الأساس لعقائد الأكياس

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي

الأساس لعقائد الأكياس

المؤلف:

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي


المحقق: محمّد قاسم عبد الله الهاشمي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٦

وفي النهج : « فإن الآلام تحط الأوزار ، وتحتّها كما تحت أوراق الشجر » (١) أو كما قال.

ولمصلحة له يعلمها الله سبحانه وتعالى كما مر ، ولمجموعها (٢) لجميع ما مر.

والأدلة السمعية على أن الألم في حق المؤمن لحط الذنوب فقط ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من وعك ليلة) الخبر ونحوه ، حتى تواتر معنى.

وكقول الوصي عليه‌السلام : « جعل الله ما تجد من شكواك حطا لسيئاتك » إلى قوله عليه‌السلام : « وإنما الجزاء على الأعمال » (٣) أو كما قال ، وهو توقيف.

وـ له على الصبر عليه والرضاء به ثواب لا حصر له ؛ لأنهما عمل لقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤) وقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (٥) الآية.

ويمكن أن يكون إيلام من قد كفر الله [عنه] جميع سيئاته ، كالأنبياء صلوات الله عليهم تعريضا للصبر على الألم والرضا فقط ؛ إذ هو حسن كالتأديب.

وإيلام أهل الكبائر تعجيل عقوبة فقط ، وقيل (٦) : لا عقاب قبل الموافاة.

لنا : قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٧).

__________________

(١) أخرجه أحمد في مسنده بلفظ مختلف ٤ / ١٢٣. ش ٢ / ١٨٧.

(٢) أي : مجموع ما ذكر وهي : الاعتبار ، وتحصيل سبب الثواب ، وحط الذنوب ، وحصول الحكمة.

(٣) قال في الشرح : ٢ / ٢٨٥ : الذي ذكر في النهج أن الوصي عليه‌السلام عاد بعض أصحابه فقال : « جعل الله ما كان من شكواك حطا لسيئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه ، ولكنه يحط السيئات ويحتها حت الأوراق ، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام ، وأن الله سبحانه يدخل الجنة بالنية والسريرة الصالحة من يشاء من عباده ».

(٤) الزمر : ١٠.

(٥) البقرة : ١٥٦ ـ ١٥٧.

(٦) هو قول أبي هاشم ، وخالفه أبو علي.

(٧) التوبة : ٣٠.

١٠١

ولا خلاف [في] أن الحد عقوبة ، ولقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) ونحوه.

ولاعتبار نفسه فقط ، كما مر في حق المؤمن ، ولقوله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢).

ولمجموعهما (٣) لا للعوض ، خلافا لرواية المهدي (٤) عليه‌السلام عن العدلية.

لنا : قوله تعالى : (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) (٥) و [قوله تعالى] : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٦) فلا عوض حينئذ.

المجبرة : يحسن خاليا عن جميع ما ذكر (٧). قلنا : ذلك ظلم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ويحسن من العبد إما عقوبة كالقصاص ، أو لظن حصول منفعة كالتأديب ، أو لدفع مضرة [أعظم] كالفصد والحجامة ، أو لإباحة الله تعالى كذبح الأضاحي.

فصل [في الآلام التي تقع من العبد]

الهادي عليه‌السلام : وما وقع من المكلف عدوانا ولم يتب زيد في عذابه بقدر جنايته ، وأخبر المجني عليه بذلك ، فإن كان مؤمنا أثيب على صبره.

قلت ـ وبالله التوفيق ـ ويحط بالألم من سيئاته لسبب التخلية ، ولقول الوصي عليه‌السلام : « فأما السب فسبوني فهو لي زكاة » أي : تطهرة ، أي : كفارة.

__________________

(١) النور : ٢.

(٢) التوبة : ١٢٦.

(٣) أي : يحسن من الله إيلام صاحب الكبيرة للعقوبة والاعتبار لا للعوض ، فلا عوض لصاحب الكبيرة لمنافاته العقاب

(٤) فإنه روي عنهم : أنه لا بد في جميع الآلام ونحوها من العوض والاعتبار في جميع المؤلمين والممتحنين ، فالعوض يدفع كونه ظلما ، والاعتبار يرفع كونه عبثا.

(٥) فاطر : ٣٦.

(٦) الأعراف : ٤٠.

(٧) بناء على قاعدتهم المنهدمة : أن الله تعالى يفعل كل ظلم وقبح ، ولا يقبح منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا

١٠٢

وإن كان ذا كبيرة ، فلا يزاد على إخباره لانحباط العوض بمنافاته العقاب لما مر.

ويمكن أن يجعله الله [تعالى] تعجيل بعض عقوبة [في حقه] فلا يخبر ، كما فعل الله تعالى ببني إسرائيل حين سلط عليهم بخت نصر ، فقال تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (١) ونحوها.

وإن كان غير مكلف فلمصلحة يعلمها الله تعالى كما مر تحقيقه للتخلية ، ولعدم أعواض الجاني كما مر.

المهدي عليه‌السلام عن العدلية : لا بد من آلام يستحق بها (٢) العوض ، فيعطى المجني عليه منها.

