الأساس لعقائد الأكياس

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي

الأساس لعقائد الأكياس

المؤلف:

المنصور بالله القاسم بن محمّد بن علي


المحقق: محمّد قاسم عبد الله الهاشمي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ٣
الصفحات: ٢٠٦

والتوهم (١) : التصور صوابا كان أم خطأ. قال الشاعر (٢) :

بأضيع من عينيك للدمع كلما

تذكرت ربعا أو توهمت

وقد يطلق على الظن.

والجهل مفرد ومركب ، ف المفرد : انتفاء العلم بالشيء (٣).

والمركب : تصور المعلوم أو تصديقه على خلاف ما هو عليه.

والسهو : الذهول عن المعلوم.

فصل [في حقيقة النظر وما يجب منه وأقسامه]

والنظر مشترك (٤) والمراد به (٥) إجالة الخاطر في شيء لتحصيل اعتقاد ويرادفه التفكر المطلوب به ذلك.

وهو ينقسم إلى قسمين : صحيح ، وفاسد.

والأول : ما يتبع به أثر ، نحو التفكر في المصنوع ليعرف الصانع.

والثاني : ما كان رجما بغيب ، نحو التفكر في ذات الله تعالى ، وفي ماهية الروح.

أئمتنا عليهم‌السلام وصفوة الشيعة ، والمعتزلة وغيرهم : والصحيح منه واجب عقلا وسمعا ، خلافا للتعلمية (١).

__________________

(١) هذا حده في اللغة.

(٢) الشاعر : هو ذو الرمة غيلان بن عقبة العدوي ، من شعراء العصر الأموي ، توفي سنة ١١٧ ه‍ وقبل هذا البيت :

فما شنتا خرقاء واهية الكلى

سقى بهما ساق ولم تتبللا

وقوله (أو توهمت منزلا) معناه : أو تصورت منزلا.

(٣) ش خ (انتفاء العلم بالمقصود).

(٤) أي : حقيقة مشتركة بين معان منها : نظر الجارحة ، ونظر الرحمة ، ونظر المقابلة ، ونظر الانتظار ، ونظر الفكر.

(٥) م ط ، م خ (والمراد به هنا).

٢١

قلنا : جهل المنعم مستلزم للإخلال بشكره على النعم ؛ لأن توجيه الشكر إلى المنعم مترتب على معرفته ضرورة ، والعقل يقضي ضرورة ب [وجوب] شكر المنعم ، وبقبح الإخلال به فوجبت معرفته لذلك.

ومعرفته لا تكون إلا بالنظر لامتناع مشاهدته تعالى كما يأتي بيانه إنشاء الله تعالى وما لا يتم الواجب إلا به يجب كوجوبه ، وإلا وقع الخلل في الواجب ، وقد قضى العقل بقبحه فتأمله. وقوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٢) الآية ، ونحوها قالوا (٣) : لا يدرك بالعقل إلا الضروريات فقط ، فيدرك الإمام أو الشيخ ما يناسب حروف القرآن وغيره من سائر المغيبات ضرورة ، ثم يعلّمانه.

قلنا : العلم بأنا ندرك بالنظر ضروري ، كالعلم بأنا نروى بالماء ، ونشبع بالطعام.

وقولكم : يدرك الإمام أو الشيخ ما يناسب حروف القرآن وغيره من المغيبات ضرورة ـ مجرد دعوى منهما عليكم بلا دليل حيث لم تدركوا أنتم ذلك ضرورة مثلهما ، ولم تنظروا في صحة دعواهما لبطلانه عندكم ، وكل دعوى بلا دليل لا شك في بطلانه ا ، وإلا فما الفرق بين دعواهما ودعوى من يقول : المناسب والغائب (٤) خلاف ذلك.

__________________

(١) التعليمية ـ هكذا في الشرح المطبوع ـ وفي المتن التعليمة ، وهما فرقتان من الباطنية وغيرهم ، وهما القرامطة والصوفية ، وهؤلاء يقولون : إن النظر والاستدلال بدعة ، فالقرامطة يقولون : إن إمامهم يعلم ما يناسب حروف القرآن والمغيبات ضرورة ، ثم يعلمه الناس. والصوفية يقولون : إن شيخهم يعلم ذلك ضرورة ، ويعلمه الناس. وقال الإمام يحي في الشامل : « التعليمية : طوائف من الملحدة والزنادقة » وقال في المعراج : « التعليمية فرقة من الحشوية ، وهم كل من حشا في الأخبار الأقوال الباطلة.

