الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: علي حاجي آبادي وعبّاس جلالي نيا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
ISBN: 964-444-212-1
الصفحات: ٢١٦

إذا تقرّر هذا فنقول : البارئ تعالى ليس بمتكثّر بالمعاني المذكورة كلّها.

أمّا الثالث أعني النوع المتكثّر بأشخاصه فسيجيء بيان بطلانه في الفصل التالي لهذا الفصل.

وأمّا الأوّل بقسميه الخارجيّ والذهنيّ فبطلانهما بما ذكره من البيان ، وتقريره أنّ كلّ ذات متكثّرة بهذا المعنى ـ أعني تألّف ذاتها من تلك الأجزاء ـ فإنّها محتاجة في تحقّقها خارجا وذهنا إلى تلك الأجزاء ، ضرورة أنّ وجود المركّب بدون جزئه محال ، والجزء ذات مغايرة لذات الكلّ لأنّه مقدّم عليه في الوجودين الذهنيّ والخارجيّ ، والمقدّم غير المؤخّر ، فكلّ ذات متكثّرة بالمعنى المذكور فهي محتاجة إلى غيرها ، وكلّ محتاج إلى غيره ممكن ، ينتج أنّ كلّ ذات متكثّرة بالمعنى المذكور فهي ممكنة.

وينعكس هذا بعكس النقيض إلى قولنا : كلّ ما ليس بممكن فهو ليس بمتكثّر بالمعنى المذكور. ونجعله كبرى لقولنا : الواجب ليس بممكن ، (هكذا بالضرب الأوّل من الأوّل) (١) : الواجب هو ليس بممكن ، وكلّ ما ليس بممكن ليس بمتكثّر ، ينتج الواجب ليس بمتكثّر (٢).

__________________

يسمّى مماثلة ، وفي الجنس يسمّى مجانسة ، وفي العرض إن كان في الكمّ سمّي مساواة ، وفي الكيف سمّي مشابهة ، وفي المضاف سمّي مناسبة ، وفي الشكل سمّي مشاكلة ، وفي الوضع يسمّى موازاة ، وفي الأطراف يسمّى مطابقة. إرشاد الطالبين : ١٤٥ ، ١٤٦.

١ ـ ما بين القوسين ليس في «م» ، وفي «ح» : هكذا من الضرب الأوّل والشكل الأوّل.

٢ ـ الشكل الأوّل ما كان الأوسط فيه محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى ، وضروبه أربعة : الأوّل : ما هو مؤلّف من كلّيّتين موجبتين ينتج كلّيّة موجبة. مثاله : كلّ خمر مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، ينتج كلّ خمر حرام. واستدلال المصنّف من هذا القسم حيث يقول : إنّ كلّ ذات متكثّرة محتاجة ، وكلّ محتاج ممكن ، ينتج أنّ كلّ ذات متكثّرة ممكنة.

الثاني : ما هو مؤلّف من كلّيّة موجبة وسالبة كلّيّة. مثاله : كلّ خمر مسكر ، ولا شيء من المسكر بنافع ، ينتج لا شيء من الخمر بنافع.

الثالث : ما هو مؤلّف من موجبة جزئيّة ، وموجبة كلّيّة ، ينتج موجبة جزئيّة ، مثاله : بعض السائلين فقراء ، وكلّ فقير يستحقّ الصدقة ، ينتج بعض السائلين يستحقّ الصدقة.

الرابع : ما هو مؤلّف من موجبة جزئيّة ، وسالبة كلّيّة ، ينتج سالبة جزئيّة. مثاله : بعض السائلين أغنياء ، ولا غنيّ يستحقّ الصدقة ، ينتج بعض السائلين لا يستحقّ الصدقة. النجاة من الغرق في بحر الضلالات : ٥٧ ، التحصيل ، لبهمنيار : ١١٤ ، المنطق ، للمظفّر : ٢١٤.

٦١

قوله : «من جميع الجهات والاعتبارات». يريد بالجهات الامور الخارجيّة ، وبالاعتبارات الامور الذهنيّة ، وقد تبيّن عدم جواز التركيب عليه تعالى في شيء منهما.

فائدتان :

الأولى : معنى قولنا : الجزء مقدّم على الكلّ في الوجودين ـ أعني الذهنيّ والخارجيّ ـ أنّ الكلّ لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق أجزائه ، فهي علل ناقصة لوجوده ، والعلّة متقدّمة على المعلول.

الثانية : في قول المصنّف : «كلّ ما فيه كثرة أو قبول قسمة» فائدة حسنة ، وذلك أنّ نسبة القسمة إلى الكثرة نسبة التحليل إلى التركيب ، فالقسمة تطرأ على المركّب عند تحليله ، والاجتماع والكثرة يطرءان على المركّب عند تأليف أجزائه. ولمّا كان كلا الأمرين محالا على الواجب ، أراد أن يشير إلى بطلانهما وإن كان استحالة أحدهما موجبا لاستحالة الآخر ؛ لتلازمهما ، إذ ما من كثرة إلّا ويمكن عليها التحليل ، فلا يرد التحليل إلّا على كثرة ، لكن أراد التنصيص على ذلك إرشادا وتنبيها.

قال : أصل ـ حقيقة الواجب أمر واحد ثبوتيّ ؛ لأنّه مدلول دليل واحد ، وهو امتناع العدم. فلو فرض منه أكثر من ذات واحدة لاشتركا في حقيقة الواجب وامتازا بأمر آخر ، فيلزم تركيب كلّ واحد منهما ممّا به الاشتراك وممّا به الامتياز. وكلّ مركّب ممكن ـ لما عرفت ـ فلا يكونان واجبين. هذا خلف ، فحينئذ لا يعقل من حقيقة الواجب إلّا ذات واحدة.

أقول : هذا ما وعدنا به من سلب الكثرة التابعة لوجود الماهيّة في جزئيّات متعدّدة. والمقصود بالذات هنا إثبات الوحدة الشخصيّة له تعالى.

وقد ذكر المصنّف هنا مقدّمة يبني عليها دليله ، وتكون جوابا عن سؤال يرد على دليله ، وتقريرها : أنّ حقيقة واجب الوجود أمر واحد ثبوتيّ ، أي ليس العدم مفهومه ولا جزء مفهومه. وبيّن هذه الدعوى بقوله : «لأنّه مدلول دليل واحد». وبيّن ذلك الدليل

٦٢

الواحد بأنّه امتناع العدم عليه. لما تقدّم من قبل في الهداية السابقة (١). وإذا امتنع العدم على شيء كان ثبوتيّا وهو المطلوب. وفي قوله : «لأنّه مدلول دليل واحد». إشارة إلى كبرى مضمرة ، هي أنّه كلّما كان الدليل واحدا كان المدلول واحدا. وبيان ذلك إمّا على قاعدة الحكماء من أنّ الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد (٢) ، والدليل علّة للمدلول ، فإذا كان واحدا كان المدلول واحدا. وإمّا لأنّه قد تبيّن في علم الميزان أنّ الأعمّ من الشيء لا يدلّ عليه ، بل يجب أن يكون مساويا له (٣) ، فإذا كان الدليل واحدا كان المدلول واحدا ، وهو المطلوب.

إذا عرفت هذا فنقول : أمّا الدليل على هذه الدعوى فنقول :

حقيقة واجب الوجود لا يجوز أن يوجد منها أزيد من شخص واحد ؛ إذ لو وجد أكثر من شخص واحد لاشتركا في حقيقة واجب الوجود ، ولا بدّ من امتياز كلّ منهما بأمر ؛ إذ الاثنينيّة بدون الامتياز محال ، فيلزم كون كلّ منهما مركّبا ممّا به الاشتراك وممّا به الامتياز. وقد تقدّم استحالة التركيب على الواجب.

