختلف عندهم شيء من الأحوال المتقابلة كالموت والحياة والبقاء والفناء والصحّة والمرض والسعادة والشقاوة والغنى والفقر ، لا يخالف شيء من ذلك طباعهم ولا يترجّح شيء منها على الآخر عندهم ؛ لأنّهم عرفوا أنّ الجميع من الله ، وترسّخت محبّته في طباعهم ، فلا يطلبون على إرادته مزيدا البتّة فيرضون بالحاضر كيف كان. وإذا تحقّق علم أنّ رضا الله من العبد إنّما يحصل إذا حصل رضا العبد من الله (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (١). وصاحب مرتبة الرضا لم يزل مستريحا ؛ لأنّه لم يوجد منه : «اريد» ولا «لا اريد» ؛ لتساويهما عنده.

الثالث : التسليم. والمراد منه أن يسلّم كلّ أمر ـ كان ينسبه إلى نفسه ـ إلى البارئ تعالى. وهذه المرتبة أعلى من مرتبة التوكّل ، فإنّ التوكّل تفويض الأمر إليه من غير قطع تعلّقه به بمنزلة من وكلّ غيره في أمر من الامور فإنّه يجعل لنفسه تعلّقا به ، والتسليم هو قطع هذا التعلّق. وأعلى أيضا من مرتبة الرضا ، فإنّ الراضي هو أن يكون ما يفعله الله

__________________

١ ـ المجادلة / ٢٢ ، البيّنة / ٨.

١١٦

موافقا لطبعه ، وفي مرتبة التسليم يسلّم الطبع وموافقته ومخالفته إليه تعالى ؛ لأنّه ليس له طبع حتّى يكون له موافقة ومخالفة ، فقوله تعالى : (لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) (١) هو مرتبة الرضا ، وقوله : (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢) مرتبة أعلى منها.

وإذا نظر السالك نظر تحقيق لم يجعل نفسه في مرتبة الرضا ولا مرتبة التسليم ؛ لأنّه مهما يجعل نفسه بإزاء الحقّ يجعله لها راضيا ومسلّما وذلك ينتفي عند التوحيد.

الرابع : التوحيد. وهو القول بالوحدة وفعل الوحدة.

والأوّل : هو شرط الإيمان الذي هو مبدأ المعرفة ، أعني التصديق بأنّه تعالى واحد (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (٣).

والثاني : هو كمال المعرفة الحاصل بعد الإيقان (٤) ، وذلك هو أن يتيقّن أنّه ليس في الوجود إلّا الله وفيضه ، وليس لفيضه وجود بانفراده ، فينقطع نظره عن الكثرة ويجعل الجميع واحدا ، ولا يتيقّن إلّا واحدا. فيكون قد جعل الكثرة وحدة في سرّه ، وصار من مرتبة «وحده لا شريك له في إلهيّته» إلى مرتبة «وحده لا شريك له في وجوده». وفي هذه المرتبة صار جميع ما سواه تعالى حجابا له ، وصار نظر السالك إلى غير الله شركا مطلقا ، ولسان حاله يقول : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٥).

الخامس : الاتّحاد. وهو كون الشيء واحدا في نفسه ، والتوحيد جعل الشيء واحدا. وأشار إلى الأوّل في التنزيل بقوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٦) ، وإلى الثاني بقوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٧). والاتّحاد أبلغ من التوحيد ؛ فإنّ في التوحيد شائبة التكليف ليس في الاتّحاد فإذا ترسّخ وحدة المطلق في الضمير حتّى لا يلتفت إلى الكثرة بوجه من

__________________

١ ـ النساء / ٦٥.

٢ ـ النساء / ٦٥.

٣ ـ النساء / ١٧١.

٤ ـ «م» : الإيمان.

٥ ـ الأنعام / ٧٩.

٦ ـ الإسراء / ٣٩.

٧ ـ القصص / ٨٨.

١١٧

الوجوه فقد وصل إلى مرتبة التوحيد. وليس المراد من الاتّحاد ما توهّمه جماعة قاصروا النظر ، وهو أن يتّحد العبد بالله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. بل هو أن لا ينظر إلّا إليه من غير أن يتكلّف ويقول : كلّ ما عداه قائم به ، فيكون الكلّ واحدا. بل من حيث إنّه إذا صار بصيرا بنور تجلّيه لا يبصر إلّا ذاته تعالى لا الرائي ولا المرئيّ به. قالوا : ومن هذا قول من قال : أنا الحقّ. ومن قال : سبحاني ما أعظم شاني. لم يدّع الإلهيّة ، بل ادّعى (نفي إنّيّته بسلب إنّيّة غيره) (١).

