الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

المنع منها ، ومما يشتمل عليها ، فلا يكون ممكن الوقوع عقلا وشرعا. وأن يكون المكلّف قادرا على فعله وعالما بما كلّف به ، أو متمكّنا من العلم. وأن يتوقّف على آلة تكون ممكنة.

وأمّا الشرائط العائدة إلى الربّ المكلّف فهي : علمه بصفات الفعل ، وقدر ما يستحقّ عليه من الجزاء ، وقدرته على إيصاله ، وانتفاء فعل القبيح عنه ، وإلّا لكان حصول الغرض من التكليف غير متيقّن.

قال : أصل ـ إذا علم البارئ تعالى أنّ العبيد لا يمتثلون التكليف إلّا بفعل حسن يفعله بهم (١) ، وجب صدوره عنه ؛ لئلّا ينتقض غرضه. ومثل ذلك يسمّى لطفا ، فيكون اللطف واجبا.

أقول : لمّا فرغ من الفرع الأوّل شرع في الفرع الثاني ، وهو اللطف. وعرّفه المتكلّمون بأنّه عبارة عن فعل يقرّب إلى فعل الطاعة وترك المعصية ، وليس له حظّ في التمكين ، ولا يبلغ الإلجاء (٢). فالفعل المقرّب جنس. وقولنا : «ليس له حظّ في التمكين». يخرج القدرة ؛ فإنّ الفعل بدونها ممتنع مع أنّ وجودها مقرّب أيضا. وقولنا : «ولا يبلغ الإلجاء» ؛ لأنّ التقريب متى أدّى إلى الإلجاء كان منافيا للتكليف ، فلا يجوز مجامعته له.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المعتزلة (٣) والإماميّة اتفقوا على وجوب اللطف عليه تعالى (٤) ،

__________________

١ ـ من الفصول النصيريّة.

٢ ـ قال السيّد المرتضى في «الذخيرة» : إنّ اللطف ما دعا إلى فعل الطاعة. وقال الشيخ الطوسيّ في «الاقتصاد» : اللطف في عرف المتكلّمين عبارة عمّا يدعو إلى فعل واجب أو يصرف عن قبيح. وعرّفه المحقق الطوسيّ في «تلخيص المحصّل» بأنّه عند المتكلّمين عبارة عن جميع ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، حيث لا يؤدّي إلى الإلجاء. وعرّفه العلّامة بأنّه ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ، ولم يكن له حظّ في التمكين ، ولم يبلغ حدّ الإلجاء. الذخيرة في علم الكلام : ١٨٦ ، الاقتصاد للطوسيّ : ٧٧ ، تلخيص المحصّل : ٣٤٢ ، كشف المراد : ٢٥٤ ، نهج المسترشدين : ٥٥.

٣ ـ اتّفقت المعتزلة بوجوب اللطف عليه تعالى ، وكثيرا ما يعبّرون عنه بفعل الأصلح. قال الشهرستانيّ في «الملل والنحل» : اتّفقوا على أنّ الله لا يفعل إلّا الصلاح والخير ، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وقال القاضي عبد الجبّار ، بعد نقل قول المجبّرة بعدم وجوب اللطف عليه تعالى : فأمّا عندنا فإنّ الأمر بخلاف ذلك. ثمّ استدلّ على وجوبه عليه تعالى. الملل والنحل : ٥٠ ، شرح الأصول الخمسة : ٥٢٠.

٤ ـ اعلم أنّ الإماميّة اتّفقوا على وجوب اللطف على الله بالمعنى المتقدّم ذكره. وذكروا له ثلاثة أقسام : أحدها : أن

١٤١

خلافا للأشاعرة (١). والدليل على حقيّة المذهب الأوّل : أنّه لو لم يجب لزم نقض الغرض ، لكن نقض الغرض سفه ممتنع على الحكيم ، فيكون اللطف واجبا وهو المطلوب. وأشار المصنّف إلى بيان الملازمة بأنّ البارئ تعالى إذا علم أنّ العبيد لا يمتثلون التكليف إلّا عند فعل حسن يفعله بهم ، مع تعلّق إرادته تعالى بوقوع الطاعة منهم وانتقاء المعصية عنهم ، فلو لم يفعل ذلك الفعل لكان ناقضا لغرضه.

ونظير ذلك في الشاهد أنّ إنسانا إذا تعلّق غرضه بحضور شخص وليمته ، وعلم أنّه لا يحضر إلّا عند نوع من الإرسال والبشاشة أو التلطّف ، ثمّ إنّه لم يفعل ذلك فإنّه يكون ناقصا لغرضه ، وهو ظاهر. وقد علم من هذا التقرير أنّ الفعل بدون اللطف ممكن ، وإنّما كان الغرض بعث داعية المكلّف على امتثال الأمر.

ثمّ اللطف قد يكون من فعل الله تعالى ، فيجب عليه كما قرّرناه. وقد يكون من فعل المكلّف ، فيجب عليه تعالى إشعاره به وإيجابه عليه. وقد يكون من فعل غيرهما ، فيجب عليه تعالى الإيجاب على ذلك الغير والتعويض ؛ لأنّ التكليف لمصلحة الغير بدون العوض عليه قبيح.

__________________

يكون من فعل الله تعالى ، فهذا يجب على الله فعله. وثانيها : أن يكون من فعل المكلّف ، فهذا يجب على الله أن يعرّفه إيّاه ويشعره به ويوجبه عليه. وثالثها : أن يكون من فعل غيرهما ، فهذا ما يشترط في التكليف بالملطوف فيه ؛ للعلم بأنّ ذلك الغير لفعل اللطف. الذخيرة في علم الكلام : ١٩٠ ، الاقتصاد للطوسيّ : ٧٩ ـ ٨٧ ، كشف المراد : ٢٥٤ ، نهج المسترشدين : ٥٥.

١ ـ الأشاعرة قائلون بأنّه لا يجب عليه تعالى شيء ما بالعقل ، لا الصلاح ولا الأصلح ولا اللطف ، وأصل التكليف لم يكن واجبا. المعتمد في أصول الدين : ١١٦ ، الملل والنحل ١ : ٩٣.

١٤٢

الفصل الثالث : في النبوّة والإمامة

١٤٣
١٤٤

قال : الفصل الثالث : في النبوّة والإمامة.

أصل ـ إذا كان الغرض من خلق العبيد مصلحتهم ، فتنبيههم على مصالحهم ومفاسدهم ـ ممّا لا تستقلّ عقولهم بإدراكه ـ لطف واجب. وأيضا إذا أمكن ، بسبب كثرة حواسّهم وآلاتهم واختلاف دواعيهم وإراداتهم ، وقوع الشرّ والفساد في أثناء ملاقاتهم ومعاملاتهم ، فتنبيههم على كيفيّة معاشرتهم ، وحسن معاملتهم ، وانتظام امور معاشهم ـ التي تسمّى شريعة ـ لطف واجب. ولمّا كان البارئ تعالى ، غير قابل للإشارة الحسّيّة ، فتنبيههم بغير واسطة مخلوق مثلهم غير ممكن ، فبعثة الرسل واجبة.

أقول : النبوّة لغة مشتقّة إمّا من الإنباء وهو الإخبار ، أو من النّبوّ وهو العلوّ (١) واصطلاحا : رئاسة لشخص إنسانيّ مؤيّد من الله بمعجزات ربّانيّة وعلوم إلهيّة مستغن فيها عن واسطة بشر (٢).

