الأساس لعقائد الأكياس

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي

الأساس لعقائد الأكياس

المؤلف:

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي


المحقق: محمّد قاسم عبد الله الهاشمي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٦

قلنا : لو كان كذلك لم يجز العقاب عليها ؛ لأن ذلك ظلم ، والله سبحانه يقول : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١).

فصل [في أفعال الله جل وعلا]

وأفعال الله تعالى أفعال قدرة لا غير (٢) ، وهي نفس المفعول عرضا كان ، أو جسما ، أو فناء.

البصرية ، والبرذعي (٣) وابن شبيب (٤) : بل يحدث الجسم أو يفنيه بعرض (٥).

البصرة : ولا محل له.

ابن شبيب : بل يحل في العالم عند فنائه ، ويذهب (٦).

أبو الهذيل : بل بقوله : « كن ».

قلنا : يستلزم الحاجة إليه لإحداث الأجسام ، وإن سلم فلا يعقل عرض لا محل له

والقول : عبارة عن إنشائه تعالى للمخلوق.

وأفعال العباد أفعال جارحة ، وأفعال قلب ، وهي أعراض فقط.

الجمهور : والأفعال كلها مبتدأ ومتولد (٧).

أبو علي : لا متولد في أفعال الله تعالى لاستلزامه الحاجة إلى السبب.

__________________

(١) الأنعام : ١٦٤. الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧.

(٢) أي : ما أراده تعالى كان ووجد وثبت من غير واسطة شيء.

(٣) البرذعي : هو أبو الحسن البرذعي من معتزلة بغداد ، ويعد في الطبقة الثامنة ، وكان يدرس عليه مختلف فقهاء المذاهب لما له من علم وفضل

(٤) ابن شبيب : هو محمد بن شبيب من المعتزلة.

(٥) ويسمون هذا العرض « فناء » يخلقه الله لإفناء الجسم وإعدامه.

(٦) معناه : أنه يحل ذلك العرض في العالم في الوقت الأول عند فنائه ، ويذهب في الوقت الثاني.

(٧) المتولد : هو المسبب ، وهو من أفعال العباد الفعل الموجود بالقدرة بواسطة ، سواء كان مباشرا كالعلم ، أو غير مباشر كتحريك الغير.

٨١

قلنا : لا يستلزم الحاجة إلا حيث كان الله تعالى لا يقدر عليه إلا به ، والله تعالى يقدر عليه ابتداء ، فهو فاعل مختار ، وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) (١).

فصل [في أحكام قدرة العبد]

العدلية : والقدرة غير موجبة للمقدور خلافا للمجبرة (٢).

لنا : ثبوت الاختيار للفاعل المختار ضرورة ، والإيجاب ينافيه.

العدلية : وهي متقدمة على الفعل.

الأشعرية (٣) : بل مقارنة.

قلنا : محال إذ ليس إيجاد أحدهما بالأخرى بأولى من العكس.

العدلية جميعا : والله تعالى خلق للعباد قدرة يوجدون بها أفعالهم على حسب دواعيهم وإرادتهم.

الأشعرية : خلق لهم قدرة لا يوجدون بها فعلا.

قلنا : فلا فائدة إذا فيها ، ولنا ما مر (٤) ، وما نذكره الآن إنشاء الله تعالى.

الصوفية والجهمية : لم يخلق لهم قدرة البتة.

قلنا : إما أن يكون الله تعالى قادرا على أن يخلق لهم قدرة يحدثون بها أفعالهم أو غير قادر ليس الثاني ؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير ، وإن كان الأول فقد فعل

__________________

(١) الروم : ٤٨.

(٢) الذين أثبتوا للعبد قدرة كالنجارية والأشعرية ، فقالوا : القدرة موجبة للمقدور : فلا يصح وجود القدرة من دون وجود المقدور ، وإنما أثبتوا للعبد قدرة لفظا لا معنى ، فرارا مما لزم الجهمية.

(٣) وكذا النجارية.

(٤) من ثبوت الاختيار للفاعل المختار ، من وقوع الفعل حسب دواعيه وانتفائه بحسب صوارفه.

٨٢

سبحانه بشهادة ضرورة العقل ، وصريح القرآن حيث يقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (١) وشهادة كل عاقل عليهم.

قلنا : ليس فعل العبد منازعة ، أما فعل الطاعة والمباح فواضح (٢).

وأما فعل المعصية فهو كفعل عبد قال له سيده : لا أرضاك تأكل البر ، ولا أحبسك عنه ، لكن إن فعلت عاقبتك ، ففعل العبد ليس نزاعا ، لأن النزاع المقاومة والمغالبة ، وهذا العبد لم يقاوم ولم يغالب.

قالوا : سبق في علم الله أن العاصي يفعل المعصية.