لنا : ما مر من أنه لا عوض لصاحب الكبيرة.

قالوا : الذي من الله تفضل لا إنصاف.

قلنا : قد حصل الإنصاف بزيادة العذاب كالقصاص ، فإن تاب جاز أن يقضي الله عنه كما لا يعاقبه ، وجاز أن يقضي الله من أعواضه إن جعل له أعواضا ، أو من أحد نوعي الثواب ، وهو النعيم دون التعظيم.

جمهور المعتزلة : لا يجوز إلا من أعواضه كما لا يسقط الأرش بالعفو عن الجاني.

البلخي : لا يجوز إلا الأول (٣) كما لا يعاقبه.

قلت ـ وبالله التوفيق ـ لا مانع من تفضله بالقضاء كالمتفضل بقضاء الأرش ، وقد حصل الإنصاف ؛ لأنه من الجناية ، ولا موجب مع وجود ما يقضي.

__________________

(١) الإسراء : ٥.

(٢) أي : يستحق بها العاصي العوض.

(٣) الأول : هو أن يقضي الله عنه ؛ لأن التوبة صيرت الفعل كأن لم يكن.

١٠٣

وإن كان الجاني غير مكلف فللمجني عليه ما مر من التفصيل (١) لسلبها العقول المميزة ، من التخلية والتمكين كالإباحة (٢).

وجناية المؤمن خطأ كجناية التائب ، وجناية ذي الكبيرة خطأ كما مر (٣) ، ولا عقاب عليه بسببها لعموم أدلة العفو عن الخطأ.

فصل [في أحكام العوض]

جمهور أئمتنا عليهم‌السلام ، وأبو الهذيل ، وأحد قولي أبي علي ، وغيرهم : ويدوم العوض خلافا لبعض أئمتنا عليهم‌السلام ، والبهشمية.

قلنا : انقطاعه يستلزم تضرر المعوض أو فناءه ، وحصول أيهما بلا عوض لا يجوز على الله تعالى ، وبعوض [آخر] يستلزم ذلك أن تكون الآخرة دار امتحان وبلاء ، لا دار جزاء فقط ، والإجماع على خلاف ذلك.

فإن قيل : يتفضل الله [عليه] بعد انقطاعه.

قلنا : قد استحق بوعد الله الذي لا يبدل القول لديه أن يبعث للتنعم ، فلا وجه لتخصيص العوض بجعل بعضه مستحقا ، وبعضه غير مستحق (٤).

فصل [في الآجال وحقيقتها]

والأجل (٥) وقت ذهاب الحياة ، وهو واحد إن كان ذهابها بالموت اتفاقا.

__________________

(١) وهو إما مصلحة يعلمها الله تعالى ، أو الاعتبار ، أو تحصيل سبب الثواب ، أو حط الذنوب ، أو لمجموعها ، وإن كان ذا كبيرة فتعجيل عقوبة ، أو لاعتبار نفسه ، أو لمجموعها لا للعوض.

(٢) في بعض نسخ الأساس (كالإباحة لها) ومعناه : فكان ذلك الألم كألم المذكيات بإباحة الله تعالى ذلك.

(٣) أي : في جناية العامد إلا أنه لا عقاب عليه بسببها.

(٤) م ط زيادة (وهو يوجبون العوض) وهي غير موجودة في الشرح الصغير لا متنا ولا شرحا.

(٥) الأجل في اللغة : هو الوقت المضروب لحصول أمر من الأمور ، كآجال حلول الدين. وفي الاصطلاح لمعنيين : إما لمدة استمرار حصول الحياة ، أو للوقت الذي تنقضي الحياة فيه ، وهو الذي أراده الإمام عليه‌السلام.

١٠٤

بعض أئمتنا عليهم‌السلام (١) والبغدادية : وأجلان إن كان ذهابها بالقتل خرم. وهو الذي يقتل فيه ، ومسمى : وهو الذي لو سلم من القتل لعاش قطعا حتى يبلغه ، ويموت فيه.

بعض أئمتنا عليهم‌السلام (٢) وبعض شيعتهم (٣) ، والبهشمية : يجوز ذلك قبل وقوع القتل لا بعده ؛ إذ قد حصل موته بالقتل (٤).

المجبرة : لا يجوز قبله ولا بعده البتة.

لنا : قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٥) وهو نص صريح يفيد القطع بأن القتل خرم ؛ إذ لو ترك المقتول خشية القصاص لعاش قطعا ، ولو ترك المقتص منه لتركه القتل الموجب للقصاص لعاش قطعا ، كما أخبر الله تعالى في قصة قتل الخضر عليه‌السلام الغلام ؛ لأنه لو لم يقتله لعاش قطعا حتى يرهق أبويه طغيانا وكفرا ، كما أخبر الله تعالى.

وأيضا لو لم يكن إلا أجلا واحدا لزم أن لا ضمان على من ذبح شاة الغير عدوانا إذ أحلها له ، فهو محسن عند المجبرة غير آثم للقطع بالإحسان ، وآثم عند غيرهم بالإقدام غير ضامن لانكشاف الإحسان.

قالوا : يلزم آجال.

__________________

(١) كالإمام المهدي عليه‌السلام.