(٢) الغاشية : ١٧.

(٣) أي : التعليمية.

(٤) أي : المناسب للحروف ، والغائب من المعلوم.

٢٢

المجبرة (١) : لا يجب إلا سمعا.

لنا : ما مر ، وإن سلم لزم بطلانه بالدور ، أو الكفر ؛ لأن المكلفين إما أن يجب عليهم النظر في صحة دعوة الأنبياء عليهم‌السلام أو لا. الأول دور ؛ لأنه لا يجب النظر إلا بالسمع والسمع لا يثبت إلا بالنظر ، والثاني تصويب لمن أعرض عن دعوة الأنبياء عليهم‌السلام ؛ إذ لا واجب عليه ، وذلك كفر ؛ لأنه رد لما جاءت به الرسل ، وما علم من دين كل نبئ ضرورة

أئمتنا عليهم‌السلام ، والجمهور : وهو فرض عين.

ابن عياش (٢) ، والبلخي (٣) والعنبري (٤) ورواية عن القاسم (٥) عليه‌السلام ، ورواية عن المؤيد بالله (٦) عليه‌السلام : بل النظر فرض كفاية (٧).

__________________

(١) المجبرة هنا هم : جهم بن صفوان وأتباعه ؛ لأنهم يقولون : لا اختيار للعبد بل هو كالشجرة ، وأما الأشعرية والنجارية فيثبتون الاختيار ، ولما تلاشى الجبر ألزموا الجبر ، وهو يطلق على كل من لم يثبت للعباد فعلا.

(٢) ابن عياش : هو أبو إسحاق إبراهيم بن عياش النصيي البصري المعتزلي ، قال في المنية والأمل : كان من الورع والزهد والعلم على حد عظيم ، وهو من الطبقة العاشرة من المعتزلة ، وله كتاب في إمامة الحسنين ، وكتب أخرى حسان ، وهو أحد الذين تتلمذ عليهم القاضي عبد الجبار.

(٣) البلخي : هو عبيد الله بن أحمد بن محمود الكعبي ، أبو القاسم البلخي المعتزلي ، إمام معتزلة بغداد ، أخذ الكلام عن أبي الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط ، روى الحديث قليلا ، وليس بذاك فيه ، له كتاب السند ، وكتاب الطبقات ، والمقالات ، صحب الإمام محمد بن زيد الداعي ، وكتب له ، وقال : ما كتبت لأحد إلا استصغرت نفسي إلا محمد بن زيد فكأني أكتب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصحب الناصر وأخذ عنه علم الكلام الإمام الهادي إلى الحق يحي بن الحسين عليه‌السلام ، ذكره يحيي بن حميد ، توفي ببلخ في أيام المقتدر سنة ٣١٧ ه

(٤) العنبري : هو عبيد الله بن الحسن العنبري ...

(٥) القاسم : هو ترجمان الدين الإمام القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الملقب طباطبا الرسي ، أحد أقطاب الدين ، وأئمة الزيدية ، ولد سنة ١٧٠ ه‍ بعد قتل الإمام الحسين بن علي الفخي بأشهر ، روى عن أبيه ، وأبي بكر ، وإسماعيل أخي ابن أبي أويس ، وأبي سهل المقري ، وآخرين ، وعنه أولاده النجباء محمد ، والحسن والحسين ، وسليمان ، وداود ، وغيرهم ، وروى عنه محمد بن منصور ، وأبو جعفر النيروسي ، وغيرهم.

٢٣

ثم افترقوا في التقليد ، فابن عياش ، والعنبري وغيرهما ، ورواية عن المؤيد بالله : يجوز مطلقا

__________________

قال في الطبقات : « كان مبرزا في أصناف العلوم ، ومن أراد أن يعلم براعته في الفقه ودقة نظره في طرق الاجتهاد ، وحسن ترتيبه في انتزاعه الأحكام وترتيب الأخبار ، وحسن معرفته باختلاف العلماء ، فلينظر في أجوبته في المسائل ، كان بحرا في علم الكلام ، وروى السيد أبو طالب في الإفادة وغيره ، أن جعفر بن حرب لما حج دخل على القاسم عليه‌السلام فجاراه في دقيق الكلام ولطيفه ، فلما خرج من عنده قال لأصحابه : أين يتاه بأصحابنا عن هذا الرجل ، والله ما رأيت مثله.

