الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

٤١

٤٢

[مقدّمة المؤلّف]

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(اللهمّ وفّق لإكماله بمحمّد وكرم آله) (١)

سبحانك اللهمّ واجب الوجود ومبدأه وغاية وجود كلّ موجود. أنت أخرجتنا من مرتتق ظلام العدم إلى فضاء ضياء الوجود بقدرتك وإرادتك ، وعدلت مزاج أركان تراكيب خلقنا ، وأتقنت خلقها بحكمتك. اللهمّ وإذ رفعتنا من حضيض هيولى الإدراك بنور ملكة التحصيل إلى أوج استفادة ما أمكن من معرفة حقائق معلوماتك ، فأمطر على أنفسنا الناقصة من سحائب جود مواهبك وزلال عذب مناهلك ما ننخرط به في سلك أوليائك القائمين بمرضاتك. وصلّ اللهمّ على أشرف أوليائك وأفضل مخلوقاتك وأكمل أنبيائك في أرضك وسمائك محمّد وآله ، المخصوصين بمزايا خواصّك ومظهري صفاتك وأسمائك ، صلاة معادلة لآلائك ، باقية على مرّ الدّهر ببقائك.

أمّا بعد : فلمّا كان علم الكلام من بين هذه العلوم أوثق برهانا وأظهر تبيانا وأشرف موضوعا وأكمل اصولا وفروعا ، ولذلك استحقّ التقدّم على سائر العلوم ، وتنزّل منها منزلة الشمس من النجوم ، وصار للعلوم الشرعيّة أساسا ، ولكلّ واحد منها تاجا ورأسا ، وهو وإن كان بعيد الأغوار كثير الأسرار ، إلّا أنّ نقاوته الّتي يعوّل في التحصيل عليها ، وعقيلته الّتي ينتفع بها وتدعو الضرورة إليها ، ويجب على كلّ مكلّف استحضارها (٢) وفي كلّ آونة تكرارها وتذكارها ، ليقرّب إليه من السعادة جنّتها ويبعّد عنه من الشقاوة نارها ، قد ضمّنها الإمام الأعظم أفضل المحقّقين خواجة نصير الملّة والحقّ والدين : محمّد بن

__________________

١ ـ ليست في «م» ، «ح» : عليك اعتمادي يا كريم.

٢ ـ «خ» «ح» : استظهارها.

٤٣

محمّد بن الحسن الطوسيّ ـ قدّس الله نفسه وطهّر رمسه ـ في وريقات وإن كانت قليلة فهي في الفوائد جليلة ، وألفاظ وإن كانت يسيرة فهي في العوائد كثيرة ، وسمّاها ب «الفصول في الأصول» ولكونها باللغة الفارسيّة ألف بدرها الافول فلم تبزغ في أكثر الآفاق ، ولتراكم سحاب عجمتها لم تطلع شمسها بالعراق. ولمّا عرج إلى ساحة الغفران وانتقل إلى مقيل الرضوان استمرّت على ذلك برهة من الزمان ، إلى أن اتّفق للمولى المعظّم العلّامة السعيد والجدّ الحميد ركن الملّة والدين محمّد بن علي الجرجانيّ محتدا ، والأسترآباديّ منشأ ومولدا ـ قدّس الله روحه ونوّر ضريحه ـ الاستضاءة بأشعّة أنوارها ، والعثور على فوائدها وأسرارها ، فكساها من رياش لباس العربيّة ما صارت به شمسها في رائعة النهار ، وانجلى عن بدرها الآفل في منازل السير عائق الاستتار ، فعوّل عليها معظم الطلّاب ، ورغّب في تقرير مباحثها جماعة من الأصحاب لكنّها لاشتمالها على مباحث مستغلق على كثير من الطلّاب بابها ، وتوجيهات مرتتق على جمّ غفير من العلماء حجابها ، دعاني إلى اقتناء الفضيلة وتحصيل الثواب داعي الشوق وإن كان قد شبّ عمري عن الطوق ، فوعدت بعض الفضلاء الأذكياء الألبّاء العلماء بشرحها ، وإن كنت بعيدا عن دخول صرحها :

وأين الثّريّا من يد المتناول؟

وقد قيل في المثل السائر : المرء حرّ ما لم يعد. فلم يسعني بعد ذلك الاستكفاء ولم يمكنّي عن إنجاز وعده الاستعفاء ، فوجّهت ركاب العزم إلى ذلك المرتقى المنيع «وقد يدرك الظالع (١) شأو (٢) الضليع (٣)» وشرحتها شرحا كشف عن وجوه فرائدها نقابها ، ورفع عن مرتتق فوائدها حجابها ، وذلّل من حزون مصاعدها صعابها ، وخدمت به عالي مجلس من خصّه الله بخصائص الكمال ، وحباه بأشرف عنصر وأكرم آل ، وجعله بحيث تتصاعد بتصاعد همّته العليا مراتب آبائه الأكرمين ، وهو المولى السعيد السّيد النقيب الطاهر المرتضى الأعظم ، مستخدم أصحاب الفضائل بفواضل النعم ، ومستعبد أرباب المكارم بفائق مزيد الكرم ، الذي تسنّم من الشرف صهوات مصاعده ، واستعلى من خصائص المجد على أعلى معاقده ، وأحرز بإيالته الشريفة قواعد الدين ، وحفظ بجميل سيرته معاقل المؤمنين ، ذاك شرف الإسلام وتاج المسلمين ، بل ملك السّادات والنّقباء