وأمّا السؤال المقدّر الذي أشار إلى جوابه ، فتقريره أنّ واجب الوجود عدميّ ، لأنّ وجوب الوجود عبارة عن عدم كون الذات قابلة للعدم ، فهو أمر عدميّ. وواجب الوجود ذات مأخوذة مع الوجوب ، وما جزؤه عدميّ فهو عدميّ. ولا يلزم من الاشتراك في الأوصاف العدميّة التركيب ؛ إذ البسائط تشترك في سلب ما عداها عنها ، ولا تركيب فيها. وتقرير الجواب أن نقول :

المراد من واجب الوجود ، الذات التي صدق عليها هذا الوصف ، لا هذا الوصف. وتلك الذات موجودة لا محالة ؛ لأنّ الدليل السابق دلّ على امتناع العدم على ذات الواجب ، وما امتنع عليه العدم فهو موجود ، وهو المطلوب.

قال : هداية ـ (٤) كلّ متحيّز مفتقر إلى حيّزه ، وكلّ عرض مفتقر إلى محلّه. والحيّز

__________________

١ ـ تقدّم في صفحة ٥٨.

٢ ـ ذهب الحكماء إلى أنّ الفاعل الواحد من جميع الجهات من غير تعدّد الآلات والقوابل لا يصدر عنه أكثر من واحد ، وخالف في ذلك أكثر المتكلّمين. إرشاد الطالبين : ١٦٩.

٣ ـ حاشية ملا عبد الله بتعليقة مصطفى الحسينيّ الدشتيّ : ٨٩ ، المنطق للمظفّر : ١٠٣.

٤ ـ الفصول النصيريّة : تبصرة.

٦٣

والمحلّ غيرهما ، فلا يكون الواجب متحيّزا ولا عرضا. وكلّ ما يشار إليه بالحسّ فهو إمّا متحيّز أو عرض ، فلا يكون الواجب مشارا إليه (١) بالحسّ.

أقول : المتحيّز : هو الحاصل في الحيّز. والحيّز عند المتكلّمين هو الفراغ المتوهّم الذي تشغله الأجسام بالحصول فيه ، ولو لم تشغله لكان خلاء.

وعند الحكماء : الحيّز والمكان مترادفان ، ويعبّر بهما عن السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للسطح الظاهر من الجسم المحويّ عند أرسطو (٢).

وقال أفلاطون (٣) : هو البعد الخالي عن المادّة (٤).

واعلم أنّ كلّ موجود اختصّ بآخر وسرى فيه بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما هي الإشارة إلى الآخر تحقيقا أو تقديرا ، ويكون مع ذلك ناعتا له ، يسمّى المختصّ حالّا والمختصّ به محلّا ، فذلك الحالّ يسمّى عرضا.

والإشارة الحسّيّة لها تفسيران :

أحدهما : أنّها امتداد موهوم أخذ من المشير ، منته بالمشار إليه.

وثانيهما : أن يقال للشيء : إنّه هنا أو هناك.

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : بمشار إليه.

٢ ـ أرسطاليس ، معناه محبّ الحكمة ويقال : الفاضل الكامل. ويقال : التامّ الفاضل. وهو أرسطاليس بن نيقوما خس بن ماخازن. كان أبوه متطبّبا لفليبس أبي الإسكندر ، وهو من تلاميذ أفلاطون وإنّه لمّا غاب أفلاطون كان أرسطاليس يخلفه تأثّرت بوادر التفكير العربيّ بتآليفه التي نقلها إلى العربيّة النقلة السريان ، وأهمّهم إسحاق بن حنين مؤسّس فلسفة المشّائين. من أهمّ كتبه : المقولات ، الجدل ، كتاب ما بعد الطبيعة ، السياسة. توفي وله ستّ وستّون سنة في آخر ايّام الاسكندر. الفهرست لابن النديم : ٣٠٧ ، الملل والنحل ٢ : ١٢٨ ، طبقات الأطبّاء والحكماء : ٨٤. تاريخ الحكماء : ٤٩.

٣ ـ أفلاطون بن أرسطو قليس. من مشاهير فلاسفة اليونان ، يتتلمذ لسقراط ولمّا اغتيل سقراط بالسمّ ومات قام مقامه وجلس على كرسيّه ، وتتلمذ له أرسطاليس أساس فلسفته نظرية الأفكار ، فالحقيقة ليست في الظواهر العابرة ولكن في الأفكار السابقة ، لوجود الكائن والتي هي مثال له. وقد شاع منه : المثل الأفلاطونيّ. من مؤلّفاته : الجمهوريّة ، السياسيّ ، المحاورات. مات سنة ٣٤٧ قبل الميلاد. الفهرست لابن النديم : ٣٠٦ ، الملل والنحل ٢ : ٩٤ ، طبقات الأطبّاء والحكماء : ٨١ ، تاريخ الحكماء : ٣١.

٤ ـ الحيّز عند المتكلّمين : فراغ يشغله الجسم بالحصول فيه. وقال أرسطو ـ من الحكماء ـ بأنّه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماسّ للظاهر من المحويّ. وقال أفلاطون : إنّه البعد المجرّد عن المادّة يحلّ فيه الجسم ويلاقيه بجملته ويتّحد به. اللوامع الإلهيّة : ٥٠.

٦٤

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذكر في هذه الهداية ثلاث صفات سلبيّة للواجب تعالى :

الأولى : أنّه ليس بمتحيّز ، وهو ظاهر على تفاسير الحيّز بأجمعها ؛ لأنّ كلّ متحيّز لا بدّ أن يكون له امتداد ما للحيّز شاغل له ، ذاهب في جهاته ، وكلّ ما هو كذلك لا يعقل مجرّدا عمّا يشغل بامتداده ويمتلئ به وهو الحيّز ، والحكم بذلك ضروريّ. والحيّز غير المتحيّز فإنّ الشيء لا يمتدّ في نفسه بل في غيره ، فيكون المتحيّز مفتقرا إلى غيره فيكون ممكنا ، فيصدق هنا قياس من الشكل الثاني (١) : الواجب لا يفتقر إلى غيره ، وكلّ متحيّز مفتقر إلى غيره ، ينتج أنّ الواجب لا يكون متحيّزا وهو المطلوب.

الثانية : أنّه ليس بعرض ؛ لأنّه قد علم من تعريف العرض احتياجه إلى محلّه ، ومحلّه غيره ؛ لأنّ المحتاج إليه متقدّم على المحتاج. فلو كان محلّه نفسه لزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال. فلو كان الواجب عرضا لاحتاج في وجوده وتشخّصه إلى غيره فلا يكون واجبا ، هذا خلف.

الثالثة : أنّه لا يمكن أن يشار إليه إشارة حسّيّة ، ودليله : أنّه لو اشير إليه بالحسّ لكان إمّا متحيّزا أو عرضا ، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة أنّ كلّ ما انتهى إليه الخطّ الإشاريّ إمّا أن يكون قائما بذاته ـ أي غير محتاج في وجوده وتشخّصه إلى محلّ يقوم به ـ أو لا يكون. فإن كان الأوّل كان متحيّزا ، وإن كان الثاني كان عرضا.

وأمّا بطلان اللازم فلما تقدّم من استحالة كونه متحيّزا أو عرضا.

فائدة : قيّد الإشارة بكونها حسّيّة ، احترازا من الإشارة العقليّة فإنّها غير مستحيلة عليه تعالى ، فإنّ كلّ محكوم عليه ـ ولو بوجه ما ، أو مقصود قصدا ما ـ فهو مشار إليه عقلا.