(٢) كالإمام المهدي عليه‌السلام.

(٣) كالقرشي والرصاص.

(٤) هذا موافق لما ذكره الحاكم ، حيث قال : هذا التجويز إنما هو قبل وقوع القتل ، بمعنى : أنه إنما يجوّز موته وحياته لو سلم من القتل قبل أن يقع عليه القتل لا بعده. قال النجري : وإلى هذا أشار السيد مانكديم في شرح الأصول الخمسة ، وقد ذكر شارح الأساس أن هذا خلاف ما عليه الأئمة المتقدمون ، وتعرض لإبطال هذا القول ٢ / ٢١٠.

(٥) البقرة : ١٧٩.

١٠٥

قلنا : لا دليل على غيرهما فلا يلزم.

المجبرة : يكشف عن الجهل في حق الله تعالى ؛ إذ قطع القاتل أجله.

قلنا : لا ؛ لأن الله سبحانه عالم بالبقاء وشرطه ، وهو ترك الجناية والقتل ، وشرطه : وهو حصول الجناية ، فلم يكشف عن الجهل في حقه تعالى إلا لو كان لا يعلم إلا البقاء وشرطه فقط.

ألا ترى أن قتل الخضر [عليه‌السلام] الغلام لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى ، حيث علم أنه يرهق أبويه طغيانا وكفرا لو تركه الخضر عليه‌السلام.

قالوا : قال الله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) (١).

قلنا : معنى الآية : [الشهادة] للقتلى رحمهم‌الله بصدق إيمانهم وبامتثالهم لأمر الله [تعالى] أي : لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم متخلفين ، وعن الحرب مثبطين لم يكن القتلى من المؤمنين رحمهم‌الله تعالى [بمتخلفين] مثلكم ، اقتداء بكم ، ولا سامعين لكم أن تثبطوهم بدليل أول الكلام ، وهو قوله تعالى حاكيا عنهم : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) (٢).

فصل [في بيان الروح ومعناه]

والروح : أمر استأثر الله تعالى بعلمه ؛ لقوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً (٣) لا يكون الحيوان حيا إلا معه.

وادعاء معرفة حقيقته قريب من دعوى علم الغيب لفقد الدليل إلا التخيل ، فاكتساب أقوال الخائضين فيها ارتواء من آجن ، واستكثار من غير طائل ، والله

__________________

(١) آل عمران : ١٥٤.

(٢) آل عمران : ١٥٤.

(٣) الإسراء : ٨٥.

١٠٦

تعالى يقول : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) ويقول عزوجل في مدح المؤمنين : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (٢) وكذلك القول في كثير من مسائل فن اللطيف ونحو مساحة الأرض.

فصل [في ذكر الفناء والعدم]

أئمتنا عليهم‌السلام ، والجمهور : ويفني الله العالم ويعدمه.

الجاحظ ، والملاحمية ، وبعض المجبرة : محال.

قلنا : كذهاب المصباح والسحاب ، فليس بمحال ، وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٣)

وفي النهج : « كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ومكان » إلى قوله عليه‌السلام : « ولا شيء إلا الله الواحد القهار » ووجه حسنه التفريق بين دار الامتحان ، ودار الجزاء.

فإن قيل : لم لم يكن الجزاء في الدنيا؟.

قلت ـ وبالله التوفيق ـ : لعلم الله تعالى أن أكثر العصاة لا يوقنون به تعالى ، فلو أنه تعالى عاقبهم من غير خلق ما يعلمون به ضرورة أن ذلك عقوبة لم يعرفوا كون ذلك عقوبة ، وإنما يعدونه من نكبات الدهر كما يزعمون. وأن أكثر الممتحنين لو جوزوا مع عدم مثل ذلك لم يعلموا ضرورة أن الواصل إليهم جزاء ، بل يحصل التجويز أنه من سائر التفضلات ، ومع عدم كشف الغطاء بخلق ذلك إثبات (٤) لحجة

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) المؤمنون : ٣.

(٣) الحديد : ٣.

(٤) في الشرح ، والمتن المطبوع (يخلق) على الفعل المضارع ، ولا يستقيم مع رفع إثبات إلا على تقدير بعيد ، وفي المتن القلم (إثباتا) بالنصب ، واللفظ الموجود هو الأولى ، ومعناه ظاهر.

١٠٧

الأشقياء [على الله تعالى] لانتفاء الفرق عندهم بين من يخافه تعالى بالغيب ، وبين من لا يخافه إلا عند مشاهدة العذاب ، فيقولون : تبنا كالتائبين ، وأطعناك كالمطيعين.

ومع الفناء ، ثم البعث يعلمون علما بتّا لأجل فنائهم وإعادتهم أن الله حق. قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ (١) وأن الواصل إليهم جزاء قطعا ، لإخبار الله تعالى إياهم بذلك في الدنيا على ألسنة الرسل ولإخبارهم أيضا في الآخرة به ، فيكون أعظم حسرة على العاصين ، وأتم سرورا للمثابين مع انتفاء حجة الأشقياء على الله ؛ لأن الآخرة دار جزاء لا دار عمل ، والله تعالى أعلم.