__________________

١ ـ ظلع الرجل : غمز في مشيه ، وهو شبيه بالعرج ، ولهذا يقال : هو عرج يسير. المصباح المنير : ٣٨٥.

٢ ـ الشأو ، وزان فلس : الغاية والأمد. المصباح المنير : ٣٢٨.

٣ ـ رجل ضليع : قويّ ، أضلع بهذا الأمر إذا قدر عليه ، كأنّه قويت ضلوعه بحمله. المصباح المنير : ٣٦٣.

٤٤

في العالمين ، وظهير أعاظم الملوك والسلاطين ، السيّد النقيب الأطهر جلال الملّة والحقّ والدنيا والدين أبو المعالي عليّ.

أساميا لم تزده معرفة

وإنّما لذّة ذكرناها

ابن المولى السيّد النقيب ، الطاهر السعيد المغفور ، شرف الملّة والدين ، المرتضى العلويّ الحسينيّ الآويّ (١) خلّد الله تعالى سيادته ، وربط بالخلود أطناب دولته ، ولا زالت أيّامه الزاهرة تميس وتختال في حلل البهاء والكمال :

وتمت له النّعمى وذلّت له المنى

وحلت بمن عاداه قاصمة الظّهر

ولا رحلت عنه السعادة ساعة

ولا عرفت أيّامه نوب الدهر

ليشرفه بنظره الثاقب ويعتبره بحدسه الصائب ، وليكون كتابا مستحضرا ومعتقدا مستظهرا لقرّة عينه ، وأشرف نجله وجمال زينه ، من هو على حداثة سنّه وغضاضة غصنه فاز بالسعادة الأبديّة والكمالات السرمديّة ، وصار أنموذجا لمزايا خواصّ آبائه الأطهرين ، وعنوانا على صحائف أجداده الأكرمين ، ذاك جمال الإسلام وتاج المسلمين ، السيّد النقيب الطاهر ، شرف الملّة والحقّ والدنيا والدين ، أبو الفضل مرتضى عليّ ، لا زال مرتضى الأقوال والأفعال ، عاليا إلى أعلى مراتب الكمال ، مخدوما بالعزّ والتأبيد ، محفوفا بالنصر والتأييد ، ليكون لهما أجر الانتفاع به علي توالي الأحقاب ، ويستمرّ لهما دعاء المتشاغلين بسببه على تعاقب الأعقاب. وجعلته حسنة مهداة إليهما ، وتذكرة لعبده لديهما ، فإن صادف ذلك محلّ القبول فهو غاية المسئول ونهاية المأمول ، ومن الله المبتغى ، وإليه في نيل المطلوب المرتقى ، وهو حسبي ونعم الوكيل ، وسمّيته ب «الأنوار الجلاليّة للفصول النّصيريّة».

__________________

١ ـ الملك جلال الدين علي بن شرف الدين المرتضى العلويّ الحسينيّ الآوي. الذريعة ٢ : ٤٢٣.

٤٥
٤٦

قال قدّس الله روحه بعد ذكر الخطبة : وهي موضوعة على أربعة فصول : الفصل الأوّل في التوحيد.

أقول : الرسالة مرتّبة على أربعة فصول : الأوّل : في التوحيد ، الثّاني : في العدل ، الثّالث : في النبوّة والإمامة ، والرّابع : في المعاد.

لأنّ المبحوث عنه فيها إمّا أن يكون عن الذات الإلهيّة ولوازمها ومقدّمات ذلك أولا ، والأوّل فصل التوحيد.

والثّاني : إمّا أن يكون عن أفعالها المطلقة على وجه العموم ومقدّمات ذلك ، أو على وجه الخصوص ، والأوّل فصل العدل.

والثّاني : إمّا أن يكون متعلّقا بدار الدنيا ، وهو فصل النبوّة والإمامة ، أو بدار الآخرة ، وهو فصل المعاد وتوابعه.

٤٧
٤٨

الفصل الاوّل : في التوحيد

٤٩
٥٠

وإنّما عنون الأوّل بفصل التوحيد ـ وإن كان مشتملا على غير ذلك من الصفات السلبيّة والثبوتيّة ـ لوجهين :

الأوّل : أنّه تسمية الشيء بأشرف أجزائه ، إذ مسألة التوحيد تستدعي وجود الواجب أوّلا وثبوت ما يستلزمه من الصفات ، فكانت أشرف مسائله ، كما يقال : معجون المسك ، وإن اشتمل على غير المسك.