قال : تبصرة ـ المعقول من الحلول كون موجود في محلّ قائم به. والواجب حيث

__________________

١ ـ الشكل الثاني هو الّذي يكون الأوسط منه محمولا على الطرفين ، وخاصيّته أنّه لا ينتج إلّا سالبة كلّيّة وسالبة جزئيّة ، وأن تكون الصغرى مخالفة للكبرى في الكيفيّة ، وأن تكون الكبرى كلّيّة. مثاله : المسلم يعتقد بالقرآن ، وكلّ من عبد النار لا يعتقد بالقرآن ، فالمسلم لا يعبد النّار. النجاة من الغرق في بحر الضلالات : ٥٨ ، التحصيل ، لبهمنيار : ١١٧.

٦٥

يقوم بذاته ، استحال عليه الحلول. والمحلّ متحيّز تحلّ فيه الأعراض. والواجب حيث إنّه ليس بمتحيّز ، استحال حلول الأعراض فيه.

أقول : ذكر في هذه التبصرة صفتين سلبيّتين له تعالى أيضا :

الأولى : أنّه لا يحلّ في شيء ؛ لأنّ المعقول من الحلول في اللغة والعرف الاصطلاحيّ ، هو كون موجود ساريا في آخر ، قائما به ، ناعتا له ، تابعا في تحصيل شخصيّته (١) لذلك المحلّ.

إذا تقرّر هذا فنقول : لو كان الواجب حالّا في شيء لكان ممكنا ، واللّازم باطل فكذا الملزوم.

بيان الملازمة أنّ الواجب حينئذ يكون محتاجا في تعيينه إلى أمر خارج عن حقيقته.

وأمّا بطلان اللازم فقد سبق بيانه.

وأيضا : لو كان تعالى حالّا في شيء لزم الدور ، لاحتياجه إلى محلّه ، لكنّه علّة لمحلّه ، لأنّه علّة لسائر ما عداه ، فيلزم افتقاره إلى المحلّ وافتقار المحلّ إليه وهو دور.

والدور محال ؛ لاستلزامه كون الشيء مفتقرا إلى ما يفتقر إليه المستلزم لتقدّمه على نفسه المستلزم لوجوده قبل وجوده ، وهو ضروريّ الاستحالة.

الثانيّة : أنّه لا يحلّ فيه شيء ، وقد بيّنه المصنّف ببيان غير تامّ ، ونحن نشير إلى ما ذكره المصنّف أوّلا ، ثمّ نبيّن كونه غير تامّ ، ثمّ نذكر ما هو الأولى في الاستدلال.

أمّا الأوّل : فنقول لو حلّ في ذات الواجب شيء لكان الواجب متحيّزا ، واللازم باطل ، فكذا الملزوم.

بيان الملازمة : أنّ المحلّ متحيّز تحلّ فيه الأعراض. وأمّا بطلان اللازم فقد تقدّم.

وأمّا الثاني : وهو أنّه غير تامّ ، فلأنّا نمنع أنّ كلّ محلّ متحيّز ، فإنّ السرعة والبطء حالّان في الحركة ، والحركة محلّ لهما وهي غير متحيّزة.

وأيضا : صفات الواجب قائمة بذاته حالّة فيها عند الأشاعرة (٢) ، مع أنّ محلّ الصفات

__________________

١ ـ «م» تشخّصه.

٢ ـ الأشاعرة : أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ، المولود في البصرة سنة ٢٦٠ ، والمتوفّى في بغداد

٦٦

ـ وهو ذات الواجب ـ مجرّدة.

وأيضا : صفات العقول والنفوس عند الفلاسفة حالّة فيها مع أنّها مجرّدات (١) ، فظهر أنّ المحلّ لا يجب أن يكون متحيّزا.

وأمّا الثالث : وهو الأولى في الاستدلال ، فنقول : لو حلّ في ذات الواجب شيء لكان ذلك الشيء إمّا قديما أو حادثا ، واللازم بقسميه باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة أنّ الحالّ إمّا أن لا يسبقه العدم أو يسبقه ، والأوّل القديم والثاني الحادث ، فظهرت الملازمة.

وأمّا بطلان القسم الأوّل ، وهو أن يكون الحالّ قديما ، فلما سبق من أنّ الواجب واحد وما عداه ممكن. وأمّا أنّ كلّ ممكن حادث فلما يأتي من بيان حدوث العالم.

وأمّا بطلان القسم الثاني ، وهو أن يكون الحالّ حادثا ، فلأنّ ذلك الحادث لا بدّ له من علّة تامّة ، فإمّا أن تكون علّته التامّة ذات الواجب ، أو شيئا من لوازمها أو غير ذلك ، لا جائز أن تكون علّته ذات الواجب أو شيئا من لوازمها ، وإلّا لكان قديما ، لأنّ قدم العلّة يستلزم قدم المعلول عند الحكيم ، وإلّا لزم الترجيح بغير مرجّح ، أو فرض ما ليس بتامّ تامّا.

وأيضا : يلزم أن تكون ذات الواجب قابلة لشيء وفاعلة له ، وهو غير جائز عندهم أيضا. ولا يجوز أن تكون علّة ذلك الحادث أمرا مغايرا لذات الواجب ، وإلّا لزم إمكان

__________________

سنة ٣٢٤ ه‍. وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري ، كان تلميذ أبي علي الجبائيّ ، ودرس عليه أصول المعتزلة وطرق استدلالها ، وبعد ذلك اعترض على استاذه واختلف معه يوما في مسألة الصلاح والأصلح ففارقه ، وأعلن تخلّيه عن الاعتزال في مسجد البصرة سنة ٣٠٠ ه‍ ، وأسّس المذهب الأشعريّ ونشر علم الكلام بصورة جديدة بين أهل السنّة والجماعة. وكان يعتقد بقدم القرآن ، ووجود فرق بين ذات الله وصفاته ، وضرورة رؤية الله يوم القيامة.

الملل والنحل ١ : ٨٤ ، موسوعة الفرق الإسلاميّة : ١٠٩. وذهبت الأشاعرة إلى أنّ لله معاني قائمة بذاته ، هي القدرة والعلم وغيرهما من الصفات ... وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن يعلم الذات عليها. وجماعة من المعتزلة اثبتوا لله تعالى صفات زائدة على الذات. كشف المراد : ٢٢٩ ، شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٢٧.

١ ـ واعلم أنّ أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ المعلول الأوّل هو العقل الأوّل ، وهو مجرّد عن الأجسام والموادّ في ذاته وتأثيره معا. كشف المراد : ١٣١.

٦٧

الواجب ، واللازم كالملزوم في البطلان.

بيان الملازمة أنّه يفتقر حينئذ في كونه موصوفا بتلك الصفة إلى وجود علّتها ، وفي كونه عاريا عنها إلى عدمها ، وهما مغايران له. وكلّ مفتقر إلى غيره ممكن ، فثبت الملازمة.

وأمّا بطلان اللازم فقد سبق.

قال : تبصرة ـ المفهوم من الاتّحاد صيرورة الاثنين واحدا (١) ، وهو محال عقلا فلا يتّحد الواجب بشيء (٢).

أقول : يريد بيان أنّه لا يتّحد بشيء من الموجودات. ونقل عن بعض متألّهة الحكماء وبعض صوفيّة الإسلام تجويزه ، وزعم النصارى أنّه قد ورد في الإنجيل دعوى المسيح الاتّحاد مع الله تعالى (٣). والذي يفهم من الاتّحاد هو صيرورة موجود واحد بعينه موجودا واحدا آخر بعينه من غير استحالة ولا تركيب ، حتّى يكون هناك شيء واحد هو هذا وهو ذاك بعينهما. وهو محال في بداهة العقل الصحيح عند تصوّره معنى الاتّحاد المذكور على ما ينبغي. وقد ننبّه على ذلك فنقول :

لو اتّحد الواجب بغيره لزم اجتماع النقيضين ، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة أنّهما لو اتّحدا لزم صيرورة الذات الواجبة بعينها الذات الممكنة بعينها ، فيلزم أن يصدق على هذا جميع ما يصدق على ذاك وبالعكس ، فيلزم كون كلّ منهما جائز العدم غير جائز العدم وهو جمع بين النقيضين ، فثبت المدّعى وهو امتناع الاتّحاد عليه

__________________

١ ـ الفصول النصيريّة : المفهوم من الاتّحاد صيرورة شيئين شيئا واحدا.