فصل [في بيان الرزق]

العدلية : والرزق الحلال من المنافع والملاذ.

المجبرة : بل والحرام (٢).

قلنا : نهى الله تعالى عن تناوله والانتفاع به ، فهو كما (٣) لا يتناول ولا ينتفع به ، وهو ليس برزق اتفاقا.

وأيضا لم يسم الله تعالى رزقا إلا ما أباحه به دون ما حرمه ، قال [الله] تعالى (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) وَرِزْقاً حَسَناً (٤).

المسلمون : وما ورد الشرع بتحريمه فلا يحل تناوله.

__________________

(١) فصلت : ٥٣.

(٢) وهذا بناء على قاعدتهم المنهارة في الجبر ، وهي أن أفعال العباد من الله ، وهكذا نرى جميع أقوالهم الفاسدة نتيجة لهذا الأصل المنهار ، الذي أوردهم المهالك.

(٣) أي : مثل الذي لا يتناول ولا ينتفع به.

(٤) النحل : ٦٧.

١٠٨

الإباحية (١) : بل يحل كلما علم من الدين تحريمه من الأموال والفروج ، وقتل النفس بغير حق ، وغير ذلك.

المزدكية (٢) والصوفية : بل كلما علم من الدين تحريمه من الأموال والفروج ، وقتل النفس بغير حق ، وغير ذلك.

قالوا : لأن المال مال الله ، والعبد عبد الله ، وتناول النكاح محبة لله ؛ لحلوله تعالى في المنكوح ـ تعالى الله عن ذلك.

لنا : قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) (٣) الآية ونحوها.

وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) (٤).

وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (٥) [الآية] ونحوها.

وما ورد في قوم لوط ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) (٦) وهم يتأولون هذه الآيات على ما يحبون ويطابق هواهم ، وإن كان الكلام لا يحتمله ؛ لأنهم باطنية لا يتقلدون بشيء من الشرائع ، نحو تأويلهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) بأن الولي : الذّكر ، وشاهدي العدل : الخصيتان ، على ما هو مقرر في كتبهم ، وذلك رد لما علم من الدين ضرورة ، فهو تكذيب لله [تعالى] ورسوله.

المسلمون : وما حيز من مباح ، أو بكسب مشروع نحو الشراء فهو ملك من حازه بذلك المطرفية : لا ملك لعاص.

__________________

(١) فرقة من الباطنية.

(٢) المزدكية : فرقة من الثنوية ، منسوبون إلى شخص لهم يسمى مزدك ، ويزعمون أنه نبئ.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) البقرة : ١٨٨.

(٥) الإسراء : ٣٢.

(٦) الأنعام : ١٥١. الإسراء : ٣٣.

١٠٩

لنا : الآيات ، نحو قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) (١) الآية والإجماع

فرع

والرازق : هو الله تعالى ؛ لأنه الموجد للرزق والواهب له.

العدلية : وقد يطلق على نحو الواهب من البشر ؛ لكونه مبيحا للموهوب ، خلافا للمجبرة لنا : قوله تعالى : (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (٢).

فصل والتكسب جائز (٣).

الحشوية ، وتدليس الصوفية (٤) : لا يجوز لمنافاته التوكل.

وتحقيق مذهب الصوفية (٥) : بل لأن إباحته أغنته عن المشقة.

قلنا : التكسب لم يناف التوكل ، سيما مع المخاطرة به في القفار ، وعلى متون أمواج البحار. وأدلة تحريم أموال الناس لا ينكرها إلا كافر.

فصل [في الأسعار]

والسعر : قدر ما يباع به الشيء ، فإن زاد على المعتاد فغلاء ، وإن نقص منه فرخص ، وقد يكونان بسبب من الله تعالى حيث أنعم بزيادة الخصب في الرخص ، وحيث امتحن بزيادة الجدب في الغلاء ، وبسبب من الخلق حيث جلب التجار من

__________________

(١) النحل : ٥٦.

(٢) النساء : ٨.

(٣) بل قد يكون واجبا ، ويكون مندوبا ومباحا ، ومكروها ، ومحظورا على حسب الحالات ، انظر ش ٢ / ٢٥٦.

(٤) أي : ومثله تدليس الصوفية.

(٥) أي : بيان أن قولهم هذا ليس لمنافاته التوكل بل لما ذكر.

١١٠

موضع خصب إلى أخصب منه في الرخص ، وحيث تغلب بعض الظلمة على [أكثر] الحبوب ، ومنعها في الغلاء.

الحشوية ، والمجبرة : بل الكل من الله تعالى.

قلنا : ورد النهي عن الاحتكار ، وعن بيع الحاضر للبادي لأجل ذلك.

فصل [في التكليف ووجه حسنه]

والتكليف لغة : تحميل ما يشق ، واصطلاحا : البلوغ ، والعقل. وشرعا : تحميل الأحكام.

ووجه حسنه كونه عرضا على الخير كما مر ، وكذلك الزيادة فيه من إمهال إبليس ، والتخلية ، وإنزال المتشابه ، وتفريق آيات الأحكام الخمسة ، وإبقاء المنسوخ مع بقاء الناسخ ، ونحو ذلك ؛ لأنها عرض على استكثار الثواب ، وهو حسن.