الثّاني : أنّ المبحوث عنه في ذلك الفصل لمّا لم يكن مستلزما للكثرة ، إذ لا صفة له تعالى تزيد على ذاته عندنا ، بل لسلب الكثرة ، كان في الحقيقة إثباتا للوحدة المطلقة له تعالى.

قال : أصل ـ كلّ من أدرك شيئا لا بدّ أن يدرك وجوده ؛ لأنّه يعلم ضرورة أنّ كلّ مدرك موجود وما ليس بموجود فهو ليس بمدرك ، وإذا كان وجوده ضروريّا كان مطلق الوجود أيضا ضروريّا ، لأنّه جزؤه ، وضروريّة المركّب تستلزم ضروريّة جزئه.

أقول : إنّما صدّر البحث بالوجود ، لأنّ غرضه ذكر أحكام الوجود من أنّ منه واجبا ومنه ممكنا ، وأنّ الواجب واحد ، إلى غير ذلك من المباحث الّتي ترد مفصّلة. والحكم على الشيء بحال من أحواله بدون تصوّر ذلك الشيء محال ، فلا جرم وجب عليه تقديم تعريف الوجود إن كان كسبيّا ، أو التنبيه على أنّه بديهيّ التصوّر إن كان غير كسبيّ. لكن لمّا كان عنده أنّ الوجود بديهيّ التصوّر سلك الطريقة الثانية ونبّه عليه بما تقريره أن نقول :

إنّا ندرك أشياء بواسطة الحسّ ، وكلّ من أدرك أشياء بواسطة الحسّ أدرك وجودها إدراكا ضروريّا ، ينتج : أنّا ندرك وجود أشياء إدراكا ضروريّا. أمّا الصغرى فظاهرة ،

٥١

ولظهورها حذفها.

وأمّا الكبرى فلأنّا نحكم بأنّ كلّ ما ادرك بالحسّ فهو موجود ؛ وذلك لأنّ ما لا وجود له لا يدركه الحسّ ، لأنّه حينئذ معدوم. والحسّ إنّما يدرك ما يقابله أو يلاقيه ، ولا مقابلة ولا ملاقاة بين الموجود والمعدوم. وإذا صدق أنّ كلّ ما لا وجود له لا يدركه الحسّ انعكس بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ ما ادرك بالحسّ فهو موجود. والحكم بالوجود على المدرك بالحسّ بدون تصوّر الوجود محال ، فثبت أنّ المدرك منّا لهذه الأشياء مدرك لوجودها بالضرورة ، ووجودها هو الوجود المطلق مع الإضافة إليها. وضروريّة المجموع تستلزم ضروريّة أجزائه ، إذ لو كان الجزء مفتقرا إلى الكسب لافتقر المجموع إلى الكسب ؛ لأنّ المفتقر إلى المفتقر إلى الشيء مفتقر إلى ذلك الشيء ، فثبت أنّ الوجود المطلق موجود (١) بالضرورة ، وهو المطلوب. وهنا فائدتان :

الأولى : إنّما قلنا في التقرير : إنّا ندرك أشياء بواسطة الحسّ ؛ لأنّ الإدراك في اصطلاح الحكماء إنّما يطلق على ذلك ، فإنّهم عرّفوه بأنّه : اطّلاع الحيوان على الامور الخارجيّة بواسطة الحواسّ.

الثّانية : ينبغي أن يقرأ قوله : «كلّ مدرك موجود» بفتح الراء على صيغة المفعول لا بكسرها ، ومن قرأها كذلك فقد غلط. ورأيت بعض المعاصرين يقرأها كذلك ، ويقرّر البحث أنّ من أدرك شيئا لا بدّ أن يدرك وجوده ، أى وجود نفس المدرك بكسر الرّاء ، وهو سهو.

أمّا أوّلا : فلأنّ كلّ أحد يدرك وجود نفسه ، سواء كان مدركا لغيره أو لا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الضمير يعود إلى الأقرب في وجوده ، وذلك هو «شيئا».

وأمّا ثالثا : فلأنّ الحامل لذلك القائل على هذا الغلط هو خوف انتقاض الكليّة القائلة : إنّ كلّ مدرك موجود. فإنّ المعدوم مدرك وليس بموجود ، ولم يدر أنّ الإدراك إنّما يطلق على الحسّيّ في اصطلاحهم ، وهو يأبى تعلّقه بالمعدومات كما قرّرناه. ومع ذلك كلّه ، فيما ذكره المصنّف نظر ؛ لأنّ قوله : كلّ من أدرك هذه الأشياء فهو مدرك لوجودها

__________________

١ ـ «م» «ح» : معلوم.