قلنا : علمه تعالى سابق غير سائق فلم يناف تمكن العاصي من الفعل والترك ، وإن سلم ما ادعت المجبرة فعلم الله سبحانه ساقه إلى التمكن إذ هو تعالى عالم أن العاصي متمكن ، وذلك إبطال للجبر.

قالوا : لو كان يقدر الكافر على الإيمان لكشف عن الجهل في حقه تعالى لو فعل ، والله يتعالى عن ذلك.

قلنا : الله تعالى عالم بالكفر وشرطه ، وهو اختياره مع التمكن من فعله ، وبالإيمان وشرطه وهو اختياره كذلك ، فلم يكشف عن الجهل في حقه تعالى ، كعدم اطلاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أهل الكهف ، فإنه لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى بعد أن علم أنه لو اطلع عليهم لولّى منهم فرارا ولملئ منهم رعبا ، كما أخبر الله تعالى ؛ لأنه لا يكشف عن الجهل في حقه تعالى إلا حيث كان لا يعلم إلا أحدهما.

أئمتنا عليهم‌السلام ، والبهشمية : وهي باقية (٣).

__________________

(١) فصلت : ٤٦. الجاثية : ١٥.

(٢) إذ ليس فعل ذلك مكروها لله تعالى ، بل الطاعة أرادها الله تعالى منه ، والمباح كذلك أيضا فلا منازعة له تعالى فيهما.

(٣) بعد إيجاد الفعل الأول ، ولا تعدم بعد الفعل الثاني.

٨٣

البلخي ، والصيمري (١) والأشعري (٢) : بل يجددها الله تعالى عند الفعل.

لنا : حسن ذم من لم يمتثل إذ لو تكن حاصلة لم يحسن ذمه كعادم الآلة.

فرع [في حكم مقدور بين قادرين]

ومقدور بين قادرين متفقين ممكن وفاقا لأبي الحسين البصري ، وخلافا لبعض متأخري الزيدية (٣) وجمهور المعتزلة.

قلنا : تحريك الجماعة نحو الخشبة حركة واحدة ، وكسرهم نحو العود كسرا واحدا لا ينكره عاقل.

قالوا : لو أمكن لصح منهما مختلفين (٤) فيكون موجودا معدوما دفعة ، وذلك محال.

قلنا : لا يلزم اطراده لتضاد العلتين ؛ لأن العلة في صحة [المقدور بين] القادرين المتفقين الاتفاق ، وفي تعذره بين المختلفين الاختلاف ، فيجب الامتناع مع الاختلاف كالفاعل الواحد ، إذ إيجاده له وإعدامه منه دفعة محال ، ولم يمنع ذلك من فعله أحدهما ، والفرق تحكم.

ويستحيل إيجاد النقيضين والضدين في محل واحد دفعة ، خلافا لبعض المجبرة.

قلنا : ذلك لا يعقل.

__________________

(١) الصيمري : هو محمد بن عبد الله الصيمري ، أبو عبد الله ، أحد معتزلة بغداد ، وكان في بداية أمره بصريا ، إلا أن كراهته لأبي هاشم جعلته يرحل إلى بغداد ، قال القاضي عبد الجبار : وله الكثير من التصانيف في علم الكلام ، والصيمري من الطبقة التاسعة من طبقات المعتزلة. ش ٢ / ٥٢.

(٢) الأشعري : هو أبو الحسن بن أبي بشر الأشعري. تقدمت ترجمته.

(٣) كالإمام المهدي أحمد بن يحي المرتضى ، وغيره من الأئمة المتأخرين عليهم‌السلام.

(٤) م ط (من المختلفين).

٨٤

فصل [في الإرادة]

جمهور أئمتنا ، والبلخي ، والنظام (١) : وإرادة الله سبحانه لخلقه المخلوق نفس ذلك المخلوق ، ولأمر عباده نفس ذلك الأمر ، ولنهيهم نفس ذلك النهي ، ولإخبارهم نفس ذلك الخبر.

ووصف الله تعالى بأنه مريد ثابت عقلا وسمعا.

أما عقلا : فلأنه خالق رازق آمر ، ومثل ذلك لا يصدر من حكيم من غير إرادة ، وما فعله غير المريد فليس بحكمة ، والله سبحانه وتعالى حكيم.

وأما السمع فقال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وقال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٣).

وكذلك يوصف جل وعلا بأنه كاره عقلا وسمعا.

أما العقل : فلأن الحكيم لا يكره إلا ما كان ضد الحكمة.

وأما السمع : فقال الله سبحانه : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) (٤) الآية.