المسلمون : ولم يكلف الله سبحانه وتعالى إلا ما يطاق.

الأشعري : بل كلف الله أبا جهل ما لم يطق ؛ حيث أمره أن يعلم ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالإيمان معا ، ومن جملة ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإخبار بأنه كافر. فإعلامه به تكليف ، ويلزم التكليف بلازمه ، وهو الكفر مع الإيمان ، والجمع بينهما لا يطاق.

والجواب ـ والله الموفق ـ أن كفر أبي جهل [لعنه الله تعالى] سبب للإعلام بأنه كافر ضرورة ، لا أن ذلك الإعلام سبب لحصول كفره ، وإذا لم يكن الإعلام سببا لم يلزم التكليف بالكفر.

وأيضا فإنا نقول : لم يكلف أبو جهل بالعلم بأنه كافر لحصوله عنده بسبب كفره إذ تحصيل الحاصل محال ، وكذلك أمر الحكيم به (١) محال.

__________________

(١) أي : بتحصيل الحاصل.

١١١

فثبت أنه لم يكلف إلا بالإيمان فقط ، مع أن ما ذكره الأشعري رد لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١).

فصل

واللطف (٢) : تذكير بقول أو غيره حامل على فعل الطاعة ، أو ترك المعصية.

والالتطاف : العمل بمقتضاه.

والخذلان (٣) : عدم تنوير القلب ، بزيادة في العقل الكافي ، مثل تنوير قلوب المؤمنين كما مر.

والعصمة (٤) رد النفس عن تعمد فعل المعصية ، أو ترك الطاعة ، مستمرا لحصول اللطف والتنوير عند عروضهما.

المهدي عليه‌السلام ، وأبو هاشم : ويجوز كون فعل زيد لطفا لعمرو.

ويجوز تقدم اللطف بأوقات كثيرة ، ولو قبل بلوغ التكليف ما لم يصر [ذلك] في حكم المنسي ، خلافا لأبي علي.

لنا : حصول الالتطاف بالمواعظ ، وهي فعل الغير ، وبأموات القرون الماضية ، وتهدم مساكنهم ، وهي متقدمة.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) اللطف في اللغة بمعنى : اللطافة ، ضد الكثافة ، واللطف في عرف اللغة : ما قرب من نيل الغرض ، وإدراك المقصود حسنا كان أو قبيحا.

(٣) الخذلان في اللغة : هو ترك العون والنصرة.

(٤) العصمة لغة : المنع عن الوقوف في الأمر المخوف ، قال في الصحاح : العصمة : الحفظ ، يقال : عصمته فانعصم ، واعتصمت بالله سبحانه إذا امتنعت بلطفه من المعصية.

١١٢

فصل [في أحكام اللطف]

وما يفعله الله تعالى قطعا لا يقال : بأنه واجب عليه تعالى لإيهامه التكليف ، ولأن الطاعات شكر لما يأتي إنشاء الله تعالى. والثواب تفضل محض.

ولأن خلقه للحيوان كإحضار قوم محتاجين إلى الطعام ، وإعداده للجزاء كنصب مائدة سنيّة ، وامتحانهم كجعل الطريق إليها ، وتمكين المكلف كتيسير تلك الطريق ، وفعل الألطاف كنصب العلامات كي لا يسلك غيرها ، وإرسال الرسل كالنداء إليها ، وقبول توبة التائبين كإعتاب من أباها.

فكما أن فعل ذلك تفضل في العقل فكذا هذه.

وأما التناصف فهو بعد كون ثبوت التخلية من الامتحان مزيد تفضل محض.

لأن الامتحان تفضل كما مر فهي حسنة كالفصد ، ولا شيء على الفاصد ضرورة غير الفعل المطلوب منه إذا كان بصيرا ؛ لأنه محسن عند العقلاء ، و (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) (١).

بعض المعتزلة [وغيرهم] : بل يجب على الله تعالى. بعضهم : جميع ما ذكر (٢) ، وبعضهم : بل بعضه (٣).

لنا : ما مر.

قالوا : قال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٤).

__________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) وهؤلاء هم جمهور المعتزلة ، فقالوا : يجب ستة أمور ١ ـ اللطف للمتلطفين. ٢ ـ العوض للمؤلمين ٣ ـ الانتصاف للمظلومين من الظالمين ٤ ـ قبول توبة التائبين ٥ ـ الإثابة للمطيعين ٦ ـ التمكين للمكلفين.

وقال بعضهم يجب ثمانية ، الستة المتقدمة و: ٧ ـ نصرة المظلومين ٨ ـ وبعثة المستحقين.

(٣) كقول بشر بن المعتمر ومتابعيه : أنه لا يجب على الله تعالى بعد التكليف إلا التمكن.

(٤) الأنعام : ٥٤.

١١٣

قلنا : شبه تعالى فعله لرحمته [بعباده الواسعة لكل شيء] بفعل الواجب المكتوب ، لما كان تعالى لا يخلفه البتة فعبر عنه بكلمة (كَتَبَ) ، كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (١) وهو غير واجب عليه تعالى اتفاقا.