٢ ـ المفهوم الحقيقيّ من الاتّحاد هو انّ يصير شيء بعينه شيئا آخر. ومعنى قولنا : «بعينه» ، إنّه صار من غير أن يزول عنه شيء او ينضمّ إليه شيء شيئا آخر. وهذا المعنى الحقيقيّ على وجهين : أحدهما أن يكون هناك شيئان ، كزيد وعمرو مثلا ، فيتّحدان. ثانيهما : أن يكون هناك شيء واحد كزيد ، فيصير بعينه شخصا ، فيصير بعينه شخصا آخر غيره ، فهو تعالى لا يتّحد بشيء من الموجودات على كلا المعنيين. كشّاف اصطلاحات الفنون ٢ : ١٤٦٨.

٣ ـ إنّ وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالّا في غيره ، وخالف فيه بعض النصارى القائلين : بأنّه تعالى حالّ في المسيح عليه‌السلام. وبعض الصوفيّة القائلين : بأنّه تعالى حالّ في بدن العارفين. وهذا لا شكّ في سخافته. كشف المراد : ٢٢٧ ، شرح تجريد العقائد للقوشجيّ : ٣٢٥.

٦٨

تعالى.

قال : تبصرة ـ الألم واللّذة تابعان للمزاج ، والمزاج عرض. وحيث إنّ الواجب ليس محلّا للأعراض استحال عليه الألم واللّذة.

أقول : هاتان أيضا صفتان سلبيّتان. واللّذة عند بعض المتكلّمين هي الحالة الحاصلة عند تغيّر المزاج إلى الاعتدال ، والألم هي الحالة الحاصلة عند تغيّر المزاج إلى الفساد.

وعند بعض المعتزلة : إنّ اللّذة هي إدراك متعلّق الشهوة ، والألم إدراك متعلّق النفرة (١). والشهوة هي الميل إلى ما يعتقد أو يظنّ أنّه ملائم للمزاج ، والنفرة هي الهرب عمّا يظنّ أو يعتقد أنّه مناف للمزاج.

وقالت الحكماء : اللّذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم ، والألم إدراك المنافي من حيث هو مناف (٢).

إذا تقرّر هذا فنقول : يستحيل عليه الألم واللّذة بالتفسير الأوّل ؛ لأنّهما ما يتوقّفان على المزاج ، والمزاج عرض ، لأنّه من الكيفيّات الملموسة ، وكلّ كيفيّة ملموسة عرض ، فيكون المزاج عرضا ، والواجب ليس بعرض فيستحيل عليه الألم واللّذة. وكذلك يستحيلان عليه بالتفسير الثاني ؛ لتوقّفهما على المزاج أيضا ، وهو مستحيل عليه تعالى.

وأمّا على تفسير الحكماء فيمتنع عليه الألم عندهم ، لأنّ ما عدا الواجب معلول لذاته ، والعلّة تجامع المعلول في الوجود ، والمنافي لا يجامع ما ينافيه ، فامتنع عليه الألم. وأمّا اللّذة فتنقسم إلى لذّة حسّيّة وإلى لذّة عقليّة ، فاللّذة الحسّيّة هي ما ادركت بأحد الحواسّ العشر (٣) ، وهي ممتنعة عليه تعالى ، لتوقّفها على المزاج أيضا.

__________________

١ ـ قالت المعتزلة : إنّ المدرك إن كان متعلّق الشهوة كالحكّة في حقّ الأجرب ، كان إدراكه لذّة. وإن كان متعلّق النفرة كما في حقّ السليم ، كان إدراكه ألما. تلخيص المحصّل : ١٧١ ، إرشاد الطالبين : ٢٣٣.

٢ ـ قال ابن سينا : إنّ اللّذة إدراك الموافق والألم إدراك المنافي. تلخيص المحصّل : ١٧١ ، ٤٦٦.

٣ ـ وهي السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس والحسّ المشترك والخيال والوهم والحافظة والمفكّرة. يأتي ذكرها في صفحة ١٧٣.

٦٩

وأمّا اللذّة العقليّة فأثبتها الحكماء له تعالى (١) ، قالوا : لأنّه مدرك لذاته ، وذاته أعظم الذوات وأجلّها ، وإدراكه أقوى الإدراكات وأتمّها ، فيكون أعظم مدرك لأجلّ مدرك بأتمّ إدراك. ويدرك أيضا حقائق الأشياء على ما هي عليه بأسبابها ولوازمها إدراكا كلّيّا يمتنع زواله. وبعض من أثبت اللذّة العقليّة منع من إطلاق هذه اللفظة عليه تأدّبا مع الشرع الشريف حيث لم ترد هذه اللّفظة فيه (٢).

قال : تبصرة ـ الضدّ عرض يعاقبه عرض آخر في محلّه ، وينافيه فيه ، والندّ هو المشارك في الحقيقة. وقد ثبت أنّ الواجب ، ليس بعرض ، ولا يشاركه غيره في حقيقته ، فلا ضدّ له ولا ندّ له.

أقول : يريد أن يبيّن أنّه تعالى لا ضدّ له ولا ندّ له ، فهنا مسألتان :

الأولى : أنّه لا ضدّ له. والضدّ يقال على ثلاثة معان :

الأوّل : عند الجمهور يقال على مساو في القوّة لشيء آخر ، ممانع له في الوجود والفعل. والواجب لا ضدّ له بهذا المعنى ؛ إذ كلّ ما سواه رشحة من رشحات فيض جوده. والمعلول لا يساوي العلّة ولا يمنع وجودها وإلّا لنافاها ، فيلزم كون المعلول منافيا لوجود نفسه وهو محال. والمصنّف لم يتعرّض لإبطال هذا القسم.

الثاني : الضدّان عرضان وجوديّان يصحّ تعاقبهما على محلّ واحد ، ويمتنع اجتماعهما فيه ، وبينهما غاية الخلاف ، وهذا تعريف الحكماء ويسمّى حقيقيّا.

الثالث : الضدّان عرضان وجوديّان يصحّ تعاقبهما على محلّ واحد ، ويمتنع اجتماعهما فيه. وهذا تعريف عامّة أهل العلم ويسمّى مشهوريّا.

والتعريف الثاني أخصّ من الثالث مطلقا ، فإنّ الثاني يستلزم الثالث ضرورة دون

__________________

١ ـ قالت الحكماء : اللذّة هو إدراك الملائم ، وهو تعالى عالم لذاته بذاته ، وأشدّ الملائمات بالقياس إليه هو ذاته تعالى ، فلذّته أعظم اللذّات. تلخيص المحصّل : ٤٥٠.

٢ ـ قال العلّامة في كشف المراد : وقد يعنى بالألم إدراك المنافي ، وباللذّة إدراك الملائم. فالألم بهذا المعنى منفيّ عنه ؛ لأنّ واجب الوجود لا منافي له. وأمّا اللذّة فقد اتّفق الأوائل على ثبوتها لله تعالى ؛ لأنّه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذّا به. والمصنّف كأنّه قد ارتضى هذا القول ، وهذا مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلّمين ، إلّا أنّ إطلاق لفظ الملتذّ عليه يستدعي الإذن الشرعيّ. كشف المراد : ٢٢٩.

٧٠

العكس ، فإنّ الصّفرة والحمرة ضدّان بالثالث دون الثاني ؛ إذ ليس بينهما غاية الخلاف ، والسّواد والبياض ضدّان بهما. والمصنّف نفى الضدّيّة عنه بالمعنى الثالث ؛ إذ لم يتعرّض لذكر غاية الخلاف ، ويلزم منه نفيها بالمعنى الثاني ؛ لأنّ نفي العام يستلزم نفي الخاصّ ، مع أنّ الدليل الذي ذكره على نفي الثالث بعينه دالّ على نفي الثاني.