فإرادة الله [تعالى لفعله] إدراكه بعلمه حكمة الفعل ، وكراهته جل وعلا إدراكه بعلمه قبح الفعل ، والمعلوم عند العقلاء أن إدراك المعلوم غير العالم ، وغير المعلوم ، ولا يلزم من ذلك توطين النفس ؛ لأن التوطين هو النية ، ولا يشك العقلاء أن إدراك المعلوم هو غير النية] (٥).

__________________

(١) وأبو الهذيل ، وغيرهم. قالوا : إن إرادة الله مجاز عبارة عن مراده ، كما أن سمعه وبصره مجاز عبارة عن علمه.

(٢) يس : ٨٢.

(٣) البقرة : ١٨٥.

(٤) التوبة : ٤٦.

(٥) ملاحظة : هذا الكلام بين القوسين ابتداء من قوله عليه‌السلام : (ووصف الله تعالى بأنه مريد ... إلى قوله : (هو غير النية) ذكر في الشرح أنه النسخة الأخيرة التي ألحقها الإمام عليه‌السلام.

٨٥

[وقال] بعض الزيدية (١) وجمهور المعتزلة : بل هي (٢) معنى خلقه [الله] مقارنا لخلق المراد غير مراد في نفسه ، ولا محل له.

قلنا : يستلزم الحاجة على الله سبحانه إليه ، ونحو العبث حيث لم يكن مرادا في نفسه (٣) وعرض لا محل له محال كحركة لا في متحرك.

بعض المجبرة (٤) : بل معنى قديم.

قلنا : يستلزم إلها مع الله تعالى ، وقد مر إبطاله ، أو توطين النفس ، وذلك يستلزم التجسيم والجهل ، وقد مر إبطالهما.

النجارية : بل لذاته.

قلنا : يلزم توطين النفس [وأن تكون ذاته مختلفة ؛ لأن إرادته الصيام في رمضان خلاف إرادته تركه يوم الفطر ؛ لأن التخالف لا يكون إلا بين شيئين فصاعدا] (٥).

الرافضة (٦) : بل حركة لا هي الله تعالى ، ولا هي غيره.

قلنا : لا واسطة إلا العدم.

الحضرمي (٧) : بل حركة في غيره.

__________________

(١) كالإمام المهدي أحمد بن يحي وغيره.

(٢) أي : الإرادة والكراهة أيضا.

(٣) لأن من فعل ما لا يريد فهو عابث عند العقلاء قطعا.

(٤) وهم الكلابية والأشعرية.

(٥) ما بين الأقواس غير موجود في الشرح المطبوع ، وذكر في الشرح الصغير أنه زيادة في بعض النسخ ، وهذا مبني على نسخة متقدمة من الأساس ، وهي : (النجارية : بل ذاته) والذي في عقائد النسفي أن النجارية تقول : هو مريد بذاته ، فالكلام بين القوسين رد لما ذكر منهم في النسخة المتقدمة.

(٦) هشام بن الحكم وموافقوه.

(٧) الحضرمي : هو يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، أحد علماء العربية والنحو ، والفقه ، وقراءات القرآن ، قال الزبيدي : إنه أقرأ القراء ، وأعلم بالاختلاف في القراءات ، وتعليله ومذاهبه ، توفي سنة ٢٠٥ ه‍.

٨٦

قلنا : إذا فالمريد غيره تعالى ، وأن سلم لزم الحاجة ، وأن يكون أول مخلوق غير مراد لعدم وجود غيره [تعالى] حينئذ ، وذلك يستلزم نحو العبث كما مر.

قالوا (١) : لا ينصرف محمد رسول الله (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابن عبد الله إلا بإرادة من الله تعالى قلنا : لم ننفها إذ هي ما ذكرنا.

العدلية : وللعباد إرادة يحدثونها.

المجبرة : لا.

قلنا : لا ينكرها عاقل ، وقال تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٣) وقال تعالى : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (٤).

وهي [من العبد] توطين النفس على الفعل أو الترك.

فصل

ورضاء الله تعالى ، ومحبته ، والولاية بمعنى المحبة (٥) : الحكم باستحقاق الثواب قبل وقته ، وإيصاله إليه في وقته.

والكراهة ضد المحبة ، وتحقيقها (٦) الحكم باستحقاق العذاب قبل وقته [وإيصاله إليه في وقته]. والسخط (٧) : بمعنى الكراهة.

__________________

(١) أي : كل من خالفنا ، وأثبت الإرادة غير المراد.

(٢) أي : في الآية ، وهي قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) الخ.

(٣) المزمل : ١٩ ، الإنسان : ٢٩.

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) لا الولاية التي بمعنى ملك التصرف ، وهذه الثلاثة معناها في حق الله سبحانه ما ذكر ، وهو : الحكم ... الخ

(٦) في حق الله تعالى.

(٧) وكذلك البغض والغضب.