٥٢

بالضرورة ، إن أراد أنّ وجودها حاصل بالضرورة فهو مسلّم ، ولا يحصل الغرض أي بداهة حقيقته ، لأنّ التصديق لا يستدعي تصوّر الطرفين بالحقيقة ، فلا يلزم من بداهة هذا التصديق بداهة حقيقة وجود تلك الأشياء. وإن أراد أنّ حقيقته كذلك ، فهو ممنوع.

ويمكن أن يجاب عنه بأنّ المراد بوجودها نفس حصولها ، إذ لا يدّعى أنّ الوجود أمر زائد على الحصول والكون.

قال : فلا يحتاج الوجود الى تعريف ، ومن عرّفه عرّفه بما يعلم بالوجود أو مع الوجود ، وذلك لا يستحسنه الأذكياء.

أقول : زعم بعض النّاس أنّ الوجود كسبيّ التصوّر ، فأراد المصنّف بطلان مذهبهم.

وذلك أنّ الوجود لو كان كسبيّ التصوّر لكان له معرّف وكاسب ، ولا محالة يكون موجودا ؛ لأنّه علّة موجدة للمعرّف عند العقل ، والموجد للشيء لا بدّ أن يكون موجودا ، وإلّا لكان معدوما فيكون المعدوم موجدا ، هذا باطل بالضرورة ، فوجب أن يكون الوجود متحقّقا مع المعرّف حين كونه معرّفا أو قبله ، فلا يكون معلوما بسببه لوجوب تأخّر المسبّب عن السبب ، فلو عرّف الوجود به ، لزم تأخّره عن نفسه وهو محال (١).

ويمكن توجيه كلام المصنّف بوجه آخر ، وهو أنّ المنقول عمّن عرّف الوجود تعريفات :

الأوّل : أنّه المنقسم إلى الفاعل والمنفعل.

الثّاني : أنّه المنقسم إلى القديم والحادث.

الثّالث : أنّه الكون في الاعيان.

والّذي يدلّ على بطلان التعريف الأوّل والثّاني ، أنّ التعريف بهما تعريف بما لا يعلم

__________________

١ ـ قال في اللوامع : الوجود بديهيّ التصوّر ، فإنّه لا شيء أظهر عند العاقل من كونه موجودا ، وأنّه ليس بمعدوم. وبداهة المقيّد تستلزم بداهة المطلق ، لمسبوقيّة المقيّد بالمطلق ، لأنّه جزؤه. وما يقال في تعريفه يشتمل إمّا على دور ظاهر كمن قال : إنّه المنقسم إلى الفاعل والمنفعل ، أو إلى القديم والحادث. أو على أخذ أحد المتساويين في تعريف الآخر ، كمن عرّفه بأنّه ما يصحّ أن يعلم ويخبر عنه. وكلاهما أغلوطة. اللوامع الإلهيّة : ١٣.

وقال : إنّ تصوّر الوجود والعدم ضروري ، وقد ذهب قوم غير محقّقين إلى أنّ تصوّر الوجود كسبيّ وعرّفوه بتعريفات رديّة. إرشاد الطالبين : ٤٢.

٥٣

إلّا بعد العلم بالوجود ؛ لأنّ الفاعل هو المفيد للوجود والمنفعل هو المستفيد للوجود ، والقديم هو الّذي لم يسبق وجوده العدم والحادث هو الّذي سبق وجوده العدم ، فالوجود جزء مفهوم التعريف فيقدّم عليه ، فيلزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ؛ لأنّه من حيث إنّه متقدّم موجود ، ومن حيث إنّه متأخّر معدوم ، فيلزم كون الشيء الواحد موجودا ومعدوما معا وهو محال.

وأمّا التعريف الثّالث فهو أنّ مفهوم الكون مفهوم الوجود ، فمن علم الكون علم الوجود ، ومن لم يعلمه لم يعلمه ، ففي تعريف الوجود به تعريف الشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة وهو فاسد ؛ لأنّ المعرّف يجب أن يكون أجلى من المعرّف كما تقرّر في علم الميزان (١).

قال : تقسيم ـ وجود كلّ شيء إمّا أن يكون من غيره أو لم يكن ، والأوّل ممكن الوجود ، والثّاني واجب الوجود ، والموجودات بأسرها منحصرة فيهما.

أقول : لمّا بيّن كون مفهوم الوجود ضروريّا شرع في تقسيمه إلى أقسامه. والتقسيم هو أخذ معنى من المعاني وضمّ شيء من المخصّصات إليه على طريق الترديد ، ليصير ذلك المعنى مع المخصّص المردّد ـ نفيا وإثباتا ـ قسما من الأقسام. كما يقال هنا : وجود الشيء خارجا إمّا أن يكون ناشئا عن ذاته أي لا يفتقر في تحصيل وجوده في الخارج إلى أمر مغاير لذاته ، أو لا يكون. والأوّل هو الواجب لذاته ، والثاني هو الممكن لذاته. والموجودات بأسرها منحصرة في هذين القسمين ، للترديد الدائر بين النفي والإثبات الموجب للحصر ، فلا ثالث لهما. فالمنفصلة المركّبة منهما حقيقيّة في قولنا : الموجود إمّا واجب لذاته وإمّا ممكن لذاته ، لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهنا فوائد :