وتقريره أنّ الضدّين بالتفسير المذكور عرضان ، فلو كان للواجب ضدّ لكان الواجب عرضا ، لكنّ اللازم باطل بما تقدّم فالملزوم مثله ، والملازمة ظاهرة.

الثانية : أنّه لا ندّ له. والندّ هو المثل والنظير ، والمثل للشيء هو المساوي في حقيقته. وقد ثبت ببرهان التوحيد السابق أنّه لا يوجد من حقيقة الواجب لذاته إلّا فرد واحد ، فلو وجد له مساو في الحقيقة لكان الموجود من حقيقة الواجب اثنين ، هذا خلف.

واعلم أنّ هنا دقيقة جليلة يجب أن ينبّه عليها ليتحقّق معنى قولنا : لا مثل له ، فنقول : ليس المراد من أنّه (١) لا مثل له في الخارج أنّ الواجب نفسه حقيقة واحدة نوعية لها أفراد ذهنيّة ولا يوجد من تلك الأفراد إلّا فرد واحد وباقي الأفراد يمتنع وجودها خارجا ؛ لأنّ تلك الحقيقة لذاتها تقتضي وجوب وجودها ، فلا يجوز اتّصاف شيء من أفرادها بالعدم وإلّا لاتّصفت الحقيقة ـ التي هي في ضمن ذلك الفرد ـ بالعدم ، وما يقتضي وجوب وجود نفسه لا يتّصف بالعدم. فلو قلنا بانتفاء المثل بهذا المعنى لزم منه وجود المثل ، بل ينبغي أن يتحقّق أنّ الواجب مفهومه مفهوم شخصيّ لا أفراد له ذهنا ولا خارجا.

وبالجملة ليس بكلّي بل هو جزئيّ حقيقيّ. وتشخّصه عين مفهومه ، وسلب المثل عنه إنّما هو بالمناسبة ، كما نقول : ليس له ما نسبته إليه كنسبة زيد إلى عمرو في الإنسانيّة. فالسلب وارد على نفس مفهوم المثل لا على وجوده فقط ، أي لا يتصوّر له مثل ، لا أنّ هناك مثلا متصوّرا غير موجود.

ويظهر ممّا ذكرنا جواب مغالطة على وجود شريك البارئ.

تقريرها : شريك البارئ عبارة عمّا يشارك البارئ تعالى في النوع ، وكلّ ما يشارك البارئ في النوع يترتّب عليه لوازم ذلك النوع. ومن لوازمه وجوب الوجود خارجا ،

__________________

١ ـ «م» قولنا.

٧١

فيكون الشريك واجبا في الخارج لعين ماهيّته ، فيكون موجودا ، وهو المطلوب.

والجواب بمنع المقدّمة الأولى وهي صغرى المغالطة ؛ فإنّه ليس هناك مفهوم من المفهومات ولا حقيقة من الحقائق يصدق عليها في نفس الأمر المشاركة المذكورة كما بيّنّاه في الدقيقة ، والإيجاب يفتقر إلى تحصيل موضوع ولو في الذهن يثبت له في حدّ ذاته المحمول ، وإذا انتفى شرط الإيجاب كذبت الموجبة المذكورة.

قال : أصل ـ قد ثبت أنّ وجود الممكن من غيره ، فحال إيجاده لا يكون موجودا ؛ لاستحالة إيجاد الموجود ، فيكون معدوما ، فوجود الممكن مسبوق بعدمه. وهذا الوجود يسمّى حدوثا والموجود محدثا ، فكلّ ما سوى الواجب من الموجودات محدث.

أقول : لمّا فرغ من الصفات السلبيّة شرع في الثبوتيّة ، وهي وإن كانت وجوديّة والوجود أشرف فتستحقّ التقديم ، لكنّه أخّرها ليعلم من السلبيّات استحالة مماثلته للجسمانيّات ، فلا يتصوّر أنّ صفاته كصفات غيره من الموجودات. وأيضا متابعة لقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١)

ولمّا كان من جملة الثبوتيّات أنّه تعالى قادر أصّل هذا الأصل لاحتياجه إليه في إثبات القدرة له تعالى ، وذكر فيه بحثين :

الأوّل : أنّ كلّ ما سوى الواجب محدث بالزمان ؛ لأنّ كلّ ما سوى الواجب ممكن ، وكلّ ممكن محدث ، ينتج : كلّ ما سوى الواجب محدث.

أمّا الصغرى فلما تقدّم من أنّ الواجب ليس إلّا واحدا ، فتعيّن أن يكون ما سواه ممكنا.

وأمّا الكبرى فلأنّ الممكن ـ من حيث إنّه ممكن ـ لا وجود له من ذاته ، فوجوده من غيره. فحال إيجاد الغير له إمّا أن يكون موجودا أو معدوما ، لا جائز أن يكون موجودا ، وإلّا لزم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال. وأيضا : يلزم أن يكون له وجود ليس من الغير ، وهو خلاف الفرض. فتعيّن أن يكون معدوما ، فيكون حادثا ، إذ لا نعني

__________________

١ ـ الرّحمن : ٧٨.

٧٢

بالحدوث إلّا مسبوقيّة الوجود بالعدم. وهذا الدليل يدلّ على حدوث كلّ ما عدا الواجب ، جسما كان أو عرضا أو مجرّدا ؛ لشمول الإمكان لكلّ واحد منها. وإنّما قيّدنا الحدوث بالزمانيّ ؛ لأنّ الحدوث يقال على معنيين :

أحدهما : زمانيّ ، وهو كون الوجود مسبوقا بالعدم سبقا لا يجتمع السابق مع المسبوق ، بأن يكون العدم في زمان ، والوجود في زمان آخر بعده.

وثانيهما : ذاتي ، وهو كون الوجود مسبوقا بالغير ، وهو لا ينافي القدم الزماني.

وبيانه : أنّ الممكن لمّا لم يكن وجوده من ذاته بل من غيره فكان ـ بالنظر إلى ذاته ـ لا يستحقّ الوجود ، وإنّما يحصل له الوجود بالسبب المغاير لذاته. فيكون عدم استحقاق الوجود حاصلا له من ذاته واستحقاق الوجود حاصلا له من غيره ، وما بالذات أسبق ممّا بالغير ، فيكون عدم استحقاق الوجود سابقا على الوجود المعنيّ بالحدوث الذاتيّ. وفي قول المصنّف : «وهذا الوجود يسمّى حدوثا» تسامح ؛ لأنّ الحدوث كيفيّة الوجود ، والوجود متقدّم عليها تقدّم الموصوف على الصفة ، فلا يكون نفسه.

قال : واستحالة حوادث لا إلى أوّل ـ كما يقوله الفلسفيّ ـ لا يحتاج إلى بيان طائل بعد ثبوت إمكانها المقتضي لحدوثها.

أقول : هذا هو البحث الثاني في هذا الأصل. واعلم أنّ الفلاسفة لمّا قالوا بقدم العالم جوّزوا تحقّق حوادث لا إلى أوّل قبل كلّ حادث حادث وهكذا إلى غير النهاية ؛ وذلك لأنّهم يشترطون في بطلان التسلسل اجتماع أفراده في الوجود الخارجيّ ، وترتيبها أحد الترتيبين : إمّا الطبيعيّ أو الوضعيّ ، فلذلك جوّزوا حوادث لا إلى أوّل ؛ لأنّها وإن كانت مترتّبة لكن لا تجتمع أجزاؤها في الوجود (١). والمتكلّمون منعوا من ذلك ، ولهم على إبطال

__________________

١ ـ لا بأس بذكر علّة ذهاب الفلاسفة إلى القول بقدم العالم ، ثمّ بيان ما يترتّب عليه من القول بتحقّق حوادث لا إلى أوّل.