٨٧

فصل

والله تعالى مريد لجميع أفعاله ، خلافا لمن أثبت له تعالى إرادة مخلوقة وغير مرادة (١)

لنا : ما مر.

ومريد لفعل الطاعات ، وترك المقبحات.

البلخي : وفعل المباحات ؛ لأن فعلها شاغل عن فعل المعصية.

قلنا : ليس بنقيض (٢) لها.

وما ورد بصيغة الأمر منها (٣) فإرادة الله تعالى لمعرفة حكمها ، وكل الأحكام معرفتها واجبة كالخبر به.

والله تعالى مريد لأكل أهل الجنة ، وفاقا لأبي هاشم ، وخلافا لأبيه ؛ إذ هو أكمل للنعمة ، وإذ لا خلاف بين العقلاء أن الموفّر للعطاء من أهل المروءة والسخاء يريد أن يقبل المعطى [له] ما وفر إليه ، والله جل وعلا [بذلك] أولى.

العدلية : ولا يريد الله المعاصي خلافا للمجبرة.

قلنا : إرادته لها صفة نقص (٤) والله يتعالى عنها.

وقال تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٥) ، وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٦)

وقال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٧).

__________________

(١) لفظ الشرح : (إرادة مخلوقة غير مرادة) بحذف حرف العطف.

(٢) حقيقة النقيضين : ما ينقض أحدهما الآخر ، وهما لا يجتمعان ولا يرتفعان.

(٣) أي : من المباحات.

(٤) لكونها إرادة قبيح ، وإرادة القبيح قبيحة.

(٥) غافر : ٣١.

(٦) البقرة : ٢٠٥.

(٧) الزمر : ٧.

٨٨

قالوا : مالك يتصرف في مملوكه ، وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) (١).

قلنا : قولكم : مالك يتصرف في مملوكه سب لله تعالى ، حيث نسبتم إليه صفة النقص ؛ لأن من أراد من مملوكه الفساد فقد تحلى بصفة النقص عند العقلاء ، وردّ للآيات المتقدمة.

والآية [الأولى] معناها : ولو شاء لأماتهم قبل فعل المعصية ، أو سلب قواهم ، أو أنزل ملائكة تحبسهم ، لكنه خلاهم وشأنهم ، لأن أمامهم الحساب ، ومن ورائه العقاب ، قال تعالى : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) (٢).

(فصل) في بيان معاني كلمات من المتشابه

[معاني الهدى]

اعلم أن الهدى بمعنى : الدلالة ، والدعاء إلى الخير ، قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (٣).

وبمعنى زيادة البصيرة ، بتنوير القلب بزيادة في العقل ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤) ومثله قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٥) أي : تنويرا يفرقون به بين الحق والباطل.

وبمعنى الثواب ، قال تعالى : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) (٦) أي : يثيبهم [في حال جري الأنهار].

__________________

(١) الأنعام : ١١٢.

(٢) إبراهيم : ٤٢.

(٣) فصلت : ١٧.

(٤) محمد : ١٧.

(٥) الأنفال : ٢٩.

(٦) يونس : ٩.

٨٩

وبمعنى الحكم والتسمية ، قال الشاعر :

ما زال يهدي قومه ويضلنا

جهرا وينسبنا إلى الفجار

فيجوز أن يقال : إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، بمعنى : لا يزيدهم بصيرة لما لم يتبصروا ، أو لا يثيبهم ، أو لا يحكم لهم بالهدى ، ولا يسميهم به (١).

العدلية : لا بمعنى أنه لا يدعوهم إلى الخير خلافا للمجبرة.

قلنا : ذلك رد لما علم من الدين ضرورة ، لدعاء الله الكفار وغيرهم بإرساله إليهم الرسل ، وإنزاله إليهم الكتب ، وقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [وقال تعالى] : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢).

[معاني الضلال والإضلال]

والضلال في لغة العرب يكون بمعنى : الهلاك ، قال تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٣).

وبمعنى العذاب ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤)

وبمعنى الغواية عن واضح الطريق ، ومنه : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٥) أي : أغواهم عن طريق الحق.

__________________

(١) الهدى عند الإمام الهادي عليه‌السلام قسمان : هدى مبتدأ ، وهدى مكافأة ، فأما الهدى المبتدأ فقد هدى الله به البر والفاجر ، وهو العقل والرسول والكتاب ، فمن أنصف عقله ، وصدق رسوله ، وآمن بكتابه ، وأحل حلاله ، وحرم حرامه استوجب من الله الزيادة والهدى ، وهو القسم الثاني جزاء على عمله ، ومكافأة على فعله.

(٢) فاطر : ٢٤.

(٣) السجدة : ١٠.

(٤) القمر : ٤٧.

(٥) طه : ٧٩.