الأولى : إنّما قيّدنا الوجود بالخارجيّ ؛ لأنّ الوجود الذهنيّ كجبل من ياقوت ، وبحر من زئبق لا ينحصر في الواجب لذاته والممكن لذاته ، فإنّه يصدق على الممتنع لذاته أيضا. فإنّ الذهن يفرض جميع الأشياء ويحكم عليها حتّى اجتماع النقيضين وحصول

__________________

١ ـ النجاة من الغرق في بحر الضلالات : ١٧٣ ، التحصيل ، لبهمنيار : ٢٦٠ ، فصل في ما يجب مراعاته في الحدود ، حاشية ملّا عبد الله : ٥٧.

٥٤

الضدّين.

الثانية : الواجب قد يكون لذاته كما قلنا ، وقد يكون لغيره كوجوب وجود المعلول عند وجود علّته التامّة ، وهو داخل في قسم الممكن لذاته ؛ لأنّ ذلك المعلول بالنظر إلى ذاته يجوز وجوده ويجوز عدمه ، وذلك معنى الإمكان ، وإنّما وجب بالسبب الخارجيّ.

الثالثة : الممكن له خواصّ كثيرة ، منها : أنّه لا يترجّح (١) أحد طرفيه إلّا بالسبب الخارجيّ ؛ إذ لو ترجّح بذاته لكان إمّا واجبا أو ممتنعا ، أو لا بذاته فيلزم الترجيح بلا (٢) مرجّح ، إذ الطرفان متساويان بالنظر إلى ذاته وليس أحدهما أولى به ، وهي خاصيّة أخرى له. ويلزمه أن يكون الإمكان هو علّة الحاجة ، فإنّ تصوّر تساوي الطرفين يستلزم ذلك ضرورة. إلى غير ذلك من خواصّه.

وللواجب أيضا خواصّ يأتي أكثرها في المباحث الآتية.

قال : والممكن إن كان وجوده من غيره ، فإذا لم يعتبر ذلك الغير لم يكن له وجود ، وإذا لم يكن له وجود لم يكن لغيره عنه وجود ، لاستحالة كون المعدوم موجدا.

أقول : لمّا قسّم الوجود إلى الواجب والممكن ، عقّب ذلك بذكر خاصّة من خواصّ الممكن ليحتاج إليها في إثبات الواجب ، فلذلك ذكرها دون باقي خواصّه. وتقرير ذلك أن نقول :

قد علم من التقسيم المذكور أنّ الممكن هو الذي وجوده من غيره ، فإذا فرض الممكن وحده بدون ذلك الغير لم يكن له وجود ؛ لأنّ وجوده إنّما هو من السبب المغاير له ، وحيث لا سبب له لا وجود له. فإذا لم يكن موجودا استحال أن يكون موجدا لغيره ؛ للعلم الضروري بأنّ الشيء إذا لم يكن موجودا في الخارج متشخّصا فيه لم يكن موجدا لغيره. فظهر أنّ الممكن إذا نظر إليه من حيث ذاته وماله من ذاته وقطع النظر عمّا عداه من المفهومات لا يكون له وجود ولا لغيره عنه وجود ، وأمّا أخذه مع اعتبارات اخر فلا يلزمه ذلك.

__________________

١ ـ «م» لا يرجّح.

٢ ـ «م» من غير.

٥٥

قال : أصل ـ كلّ من عرف حقيقة الواجب والممكن كما قلناه عرف بأدنى فكر أنّه لو لم يكن في الوجود واجب لم يكن لشيء من الممكنات وجود أصلا ؛ لأنّ الموجودات حينئذ كلّها تكون ممكنة ، والممكن ليس له من نفسه (١) وجود ولا لغيره عنه وجود ، فلا بدّ من وجود واجب ليحصل وجود الممكنات منه.

أقول : الدليل المشهور في إثبات الواجب هو أنّ هنا موجودا بالضرورة ، فإن كان واجبا فالمطلوب ، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثّر. فإن كان واجبا فالمطلوب أيضا ، وإن كان ممكنا افتقر أيضا إلى مؤثّر ضرورة ؛ لافتقار كلّ ممكن إلى مؤثّر. فإن كان هو الأوّل أو راجعا إليه لزم الدور ، وإن كان غيره أو غير راجع إليه بل راقيا في الترتيب إلى غير النهاية لزم التسلسل ، والدور والتسلسل باطلان ، فيكون الواجب موجودا وهو المطلوب.