__________________

١ ـ النبيّ ، إمّا مأخوذ من النّبإ ، لإنبائه عن الله تعالى ، فهو فعيل بمعنى فاعل مهموز اللام. وإمّا مأخوذ من النّبوّ بمعنى الارتفاع ، فهو فعيل بمعنى مفعول غير مهموز. لسان العرب ١ : ١٦٣ ، المصباح المنير : ٥٩١ ، محيط المحيط : ٨٧٤.

٢ ـ إنّ النبوّة في الاصطلاح عرّفت بتعاريف يجمعها تعريف المصنّف ، وإليك نصّ التعاريف من العامّة والخاصّة. أمّا من العامّة : فقال القاضي عبد الجبّار : النبيّ هو المبعوث من جهة الله. وقال التفتازانيّ : الرسالة هي سفارة العبد بين الله تعالى وبين ذوي الألباب من خليقته ، ليزيح بها عللهم فيما قصرت عنه عقولهم من مصالح الدنيا والآخرة. وقال العلّامة القوشجيّ : النبوّة هو كون الإنسان مبعوثا من الحقّ إلى الخلق. شرح الأصول الخمسة : ٥٦٧ ، شرح العقائد النسفيّة : ١٦٤ ، شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٥٧.

وأمّا من الخاصّة : فقال الشيخ الطوسيّ : النبيّ في العرف هو المؤدّي عن الله تعالى بلا واسطة من البشر. الاقتصاد للشيخ الطوسيّ : ١٥١. وقال المحقّق الطوسيّ : النّبيّ إنسان مبعوث من الله إلى عباده ليكلّمهم ، بأن يعرّفهم ما يحتاجون إليه في طاعته والاحتراز عن معصيته. تلخيص المحصّل : ٤٥٥. وقال العلّامة الحلّي : النبيّ هو الإنسان المخبر عن الله بغير واسطة أحد من البشر. نهج المسترشدين : ٥٨.

١٤٥

واختلف في وجوبها ، فقال أصحابنا والمعتزلة بذلك (١) ، وخالفت الأشاعرة فيه (٢). وقد استدلّ المصنّف بوجهين :

الأوّل : أنّه لمّا ثبت أنّ أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، وأنّ الأغراض عائدة إلى عبيده ، وهي منحصرة فيما فيه مصالحهم ودفع مفاسدهم وذلك إمّا في معاشهم أو معادهم. ثمّ تلك المصالح والمفاسد قسمان :

أحدهما : ما يستقلّ عقولهم بدركه كوجود الصانع وصفاته وحكمته وحسن بعض الأشياء وقبح بعض. وهذا قد يفتقر فيه إلى التنبيه ؛ لجواز الغفلة واستيلاء الشهوة والغضب وسلطان الهوى ، فينغمر العقل في الملابس البدنيّة فلا يحصل المطلوب.

وثانيهما : ما لا يستقلّ ككثير من مصالح المعاش والأغذية والأدوية ، وكالعبادات وكيفيّاتها. وهذا ممّا يفتقر ضرورة إلى التنبيه عليه. والتنبيه في كلا القسمين لطف لهم ، وكلّ لطف واجب.

الثاني : أنّه لمّا كان الإنسان بحيث لا يستقلّ وحده بتحصيل مهمّات معاشه ، بل يفتقر إلى مشارك ومعاون في ذلك ، كان الاجتماع والملاقاة والمعاشرة ضروريّة ، فكانت مستلزمة لوقوع معاملة ومعاوضة.

ثمّ إنّه لمّا كان سلطان الشهوة والغضب مستوليين على الأشخاص ، ومحبّة كلّ لنفسه بحيث يحبّ الغبن ويكره الانغبان ، أمكن وقوع الشرّ والفساد بسبب ذلك في تلك

__________________

١ ـ إنّ أصحابنا الإماميّة لما أثبتوا وجوب اللطف على الله تعالى ، وأنّ أفعاله معلّلة بالأغراض ، وأنّ الغرض لا يعود إليه تعالى بل إلى العباد ، قالوا بوجوب بعث الرّسل. واستدلالهم عليه يرجع إلى هذين الأمرين. ينظر : أوائل المقالات للمفيد : ٤٤ ، الذخيرة في علم الكلام : ٣٢٣ ، الاقتصاد للطوسيّ : ١٥٢ ـ ١٥٣ ، نهج المسترشدين : ٥٨ ، كشف المراد : ٢٧١.

ووافقنا في ذلك المعتزلة ، فقال القاضي عبد الجبّار : إنّه قد تقرّر في عقل كلّ عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس ، وثبت أيضا أنّ ما يدعوا إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنّه واجب ، وما يصرف عن الواجب ويدعوا إلى القبيح فهو قبيح لا محالة ، ولم يكن في قوّة العقل ما يعرف به ذلك ، ولا يتمّ هذا المعنى إلّا بالرسل من عند الله تعالى. شرح الأصول الخمسة : ٥٦٤ ، شرح العقائد النسفيّة : ١٦٥ ، مذاهب الإسلاميّين ١ : ٤٨.

٢ ـ إنّ الأشاعرة خالفت الإماميّة والمعتزلة في وجوب البعثة على الله ؛ لأجل أنّ أفعاله تعالى عندهم غير معلّلة بالعلل والأغراض. ولذلك عبّروا في تعابيرهم بجواز إرسال الرسل. قال الآمديّ : مذهب أهل الحقّ أنّ النبوّات ليست واجبة أن تكون ولا ممتنعة أن تكون ، بل الكون وأن لاكون بالنسبة إلى ذاتها وإلى مرجّحها سيّان. وقد صرّح الباقلانيّ بأنّه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء. غاية المرام في علم الكلام للآمديّ : ٣١٨ ، الإنصاف للباقلانيّ : ٩٢.

١٤٦

المعاملة ، فاقتضت الحكمة وجود سنّة عادلة قانونيّة يرجع إليها عند وقوع التنازع ، وإلّا لآل وقوع الشرّ والفساد إلى هلاك الأشخاص البشريّة المستلزم ذلك لارتفاع النوع ، المطلوب في الحكمة بقاؤه.

ثمّ تلك السّنّة المسمّاة شريعة لو فوّض تقريرها إلى الأشخاص لاستلزم التنازع المذكور أيضا ؛ لاختلاف الآراء والأهواء في تقريرها. فوجب كونها صادرة عن الجانب الإلهيّ.

ثمّ إنّه لمّا لم يكن البارئ تعالى قابلا للإشارة الحسّيّة والمواجهة والمخاطبة وجب وجود واسطة بينه وبينهم ، له وجه روحانيّ لتلقّي الوحي الإلهيّ ، ووجه جسمانيّ يخاطب به الأشخاص البشريّة ، وذلك هو النبيّ. فوجود النبيّ لطف ضروريّ في بقاء النوع ، فكان واجبا.

قال : أصل ـ امتناع وقوع القبائح والإخلال بالواجبات عن الرّسل ، على وجه لا يخرجون عن حدّ الاختيار ـ لئلّا تنفر عقول الخلق عنهم ، ويثقون بما جاءوا به ـ لطف. فيكون واجبا ، ويسمّى هذا اللطف عصمة ، فالرسل معصومون.

أقول : لمّا فرغ من وجوب وجود النبيّ شرع في ذكر صفاته ، وقد ذكر منها وجوب العصمة. وقد اختلف الناس في ذلك ، فقال الخوارج (١) بجواز صدور الكفر عنهم ؛

__________________

١ ـ الخوارج جمع الخارجة ، وهم الذين نزعوا أيديهم عن طاعة ذي السلطان من أئمّة المسلمين ، وبالخاصّة هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، ولأنّه رضي بالتحكيم فرفضوه كما رفضوا معاوية. ويقال لهذه الطائفة : الخوارج ، والحروريّة ، والنّواصب ، والشّراة.