قال أبو طالب : وكان في مصر داعيا لأخيه محمد ، فلما مات بث دعاته في الآفاق فأجابه عوالم في بلدان مختلفة ، ولبث في مصر عشر سنين ، ثم اشتد عليه الطلب من عبد الله بن طاهر فعاد إلى الكوفة ، وكانت البيعة الكاملة في بيت محمد بن منصور سنة ٢٢٠ ه‍ بايعه أحمد بن عيسى ، وعبد الله بن موسى ، والحسن بن يحي فقيه الكوفة ، ومحمد بن منصور ، ثم جال في البلدان وآل أمره أن سكن الرس إلى أن توفي سنة ٢٤٢ ه‍ وفي اللآلي سنة ٢٤٥ ه‍ روى له كل الأئمة ، له العديد من المؤلفات جلها ما زال مخطوطا في مكتبات متفرقة ومعظمها في أصول الدين ، وقد نشر له المستشرق الإيطالي جويدي كتابه (الرد على ابن المقفع) والذي دعا جويدي لنشر هذا الكتاب هو الوقوف على كتاب ابن المقفع (معارضة القرآن) وأخيرا نشر بعض رسائله الدكتور / محمد عمارة ضمن رسائل العدل والتوحيد. ش ١ / ٩١.

(٦) المؤيد بالله : هو أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون بن محمد الحسني الآملي ، الإمام المؤيد بالله الكبير ، كان بحرا لا ينزف ، قال السيد الحافظ إبراهيم بن القاسم عليه‌السلام : برز في علم النحو واللغة ، وأحاط بعلوم القرآن والشعر ، وأنواع الفصاحة مع المعرفة التامة بعلم الحديث وعلله ، والجرح والتعديل ، وهو إمام علم الكلام ، وإمام أئمة الفقه ، وبالجملة فلم يبق علم من علوم الدنيا والدين إلا ضرب فيه بنصيب ، روى عن أبي العباس ، وقاضي القضاة وغيرهما ، وعنه السيد مانكديم ، والموفق بالله ، والقاضي يوسف ، وغيرهما ، ومن مصنفاته شرح التجريد ، والبلغة ، والهوسميات ، والإفادة والزيادات ، والتفريعات في الفقه ، والتبصرة ـ كتاب لطيف ـ وكتاب إثبات النبوة (مطبوع) وتعليق على شرح السيد مانكديم ، وإعجاز القرآن في الكلام ، والأمالي الصغرى (مطبوع بتحقيق العلامة عبد السلام عباس الوجيه) منشورات مكتبة التراث الإسلامي) وسياسة المريدين ، ولد بآمل طبرستان سنة ٣٣٣ ه‍ وبويع له بالخلافة سنة ٣٨٠ ه‍ ، وتوفي يوم عرفة سنة ٤١١ ه‍ ، وصلى عليه السيد مانكديم ، ودفن بلنجا ، وهي قرية متفرعة من عباس أباد ، الموجودة شمال إيران في محافظة لاهيجان ـ تنكابن) وقد من الله علينا بزيارته سنة ١٤١٣ ه‍ ، وكان قد كتب على ضريحه ـ ابن تاروه ـ وصححنا الخطأ ، وعليه قبة جميلة. وبجانبه غدير ماء نازل من الجبال مار بجانب باب القبة.

(٧) ذكر في تعليقة في الشرح : أنه لا يصح عنهما.

٢٤

البلخي ، ورواية عن القاسم عليه‌السلام : يجوز تقليد المحق.

قلنا : لم يكن الله تعالى مطابقا لكل اعتقاد ، فالمخطئ جاهل به ، والجاهل به كافر إجماعا ، وتقليد الكافر في كفره كفر إجماعا ، ولا يحصل العلم بالمحق إلا بعد معرفة الحق ، ولا يعرف الحق إلا بالنظر [والاستدلال] فيمتنع التقليد حينئذ.

فصل [في معرفة الدليل]

والدليل لغة : المرشد ، والعلامة الهادية.

واصطلاحا : ما به الإرشاد النظري (١).