قال المحقّق الطوسيّ في تلخيص المحصّل : إنّ إثبات القادريّة لله تعالى مبنيّ على حدوث العالم وإبطال حوادث لا إلى أوّل. ثمّ قال : واعلم أنّ القادر هو الذي يصحّ أن يصدر عنه الفعل وأن لا يصدر ، وهذه الصحّة هي القدرة. وإنّما يترجّح أحد الطرفين على الآخر بانضياف وجود الإرادة أو عدمها إلى القدرة. والفلاسفة لا ينكرون ذلك ، إنّما الخلاف في الفعل مع

٧٣

ذلك دلائل أشار المصنّف إلى أمتنها.

وتقريره أن يقال : مجموع هذه الحوادث التي لا نهاية لها ـ من حيث مجموعيّته ـ ممكن ، وكلّ ممكن عدمه سابق على وجوده. ينتج : مجموع هذه الحوادث التي لا نهاية لها من حيث مجموعيّته عدمه سابق على وجوده.

أمّا الصغرى فلأنّ المجموع متوقّف على أجزائه ، وأجزاؤه غيره. وكلّ متوقّف على غيره فهو ممكن.

وأمّا الكبرى فلأنّ إمكانه مقتض لحدوثه. أمّا أوّلا فلما تقدّم ، وأمّا ثانيا فلأنّ إمكانه الذاتي لذاته ، ووجوده مقتضى علّة خارجة عن ذاته ، وما بالذات أقدم ممّا بالغير ، فوجوده مسبوق بلا وجوده ، وإمكانه يقتضي أن لا وجود له من حيث هو ، ولازم اللازم لازم ، فلا وجوده من حيث هو مقتضى ذاته ، ولا وجوده عبارة عن عدمه. وإذا كان المجموع ـ من حيث هو مجموع ـ مسبوقا بعدمه كان منقطعا ، إذ أفراده متتابعة شيء بعد شيء. فإذا انتهى بها الحال إلى أن لا يكون لشيء منها وجود فقد انقطع تتالي الأفراد عند ذلك الجزء الذي انتهى الموجود عنده ، وقد فرض ذاهبا إلى غير نهاية ، وهذا خلف.

قال : مقدّمة ـ كلّ مؤثّر إمّا أن يكون أثره تابعا للقدرة والداعي أو لا يكون ، بل يكون مقتضى ذاته. والأوّل يسمّى قادرا ، والثاني يسمّى موجبا. وأثر القادر مسبوق

__________________

اجتماع القدرة والإرادة ، هل يمكن مقارنة حصولها معها أو لا يمكن بل إنّما يحصل بعد ذلك؟ والفلاسفة ذهبوا إلى أنّه مع اجتماع القدرة والإرادة يجب حصول الفعل. ولقولهم بأزليّة العلم والقدرة ، وكون الإرادة علما خاصّا حكموا بقدم العالم.

تلخيص المحصّل : ٢٦٩.

ولازم هذا القول جواز تحقّق حوادث لا إلى أوّل ، ويلزم التسلسل حيث إنّه عبارة عن وجود ما لا يتناهى ، ولأجل الفرار من هذا الالزام شرطوا ـ لبطلان التسلسل ـ حصول أمرين : الأوّل : أن يكون آحاده موجودة معا. الثاني : الترتيب بين الآحاد ، إمّا الترتيب الوضعيّ كما في الأجسام والمقادير ، أو الترتيب الطبيعيّ كما في العلل والمعلولات ، وكلّ ما لا يجتمع فيه هذان الأمران لم يحكموا ببطلانه ، وجوّزوا عدم تناهيه ، وإن حصل فيه أحدهما دون الآخر. وجوّزوا عدم التناهي في الحركات الفلكيّة وإن كانت ذات أجزاء مترتّبة ؛ لعدم اجتماع أجزائها في الوجود. وكذا النفس ، جوّزوا عدم تناهيها لعدم الترتيب لكلا معنييه. والحوادث الغير المتناهية لا إشكال فيها ؛ إذ لم تكن أجزاؤها مجتمعة في الوجود.

إرشاد الطالبين : ١٦٧.

٧٤

بالعدم ؛ لأنّ الداعي لا يدعو إلّا إلى معدوم. وأثر الموجب يقارنه في الزمان ؛ إذ لو تأخّر عنه لكان وجوده في زمان دون آخر. فإن لم يتوقّف على أمر غير ما فرض مؤثّرا كان ترجيحا من غير مرجّح ، وإن توقّف لم يكن المؤثّر تامّا وقد فرض تامّا ، هذا خلف.

أقول : هذه مقدّمة يفتقر إليها في إثبات قادريّته تعالى ، وفيها بحثان :

الأوّل : إنّ الفاعل إمّا أن يكون موجبا أو مختارا على سبيل الانفصال الحقيقيّ ؛ لأنّه إمّا أن يكون بحيث يصحّ منه الفعل والترك أولا. والأوّل المختار ، والثاني الموجب.

وبيانه : أنّ الفاعل إمّا أن يكون فعله تابعا لقصده وداعيه أو لا يكون ، بل لقاسر أو لطبع المحلّ. والأوّل المختار ، والثاني الموجب. وليعتبر العاقل من نفسه الفرق بين حركته على وجه الأرض في مصالحه ومهمّاته ، وبين حركته حال إلقائه من شاهق وحركات نبضه ، فإنّه يجد من نفسه في الأوّل بحيث يمكنه الفعل ويمكنه الترك ويترجّح أحدهما بانضياف ميل جازم منه إلى وقوعه ، وذلك الميل تابع لتصوّر جلب نفع أو دفع ضرر. وفي الثاني يجد من نفسه بحيث لا يقدر على أن لا تصدر منه الحركة ، حتّى لو أراد عدمها وجزم به لم يؤثّر ذلك شيئا ، فهذا فرق بين الموجب والمختار.

الثاني : أنّ فعل المختار حادث وفعل الموجب لا يتخلّف عنه. والأوّل هو المعركة العظيمة بين الحكماء والمتكلّمين ؛ لأنّه قد اشتهر عند الحكماء عدم القول باختيار الصانع ، لقولهم بقدم العالم المستلزم لإيجاب الفاعل.

والمتأخّرون نقلوا خلاف هذا المشهور وقالوا : إنّ المحقّقين من الحكماء يقولون باختيار الصانع. بل إنّما محلّ النزاع بينهم أنّ فعل المختار هل يجوز تأخّره عنه أم لا؟ فالحكماء قالوا : لا يجوز. وفسّروا المختار بأنّه الفاعل بقدرة وإرادة ، فإذا انضمّت الداعية إلى القدرة يجب أن يكون الفعل معها بالزمان ؛ لأنّ الفاعل مع الداعي يصير علّة تامّة ، والعلّة التامّة لا يتأخّر معلولها عنها ، وقدرة الله تعالى وإرادته قديمتان ، فوجب عندهم قدم العالم (١).

__________________

١ ـ قال المصنّف في إرشاد الطالبين بعد تعريف فاعل المختار والموجب : واعلم أنّه قد اشتهر بين القوم ـ أعني

٧٥

وأمّا المتكلمون فإنّ أكثرهم جوّزوا تخلّف الأثر عن مجموع القدرة والداعي ، بل أوجبوه ؛ لإحالتهم الداعي إلى موجود ، فلذلك أوجبوا حدوث العالم.

واستدلّ المصنّف على أنّ فعل المختار لا بدّ أن يكون حادثا زمانيّا بأنّه لو لم يكن متأخّرا عنه لكان موجودا معه لا يتخلّف عنه ، فيلزم دعوة الداعي إلى إيجاد الموجود وقصد القاصد إلى تحصيل الحاصل ، وهو ضروريّ الاستحالة.