كتاب النبوة (٢)

هي (٣) وحي الله إلى أزكى البشر (٤) عقلا وطهارة من [ارتكاب] القبائح ، وأعلاهم منصبا بشريعة (٥).

والرسالة لغة : القول المبلغ. وشرعا كالنبوة ، إلا أنه يقال في موضع (بشريعة) : (لتبليغ شريعة ، لم يسبقه بتبليغ جميعها أحد).

فصل

الهادي (٦) عليه‌السلام وأهل اللطف (١) : ويجب على كل مكلف عقلا أن يعلم أنه لا بد من رسول

__________________

(١) مريم : ٧١.

(٢) النبوة : وزنها فعولة ، فإن همزت فهي من الإنباء ، وإن لم تهمز فهي من النبوة ، من نبا المكان إذا ارتفع ، وإن كان النبي من الإنباء فهو فعيل بمعنى فاعل.

(٣) أي : النبوة في حقيقة الشرع.

(٤) لتخرج الملائكة.

(٥) متعلق ب (وحي) أي : وحي الله ... بشريعة. والوحي في اللغة : الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والإلهام ، والكلام الخفي ، وكلما ألقيته إلى غيرك. يقال وحيت إليه الكلام ، وأوحيت ، وهو : أن تكلمه بكلام بخفية ، وأوحى الله إلى أنبيائه : أشار إليهم. ذكر هذا في الصحاح.

(٦) والناصر عليه‌السلام ، والإمام أحمد بن سليمان ، وكثير من قدماء أهل البيت عليهم‌السلام.

والناصر : هو الإمام أحمد بن يحي الهادي بن الحسين عليهم‌السلام ، أبو يحي الإمام الناصر ، قال السيد أبو طالب : نشأ على الزهادة والعلم ، وتربى على العبادة ، وكان سلطان الأئمة وإمام السلاطين ، ورافع منار الدين ، أخذ العلم عن أبيه عن جده ، وعنه ولده يحي ، وكان رجوعه من الحجاز سنة ٣٠١ ه‍ وفيها ادّعى ، وكانت وقعة نغاش سنة ٣٠٧ ه‍ ، وله مصنفات ، له مع القرامطة جهاد كثير ، ولم يزل ناعشا للدين ،

١١٤

الهادي عليه‌السلام لينبئ عن الله سبحانه ببيان أداء شكره بما شاء من الشرائع ، على ما منّ به من النعم ، ويميز بذلك من يشكره ممن لا يشكره ؛ إذ قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم فامتنع أن يلقي جل وعلا مشافهة ، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك هملا.

قلت ـ وبالله التوفيق ـ : وكذا يأتي على أصل قدماء العترة عليهم‌السلام.

أهل اللطف : بل لأنه يجب على الله تعالى الأصلح.

قلنا : لا واجب على الله تعالى كما مر.

المهدي عليه‌السلام ، وبعض صفوة الشيعة ، وكثير من المعتزلة : لا يجب لأن الشرائع ألطاف في العقليات.

والشكر : الاعتراف فقط.

لنا : قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (٢) الآية ونحوها. وإجماع أهل اللغة على أنه قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان في مقابلة النعمة.

قالوا : قال الله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٣) فدل على أنها ألطاف في العقليات.

__________________

قامعا للمعتدين حتى توفي بصعدة سنة ٣٢٥ ه‍ ، ودفن جنب أبيه في القبة المعروفة ، وهو في التابوت الذي يحوي أباه عليه‌السلام. (الجنداري مقدمة شرح الأزهار).

أحمد بن سليمان : هو الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي عليهم‌السلام ، مولده سنة ٥٠٠ ه‍ ، كان عليه‌السلام فصيحا ، شاعرا ، علامة في فنون عديدة ، له تصانيف منها : أصول الأحكام جمع فيه ثلاثة آلاف حديث وثلاثمائة واثني عشر حديثا ، وحقائق المعرفة في علم الكلام ، وغيرهما ، وله كرامات مشهورة ، بيعته سنة ٣٣٥ ه‍ وملك أكثر اليمن ، وعمي آخر عمره ، وتوفي بحيدان خولان الشام في شهر ربيع سنة ٥٦٦ ه‍ وخلافته ٣٣ سنة ، وعمره ٦٦ سنة.

(١) أهل اللطف : هم البغدادية الذين أوجبوا على الله تعالى الأصلح في غير باب الدين.

(٢) سبأ : ١٣.

(٣) العنكبوت : ٤٥.

١١٥

قلنا : بل هي سبب التنوير الذي أراده الله تعالى بقوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١) أي : تنويرا تفرقون به بين الحق والباطل ، فهي كالناهي لما كانت سببا لحصول التنوير الزاجر عن ارتكاب القبائح ، وذلك لم يخرجها عن كونها شكرا لله تعالى.

قالوا : وردت الشرائع على كيفيات مخصوصة ، ولا يقتضي ذلك (٢) نعمة السيد على عبده قلنا بل تقتضي الامتثال بفعلها ، ومطابقة مراده بتأديتها ولذلك وجبت ، فلو كانت لطفا لم تجب ؛ لأن الحكيم لا يوجب ما لا يجب.