ثمّ بيّن بطلان الدور بلزوم تقدّم الشيء على نفسه وبكونه موجودا معدوما (٢) ، والتسلسل ببرهان التطبيق أو غيره من البراهين (٣). والمصنّف شرع في هذا الأصل أن يبيّن إثبات واجب الوجود ببرهان بديع غير متوقّف على بطلان الدور والتسلسل. تقريره أن نقول :

الواجب لذاته موجود في الخارج ؛ لأنّه لو لم يكن موجودا في الخارج لانحصرت الموجودات الخارجيّة كلّها في الممكن ، لكنّ اللازم باطل فالملزوم مثله.

أمّا بيان الملازمة فلما سبق من انحصار الموجود الخارجيّ في الواجب والممكن.

وأمّا بطلان اللازم ، فلأنّه لو انحصر الموجود الخارجيّ في الممكن لم يكن لموجود ما وجود أصلا ، لكنّ اللازم باطل فالملزوم مثله.

أمّا بيان الملازمة فلما تقدّم من حاجة الممكن ، وهو أنّه إذا نظر إليه من حيث ذاته

__________________

١ ـ من الفصول النصيريّة.

٢ ـ الدور هو أن يكون المعلول علّة لعلّته بواسطة أو بغير واسطة ، والمتأخّر من حيث هو متأخّر متقدّما على متقدّمه من تلك الحيثيّة. تلخيص المحصّل : ٤٦٠.

٣ ـ برهان التطبيق في بطلان التسلسل أنّه إنّا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا يتناهى ، ووضعناها جملة ، ثمّ قطعنا منها جملة متناهية ، ثمّ أطبقنا إحدى الجملتين بالاخرى بحيث يكون مبدأ كلّ واحدة من الجملتين واحدا ، فإن استمرّتا إلى ما لا يتناهى ، كانت الجملة الزائدة مثل الناقصة ، هذا خلف. وإن انقطعت الناقصة تناهت ويلزم تناهي الزائدة ، لأنّ ما زاد على التناهي بمقدار متناه فهو متناه. كشف المراد : ٨٦.

٥٦

ومآله من ذاته لا يكون موجودا ولا موجدا لغيره ، فمع انحصار الموجودات الخارجيّة في الممكن لا يكون لها وجود ولا لغيرها عنها وجود ؛ لأنّ وجودها إنّما هو من السبب المغاير لها ، وقد فرض عدم السبب.

وأمّا بطلان اللازم فضروريّ ، فثبت وجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب.

ولشيخنا الإمام العلّامة القاشيّ ١ ـ قدس‌سره ـ تقرير حسن لهذه الطريقة ، وبيانه يتمّ بتقرير مقدّمتين : إحداهما : تصوّريّة ، والاخرى : تصديقيّة.

أمّا الأولى : فهي أنّ مرادنا بالموجب التامّ ، هو الكافي في وجود أثره ، أي لا يحتاج في إيجاد الأثر إلى أمر خارج عن ذاته.

وأمّا الثانية أعني التصديقيّة : فهي أنّ الممكن لا يجوز أن يكون موجبا تامّا لشيء ؛ لأنّ موجبيّته تتوقّف على موجوديّته ، وموجوديّته تتوقّف على الغير ، فموجبيّته تتوقّف على الغير.

أمّا الصغرى ـ وهو توقّف موجبيّته على موجوديّته ـ فضروريّة ؛ لاستحالة كون المعدوم موجبا لغيره.

وأمّا الكبرى ـ وهو توقّف موجوديّة الممكن على غيره ـ فظاهر ؛ إذا الممكن بحسب ذاته لا يقتضي شيئا من الطرفين أي الوجود والعدم ، بل كلّ منهما بالغير ، فإذا تمهّدت هاتان المقدّمتان نقول :

هنا موجود قطعا ، فإن كان واجبا ثبت المطلوب ، وإن كان ممكنا يحتاج إلى موجب تامّ ، ولا جائز أن يكون موجبه ممكنا لما قلنا في المقدّمة الثانيّة ، فيكون موجبه واجبا وهو المطلوب.

وعلى هذا نقض إجماليّ ، تقريره أنّ الأفعال الاختياريّة كالقيام والقعود والأكل والشرب وغيرها من الأفعال الإراديّة فاعلها هذا الشخص الممكن قطعا ، وهو ضروريّ

__________________

١ ـ هو نصير الدّين ، علي بن محمّد بن علي القاشيّ ، العالم المدقّق الفهّامة ، من أجلّة متأخّري متكلّمي أصحابنا وكبار فقهائهم. كان مولده بكاشان ، وقد نشأ بالحلّة ، كان معاصرا للعلّامة في أواخر عمره ، ولابنه ولقطب الدين الرازيّ. له حاشية على شرح التجريد للأصفهانيّ ، وعلى شرح الشمسيّة للرازيّ. أثنى عليه الشهيد وحكى عنه بعض المطالب ، وروى عنه ابن معيّة وبالغ في مدحه. مقابس الأنوار : ١٣ ، مستدرك الوسائل ٣ : ٤٤٢.