أمّا الخوارج ، لأنّهم خرجوا على أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأمّا الحروريّة ، فنسبته إلى حروراء ، وهي قرية بظاهر الكوفة ، وبها كان أوّل تحكيمهم واجتماعهم حين خالفوا عليّا عليه‌السلام.

وأمّا النواصب ، فجمع ناصبيّ ، وهو الغالي في بغض عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وأمّا الشّراة ـ جمع شار ـ سمّوا أنفسهم بذلك يزعمون أنّهم باعوا أنفسهم لله على أنّ لهم الجنّة. يشيرون بذلك إلى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ). التوبة / ١١١. وهم فرق ، منهم : المحكّمة ، والأزارقة ، والنّجدات ، والأباضيّة. المقالات والفرق : ١٣٠ ، مقالات الإسلاميّين ١ : ١٥٦ ، الملل والنحل ١ : ١٠٥.

١٤٧

لاعتقادهم أنّ كلّ ذنب صدر عمدا فهو كفر ، وجوّزوا عليهم تعمّد الذنوب (١) ، (٢).

وقال أصحاب الحديث (٣) وجمهور الأشعريّة والحشويّة (٤) : يجوز عليهم ما عدا الكفر من المعاصيّ ، إلّا الكذب في أداء الرسالة (٥).

وقالت المعتزلة والزيديّة (٦) بجواز الصغائر عليهم ، ثمّ اختلفوا : فعند بعضهم يجوز

__________________

١ ـ «م» «ن» : الكذب.

٢ ـ أجمعت الأمّة على أنّ الأنبياء معصومون عن الكفر والبدعة إلّا الفضيليّة من الخوارج ، فإنّهم يجوّزون الكفر على الأنبياء عليهم‌السلام. وذلك أنّ عندهم يجوز صدور الذنب عنهم ، وكلّ ذنب فهو كفر عندهم ، فبهذا الطريق جوّزوا صدور الكفر عنهم. مقالات الإسلاميّين ١ : ١٥٧ ـ ١٨٣ ، التبصير في الدين : ٤٦ ، الأربعين للرازيّ : ٣٢٩ ، كشف الفوائد في شرح القواعد : ٧٣ ، شرح المقاصد : ١٩٣.

٣ ـ إنّما سمّوا أصحاب الحديث ، لأنّ عنايتهم بتحصيل الأحاديث ، ونقل الأخبار ، وبناء الأحكام على النصوص ، ولا يرجعون إلى القياس الجليّ والخفيّ ما وجدوا خبرا أو أثرا. وهم أصحاب مالك بن أنس ومحمّد بن إدريس الشافعيّ ، وأصحاب سفيان الثوريّ ، وأصحاب داود بن عليّ بن محمّد الأصفهاني الظاهريّ. الملل والنحل ١ : ١٨٧.

٤ ـ الحشو في اللغة : ما يملأ به الوسادة. وفي الاصطلاح : عبارة عن الزائد الذي لا طائل تحته. وسمّيت الحشويّة حشويّة ، لأنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المرويّة عن رسول الله ، أي يدخلونها فيها وليست منها.

وجميع الحشويّة يقولون بالجبر والتشبيه ، وأنّ الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر. وهذا اللقب لقب تحقير اطلق عليهم ، وهم فرقه من أصحاب الحديث. التعريفات ، للجرجانيّ : ٣٩ ، دائرة المعارف الإسلاميّة ٧ : ٤٣٩.

٥ ـ إنّ أصحاب الحديث والحشويّة يتّفقون في كثير من المسائل ، ولذلك أردفهم العلماء في كتبهم الكلاميّة. فقال السيّد المرتضى في الذخيرة : أجاز الحشويّة وأصحاب الحديث على الأنبياء الكبائر سوى الكذب في حال النبوّة ، وجوّزوا الجميع قبل النبوّة. وقال القاضي عبد الجبّار في شرح الأصول الخمسة : الحشويّة جوّزوا صدور الكبيرة على الأنبياء قبل البعثة وبعدها ، ويتمسّكون بأباطيل لا أصل لها. وقال المصنّف في اللوامع : جوّز الحشويّة وأصحاب الحديث عليهم الإقدام على الكبيرة والصغيرة ولو عمدا ، قبل النبوّة وفي ما بعدها. الذخيرة في علم الكلام : ٣٣٨ ، شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ، اللوامع الإلهيّة : ١٧٠.

واعلم أنّ الاختلاف بين الإماميّة والأشاعرة ، في أنّ الإماميّة قائلون بعصمة الأنبياء من جميع المعاصي كبيرها وصغيرها ، عمدا وسهوا وخطأ وتأويلا ، قبل النبوّة وبعدها ، من أوّل العمر إلى آخره. والأشاعرة قائلون بأنّهم معصومون في زمان النبوّة عن الكبائر والصغائر ، وأمّا قبل النبوّة فلا يلزم أن يكون معصوما.

وصرّح التفتازاني والقوشجيّ بلزوم عصمتهم عمّا ينافي مقتضي المعجزة كالكذب في التبليغ. ثمّ قال : والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مطلقا.

وقال المصنّف في اللوامع : أمّا الأشاعرة فمنعوا الكبائر مطلقا حال النبوّة ، وأمّا قبلها فجوّزوا جميع المعاصي عمدا وسهوا إلّا الكفر. الأربعين للرازيّ : ٣٣١ ، شرح المقاصد : ١٩٣ ، شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٥٩ ، اللوامع الإلهيّة : ١٧١.

٦ ـ الزيديّة ، هم المنسوبون إلى زيد ، بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام. وهم ثلاث ـ

١٤٨

على سبيل السهو لا العمد ، لكن لعلوّ درجتهم لا يؤاخذون بها. وعند بعضهم : يجوز على سبيل القصد ، لكنّها تقع محبطة بكثرة ثوابهم. وعند بعضهم أنّه يجوز على سبيل التأويل كما تأوّل آدم عليه‌السلام حمل النهي عن النوع بإرادة الشخص ، فجوّز غيره من الأشخاص (١). واتفق هؤلاء كلّهم على اختصاص المنع بزمان النبوّة لا قبلها.

وقال أصحابنا الإماميّة : إنّهم معصومون من أوّل العمر إلى آخره من الذنوب كلّها ، صغائر وكبائر ، عمدا وسهوا ، وهو الحقّ. وكلام المصنّف رحمه‌الله ينحلّ إلى مسألتين :

الأولى : في معنى العصمة ، هو أنّها لطف يمتنع معه وقوع القبائح والإخلال بالواجبات لا على جهة الجبر بل مع بقاء الاختيار (٢). فاللطف جنس ، وقولنا : يمتنع ... إلى آخره ، فصل يخرج به باقي الألطاف ، فإنّه مع تقريبها يجوز معها المخالفة بخلاف العصمة. وقولنا : لا على جهة الجبر ... إلى آخره ، ليس من تمام الحدّ ، بل هو ردّ على كلّ من حكم بأنّ المعصوم لا يقدر على المعصية ، وهو قول أبي الحسن الأشعريّ (٣).