واستدلّ على أنّ فعل الموجب يجب مقارنته ، بأنّه لولاه لكان وجوده فيما بعد إمّا أن لا يتوقّف على أمر آخر غير ما فرضناه أوّلا أو يتوقّف. والأوّل يلزم منه الترجيح بغير (١) مرجّح ، والثاني يلزم منه أن لا يكون ما فرضناه أوّلا فاعلا تامّا ، والفرض أنّه تامّ ، هذا خلف.

قال : نتيجة ـ الواجب المؤثّر في الممكنات قادر ؛ إذ لو كان موجبا لكانت الممكنات قديمة ؛ لما عرفت. واللازم باطل ؛ لما تقدّم ، فالملزوم مثله.

أقول : النتيجة هي القول اللازم عن القياس لذاته. ولم يسبق هنا قياس هذه نتيجته ، لكن لمّا ذكر الأصلين السابقين ـ وهما العمدة في الدليل على كون المؤثّر قادرا ـ سمّى صورة القياس وبيان ملازماته ونفي تاليه نتيجة على سبيل المجاز. وأشار إلى توجيه الدليل بما تقريره أن نقول :

الواجب تعالى قادر : لأنّه لولاه لكان موجبا ، ولو كان موجبا لزم قدم العالم. ينتج : لو لم يكن قادرا لزم قدم العالم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.

__________________

المتكلّمين ـ أنّ الفلاسفة قائلون بإيجاب الله تعالى بالمعنى المذكور ، والمحقّقون ينفون صحّة هذا النقل عنهم. ويقولون : بأنّهم يقولون باختياره تعالى. وقد حقّق المحقّق الطوسيّ موضع الخلاف بين الفريقين في تصانيفه ، وقال : إنّ الحكماء يقولون : كلّ فاعل فعل بإرادة مختار ، سواء قارنه فعله في زمانه أو تأخّر عنه. وموضع الخلاف بين الحكماء والمتكلّمين في الداعي ، وذلك لأنّ الحكماء يجوّزون تعلّق الداعي بالموجود ، ومع انضمامه إلى القدرة يجب وقوع الفعل ، وحيث إنّ القدرة والداعي أزليّان فالفعل أزليّ ، فمن ثمّ قالوا بقدم العالم. والمتكلّمون يقولون : إنّه لا يدعو إلّا إلى معدوم ليصدر عن الفاعل وجوده بعد الداعي بالزمان أو تقدير الزمان. ويقولون : إنّ هذا الحكم ضروريّ ؛ إذ لو دعا إلى الموجود لزم تحصيل الحاصل ، وهو محال. إرشاد الطالبين : ١٨٣.

١ ـ «م» بلا.

٧٦

أمّا الملازمة الأولى فلما تقدّم من الحصر في القادر والموجب في المقدّمة السابقة.

وأمّا الملازمة الثانية فلأنّه لو كان موجبا فإمّا أن يتوقّف صدور العالم عنه على أمر غير ذاته أو لا يتوقّف. فإن توقّف فالموقوف عليه لا يكون حادثا وإلّا لزم التسلسل ، فتعيّن أن لا يتوقّف على شرط أو يتوقّف على شرط قديم. وهما يستلزمان قدم العالم لقدمه تعالى ووجوب الأثر للمؤثّر الموجب ، كما ذكر في المقدّمة السابقة.

وأمّا بطلان اللازم فقد تقدّم. وهذا الدليل مبنيّ على حدوث العالم ، وقد أورد الحكماء عليه إيرادات.

فتقريره على وجه لا يتوقّف على حدوث العالم أولى ، بأن نقول : الواجب مختار ؛ لأنّه لو كان موجبا لكان إمّا أن يتوقّف تأثيره في حدوث العالم على شرط غير ذاته أو لا. فإن لم يتوقّف يلزم قدم الحوادث الزمانيّة ، وهو باطل بالضرورة. وإن توقّف فإن كان الشرط قديما لزم المحذور المذكور آنفا. وإن كان حادثا يلزم القول بحوادث لا أوّل لها ، وقد تقدّم بطلانه. فثبت اختياره تعالى من غير احتياج إلى إثبات حدوث العالم.

ثمّ نقول : قد ثبت أنّ فعل المختار محدث بالزمان ، فيكون العالم محدثا حدوثا زمانيّا ، فثبت حدوث العالم والاختيار سالمين عمّا ذكروه من الاعتراضات.

قال : إلزام ـ الواجب عند الفلاسفة موجب لذاته ، وكلّ موجب لذاته لا ينفكّ أثره عنه (١) ، فيلزمهم أنّه إذا عدم شيء في العالم ، أن يعدم الواجب ؛ لأنّ عدم ذلك الشيء إمّا لعدم شرطه او لعدم جزء علّته. والكلام في عدمهما كالكلام فيه حتّى ينتهي إلى الواجب ؛ لأنّ الموجودات بأسرها تنتهي في سلسلة الحاجة إلى الواجب ، فيلزم انتهاء عدم ذلك الشيء المفروض إلى الواجب لذاته. وليس لهم بحمد الله عن هذا الإلزام مفرّ.

أقول : هذا دليل آخر على الاختيار وسمّاه إلزاما دون الأوّل : لأنّ اللازم من هذا ـ

__________________

١ ـ قالت الفلاسفة : إنّ الواجب لذاته واجب من جميع جهاته. وذلك يقتضي كون الواجب واجبا من جهة الفاعليّة فيكون فعله قديما لعدم انفكاك أثره عنه. تلخيص المحصّل : ١٠٢. ولازم هذا القول انعدام الواجب بانعدام أيّ شيء في العالم لأنّ عدمه على هذا يستند إلى عدم فاعله ، وهو كما ترى.

٧٧

وهو انعدام الواجب عند انعدام حادث من الحوادث ـ محال عند الكلّ. واللازم في الأوّل ـ وهو قدم العالم غير محال ـ عند الفلاسفة ، فلهذا ألزمهم المحال لو قالوا بالإيجاب ، بخلاف الأوّل.

وتقرير الإلزام أن نقول : لو كان الله تعالى موجبا لذاته لزم من عدم أيّ شيء فرض في العالم عدم الواجب. لكن اللازم باطل اتّفاقا ، فكذا الملزوم.

بيان الملازمة يتمّ بمقدّمات لا يختلفون في حقّيّتها :

الأولى : أنّ الواجب عندهم موجب لذاته ، كما هو المشهور في النقل عنهم ، وأنّ جميع الموجودات تنتهي في سلسلة الحاجة إليه.

الثانية : أنّ العلّة التامّة عندهم عبارة عن جميع ما يتوقّف عليه التأثير من حصول الشرائط وارتفاع الموانع ، وأنّه متى حصلت وجب وجود المعلول.

الثالثة : أنّ عدم المعلول يستند إلى عدم علّته أو جزء علّته أو شرط علّته.

إذا تقرّرت هذه المقدّمات فنقول : إذا عدم شيء ما من العالم فعدمه إمّا لعدم علّته القريبة ، أو لعدم جزئها ، أو لعدم شرطها. وننقل الكلام حينئذ إلى عدم تلك العلّة وجزئها وشرطها ونقول : عدمها إمّا لعدم علّتها أو لعدم جزئها أو لعدم شرطها ، وهكذا حتّى ينتهي الكلام إلى العلّة الأولى. فيلزم عدم الواجب لذاته ، هذا خلف. وليس لهم عن هذا الإلزام مفرّ إلّا أن يقولوا بعدم صدق واحدة من هذه المقدّمات ، والفرض أنّهم لم يقولوا بعدم شيء من ذلك ، فيتمّ الإلزام وهو المطلوب.