قالوا : قد ثبت أنه لا يجوز العقاب ابتداء على الإخلال بها اللازم من شرعيتها.

قلنا : إنما لم يجز حيث لم يكن مأمورا بفعلها ، فلم يخلّ بالامتثال ، كما أن العبد إذا أخل بما لم يأمره به سيده لم يكن مخلا بالامتثال. وأيضا وردت الرسل صلوات الله عليهم مع مقارنة التخويف ، فلو كانت ألطافا كذلك لقبح التخويف ؛ لأن الألطاف ليست بواجبة (٣) ؛ إذ التخويف لا يكون إلا على واجب.

قالوا : إنما اقترنت بالتخويف لتجويز الجهل ببعض المصالح (٤).

قلنا : لم تخبر به (١) الرسل ، وإن سلم لزم القول بوجوب العلم على كل مكلف أنه لا بد من رسول كقولنا ؛ لينبئ عن الله تعالى بذلك المجهول إذا كان واجبا ؛ إذ لم

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

(٢) ذلك مفعول ، ونعمة فاعل.

(٣) قال في الشرح : والألطاف ليست بواجبة ، هكذا ذكره الهادي عليه‌السلام ، لعله يريد عليه‌السلام بقوله : الألطاف ليست بواجبة على المذهب الصحيح ، وأما المخالف فهو يقول : إن الألطاف واجبة على الله.

ولعل مراد الإمام عليه‌السلام أن الألطاف وهي ما يقرب المكلف إلى فعل ما كلف به ليست بواجبة على المكلف ، وإنما الواجب عليه فعل ما كلف به ، وإن لم يفعل المقرب ، فإذا لم يكن واجبا على المكلف لم يحسن من الرسل التخويف عليه ؛ إذ التخويف لا يكون إلا على واجب فتأمل ، وليس المراد أنها غير واجبة على الله كما ذكر الشارح ، والله أعلم.

(٤) هذه حجة أبي هاشم على أبي القاسم البلخي ، وأنه لا بد أن يعرف بالنبوة ما لم يعرف بدونها.

١١٦

يعرف إلا بإخبار الرسل ، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك هملا وإلا لقبح ؛ حيث لم يكن واجبا [كما مر]. ولا خلاف في حسنها بين الأمة.

البراهمة (٢) : بل قبيحة ؛ إذ العقل كاف.

قلنا : لا يهتدى إلى امتثال أمر المنعم إلا بها.

(فصل) في بيان معنى النبي والرسول

القاسم ، والهادي عليهما‌السلام وغيرهما (٣) : والنبي أعم من الرسول ؛ لأن الرسول من أتى بشريعة جديدة من غير واسطة رسول. خلافا للمهدي عليه‌السلام ، والبلخي (٤).

لنا : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) (٥) فعطف العام على الخاص ؛ إذ ذلك يقتضي المغايرة.

المهدي عليه‌السلام ، والبصرية ، وهو ظاهر كلام القاسم عليه‌السلام : ويصح أن يكون النبي نبيا في المهد.

البلخي : لا يصح (٦).

قلت : وهو الأقرب ؛ لأن النبوة تكليف ، ولا تكليف على من في المهد ؛ لعدم التمييز والقدرة ، إلا أن يجعلها الله سبحانه له فلا بأس ؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير.

__________________

(١) أي : لم تخبر الرسل بذلك الذي جوز جهله.

(٢) البراهمة : رؤساء فرق الكفار بالهند.

(٣) كالزمخشري ، وقاضي القضاة وغيرهما.

(٤) وهو الكعبي نسبة إلى الأب ، والبلخي نسبة إلى البلد.

(٥) الحج : ٥٢.

(٦) لأن الطفولة منفرة عنه ، قال : وأما كلام عيسى عليه‌السلام فإنما كان إرهاصا.

١١٧

(فصل) في ذكر الملائكة

والملائكة صلوات الله عليهم أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام.

الأشعرية وغيرهم : بل الأنبياء أفضل [من الملائكة] (١).

لنا : قوله تعالى : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢) ولا شك في خطايا الأنبياء صلوات الله عليهم (٣).

وقوله تعالى [حاكيا] : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا) (٤) وقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٥).

وبيان الاستدلال بها : أن ذل ترق من درجة إلى درجة أعلى منها ، يعرف ذلك العالم بأساليب أهل اللسان العربي. يقال : لا يأنف فلان من تعظيم العالم ولا من هو أعظم منه ونبيئنا صلوات الله عليه أفضل من سائر الأنبياء صلوات الله عليهم ؛ لأدلة لا يسعها هذا الكتاب ، منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) (٦).

فصل [في ذكر المعجز وحقيقته]

والمعجز : ما لا يطيقه بشر (١) ولا يمكن التعلم لإحضار مثله ابتداء ، سواء دخل جنسه في مقدورنا كالكلام ، أم لا كحنين الجذع.

__________________

(١) وقالت الإمامية : بل الأنبياء والأئمة ، وتدخل أيضا فاطمة صلوات الله عليها ـ أفضل من الملائكة.

(٢) التحريم : ٦.