ويمتنع معرفة ما لا يدرك ضرورة بلا دليل لعدم الطريق إليه ، فمن ادعى شيئا ولم يذكر الدليل عليه ، فإن كان دليله مما شأنه لو كان لظهر لجميع العقلاء ، كمن يدعي كون الصنم إلها ، أو لأهل الملة ، كمن يدعي وجوب صلاة سادسة فهو باطل قطعا لعدم الدليل ، وإلا لظهر لجميع العقلاء في الأول ، أو لأهل الملة في الثاني.

وإن كان دليله مما ليس من شأنه ذلك كالقول بتحريم أجرة الخاتن (٢) فالوقف حتى يظهر الدليل عليه إن كان لجواز أن يطلع عليه بعض العلماء ، ويعزب (٣) عن غيره ، أو يظهر عدمه (٤).

والاستدلال هنا : التعبير عما اقتفي أثره ، وتوصل به إلى المطلوب ، ويسمى ذلك التعبير دليلا وحجة إن طابق الواقع ما توصل به إليه ، وإلا فشبهة ، ويعرف كونه شبهة بإبطاله بقاطع في القطعيات والظنيات معا ، أو ظني يستلزمه الخصم ، أو يدل على صحة كونه دليلا قاطع في الظنيات لا بغيرهما.

__________________

(١) أي : الحاصل عن نظر وتفكر.

(٢) ش خ (الحجام).

(٣) أي : يخفى ، قال في الصحاح : عزب : بعد ، وغاب ، وبابه دخل ، وجلس.

(٤) ن م ط (أو يظهر عدمه إن لم يكن).

٢٥

فإن كان المبطل به مانعا لكون المبطل حجة ، ولم يتضمن الإثبات لخلاف ما ادعاه الخصم تعين كونه شبهة ، لا ثبوت خلاف ما ادعاه الخصم ؛ إلا أن يكونا (١) في طرفي نقيض ، إذا بطل أحدهما ثبت الآخر.

وإن تضمن إثبات خلافه تعين كونه شبهة وتعين خلافه.

أئمتنا عليهم‌السلام ، والجمهور : ويصح الاستدلال على ثبوت الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول ، وهي زهاء خمسمائة آية.

أبو رشيد (٢) ، وبعض متأخري صفوة الشيعة : يصح بالقطعي من السمع مطلقا.

الإمامية (٣) ، والبكرية (٤) وبعض المحدثين : وبالظني مطلقا.

أبو هاشم (٥) : لا يصح بالجميع مطلقا.

__________________

(١) أي : الدليل المبطل به والمبطل.

(٢) أبو رشيد : سعيد بن محمد النيسابوري ، يعد في الطبقة الثانية عشرة من طبقات المعتزلة ، كان تلميذا للقاضي عبد الجبار ، ثم ورث عنه رئاسة المعتزلة بعد وفاته ، لأبي رشيد بعض المؤلفات أهمها ديوان الأصول الذي جمع فيه دقيق الكلام وجليله ، حققه الدكتور عبد الهادي أبو ريدة ، قال في المنية : من أصحاب قاضي القضاة ، وكان بغدادي المذهب ، واختلف إلى القاضي فدرس عليه ، وقبل عنه أحسن قبول ، وصار من أصحابه ، وإليه انتهت الرئاسة بعد قاضي القضاة (المنية والأمل ١١٦) شرح عيون الحاكم ٢٧٩ ، مطلع البدور لابن أبي الرجال (دار الكتب ٣ ـ ٤).

(٣) الإمامية : هي إحدى فرق الشيعة ، وهم من يقول بإمامة الأئمة الاثني عشر.

(٤) البكرية : من المجبرة ، وهم الذين اختصوا بأن الطفل لا يتألم ، وأن إمامة أبي بكر منصوصة نصا جليا ، وهم أصحاب بكر بن عبد الواحد ، وهو الذي تذكره كتب المقالات باسم بكر بن ابن أخت عبد الواحد بن زيد ، كان في أيام النظام (٢٣١) ه ش ط ٢٣١.

(٥) أبو هاشم : هو عبد السلام بن محمد بن سلام (مخفف) بن خالد بن أبان بن حمران مولى عثمان بن عفان ، الجبائي المعتزلي ، أبو هاشم ، قال ابن خلكان : هو الإمام في مذهب الاعتزال ، المتكلم ابن المتكلم ، العالم ابن العالم ، كان هو وأبوه من كبار العلماء ، وولادته سنة ٢٤٦ ه‍ قال ابن خلكان : توفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من شعبان سنة ٣٢١ ه‍ ببغداد ، وإليه تنسب الفرقة البهشمية ، ذكره في المنية والأمل في الطبقة التاسعة ص ٩٤ ، والقاضي عبد الجبار من أنصاره وإن خالفه في بعض الأمور.