__________________

فرق : الجاروديّة ، والسّليمانيّة ، والبتريّة. وأكثرهم يرجعون في الأصول إلى الاعتزال وفي الفروع إلى مذهب أبي حنيفة ، إلّا في مسائل قليلة. المقالات والفرق : ١٤٩ ، الفرق بين الفرق : ١٦ ، شرح المواقف : ٦٢٨.

١ ـ إنّ آدم عليه‌السلام أوّل النهي عن الشجرة بالنهي عن الشخص ، وكان المراد النوع ؛ فإنّ الإشارة قد تكون إلى النوع كقوله : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به». حيث إنّ المراد منه نوع الوضوء. نهج المسترشدين : ٣٠٤.

٢ ـ واعلم أنّ الإماميّة قائلون بالعصمة بالمعنى الذي ذكره المصنّف ، وإليك نصّ عباراتهم :

قال أبو إسحاق بن إبراهيم بن نوبخت في كتابه «الياقوت» : العصمة لطف يمنع من اختصّ به من الخطاء ولا يمنعه على وجه القهر ، وإلّا لم يكن المأثوم مثابا. أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٩٥. وقال الشيخ المفيد : العصمة من الله لحججه هي التوفيق واللطف ، والاعتصام من الحجج بهما عن الذنوب والغلط في دين الله تعالى. والعصمة تفضّل من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته. وليست العصمة مانعة من القدرة على القبيح ، ولا مضطرّة للمعصوم إلى الحسن ، ولا ملجئة له إليه. أوائل المقالات : ٢١٤.

وقال المحقّق الطوسيّ : العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه المعاصي ، من غير إجبار له على ذلك. قواعد العقائد : ٣١. وقال العلّامة الحلّي : هي عبارة عن لطف يفعله الله تعالى بالمكلّف ، لا يكون له معه داع إلى المعصية ، وإلى ترك الطاعة ، مع قدرته عليهما. أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٩٦ ، كشف الفوائد في شرح القواعد : ٧٣.

٣ ـ فسّر أبو الحسن الأشعريّ العصمة بالقدرة على الطاعة وبعدم القدرة على المعصية. فالمعصوم عنده من يكون قادرا على الطاعة لا غير ، أو غير قادر على المعصية. وقد صرّح التفتازانيّ بأنّ العصمة عندنا عبارة عن أن لا يخلق الله الذنب في العبد. تلخيص المحصّل : ٣٦٨ ، أنوار الملكوت في شرح الياقوت : ١٩٦ ، شرح العقائد النسفيّة : ١٨٤ ـ ١٨٥.

١٤٩

وبعضهم قال : إنّه لا يتمكّن من المعصية لخاصيّة نفسانيّة أو بدنيّة تقتضي امتناع المعصية منه (١). والحقّ خلاف ذلك ؛ إذ لو كان مسلوب الاختيار لزم أن لا يستحقّ مدحا ولا ثوابا. واللازم كالملزوم في البطلان ، والملازمة ظاهرة.

الثانية : الدليل على وجوب عصمة الرّسل أنّ حصولها لطف وشرط في حصول اتّباعهم ، واللطف الذي هو شرط في الواجب واجب ، فالعصمة واجبة.

أمّا الصغرى ، فلأنّه على تقدير عدم العصمة تنفر القلوب والعقول عن الرسل ، ويحصل الاستنكاف عن اتّباعهم. وأيضا لم يحصل الوثوق بإخبارهم عن الله تعالى ؛ لجواز الكذب عليهم حينئذ ، فلم يحصل الانقياد لهم. ومع وجودها يكون الأمر بخلاف ذلك ، فيكون العصمة لطفا ، وذلك هو المطلوب.

وأمّا الكبرى ، فلأنّه لو لم يجب ما يتوقّف عليه الواجب لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، وهو باطل.

قال : مقدّمة ـ كلّ مبعوث من حضرته تعالى إلى قوم ، لو (٢) لم يتأيّد بأمر خارق للعادة خال عن المعارضة مقرون بالتحدّي موافق لدعواه ، لم يكن لهم طريق إلى تصديقه ، ويسمّى ذلك معجزة. فظهور معجزات الرسل واجب.

أقول : قيل : لو قدّم هذا البحث على ما قبله لكان أولى ؛ لأنه شرط في أصل النبوّة ، والعصمة شرط في الاتّباع ، وهو في المرتبة الثانية. وفيه نظر لأنّ الأمر بالعكس ، لأنّ العصمة وصف ذاتيّ في النبيّ يجب تحقّقه ليجوز بعثته ، فيكون حصول اتّباعه الذي يحصل بخلق المعجز بعده. ويمكن أن يقال : إنّ وجوب المعجز شرط متّفق على وجوبه ، بخلاف العصمة. وبالجملة لا مشاحّة في تقديم أيّهما كان مع اتّفاقهما في الشرطيّة.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ في كلام المصنّف فائدتين :

__________________

١ ـ قد نسب إلى بعض العامّة أنّ العصمة خاصيّة في بدن المعصوم أو في نفسه لا يتمكّن معها على المعصية. قال في تلخيص المحصّل : منهم من زعم أنّها مختصّة في بدن المعصوم أو في نفسه ، تقتضي امتناع إقدامه على المعاصي. ونقل التفتازانيّ عن بعضهم أنّها خاصيّة في نفس الشخص أو بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه. تلخيص المحصّل : ٣٦٨ ، شرح العقائد النسفيّة : ١٨٥.

٢ ـ من الفصول النصريّة.

١٥٠

الأولى : تعريف المعجز ، وهو أمر خارق للعادة ، خال عن المعارضة ، مقرون بالتحدّي ، موافق لدعوى الآتي به. وإنّما قلنا : «أمر» ولم نقل : «فعل» ؛ ليعمّ الإثبات والنفي فالإثبات كجعل العصا حيّة ، والنفي كسلب القدرة ، وغير ذلك. فهنا قيود :

الأوّل : خرق العادة ؛ فإنّه لو لم يكن خارقا كطلوع الشمس من المشرق لم يدلّ على الصدق. وخرقه للعادة قد يكون في جنسه كما قلنا ، وقد يكون في صفته كفصاحة القرآن.

الثاني : خلوّه عن المعارضة ؛ فإنّه لو لم يخل عن المعارضة ، بل كان مقدورا ، لم يدلّ على التصديق كالسحر والشّعبذة.

الثالث : اقترانه بالتحدّي ، أي طلب المعارضة ؛ ليخرج كرامات الأولياء ، والإرهاص الذي يفعله الله تعالى للدلالة على قرب مجيء نبيّ (١). وكذا ما يفعله تكذيبا ، كقصّة فرعون وإبراهيم فإنّه لمّا جعل الله النار بردا وسلاما على إبراهيم قال هو : أنا جعلتها بردا وسلاما! فجاءته نار فأحرقت نصف ذقنه لا غير.

الرابع : مطابقته للدعوى ؛ فإنّه لو لم يطابق لم يدلّ أيضا ، كقصّة مسيلمة (٢) لمّا دعا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لأعور فردّ الله عينه ، فقال : أنا أدعو له. فدعا فذهبت عينه الموجودة!

الثانية : إنّه يجب خلق المعجزة على يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لمّا تساوت أشخاص الإنسان في صلاحيّة النبوّة لم يكن الدالّ على تعيين النبيّ إلّا المعجز ، فيكون خلقه

__________________

١ ـ الإرهاص في اللغة : تأسيس البنيان. وفي الاصطلاح : قسم من الخوارق ، أو الخارق الذي يظهر من النبيّ قبل البعثة ، أي الأمر الخارق العادة الذي يظهر من النبيّ قبل ظهور بعثته. سمّي به لأنّ الإرهاص بناء البيت ، فكأنّه بناء بيت إثبات النبوّة.