السادس : الوحدة. قالوا : وحدة الشيء أبلغ من اتّحاده ؛ فإنّ الاتّحاد صيرورة الشيئين واحدا ، وفيه شمّة من كثرة ليست في الوحدة. وفي هذا المقام يعدم كلّ شيء من الكلام والذكر والحركة والسير والسلوك ، والطلب والطالب والمطلوب. «إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا» (٢). ولم يبق بعد ذلك إلّا مرتبة الفناء في التوحيد (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣). لا يكون في الوحدة شيء من الامور المذكورة ولا غيرها (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) (٤).

قال : إلّا أنّ ذلك قباء لم يخط على قدّ كلّ ذي قدّ ، ونتائج لم يعلم مقدّماتها كلّ ذي جدّ ، بل (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) (٥). جعلنا الله وإيّاكم من السالكين لطريقه ، المستحقّين لتوفيقه ، المستعدّين لإلهام الحقيقة بتحقيقه ، المستبصرين بتجلّي هدايته وتدقيقه.

أقول : لمّا ذكر كيفيّة المجاهدات في السير المسمّى ب «السلوك» طلبا لاقتناص الواردات والوصول إلى الكمالات ، قال : إلّا أنّ ذلك قباء لم يخط على قدّ كلّ ذي قدّ.

__________________

١ ـ ما بين القوسين في «ح» : نفي إنّيّته بسلب اثنينيّته غيره ، وفي «م» : نفي اثنينيّة بسبب إنّيّة غيره ، وفي «ن» «خ» : إنّيّته بسبب إنّيّة غيره. وما أثبتناه تلفيق من النسخ.

٢ ـ عن سليمان بن خالد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا سليمان إنّ الله يقول : (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا». الكافى ١ : ٩٢ / الحديث ٢ ، المحاسن ١ : ٢٣٧ / الحديث ٢٠٦ ، البحار ٣ : ٢٦٤.

٣ ـ القصص / ٨٨.

٤ ـ هود / ١٢٣.

٥ ـ المائدة / ٥٤.

١١٨

استعار لذلك المقام والتحلّي بتلك الأوصاف والتخلّي عن تلك العلائق لفظ القباء ، ورشّح تلك الاستعارة بقوله : لم يخط على قدّ كلّ ذي قدّ. ونتائج : أي واردات وعلوم فيضيّة. لم يعلم مقدّماتها : أي تلك المجاهدات وإزالة تلك العلائق وتنحية تلك العوائق ، كلّ ذي جدّ واجتهاد ، بل ذلك فضل ومنحة من الجناب القدسيّ يفيضه على من استعدّ لذلك الفيض ، بحكم : من استعدّ استحقّ. لكن ذلك الاستعداد لا يحصل في الأغلب إلّا مع مجاهدات عظيمة يتعارض فيها إلهامات إلهيّة وخواطر شيطانيّة. اتّباع الأولى خطر والخلاص من الثانية عسر ، وينجو (الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (١). فلا جرم كان تحصيل العلم بهذا الطريق أعزّ من الكبريت الأحمر. وحيث الحال كذلك ، فنسأل الله أن يجعلنا من السالكين لطريقه : أي الطريق الذي أمر به أنبياءه وأولياءه. المستحقّين : بالقيام بأوامره والانتهاء عند زواجره. لتوفيقه : وهو جعل الأسباب متوافقة في حصول مسبّباتها ، بأن تحصل شرائطها وتنتفي موانعها.

قوله : والمستعدّين : الاستعداد هو التهيّؤ لحصول الأثر. والإلهام : إلقاء معنى في الرّوع بطريق الفيض. والتحقيق : هو جعل الشيء حقّا. والتجلّي : هو الظهور والانكشاف. والهداية : وجدان ما يوصل إلى المطلوب. والتدقيق : هو إمعان النظر في الشيء طلبا لتحقيقه ، ومقصود الفصل ظاهر.

__________________

١ ـ الأنبياء / ١٠١.

١١٩
١٢٠