٥٧

عند المعتزليّ (١) ومن قال بمقالته ، فيكون الممكن موجبا لغيره ، وهو خلاف المقدّمة التصديقيّة.

وأجاب بعض فضلاء تلاميذه فقال : لم لا يجوز أن يكون الفاعل غير هذا الشخص ويكون هو شرطا لذلك الفعل ، لا موجبا له؟

والأولى في الجواب أن يقال : المعتزليّ لا يقول : إنّ هذا الشخص الممكن موجب تامّ لأفعاله ، بل مباشر قريب. وحينئذ نقول : إنّ هذا الشخص ليس موجبا تامّا ، ضرورة توقّف فعله على وجوده وعلى شرائط اخر. ونحن لم نقل : إنّ الممكن لا يكون موجبا مطلقا ، بل لا يكون موجبا تامّا بالنظر إلى ذاته ، فلا يتمّ النقض.

قال : هداية ـ الواجب إذا لم يكن وجوده من غيره كان واجبا من غير اعتبار ذلك الغير ، فلا يمكن فرض عدمه ، وبهذا الاعتبار ، يقال له : الباقي والأزليّ والأبديّ والسرمديّ. وباعتبار أنّ وجود ما عداه منه ، يقال له : الصانع والخالق والبارئ.

أقول : لمّا فرغ من الاستدلال على ثبوت الواجب شرع في إثبات الصفات التي تليق به ، فذكر في هذه الهداية صفتين : إحداهما سلبيّة والاخرى ثبوتيّة. ثمّ ذكر ما يترتّب عليهما من الأسماء ، فهنا فوائد :

الأولى : أنّه تعالى يمتنع عدمه ، وبيان ذلك أن نقول :

واجب الوجود يمتنع عدمه ؛ لأنّ وجوده غير مستفاد من الغير ، وكلّ ما وجوده غير مستفاد من الغير يجب له الوجود بدون اعتبار شيء من الأغيار (٢) ، فواجب الوجود يجب

__________________

١ ـ المعتزلة على المشهور أصحاب واصل بن عطاء ، اعتزل مجلس الحسن البصريّ ، وانضمّ إليه عمرو بن عبيد ، فطردهما الحسن عن مجلسه فسمّوا المعتزلة. وهم يلقّبون بالقدريّة لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرهم. ولقّب المعتزلة أنفسهم بأصحاب العدل والتوحيد. المقالات والفرق : ١٣٨ ، الملل والنحل ١ : ٤٩ ، مذاهب الإسلاميّين ١ : ٤٧.

واختلفوا في أنّ أفعال العباد الاختياريّة واقعة بقدرتهم أم هي واقعة بقدرة الله ـ مع الاتّفاق على أنّها أفعالهم لا أفعاله ، إذ القائم والقاعد والآكل والشارب وغير ذلك هو الإنسان ، وإن كان الفعل مخلوقا لله تعالى ، فإنّ الفعل إنّما يستند إلى من قام به ، لا من أوجده ـ فذهب الأشعري إلى أن ليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل إليه : أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإن لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور. وذهب الحكماء والمعتزلة إلى أنّها واقعة بقدرتهم على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار. شرح تجريد العقائد ، للقوشجيّ : ٣٤١.

٢ ـ «م» الاعتبارات.

٥٨

له الوجود بدون اعتبار شيء من الأغيار (١) ، وكلّ ما كان كذلك فوجوده مقتضى ذاته ، ومقتضى الذات يمتنع زواله ، وزوال الوجود هو العدم ، فواجب الوجود يمتنع عليه العدم.

الثانية : أنّه يقال : له تعالى ـ باعتبار ما تقدّم ـ أسماء أربعة : الباقي والأزليّ والأبديّ والسرمديّ. والفرق بين هذه المفهومات أنّ الباقي ، هو الموجود المستمرّ الوجود ، أي لا يوجد زمان من الأزمنة المحقّقة والمقدّرة إلّا ووجوده مصاحب له.

والأزليّ ، هو المصاحب لجميع الأزمنة ، محقّقة كانت أو مقدّرة في جانب الماضي إلى غير النهاية.

والأبديّ ، هو المصاحب لجميع الأزمنة ، محقّقة كانت أو مقدّرة في جانب المستقبل إلى غير النهاية.

والسرمديّ ، هو المصاحب لجميع الثابتات المستمرّ الوجود في الزمان.

والمراد بالزمان المحقّق ، ما هو داخل في الوجود الخارجيّ بحيث يصير جزءا من العالم. والمقدّر ، ما ليس كذلك.

الثالثة : أنّ وجود ما عداه من الموجودات الخارجيّة صادر عنه ، لإمكانها المحوج إلى الفاعل كما تقدّم (٢) ، إمّا بغير واسطة كما هو مذهب المتكلّمين ، أو بواسطة كما هو رأي الحكماء ؛ لوجوب انتهاء كلّ موجود إليه ؛ لبطلان التسلسل عندهم (٣). ويجيء تمام البحث في هذا الكلام.