وقد ظهرت الخوارق قبل نبوّة نبيّنا ، كالنور الذي في جبين آبائه ، وكقصّة أصحاب الفيل.

اللوامع الإلهيّة : ٢١٢ ، كشّاف اصطلاحات الفنون ١ : ٥٦٣ ، محيط المحيط : ٣٣٥.

٢ ـ مسيلمة الكذّاب قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن أسلم ، ثمّ ارتدّ لمّا رجع إلى بلده ، وادّعى النبوّة فاتّفقت معه بنو حنيفة إلّا القليل ، وغلب على اليمامة. فكتب ثمامة ـ عامل رسول الله على اليمامة ـ بخبره إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أرسل أبو بكر إليه عسكرا بقيادة عكرمة بن أبي جهل وقوّاه بخالد بن الوليد وقاتلوا قتالا شديدا حتى قتل مسيلمة ونحو عشرين ألفا من أتباعه. اشترك في قتله وحشيّ وأبو دجانة. وكان وحشيّ يقول : قتلت خير الناس وشرّ الناس : حمزة ومسيلمة. وقتل جمع كثير من الصحابة والمسلمين. وكانت حرب اليمامة سنة ١١ أو ١٢ ه‍. تاريخ الطبريّ ٢ : ٥٠٥ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٤ ، شذرات الذهب ١ : ٢٣ ، بحار الأنوار ٢١ : ٤١٣.

١٥١

واجبا ، وهو المطلوب.

قال : أصل ـ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الله ، لأنّه ادّعى النبوّة ، وأظهر المعجزة. أمّا الدعوى فمعلومة بالتواتر. وأمّا المعجزة فكثيرة ، وأظهرها القرآن ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله تحدّى به العرب ، وعجزوا عن معارضته ، مع توفّر دواعيهم وفرط فصاحتهم. وإلى الآن لم يقدر أحد من الفصحاء على تركيب كلمات على منواله ، فيكون معجزة ، فيكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا حقّا.

أقول : سيّدنا محمّد بن عبد الله بن عبد المطلّب نبيّ حقّ ؛ لأنّه ادّعى النبوّة وظهر المعجز على يده ، وكلّ من كان كذلك فهو صادق في دعواه. والمصنّف رحمه‌الله لم يورد الكبرى إمّا لظهورها أو لكونها معلومة من البحث السابق ، أمّا الصغرى فقد اشتملت على دعويين :

الأولى : دعواه النبوّة ، وهو معلوم بالتواتر المفيد للعلم ضرورة.

الثانية : أنّه ظهر المعجز على يده ، وهو كثير كانشقاق القمر (١) ، ونبوع الماء من بين أصابعه (٢) ، وإطعام (٣) الخلق الكثير من الطعام القليل (٤) ، والإخبار بالغيب (٥) ، وكلام الحيوان الأعجم إلى غير ذلك (٦). وأظهرها القرآن العزيز الباقي ؛ فإنّه معجزة لأنّه تحدّى به العرب وعجزوا عن معارضته. أمّا تحدّيه ـ أي طلب الإتيان بمثله ـ فلأنّه بلّغ ما أمره به ربّه في قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٧). (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) (٨). إلى غير ذلك ، وأمّا عجزهم فلأنّه أمرهم باتّباعه فأبوا ذلك ، فخيّرهم بين الإتيان بمثل القرآن أو مناجزة القتال ، فاختاروا القتال الذي هو أشقّ عليهم من الإتيان بمثله ، مع أنّ الإتيان بمثله كان

__________________

١ ـ إعلام الورى : ٣٨ ، بحار الأنوار ١٧ : ٣٤٧.

٢ ـ إعلام الورى : ٣٢ ، بحار الأنوار ١٧ : ٢٩٩.

٣ ـ «م» وإشباع.

٤ ـ إعلام الورى : ٣٦ ، بحار الأنوار ١٧ : ٣٣٠.

٥ ـ إعلام الورى : ٤١ ـ ٤٥ ، بحار الأنوار ١٨ : ١٠٥.

٦ ـ إعلام الورى : ٣٥ ، بحار الأنوار ١٧ : ٣٩.

٧ ـ البقرة / ٢٣.

(٨) ـ هود / ١٣.

١٥٢

أسهل عليهم ؛ لأنّهم أهل الكلام والفصاحة المفرطة. فعدولهم إلى الأشقّ مع إفادة الأسهل دليل ظاهر على عجزهم ؛ إذ العاقل لا يختار ذلك حال قدرته واختياره. هذا مع أنّه إلى الآن لم يقدر أحد من الفصحاء والبلغاء على تركيب كلمات على منواله أو على ما يقاربه ، فيكون معجزة ، وذلك هو المطلوب.

فائدة : اختلف في علّة إعجاز القرآن ، قيل : للصّرفة. بمعنى أنّ الله تعالى سلب قدرة العرب أو علومهم أو دواعيهم عن الإتيان بمثله.

وقيل : لأنّه اسلوب خاصّ غير معهود لهم.

وقيل : لفصاحته البالغة.

وقيل : لاشتماله على الفصاحة والبلاغة والعلوم الشريفة. وهو الحقّ (١) وتحقيق ذلك

__________________

١ ـ اعلم أنّه لمّا كان القرآن الكريم هو المعجزة الخاصّة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وآية رسالته الباقية ـ وإن كان قد أيّده الله تعالى أيضا بغيره من المعجزات والأعلام الظاهرات ـ اهتمّ المسلمون من الصدر الأوّل بالبحث عما يتعلّق به. ومن مهمّات ذلك البحث عن وجه إعجازه وأنّه هل هو فصاحته الخارقة العادة؟ أو بلاغة معانيه؟ أو نظمه الخارج عن معهود النظم في كلام سائر البلغاء؟ أو عدم وقوع اختلاف ومناقضة فيه؟

ومن الأقوال المعروفة في وجه إعجازه ، القول بالصّرفة الذي اختاره جمع من المتكلّمين. وقد ذكروا في تفسيره احتمالات :

الأوّل : أنّ المراد به أنّ الله صرف دواعي أهل اللسان عن معارضته مع حصول تلك الدواعي لهم. وهو اختيار المفيد حيث قال : إنّ جهة إعجاز القرآن هو الصّرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بمثله في النظام عند تحدّيه لهم ، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم ـ دليلا على نبوّته. أوائل المقالات : ٦٨.

الثاني : أنّ الله تعالى سلب عنهم العلوم التي كانوا يتمكّنون بها عن معارضة القرآن ويتأتّى لهم الفصاحة المماثلة لفصاحته. وهذا هو الذي اختاره السيّد المرتضى ، قال : إنّ وجه دلالة القرآن على النبوّة أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضته ، وسلبهم العلم الذي به يتمكّنون من مماثلة في نظمه وفصاحته ، ولو لا هذا الصرف لعارضوا. وإلى هذا الوجه أذهب ، وله نصرت في كتابي المعروف ب «الموضح عن جهة إعجاز القرآن». الذخيرة في علم الكلام : ٣٧٨.

وقال الشيخ الطوسيّ : إنّ جهة إعجازه اختصاصه بالعلوم التي يأتي منه بها هذه الفصاحة. الاقتصاد ، للشيخ الطوسيّ : ١٥٦. وقال العلّامة الحلّيّ : إنّ جهة إعجازه هو الفصاحة والاسلوب معا. كشف المراد : ٢٨١.