٢٦

قلنا : ذلك دليل على أقوى طرق الفكر الموصل إلى العلم (١) بالمطلوب حيث ذكّرنا إياها فهو دليل بالتدريج (٢) ، كالدليل على كونه حيا (٣).

والظني إن كان كذلك فصحيح ، وغير المثير دور (٤).

جمهور أئمتنا عليهم‌السلام ، وجمهور المعتزلة ، وقدماء الأشعرية [وغيرهم] ويصح بالقياس العقلي. بعض أئمتنا عليهم‌السلام وغيرهم : لا يصح.

قلنا : يوصل إلى العلم ، ألا ترى أن من وجد بناء في فلاة فإنه يعلم أن له بانيا ، وليس ذلك إلا بالقياس على ما شاهد من المبنيات المصنوعة بحضرته ، لعدم المشاهدة لبانيه ، وعدم المخبر عنه ، والجامع بينهما عدم الفارق ، ولوروده في السمع كقوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٥) ونحوها.

فرع [المستدل نفس الدليل]

ووجود المستدل على الله سبحانه لازم لوجود الدليل ؛ لأن وجوده هو نفس الدليل ، فيبطل تقدير عدم الدليل على الله سبحانه مع وجود المستدل ، بخلاف العكس ؛ لجواز أن يخلق الله تعالى شيئا لا يعلم ، نحو الجماد قبل خلقه تعالى من يعلم ، والجهل بوجه الدليل لا يبطل كونه دليلا ؛ لأن الجهل لا تأثير له في إبطال الأدلة باتفاق العقلاء.

__________________

(١) في نسخة (اليقين).

(٢) وهي كونها منبهة على أقوى طرق الفكر.

(٣) فإنه دليل بالتدريج عند أبي هاشم ، وهو كونه قد صح منه الفعل ، وصحة الفعل مترتب على كونه تعالى قادرا ، والقادر لا يكون إلا حيا ، فصحة الفعل درجة أولى عنده ، والقدرة درجة ثانية في الدلالة على كونه حيا ، وهذا رد على أبي هاشم ومن تبعه.

(٤) خ (وإلا فدور).

(٥) يس : ٧٩.

٢٧

فصل [في ذكر المؤثر]

ولا مؤثر حقيقة إلا الفاعل (١).

[بعض] المعتزلة (٢) والفلاسفة ، وغيرهم : بل والعلة ، والسبب ، وما يجري مجراهما ، وهو الشرط (٣) والداعي (٤).

البهشمية (٥) وغيرهم : والمقتضي (٦).

والعلة (٧) عندهم : ذات موجبة لصفة (٨) أو حكم ، وشرطها : أن لا تتقدم ما أوجبته وجودا ، بل تتقدم عليه رتبة ، وشرط الذي أوجبته أن لا يتخلف عنها.

__________________

(١) جملة الفاعلين أربعة : ١ ـ الله الخالق البارئ المصور لجميع العالم وفروعه.

٢ ـ كل حي قادر عاقل متمكن ، بما ركب الله فيه من القدرة ، ومن آلة الحركة والسكون.

٣ ـ الفاعل المكره على فعل. ٤ ـ كل حي غير عاقل.

(٢) بعض المعتزلة : هم من أثبت المعاني (أي : الأحوال) كأبي هاشم والقاضي عبد الجبار.

(٣) الشرط : هو ما يقف تأثير غيره عليه ، وليس بمؤثر فيه ، وسيأتي التعريف عليه في المتن.

(٤) الداعي : هو ما يدعو إلى الفعل ، وليس بمؤثر فيه ، وهو نوعان : داعي حكمة ، وهو علمه في الفعل مصلحة ، أو دفع مضرة ، وداعي حاجة.

(٥) البهشمية : هم أتباع أبي هاشم الجبائي ، من معتزلة البصرة ، وهو شيخ القاضي عبد الجبار الهمذاني ، ومن أهم ما تتميز به هذه الفرقة قولها بالإرادة الحادثة. ش ١ / ٢٣٧.