٩٠

والإضلال بمعنى : الإهلاك والتعذيب والإغواء كما مر ، وبمعنى : الحكم والتسمية ، قال الشاعر : ما زال يهدي قومه ويضلنا (البيت).

فيجوز أن يقال : إن الله يضل الظالمين بمعنى : يحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لما ضلوا عن طريق الحق ، وبمعنى يهلكهم أو يعذبهم (١).

العدلية : لا بمعنى يغويهم عن طريق الحق خلافا للمجبرة.

قلنا : ذلك ذم لله تعالى ، وتزكية لإبليس وجنوده ، وذلك كفر.

والإغواء بمعنى : الصرف عن واضح الطريق.

وبمعنى : الإتعاب ، يقال : أغوى الفصيل إذا أتعبه بحبسه عن الماء واللبن.

و[بمعنى] : الحكم والتسمية ، فيجوز أن يقال : إن الله أغوى الضّلّال ، بمعنى : حكم عليهم ، وسماهم به ؛ لما غووا عن طريق الحق ، ويغويهم في الآخرة بمعنى : يتعبهم جزاء على أعمالهم.

العدلية : لا بمعنى صرفهم عن طريق الحق ، خلافا للمجبرة.

قلنا : ذلك ذم لله تعالى ، وتزكية لإبليس [كما مر].

والفتنة في لغة العرب بمعنى : المحنة (٢) ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (سيأتي من بعدي فتن متشابهة كقطع الليل المظلم ، فيظن المؤمنون أنهم هالكون عندها ، ثم يكشفها الله [تعالى] بنا أهل البيت ...) (٣) الخبر.

__________________

(١) وقد يكون الضلال بمعنى النسيان نحو (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وبمعنى الذهاب عن الشيء والغفلة عنه ، نحو (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى).

(٢) والتمحيص.

(٣) قال في ش ٢ / ١١٩ : وتمامه « برجل من ولدي خامل الذكر ، لا أقول خاملا في حسبه ودينه وعلمه ، ولكن لصغر سنة وغيبته عن أهله واكتتامه في عصره » ولعله عليه‌السلام يشير بذلك إلى الإمام المهدي عليه‌السلام. قال في الحاشية : أخرجه أبو داود في سننه بلفظ قريب من ذلك.

٩١

و [بمعنى] الاختبار ، قال [الله] تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا (١) الآية ، أي : اختبرناهم بالتكاليف والشدائد.

وبمعنى الإضلال عن طريق الحق ، قال تعالى : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (٢).

وبمعنى العذاب ، قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (٣).

فيجوز أن يقال : فتن الله المكلفين ، بمعنى : اختبرهم بالتكاليف والشدائد.

ويفتن المسخوط عليهم بمعنى : يعذبهم.

العدلية : لا بمعنى يضلهم عن طريق الحق ، خلافا للمجبرة.

قلنا : ذلك صفة نقص وذم لله تعالى ، وتزكية لإبليس كما مر.

تنبيه

[معنى الاختبار والابتلاء من الله سبحانه]

اعلم أن من الناس من يعبد الله على حرف ، فإن أصابه خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة.

ومن الناس مثل ما قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ (٤) الآية.

__________________

(١) العنكبوت : ٣.

(٢) الصافات : ١٦٢ ـ ١٦٣.

(٣) الذاريات : ١٣.

(٤) آل عمران : ٤٦.

٩٢

فشبه [الله تعالى] الامتحان لتمييز صادق الإيمان من المتلبس به على حرف بالاختبار ، فعبر الله تعالى عنه بما هو بمعناه من نحو قوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (١) لا أنه تعالى اختبرهم اختبار الجاهل.

[معنى الطبع والختم]

والطبع والختم بمعنى : التغطية ، وبمعنى : العلامة.

العدلية : ولا يجوز أن يقال : إن الله تعالى ختم على قلوب الكفار ، وطبع بمعنى : غطى ، خلافا للمجبرة.

قلنا : أمرهم ونهاهم عكس من لم يعقل ، نحو المجانين ؛ إذ خطاب من لم يعقل صفة نقص ، والله سبحانه يتعالى عنها.

بعض العدلية (٢) : ويجوز بمعنى : جعل علامة.

وفيه نظر ؛ لأنها إن كانت للحفظة عليهم‌السلام فأعمال الكفار أوضح منها ، مع أنهم [عليهم‌السلام] لا يرون ما واراه اللباس من العورة ، كما ورد أنهم يصرفون أبصارهم عند قضاء الحاجة فبالأحرى أنهم لا يرون القلب ، والله [تعالى] غني عنها ؛ لأنه عالم الغيب والشهادة : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) (٣).

فالتحقيق أنه (٤) عبارة عن سلب الله تعالى إياهم تنوير القلوب الزائد على العقل الكافي ، لأن من أطاع الله تعالى نور الله قلبه ، كما قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (٥) وقال

__________________

(١) محمد : ٣١.