الرابعة : يقال له باعتبار هذه الصفة : الصانع والخالق والبارئ. وهذه المفهومات الثلاثة متقاربة في المعنى ، وقد يمكن الفرق بينها بأن يقال :

الصانع : هو الموجد للشيء ، المخرج له من العدم إلى الوجود.

__________________

١ ـ «م» الاعتبارات.

٢ ـ يراجع ص : ٥٥.

٣ ـ اختلف العقلاء في أنّ علّة احتياج الممكن إلى المؤثّر ما ذا؟ فذهب الحكماء إلى أنّ علّة الحاجة هي الإمكان لا غير ، واختاره بعض المتكلّمين والمحقّق الطوسيّ. وذهب متقدّموا المتكلّمين إلى أنّ علّة الحاجة هي الحدوث لا غير. وذهب أبو الحسين البصريّ إلى أنّها الإمكان والحدوث معا وكلّ منهما جزء علّة. وذهب الأشعريّ إلى أنّها الإمكان بشرط الحدوث. إرشاد الطالبين : ١٥٦.

٥٩

والخالق : هو المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته ، سواء اخرجت إلى الوجود أولا.

والبارئ : هو الموجد لها من غير تفاوت والمميّز (١) لها بعضها من بعض بالصور والأشكال. وستسمع في تفصيل أسمائه فيما يأتي فضل بيان إن شاء الله تعالى.

قال : أصل ـ ثمّ إنّه إذا تفكّر ، علم أنّ كلّ ما فيه كثرة ـ ولو بالفرض ـ كان وجوده محتاجا إلى الغير ؛ لأنّه محتاج إلى آحاده ، وآحاده غيره ، فكلّ ما فيه كثرة أو قبول قسمة ممكن. وينعكس إلى قولنا : كلّ ما ليس بممكن ليس بمتكثّر ، فالواجب واحد من جميع الجهات والاعتبارات.

أقول : اعلم أنّ الكثرة بديهيّة التصوّر (٢) وهي تارة تكون خارجيّة ، وتارة تكون بالفرض الذهنيّ لا وجود لها خارجا ، كتأليف الماهيّة من الأجناس والفصول. وأشار المصنّف بقوله : «ولو بالفرض» إلى القسم الثاني. والأوّل إمّا أن لا تكون الماهيّة بكلّيّتها موجودة في كلّ واحد من آحاد الكثرة أو تكون. والأوّل تكثّر الماهيّة بأجزائها التي تألّفت ذاتها منها ، كالعدد المؤلّف من الآحاد ، والثاني هو تكثّر الماهيّة بوجودها في جزئيّات كثيرة كالنوع المتكثّر بأشخاصه (٣).

__________________

١ ـ «خ» «ن» : أو المميّز.

٢ ـ الوحدة والكثرة من المعلومات البديهيّة ، فلا يفتقر في تصوّرهما إلى اكتساب تعريف. وما يقال في تعريف الوحدة : بأنّها عبارة عن كون الشيء لا ينقسم ، والكثرة : بأنّها عبارة عن كونه منقسما ، فهو تعريف لفظيّ ، غايته تبدّل لفظ خفيّ بلفظ جليّ. إرشاد الطالبين : ١٤٨.

٣ ـ قد ذكر المصنّف في إرشاد الطالبين أقسام الوحدة والكثرة مفصّلا ، فقال : انقسام المعقول إلى الواحد والكثير من الامور العامّة الشاملة للجواهر والأعراض. فالمعقول إمّا أن يكون منقسما أو لا يكون منقسما ، فالأوّل هو الكثير والثاني هو الواحد. وهو إمّا أن يكون واحدا بالذات أو بالعرض ؛ لأنّ عدم قبول القسمة إمّا أن يكون لغيره ، وهو الواحد بالعرض كالعرض الحالّ في الجوهر الفرد. أو يكون لذاته وهو الواحد بالذات كالجوهر الفرد. ثمّ الواحد بالذات قد يكون واحدا بالشخص. أي يكون مانعا من الشركة كزيد ، فإنّ شخصه واحد لا اشتراك فيه ، وقد يكون واحدا لا بالشخص ، فلا جرم يكون له جهتان : إحداهما تقتضي الكثرة ، والاخرى تقتضي الوحدة. فجهة الكثرة إن كانت متّفقة ، فهو الواحد بالنوع كزيد وعمرو ، فإنّ نوعهما واحد وهو الإنسان. وإن كانت مختلفة فهو الواحد بالجنس كالإنسان والفرس.

ثمّ قال : فالواحد مقول بالتشكيك على هذه الأقسام بالأوّليّة وعدمها ، فإنّ الواحد بالذات أولى بالوحدة من الواحد بالعرض ، والواحد بالشخص أولى من الواحد بالنوع ، وبالنوع أولى من الواحد بالجنس. إلى أن قال : فالاتّحاد في النوع

٦٠