(٣) أي : الصغائر على جهة السهو والخطأ لا على جهة العمد.

(٤) الأعراف : ٢٠.

(٥) النساء : ١٧٢.

(٦) أخرجه ابن ماجه في سننه ، وابن أبي يعلى في مسنده ، وأحمد بن حنبل في المسند ، وابن حبان في صحيحه ، والترمذي في سننه.

١١٨

ولا يصح نبي بلا معجز (٢) خلافا للحشوية (٣).

قلنا : المعجز شاهد بصدقه ، وإذا عدم الشاهد لم يحصل التمييز بين النبي الصادق الأمين ، وبين نحو مسيلمة اللعين ، والله تعالى عدل حكيم لا يلبس خطابه بالهراء والافتراء.

بلى : يجوز أن يشهد على نبوته نبي قبله لحصول الشهادة على صدقه.

وشرطه (٤) إما أن يدعيه النبي قبل حصوله ، ويقع على حسب دعواه ، نحو قوله [تعالى] حاكيا : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٥) أو كان معرفا بالنبوة كخبر الثعلب وإلا فهو آية من آيات الله مصادفة ، وليس بمعجز لعدم اختصاصها بوقته.

ويجوز تراخيه عن وقت الدعوى ، ولو بأوقات كثيرة إن أخبر به فوقع ؛ إذ صارا معجزين ويجوز متقدما إن كان معرفا بالنبوة ، كقوله تعالى حاكيا عن عيسى عليه‌السلام : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٦) وهو في المهد.

البلخي : يجوز كذلك إرهاصا ، وظاهره الإطلاق (٧).

قلت ـ وبالله التوفيق ـ : لا دليل [إن لم يكن معرفا] لما مر.

__________________

(١) هذا في الاصطلاح ، وفي اللغة : ما يجعل غيره عاجزا ، وقد يفسر بأنه كل فعل يقدر عليه بعض القادرين دون بعض وقوله : (بشر) ليدخل ما يطيقه غير البشر من الملائكة والجن.

(٢) لأنه لا يدل على صدقه إلا المعجز.

(٣) فإنهم جوزوا أن يكون الشخص نبيا من غير معجز ولا وحي أيضا ، ولا شريعة جديدة ، ولا إحياء مندرسة ، بل يكون له تنويرات وإلهام يفارق بها سائر البشر.

(٤) أي : شرط المعجز.

(٥) الشعراء : ٣٠.

(٦) مريم : ٣٠.

(٧) أي : ظاهر قول أبي القاسم الإطلاق ، أي : سواء كان معرفا أم لا.

١١٩

البصرية : لا يجوز تقدمه ، وظاهره الإطلاق (١).

قلت : حصلت الشهادة [بنبوته] كالمقارن إن عرّف.

أئمتنا عليهم‌السلام ، والبهشمية : ولا يجوز لغير نبي.

الإمامية : بل يجب ظهروه للإمام.

عباد (٢) : بل يجوز ظهوره على حجج الله في كل زمان.

الملاحمية ، وهو ظاهر كلام المهدي عليه‌السلام ، والحشوية : بل يجوز للصالحين (٣).

الأشعرية : [بل] يجوز للكفار ، ومن يدعي الربوبية لا النبوة كاذبا (٤).

قلنا : [جميع] ذلك تلبيس وتشكيك بتصديق الأنبياء صلوات الله عليهم ؛ لأن الكفار يقولون : لا نصدقك ؛ لأنه قد أتى بمثل هذا المعجز من ادعى الربوبية وهو كاذب ، ومن ادعى الإمامة أو الصلاح ، أو كونه محقا في حجته ، فلعل المعجزة كانت لبعضها ، لكنك تجاريت [بالكذب] طمعا في نيل الدرجة العليا ، وهي النبوة والله عدل حكيم لا يفعل ذلك.

وأيضا لا يكون معجزا إلا إذا كان معرفا بالنبوة ، ولم يقع .. أو بعد الدعوى ، والدعوى للمعجز لا تكون إلا بعد الوحي بأن الله سيفعل ذلك.

وليس الوحي إلا للأنبياء عليهم‌السلام إجماعا.

__________________

(١) أي : سواء كان معرفا أم لا ، قالوا : لأنه يكون عبثا ، والعبث قبيح.

(٢) عباد : هو عباد بن سليمان الصيمري. تقدمت ترجمته.

(٣) قال الإمام المهدي : أما ظهوره على الصالحين فلا يمتنع عندي ، لا الخوارق الباهرة كفلق البحر ، وقلب العصا حية ، لما فيه من حط مرتبة الأنبياء ، قال : وكذلك لو أخبر به على القطع ، وعين وقت وقوعه لم يجز وقوعه مطابقا لدعواه ، لما فيه من حط مرتبة الأنبياء ، وأما غيره ممن جوزه فقالوا : ليس ذلك حطا من مرتبة الأنبياء.

(٤) لأنه لا يقبح عندهم من الله قبيح ، وأما من يدعي النبوة كاذبا فإن فيه هدم الشرائع ، وهذا منهم مناقضة ظاهرة ؛ إذ قد حكموا بأنه لا يقبح من الله قبيح.

١٢٠