(٢) كالإمام المهدي وغيره.

(٣) سبأ : ٣ ، في الأصل (لا يعزب عنه شيء) واللفظ في المصحف ما أثبتناه.

(٤) أي : معناهما في حق الله تعالى.

(٥) التغابن : ١١.

٩٣

تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١) وقال تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٢) أي : تنويرا كما مر ، ومن عصى الله [سبحانه] لم يمده بشيء من ذلك ما دام مصرا على عصيانه.

فشبه الله سبحانه سلبه إياهم ذلك التنوير بالختم والطبع.

[معنى الغشاوة والوقر والحجاب]

وأما قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٣) وقوله تعالى حاكيا : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ (٤) فتشبيه لحالهم ـ حيث لم يعملوا بمقتضى ما سمعوا وأبصروا ، ولا بنصيحة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بمن في أذنيه وقر ، فلا يسمع من دعاه ، وعلى بصره غشاوة فلا يبصر شيئا ، وبمن بينه وبين الناصح حجاب لا تبلغ إليه نصيحته مع ذلك الحجاب (٥).

[معنى التزيين]

والتزيين : التحسين.

العدلية : والله [تعالى] لا يزين المعاصي خلافا للمجبرة.

قلنا : تزيين القبيح صفة نقص ، والله يتعالى عنها.

قالوا : قال تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (٦).

قلنا : المراد من الآية عملهم اللائق لهم (١) ، وهو المفروض والمندوب ، زينه الله تعالى بالوعد بالثواب ، والسلامة من العقاب ، فلم يقبلوا إلا ما زينه الشيطان من

__________________

(١) محمد : ١٧.

(٢) الأنفال : ٢٩.

(٣) البقرة : ٧.

(٤) فصلت : ٥.

(٥) ووجه التشبيه عدم الانتفاع.

(٦) الأنعام : ١٠٨.

٩٤

المعاصي ، كما قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) (٢) أي : التي عملوها [من المعاصي] (٣).

[معنى القضاء]

والقضاء بمعنى : الخلق ، قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٤).

وبمعنى : الإلزام (٥) قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٦).

وبمعنى : الإعلام (٧) قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٨) فيجوز أن يقال : الطاعات بقضاء [من] الله ، بمعنى : إلزامه (٩) لا بمعنى : خلقها ، خلافا للمجبرة (١٠).

قلنا : صحة الأمر بها والنهي عن تركها ينافي خلقه [تعالى] لها ضرورة ، وأيضا هي تذلل ، فيلزم أن يجعلوا الله متذللا ، وذلك كفر.

العدلية : ولا المعاصي بمعنى خلقها بقدرته ، أو ألزم بها خلافا للمجبرة.

لنا : ما مر.

__________________

(١) لفظ المتن في الشرح (عملهم اللائق بهم).

(٢) الأنفال : ٤٨.

(٣) معنى التزيين ـ عن الناصر ، والكشاف ، والهادي ، والحسين بن القاسم. ش ٢ / ١٢٩.

(٤) فصلت : ١٢.

(٥) والحكم.

(٦) الإسراء : ٢٣.

(٧) وبمعنى : الفراغ ، نحو قضيت حاجتي ، وقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله ، كأنه فرغ منه ، وبمعنى : الأداء ، نحو قضيت ديني ، أي : أديته.

(٨) الإسراء : ٤.

(٩) وحكمه.

(١٠) فإنهم حكموا وأوجبوا أن الله خلق أعمال المكلفين طاعة كانت أو معصية.

٩٥

[معاني القدر]

والقدر بمعنى : القدرة ، والإحكام ، قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

وبمعنى : العلم ، قال تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) (٢).

وبمعنى : القدر (٣) ، قال تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (٤).

وبمعنى : الإعلام ، قال العجاج :

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى التي كان سطر (٥)

وبمعنى الأجل ، قال تعالى : (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٦).

وبمعنى : أتحتم ، قال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٧).

فيجوز أن يقال : الواجبات بقدر الله ، بمعنى : حتمه.

العدلية : لا بمعنى : خلقها بقدرته ، خلافا للمجبرة. لنا : ما مر.

العدلية : ولا المعاصي ، بمعنى : خلقها بقدرته ، أو حتمها ، خلافا للمجبرة.

لنا : ما مر.

وقدّر ـ مشددا ـ بمعنى : خلق ، قال : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (١).

__________________

(١) القمر : ٤٩.

(٢) الشورى : ٢٧.

(٣) بسكون الدال.

(٤) الرعد : ١٧.