قال : نقض ـ قالت الفلاسفة : الواحد لا يصدر عنه إلّا واحد (١). وكلّ شبهة لهم على هذه الدعوى في غاية الركاكة. ولذلك (٢) قالوا : لا يصدر عن البارئ تعالى بلا واسطة إلّا

__________________

١ ـ قال المحقّق الطوسيّ في تلخيص المحصّل : العلّة الواحدة يجوز أن يصدر عنها أكثر من معلول واحد عندنا ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة. احتجّوا بأنّ مفهوم كونه مصدرا لأحد المعلولين ، غير مفهوم كونه مصدرا للآخر ، فالمفهومان المتغايران إن كانا داخلين في ماهيّة المصدر لم يكن المصدر مفردا بل يكون مركّبا. وإن كانا خارجين كانا معلولين فيكون الكلام في كيفيّة صدورهما عنه كالكلام في الأوّل ، فيفضي إلى التسلسل. والجواب : أنّ مؤثّريّة الشيء في الشيء ليست أمرا ثبوتيّا ، وإذا كان كذلك بطل قولهم. تلخيص المحصّل : ٢٣٧.

٢ ـ الفصول النصيريّة : وكذلك.

٧٨

عقل واحد (١)

أقول : النقض في اصطلاح المناظرين يقال على معنيين : إجماليّ وتفصيليّ. فالإجماليّ هو تخلّف الحكم المدّعى ثبوته نفيا او إثباتا عن دليل المعلّل. والتفصيليّ هو منع مقدّمة من مقدّمات الدليل. ويقال مجازا على مطلق المنع الخالي عن السند. ويمكن حمل كلام المصنّف على كلّ واحد منها كما يجيء.

إذا عرفت هذا فنقول : قالت الفلاسفة : البارئ تعالى واحد حقّا من جميع الجهات والاعتبارات ، وكلّ واحد حقّا لا يصدر عنه إلّا واحد فالبارئ لا يصدر عنه إلّا واحد ، وذلك الواحد هو العقل ، فالصادر عن البارئ بلا واسطة ليس إلّا العقل.

فهنا دعويان :

الأولى : أنّه واحد حقّا ، وهذا تقدّم بيانه. وأنّ كلّ واحد حقّا لا يصدر عنه أكثر من واحد. ولهم على هذه الدعوى شبه ، أشهرها وأمتنها هو أنّ الواحد حقّا لو صدر عنه أكثر من واحد لكان لكلّ مصدريّة تغاير مصدريّة الآخر ، بدليل تصوّر إحداهما حال الغفلة عن الاخرى ، والمصدريّتان ثبوتيّتان ؛ (لأنّهما نقيضتان للا مصدريّة العدميّ) (٢) ونقيض العدميّ ثبوتيّ. فالمصدريّتان إن دخلتا أو إحداهما في ماهيّة ذلك الواحد لزم التركيب فيه ، وهو خلاف الفرض ، وإن خرجتا أو إحداهما لزم التسلسل : لأنّ ذلك الخارج معلول أيضا ، فننقل الكلام إليه ويلزم ما قلناه.

والجواب بالنقض إجمالا بالصدور الواحد ، فإنّه أمر ثبوتيّ يلزم من دخوله التركيب ومن خروجه التسلسل. وتفصيلا بمنع لزوم التسلسل على تقدير الخروج ، فإنّ المصدريّة من الامور الاعتباريّة التي لا وجود لها خارجا ؛ لأنّها من قبيل الإضافات. وهي ليست بمتحقّقة خارجا عندنا وإلّا لزم التسلسل ، فحينئذ نختار أنّ المصدريّة خارجة ولا يلزم التسلسل ؛ لعدم احتياج ذلك الأمر الاعتباريّ إلى علّة.

__________________

١ ـ واعلم أنّ أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أنّ المعلول الأوّل ، وهو العقل الأوّل ، وهو موجود مجرّد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا. ثمّ إنّ ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثّره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله. ثمّ يصدر من العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الآخر وهو المسمّى بالعقل الفعّال. كشف المراد : ١٣١.

٢ ـ ما بين القوسين في «خ» «ن» : لأنّهما نقيضا الّا مصدريّة ، العدمي.

٧٩

الثانية : أنّ الصادر عنه أوّلا بلا واسطة هو العقل ، وبيان هذه الدعوى موقوف على تصوّر أقسام الممكن.

قالوا : الموجود الممكن إمّا أن يفتقر إلى موضوع أولا. والمراد بالموضوع هو المحلّ المقوّم لما يحلّ فيه. فإن كان الأوّل فهو العرض ، وإن كان الثاني فهو الجوهر. فإمّا أن يكون محلّا ، أو حالّا ، أو مركّبا منهما ، أو ليس واحدا من الثلاثة. فإن كان محلّا فهو المادّة ، وإن كان حالّا فهو الصورة ، وإن كان مركّبا منهما فهو الجسم ، وإن لم يكن واحدا من الثلاثة فهو المجرّد. فإن افتقر في كمالاته إلى البدن فهو النّفس وإن لم يفتقر فهو العقل.

إذا تقرّر هذا قالوا : لا يجوز أن يكون الصادر الأوّل عنه عرضا ؛ لأنّ العرض مفتقر إلى الموضوع فهو يستدعي سبقيّته. فلو كان هو الأوّل لتقدّم على محلّه. ولا مادّة ؛ وإلّا لكانت صالحة للتأثير ، لكن المادّة لا تصلح ؛ لأنّها قابلة والفاعل لا يكون قابلا. ولا صورة ؛ لأنّها مفتقرة في فاعليّتها إلى المادّة فلا تكون سابقة عليها. ولا جسما ؛ لتركّبه ، فيكون الصادر اثنين لا واحد. ولا نفسا ؛ لأنّها تتوقّف في فعلها على الآلة ، فتستدعي سبقيّتها. فلم يبق إلّا العقل ، وهو المطلوب. هذا تقرير ما قالوه (١) ، وقد عرفت ضعف مبناه.

__________________

١ ـ استدلّوا على إثبات الجواهر المجرّدة التي هي العقول بوجوه : الأوّل : قالوا : إنّ الله تعالى واحد فلا يكون علّة للمتكثّر ، فيكون الصادر عنه واحدا ، فلا يخلو إمّا أن يكون جسما أو مادّة أو صورة ، أو نفسا أو عرضا أو عقلا ، والأقسام كلّها باطلة سوى الأخير.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلّ جسم مركّب من المادّة والصورة. وقد بيّنّا أنّ المعلول الأوّل واحد.

أمّا الثاني : فلأنّ المادّة هي الجوهر القابل ، فلا تصلح للفاعليّة ؛ لأنّ نسبة القبول نسبة الإمكان ، ونسبة الفاعل نسبة الوجوب ، ويستحيل أن تكون نسبة الشيء الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب.

أمّا الثالث : فلأنّ الصورة مفتقرة في فاعليّتها وتأثيرها إلى المادّة ، لأنّها إنّما تؤثّر إذا كانت موجودة مشخّصة. وإنّما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادّة. فلو كانت الصورة هي المعلول الأوّل السابق على غيره لكانت مستغنية في عليّتها عن المادّة ، وهو محال.

أمّا الرابع : فلأنّ النفس إنّما تفعل بواسطة البدن ، فلو كانت هي المعلول الأوّل لكانت علّة لما بعدها من الأجسام ، فتكون مستغنية في فعلها عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا ، وهو محال.

أمّا الخامس : فلأنّ العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو كان المعلول الأوّل عرضا لكان علّة للجواهر كلّها ، فيكون السابق مشروطا باللّاحق في وجوده ، وهو باطل بالضرورة.

قال العلّامة : إذا عرفت هذا الدليل فنقول بعد تسليم اصوله : إنّه إنّما يلزم لو كان المؤثّر موجبا ، وأمّا إذا كان مختارا فلا ، فإنّ المختار تتعدّد آثاره وأفعاله. وسيأتي الدليل على أنّه مختار. كشف المراد : ١٣١.

٨٠