وقال كمال الدين ميثم : الحقّ أنّ وجه الإعجاز هو مجموع الامور الثلاثة ، وهي : الفصاحة البالغة ، والاسلوب ، والاشتمال على العلوم الشريفة. قواعد المرام في علم الكلام : ١٣٢.

وقد ذكروا في وجه إعجاز القرآن امورا آخر ، كخلوّه من التناقض ، وعدم الاختلاف فيه ، وتأثيره في النفوس ، وإخباره بالمغيبات ، واشتماله على العلوم التي لا يبلغ إليها الأفراد العاديّة. ويمكن أن يكون جميع ذلك أوجها لإعجاز القرآن الكريم.

١٥٣

في المطوّلات.

وأمّا الكبرى فلوجهين :

الأوّل : أنّ المعجز لمّا كان من فعل الله تعالى لغرض التصديق لو لم يدلّ على صدق من ظهر على يده لاستلزم ذلك كذبه ، فكان إظهاره حينئذ تصديقا لذلك الكاذب ، وتصديق الكاذب قبيح عقلا محال على الحكيم تعالى.

الثاني : أنّا نعلم ضرورة أنّ شخصا لو حضر بين يدي ملك وقال : أنا رسول هذا الملك إليكم ، ودليل صدقي في دعواي رسالته أنّ الملك ينزل عن سريره أو يضع عمامته. ثمّ إنّ الملك فعل ذلك عقيب كلام ذلك الشخص ، فإنّ المخاطبين عند ذلك يضطرّون إلى تصديقه. كذلك النبيّ لمّا ادّعى النبوّة وأنّ الله يظهر على يده كذا ، فظهر كما قال ، فإنّ الضرورة حينئذ تلجئنا إلى تصديقه في دعواه.

قال : هداية ـ إذا كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّا حقّا ، يجب أن يكون معصوما ، فكلّ ما جاء به ممّا لا يعارضه العقل يجب تصديقه. وإن نقل عنه شيء ممّا عارضه لم يجز إنكاره ، بل يتوقّف فيه إلى أن يظهر سرّه. فشريعته (١) التي هي ناسخة للشرائع باقية ببقاء الدنيا ، يجب الانقياد لها ، والامتثال لأحكامها.

أقول : في هذه الهداية فوائد :

الأولى : أنّه لمّا ثبتت نبوّة سيّدنا رسول الله محمّد بن عبد الله وجبت عصمته ، وكلّ من وجبت عصمته استحال الكذب عليه ، فيكون هو كذلك. واذا استحال الكذب عليه يجب تصديقه في كلّ ما أخبر به عن الله سبحانه من الأحكام الشرعيّة والإخبار عن القرون الماضية وعن الأحوال الآتية يوم القيامة وغير ذلك.

الثانية : أنّ ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إمّا أن يكون موافقا للعقل أو مخالفا له. فالأوّل يجب تصديقه فيه لتعاضد النقل بالعقل ثمّ هذا الموافق قسمان :

أحدهما : حكم العقل بوجوبه.

وثانيهما : حكم العقل بجواز طرفيه : النفي والإثبات ، بحيث لم يحكم بامتناعه.

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : وشريعته.

١٥٤

وعلى كلّ تقدير يجب التصديق بذلك كلّه.

والثاني وهو المخالف للعقل فنقول : إذا تعارض العقل والنقل فلا يجوز العمل بهما وإلّا لزم الجمع بين النقيضين ، ولا ترك العمل بهما وإلّا لارتفع النقيضان ، ولا العمل بالنقل واطراح العقل وإلّا لزم اطراح النقل أيضا ؛ لأنّ العقل أصل للنقل لأنّه منتة إلى قول الرسول الثابت صدقه بالعقل ، فيكون أصلا له فلم يبق إلّا العكس ، وهو العمل بالعقل. وأمّا النقل فلا يطرح بل للعلماء في ذلك مذهبان :

أحدهما : أن يتوقّف فيه إلى أن يظهر سرّه أو يفوّض علمه إلى الله تعالى.

وثانيهما : أن يؤوّل تأويلا لا ينكره العقل ، كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) فإنّ العقل يمنع ظاهر اليد لامتناع الحاسّة عليه تعالى ، والغرض أنّ النقل صحيح فحملنا اليد على القدرة ، وذلك لا ينكره العقل.

الثالثة : أنّ شريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ناسخة لجميع ما تقدّمها من الشرائع. والنّسخ هو رفع حكم شرعيّ بدليل آخر شرعيّ متراخ عنه ، على وجه لو لا الثاني لبقي الأوّل. وذلك جائز عقلا ؛ لأنّ الأحكام شرّعت لمصلحة العبيد ، والمصلحة قد تتغيّر فيتغيّر الحكم التابع لها ، كالمريض الذي تتغيّر معالجته بحسب تغيّر الأمراض المعتورة عليه. وواقع نقلا ، فإنّ الشرائع تشتمل على أحكام كثيرة فيها ناسخ ومنسوخ. هذا وقد جاء في التوراة أحكام كثيرة دخلها النّسخ يطول الكلام بذكرها ، فبطل قول اليهود لعنهم الله بعدم جوازه. ومع ذلك كلّه لمّا ثبتت نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالأدلّة المذكورة ولا شكّ أنّ ذلك يستلزم نسخ جميع ما تقدّمها فيكون كذلك ، وهو المطلوب.

الرابعة : أنّ شريعة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله باقية ببقاء الدنيا لا يتطرّق النسخ إلى جملتها بشريعة غيرها ؛ لقوله تعالى : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا نبيّ بعدي» (٣). ولإجماع المسلمين على ذلك.

__________________

١ ـ الفتح / ١٠.

٢ ـ الاحزاب / ٤٠.

٣ ـ الطرائف لابن طاوس : ٥١ ، ذيل إحقاق الحقّ ٥ : ١٥٧ ، مسند أحمد ٣ : ٣٢ ، وج ٦ : ٣٦٩ ، ٤٣٨ ، مجمع الزوائد ٩ : ١٠٩ ، ١١٠.

١٥٥

الخامسة : أنّه يجب الانقياد والامتثال لشريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله لقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١). وذلك عامّ بالنسبة إلى كلّ الأشخاص الإنسانيّة ، لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (٢).

قال : أصل ـ لمّا أمكن وقوع الشرّ والفساد وارتكاب المعاصي بين الخلق ، وجب في الحكمة وجود رئيس قاهر ، آمر بالمعروف ، ناه عن المنكر ، مبيّن لما خفي على الأمّة من غوامض الشرع ، منفّذ لأحكامه ؛ ليكونوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد ، ويأمنوا من وقوع الفتن ، فكان وجوده لطفا. وقد ثبت أنّ اللطف واجب عليه تعالى ، وهذا اللطف يسمّى إمامة ، فتكون الإمامة واجبة.