(٥) العجاج : هو رؤبة بن العجاج بن رؤبة التميمي السعدي ، أبو الجحاف ، وأبو محمد ، راجز من الفصحاء المشهورين ، من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية ، كان أكثر مقامه في البصرة ، وأخذ عنه أعيان أهل اللغة وكانوا يحتجون بشعره ، ويقولون بإمامته في اللغة ، مات في البادية ، وقد أسن ، وله ديوان شعر مطبوع.

وتمام البيت : « أمرك هذا فاجتنب منه النتر » والنتر ـ بالنون والتاء المفتوحة المثناة من أعلى ـ : الفساد والضياع. ش ٢ / ١٣٣.

(٦) المرسلات : ٢٢.

(٧) الأحزاب : ٣٨.

٩٦

وبمعنى : أحكم ، قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢).

وبمعنى : بين ، يقال : قدر القاضي نفقة الزوجة ، أي : بينها.

وبمعنى : قاس وماثل ، يقال : قدرت ذا على ذاك ، أي : قسته به ، وجعلته مثله.

وبمعنى : فرض ، يقال : قدر ما شئت ، أي : افرض ، وأوجب.

فيجوز أن يقال : إن الله تعالى قدر الطاعة ، بمعنى : فرضها ، وقدر الطاعة والمعصية ، بمعنى : بينهما.

العدلية : لا بمعنى : خلقهما ، خلافا للمجبرة. لنا : ما مر.

فرع [في بيان القدرية]

والقدرية : هم المجبرة ؛ لأنهم يقولون : المعاصي بقدر الله ، ونحن ننفي ذلك ، والنسبة في لغة العرب من الإثبات لا من النفي ، كثنوي لمن يثبت إلها ثانيا مع الله ، لا لمن ينفيه ، ولأنهم يلهجون به (٣).

ولما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجوس : (أن رجلا من فارس جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون ذلك؟ قالوا : قضاء الله وقدره ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أما إنه سيكون من أمتي قوم يقولون مثل ذلك) (٤) وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (القدرية مجوس هذه الأمة) (١) ، ولا يشبههم أحد من الأمة غيرهم.

__________________

(١) فصلت : ١٠.

(٢) الفرقان : ٢.

(٣) فعلى هذا اسم القدرية يطلق على كل من يقول : بأن الله هو خالق أفعال العباد ، مثل المجبرة ، وهو الصحيح ، لا كما زعمه محقق متن الأساس في تعريفه للقدرية آخر الكتاب ، والقدرية : اسم ذم ، لذم الرسول لهم ، وقد ذكر أوصافهم ، وهي منطبقة على المجبرة ، ومن قال بقولهم ، واللغة تشهد بصحة ما قلناه.

(٤) في ينابيع النصيحة ص ١٦٤ : « يوضح ذلك ما روي عن الحسن البصري أنه قدم رجل من فارس ، جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم ، فإذا قيل : لم تفعلون هذا؟ قالوا : قضى الله وقدره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أما إنه سيكون في أمتي قوم يقولون مثله ، أولئك مجوس هذه الأمة).

٩٧

فصل [في الدلالة على أن الله عدل حكيم]

العدلية : والله تعالى عدل حكيم (٢) ، لا يثيب أحدا إلا بعمله ، ولا يعاقبه إلا بذنبه (٣).

المجبرة (٤) : [بل] يجوز أن يعذب الأنبياء ، ويثيب الأشقياء.

قلنا : من أهان وليه وأعز عدوه ، فلا شك في سخافته ، والله سبحانه يتعالى عن ذلك.

وأيضا ذلك شك في آيات الوعد والوعيد ، والله سبحانه يقول : (لا رَيْبَ فِيهِ) فهو رد لهذه الآية.

وقال قوم (٥) : يعذب الله أطفال المشركين لفعل آبائهم القبائح.

قلنا : ذلك ظلم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٦) ، وقال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٧).

فصل [في بيان الحكمة من خلق المكلفين]

والله تعالى متفضل بإيجاد الخلق مع إظهار الحكمة.

العدلية : خلق الله المكلف ليعرضه على الخير.

المجبرة : [بل] للجنة أو النار.

__________________

(١) (القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم) البيهقي في سننه برقم ٢٠٦٥٨ ، وأبو داود في سننه برقم ٤٦٩١ ، ورقم ٤٦٩٢ ، وأحمد بن حنبل في مسنده برقم ٦٠٧٧ ، ورقم ٢٣٥٠٣ ، وفي المستدرك على الصحيحين برقم ٢٨٦.

(٢) الله عدل حكيم. لفظا ومعنى عند العدلية.

(٣) حقيقة الثواب : المنافع المستحقة على وجه الإجلال والتعظيم.

وحقيقة العقاب : المضار المستحقة على وجه الإهانة.

(٤) الله عدل حكيم. عند المجبرة لفظا لا معنى ؛ ولهذا يجوز عندهم أن يعذب الأنبياء ، ويثيب الأشقياء.

(٥) هم الحشوية ، وفرقة من المجبرة.

(٦) الكهف : ٤٩.

(٧) الأنعام : ١٦٤. الإسراء : ١٥ ، فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧.

٩٨

لنا : قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) الآية.

وإلزامه تعالى لهم عبادته (٢) عرض على الخير الذي هو الفوز بالجنة ، والنجاة (٣) من النار ؛ إذ لا يكون لأحد من المكلفين إلا لمن عبده تعالى ؛ لما يأتي إنشاء الله تعالى.

قالوا : قال الله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ) (٤) الآية.

قلنا : اللام فيه للعاقبة ، كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٥) العدلية : وخلق الله غير المكلف ـ الجمادات ـ لنفع الحيوان مجردا عن اعتبار غير العقلاء ، ومعه (٦) للعقلاء.

وسائر الحيوان غير المكلف ليتفضل عليه ، وفي كل حيوان اعتبار.

وإباحة الله بعض الحيوان لبعض ، نحو المذكيات ، والتخلية ـ حسنة (٧) ؛ لمّا كانت لمصالح لها [يعلمها الله تعالى] فهي كالفصد.

فصل [في الآلام ونحوها]

والألم من فعل فاعل.

الطبائعية : بل الألم من الطبع.

قلنا : لا تأثير لغير الفاعل ، كما مر.

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) م ط (لهم عبادتهم إياه).

(٣) م ط (والسلامة من النار).

(٤) الأعراف : ١٧٩.

(٥) القصص : ٨. م ط زيادة لفظ (لا للغرض).

(٦) أي : وللنفع مع الاعتبار في حق المكلفين.

(٧) (حسنة) خير عن (إباحة الله) و (التخلية).

٩٩

ويحسن من الله تعالى لغير المكلف لمصلحة يعلمها الله سبحانه منه (١).

أبو علي ، وأصحاب اللطف (٢) : يحسن من الله تعالى له للعوض فقط (٣).

المهدي عليه‌السلام ، وجمهور البصرية : لا يحسن إلا مع اعتبار ؛ إذ يمكن الابتداء بالعوض من دون ألم. قلنا : قد ثبت لنا أن الله تعالى عدل حكيم ، ومن حكمته تعالى [أنه] لا ينزل الألم إلا لمصلحة لذلك المؤلم غير العاصي ، وذلك تفضل عند العقلاء.

عباد بن سليمان (٤) : لاعتبار الغير فقط (٥).

قلنا : ذلك ظلم [عند العقلاء](وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٦).

وإيلام المكلف المؤمن لاعتبار نفسه فقط ؛ إذ هو نفع كالتأديب ، ولتحصيل سبب الثواب فقط ، كما يأتي إنشاء الله تعالى. ولحط الذنوب فقط ، وفاقا للزمخشري (٧) في حط الصغائر ؛ إذ هو دفع ضرر كالفصد ، ويؤيده ما في الحديث [عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] (من وعك ليلة كفر الله عنه ذنوب سنة) (٨) أو كما قال.

__________________

(١) م ط (تعالى له).

(٢) أصحاب اللطف : هم بشر بن المعتمر ومتابعوه ، سموا بذلك لقولهم : إنه يمكن أن يلطف الله بكل مكلف حتى يؤمن ولا يكفر ، ولكن لا يجب عليه.

(٣) أي : يحسن من الله الألم لغير المكلف للعوض ، من دون اعتبار ولطف لأحد.

(٤) هو الصيمري ، تقدمت ترجمته.

(٥) أي : من دون مصلحة ، ولا عوض للمؤلم.

(٦) الكهف : ٤٩.

(٧) الزمخشري : هو جار الله محمود بن عمر الزمخشري ، الخوارزمي ، أبو القاسم المعتزلي ، إمام التفسير والمعاني والبيان ، والنحو ، واللغة ، له المصنفات العديدة في كل فن ، وكثير منها مطبوع ، ولد في ٢٧ رجب سنة ٤٦٧ ه‍ بزمخشر ، وجاور بمكة ، وصاحب عليّ بن موسى بن وهاس بمكة ، ودخل بغداد ، واتفق بالإمام أبي السعادات الحسني ، توفي بجرجانية خوارزم سنة ٥٣٨ ه‍ فإنه ذهب إلى حسن الألم من الله سبحانه لحطها ، وهو بناء على أن بعض العمد من الصغائر ، وهو كذلك عنده وعند الجمهور ، وأمام عند الإمام فكل عمد كبيرة.

(٨) أخرجه أحمد في مسنده بلفظ مختلف ٤ / ١٢٣. ش ٢ / ١٨٧.

١٠٠