أقول : لمّا فرغ من بحث النبوّة شرع في بحث الإمامة ، ولمّا كان التصديق بشيء مسبوقا بتصوّره وجب تعريف الإمام أوّلا ثمّ النظر في أحكامها ، فنقول :

الإمامة : رئاسة عامّة في امور الدين والدنيا لشخص إنسانيّ على وجه التّبع والخلافة. فالرئاسة جنس قريب لها ، وتقييدها بالعموم فصل يخرج به رئاسة القضاة والولاة في بلد خاصّ أو حال خاصّ ، وقولنا : «في امور الدين» خرجت رئاسة ملك عمّت رئاسته الدنيا خاصّة ، وقولنا : «والدنيا» خرج رئاسة العلماء ، وقولنا : «لشخص إنسانيّ» التنوين فيه للوحدة ، ففيه إشارة إلى وجوب وحدة الإمام في كلّ عصر ، وأنّه شخص معهود معيّن لا أيّ شخص كان ، وقولنا : «على وجه التبع والخلافة» لتخرج النبوّة ؛ فإنّها أيضا رئاسة عامّة على الوجه المذكور ، فلا بدّ من فصل يخرجها.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الناس اختلفوا في وجوب نصب الإمام ، فأنكره بعض الخوارج (٣) ، وقال بوجوبها أكثر الناس. ثمّ اختلف القائلون بوجوبها في أنّه هل هو عقليّ أو

__________________

١ ـ النساء / ٦٥.

٢ ـ سبأ / ٢٨.

٣ ـ قالت النجديّة من الخوارج : إنّ الأمّة غير محتاجة إلى الإمام ولا غيره ، وإنّما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم. وهم أصحاب نجدة بن عامر الحنفيّ. فرق الشيعة للنوبختيّ : ١٠ ، مقالات الإسلاميّين ١ : ١٦٢ ، الملل والنحل ١ : ١١٢.

١٥٦

سمعيّ؟ فقال الأشاعرة وأكثر المعتزلة بالثاني ، وقال أبو الحسين البصريّ والكعبيّ (١) والجاحظ (٢) وأصحابنا بالأوّل (٣) ، لكنّ أصحابنا قالوا : «على الله» ، أي يجب في حكمته تعالى نصب رئيس لنا ، واولئك قالوا : «على الخلق». أي يجب على الخلق نصب رئيس لدفع الضرر عنهم (٤).

والدليل على مذهب أصحابنا أنّ نصب الإمام لطف للمكلّفين ، واللطف واجب على الله تعالى ، فنصب الإمام واجب عليه ، أمّا الكبرى فقد سبقت ، وأمّا الصغرى فلوجهين :

الأوّل : أنّه لما استولى سلطان الشهوة والغضب على المكلّفين ومحبّة كلّ منهم لحصول مراده وكراهته لفواته وميل الطباع إلى الظلم ونفورها عن الانظلام ، أمكن وقوع الشرّ والفساد بينهم ، فيستولى بعضهم على بعض ويقع الهرج والمرج المؤدّيان إلى هلاكهم. وقد علم كلّ عاقل نزع الهوى عن قلبه علما تجربيّا أنّه متى كان رئيس قاهر آمر بالمعروف وناه عن المنكر آخذ على أيدي الجناة حاسم لجرأة الطغاة ، ارتفع ذلك الشرّ والفساد ، وكانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد ، وذلك هو المراد باللطف كما مرّ فيجب وجوده في الحكمة ، وهو المطلوب.

الثاني : أنّه قد تقدّم وجوب وجود شريعة قائمة بالعدل بين الخلق في سائر ما يحتاجون إليه ، وظاهر بيّن أنّ الكتاب العزيز غير مشتمل على كلّ حكم جزئيّ يحتاج إليه وكذلك متواتر السنّة ، فوجب وجود شخص حافظ لجزئيّات الأحكام ، مبيّن لغوامض

__________________

١ ـ عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبيّ ، من بني كعب ، البلخيّ الخراسانيّ ، أبو القاسم. أحد أئمّة المعتزلة. وكان رأس طائفة منهم تسمّى الكعبيّة. له كتب ، منها : التفسير. تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ ، الأعلام للزركليّ ٤ : ٦٥.

٢ ـ عمرو بن بحر بن محبوب الكنانيّ ، أبو عثمان ، الشهير بال «جاحظ». كبير أئمّة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظيّة من المعتزلة. له كتب كثيرة. تاريخ بغداد ١٢ : ٢١٢ ، الأعلام للزركليّ ٥ : ٧٤.

٣ ـ قالت الأشاعرة بوجوب نصب الإمام ، والطريق إلى معرفة هذا الوجوب السمع دون العقل. قال التفتازانيّ : نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوّة واجب علينا سمعا عند أهل السنّة وعامّة المعتزلة ، وعقلا عند الجاحظ والكعبيّ وأبي الحسين البصريّ. الأربعين للرازيّ : ٤٢٧ ، شرح المقاصد : ٢٧٣ ، شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٦٥.

٤ ـ بعض المعتزلة وإن وافقونا في وجوب نصب الإمام عقلا ، ولكن خالفونا في أنّه هل يجب على الله أو على العقلاء؟ فقالت المعتزلة بالثاني. وقالت الإماميّة بالأوّل ، واستدلّوا عليه بأنّ الإمام لطف ، واللطف واجب عليه تعالى عقلا ، فيجب عليه نصب الإمام. الذخيرة في علم الكلام : ٤١٠ ، تلخيص الشافي ١ : ٩٥ ، قواعد العقائد للمحقّق الطوسيّ : ٣٥ ، كشف المراد : ٢٨٤.

١٥٧

الشرع ، قائم مقام صاحب تلك الشريعة ، المتكفّل ببيانها وذلك هو الإمام ، فيكون وجوده لطفا وهو المطلوب. وهنا إيرادات كثيرة وجواباتها ذكرناها في كتاب «اللوامع» (١) ، من أرادها فليقف عليها.

قال : ولمّا كان علّة الحاجة إلى الإمام عدم عصمة الخلق وجب أن يكون الإمام معصوما ، وإلّا لم يحصل غرض الحكيم.

أقول : اختلف الناس في وجوب عصمة الإمام ، فنفاه الكلّ (٢) إلّا أصحابنا الإماميّة (٣).

واستدلّ المصنّف على الوجوب بأنّ العلّة الموجبة لنصب الإمام هي جواز الخطأ على المكلّفين ، لأنّه لو فرض عدم ذلك لما كان الوجوب حاصلا ، فإذا فرض الإمام جائز الخطأ وجب وجود رئيس له ، والكلام في الثاني كالكلام في الأوّل ، فيلزم وجود أئمّة غير متناهية وهو باطل لازم من جواز الخطأ على الإمام ، فلا يكون جائز الخطأ ، وذلك هو المراد بالعصمة فتكون العصمة واجبة ، وهو المطلوب.

قال : أصل ـ لمّا كانت عصمة الإمام ، غير مؤدّية إلى إلجاء الخلق إلى الصلاح ، أمكن وقوع الفتنة والفساد بسبب كثرة الأئمّة ، فيكون الإمام واحدا في سائر الأقطار ، ويستعين بنوّابه فيها.

أقول : الأكثر على أنّه لا يجوز تعدّد الأئمّة في زمان واحد خلافا للزيديّة ؛ فإنّهم جوّزوا قيام إمامين في عصر واحد في بقعتين متباعدتين إذا استجمعا لشرائط الإمامة (٤).

__________________

١ ـ اللوامع الإلهيّة : ٢٦٢.

٢ ـ جميع العامّة قائلون بعدم اشتراط العصمة في الإمام. قال التفتازانيّ في شرح المقاصد : من معظم الخلافيّات مع الشيعة اشتراطهم أن يكون الإمام معصوما ، واحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع على أنّهم لم يجب عصمتهم. وقال الرازيّ في الأربعين : قال أصحابنا والمعتزلة والزيديّة والخوارج : لا يجب أن يكون الإمام معصوما. وقالت الاثنا عشريّة : يجب. شرح المقاصد : ٢٧٩ ، الأربعين ، للرازيّ : ٤٣٣.

٣ ـ يشترط أصحابنا الإماميّة العصمة في الإمام ، واستدلّوا عليه بأنّ العلّة المقتضية لوجوب نصب الإمام جواز الخطأ على المكلّف ، فلو جاز عليه الخطأ لوجب افتقاره إلى إمام آخر ليكون لطفا له وللأمّة. الذخيرة في علم الكلام : ٤٢٩ ، قواعد العقائد ، للمحقّق الطوسيّ : ٣٩ ، نهج المسترشدين : ٦٣ ، كشف الفوائد : ٨٢.

٤ ـ الزيديّة جوّزوا خروج إمامين في قطرين يستجمعان هذه الخصال ، ويكون كلّ واحد منهما واجب الطاعة. الملل والنحل ١ : ١٣٨.

١٥٨

والحقّ خلافه ؛ لأنّ وجود الإمام نفسه غير ملجئ للخلق إلى دفع الفساد ؛ لما بيّنّا في تعريف اللطف أنّه لا يبلغ الإلجاء ، وحينئذ جاز وقوع الفتنة والفساد مع وجوده. فلو تعدّد لزم نقض الغرض من نصبه. إذ لو اجتمع في زمان واحد إمامان فرغب بعض الناس إلى أحدهما وبعضهم إلى الآخر ، والفرض أنّ كلّا منهما يجوز له عقد الإمامة لنفسه فيقتل مخالفيه ويقع الفساد.

وأيضا لو جاز قيام إمامين في زمان واحد لزم المحال ؛ لأنّهما متساويان فلا أولويّة لاتّباع أحدهما دون الآخر ، فإمّا أن يتّبعا معا وهو محال لجواز اختلافهما ، أو يتّبع أحدهما فيلزم الترجيح بلا مرجّح ، أو لا يتّبعا وهو باطل لوجوب وجود الرئيس المستلزم لوجوب اتّباعه.

إن قيل : إذا كان الإمام واحدا فكيف يكون حاله مع المكلّفين بعيدي الدار عنه؟

قلنا : يستعين بنوّابه على إنفاذ أوامره ونواهيه.

قال : هداية ـ لمّا كانت العصمة أمرا خفيّا لا يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب ، لم يكن للخلق طريق إلى معرفة المعصوم ، فيجب أن يكون منصوصا عليه من قبل الله تعالى ، أو من قبل نبيّ ، أو من قبل (١) إمام قبله.

أقول : اختلف الناس في الطريق إلى تعيين الإمام بعد اتّفاقهم على أنّ النصّ من الله أو من النبيّ أو من إمام قبله طريق إلى ذلك.

فقال أهل السنّة : يحصل أيضا بالبيعة والاختيار (٢).

وقال الزيديّة بالقيام والدعوة ، فعندهم الشرائط خمسة : العلم بأحكام الشرع ، والزهد ، والشجاعة ، والقيام والدعوة ، ويكون من ولد الحسنين عليهما‌السلام أو أحدهما (٣).

__________________

١ ـ من الفصول النصيريّة.

٢ ـ تثبت الإمامة عند أكثر الفرق باختيار أهل الحلّ والعقد وبيعتهم ، من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ، ولا عدد محدود ، بل ينعقد بعقد واحد منهم. الأحكام السلطانيّة ١ : ٢٣ ، غاية المرام في علم الكلام للآمديّ : ٣٧٦ ، الأربعين للرازيّ : ٤٣٨ ، شرح المقاصد : ٢٨١.

٣ ـ قال الزيديّة بالنصّ من النبيّ في الإمامة على عليّ عليه‌السلام ، والإمامة بعد الحسن والحسين في أولادهما بالشورى ، فمن خرج منهم بالسيف وهو عالم شجاع فهو إمام. الملل والنحل ١ : ١٣٨ ، شرح المواقف : ٦٢٨.

١٥٩

وقال أصحابنا : لا يحصل إلّا بالنصّ لا غير (١) ؛ وذلك لأنّ العصمة شرط في الإمام ـ كما تقدّم ـ وهي أمر خفيّ لا يطّلع عليه إلّا علّام الغيوب. وإنّما قلنا ذلك لأنّ صلاح الظاهر غير كاف في العصمة بل لا بدّ مع ذلك من صلاح الباطن ؛ لأنّ الأعمال في عرضة الرّياء والسّمعة والنّفاق ، فلو لا النصّ على العصمة لم يكن لنا طريق إلى معرفتها.

ثمّ النصّ قد يكون من الله تعالى ، وهو قسمان :

أحدهما قوليّ ، وهو اللفظ الدالّ على المراد دلالة ظاهرة بذاته وهو الجليّ ، أولا بذاته بل مع ضمّ مقدّمة أخرى أو مقدّمات وهو الخفيّ.

وثانيهما فعليّ ، وهو خلق المعجز على يده عقيب دعواه.

وقد يكون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو من إمام قبله. وهو قوليّ ينقسم إلى قسميه المذكورين ، وفعليّ كأفعال تشعر إشعارا ظاهرا بالدلالة على المعنى.

قال : مقدّمة ـ لمّا ثبت أنّ العصر لم يخل من إمام معصوم ، فكلّ أمر اتّفق عليه الأمّة في عصر ممّا لا يخالف العقل كان حقّا ، فإجماع الأمّة حقّ.

أقول : إنّما ذكر المصنّف هذه المسألة هنا لأنّها أحد مقدّمات الدليل الآتي. وإجماع الأمّة عبارة عن اتّفاق العلماء من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على أمر من الامور (٢). ولم يخالف في كونه حجّة أحد إلّا النّظّام (٣).

واستدلّ الجمهور على [حجّيّته] (٤) بقوله عليه‌السلام : «لا تجتمع أمّتي على خطأ» (٥). وأمّا

__________________

١ ـ أوائل المقالات : ٧٤ ، الذخيرة في علم الكلام : ٤٣٧ ، قواعد العقائد للمحقّق الطوسيّ : ٣٥ ، كشف المراد : ٢٨٨.

٢ ـ الإجماع هو الاتّفاق في عصر على أمر من الامور من جميع من هو أهله. وفي اصطلاح الاصوليّين : اتّفاق خاصّ ، وهو اتّفاق العلماء من أمّة محمّد. وعرّفه ابن حزم بأنّه ما تيقّن أنّ جميع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عرّفوه وقالوا به ، ولم يختلف منهم أحد.

واتّفق أكثر المسلمين على أنّ الإجماع حجّة شرعيّة يجب العمل به على كلّ مسلم ، خلافا للنّظّام من المعتزلة. رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الثانية) : ٢٦٢ ، المحلّى لابن حزم ١ : ٥٤ ، الإحكام في اصول الأحكام : ١٧٠ ، مفتاح الباب في شرح الباب الحادي عشر : ٧١ ، كشّاف اصطلاحات الفنون ١ : ٢٣٩.

٣ ـ إبراهيم بن سيّار بن هاني البصريّ ، أبو إسحاق النّظّام ، من أئمّة المعتزلة. انفرد بآراء خاصّة ، تابعته فيها فرقة من المعتزلة سمّيت «النظّامية». لسان الميزان ١ : ٦٧ ، الأعلام للزركليّ ١ : ٤٣.

٤ ـ في النسخ : حجّته ، والصواب ما أثبتناه.

٥ ـ الحديث ذكره ابن ماجة بلفظ «لا تجتمع أمّتي على ضلالة». والحاكم في المستدرك بلفظ «لا يجمع الله هذه

١٦٠