(٦) المقتضي : صفة تقتضي صفة أخرى ، يرجعان إلى ذات واحدة ، كالتحيز فإنه مقتضى عن الجوهرية ، والمدركية مقتضاه عن الحيية ، وهما لذات واحدة.

ومعنى الاقتضاء : أن الصفة تثبت للذات لا لأمر سوى اختصاص تلك الذات بصفة أخرى ، وليست تلك الصفة موجبة عنها ، بل يجب ثبوتها للذات المتصفة بتلك الصفة المقتضية لها ، لا لأمر سوى ذلك ، وهذا هو الفرق بينها وبين الذات

(٧) العلة في اللغة : هي ما يتغير به المحل كالمرض والحالة لكثرة تغيرها على مر الأزمنة ، والعلة : العذر أيضا.

(٨) حقيقة الصفة بالمعنى العام : كل مزية تعلم لا بانفرادها ، وقد دخل الحكم في ذلك ، وبالمعنى الخاص : كل مزية للذات راجعة إلى الإثبات ـ ليخرج ما يرجع إلى النفي ، كنفي التجسيم والحاجة والرؤية ، والجهل وغيره ، فإنها إنما تكون صفات بالمعنى العام ـ لا باعتبار غير ولا ما يجري مجرى الغير ، قالوا ، وقلنا : تعلم

٢٨

والسبب عندهم : ذات موجبة لأخرى ، كالنظر الموجب للعلم.

والشرط (١) : ما يترتب صحة تأثير غيره (٢) عليه (٣) أو (٤) ما يجري مجرى الغير (٥) ، وهو نحو الوجود (٦) في تأثير المؤثرات ، وشرطه أن لا يكون مؤثرا (بالكسر) في وجود المؤثر (بالفتح).

والداعي عندهم ضربان : حاجي (٧) وحكمي (٨).

فالأول : العلم أو الظن بحسن الفعل لجلب نفع النفس ، أو دفع الضرر عنها.

والثاني : العلم أو الظن بحسن الفعل من غير نظر إلى نفع النفس ، أو دفع الضرر عنها كمكارم الأخلاق.

والمقتضي : الصفة الأخص (١) المؤثرة تأثير العلة ، والمشترط فيها شرطها ، وكذلك شرط ما أوجبته.

__________________

الذات عليها ؛ لأن الصفة لا تستقل بالمعلومية ، وبهذا تفارق الذات ، وقالوا : وقلنا : لا باعتبار غير ولا ما يجري مجراه لتنفصل عن الحكم.

والحكم في اللغة : المنع ، وفي اصطلاح الفقهاء ما تتصف به الأفعال من وجوب وقبح وندب ، وفي اصطلاح المتكلمين بالمعنى العام كالصفة بالمعنى العام سواء ، وبالمعنى الخاص : كالصفة بالمعنى الخاص ، إلا في اعتبار الغير أو ما يجري مجراه

(١) نخ م (والشرط عندهم). الشرط في اللغة : العلامة ، قال تعالى (حتى إذا جاء أشراطها) أي : علاماتها.

(٢) أي : غير الشرط ، وهو الجوهرية مثلا.

(٣) أي : على الشرط ، وهو الوجود ، فإنه شرط في اقتضاء الجوهرية للتحيز ، وليس بمؤثر فيه.

(٤) نخ م (أو صحة ما يجري).

(٥) وهو الصفة ، فإنها عندهم جارية مجرى الغير ، وصحة تأثيرها مترتب على وجودها.

(٦) م ط (نحو الوجود فإنه شرط).

(٧) أي : تدعو إليه الحاجة.

(٨) بكسر الحاء المهملة ، أي : تدعو إليه الحكمة ، قال عليه‌السلام : والأولى أنه لا يجوز إطلاق لفظ داع على الله سبحانه ؛ لأنه من المجاز الموهم للخطأ كما قال السيد حميدان : إن ذلك موجب لتوهم نعوت حكيم وحكمة ، وذلك تقسيم وتعديد وتحديد لا يجوز وصف الله سبحانه به ، ولا إضافته إليه.

٢٩

قلت : هي إما لا دليل على تأثيرها ، بل قام الدليل على بطلانه ، وذلك هو العلة والمقتضي ، إذ ما إيجابهما لما ادعي تأثيرهما إياه بأولى من العكس ، لعدم تقدمهما (وجودا على ما أثراه ، ولا دعوى تقدمهما) (٢) رتبة عليه بأولى من العكس لفقد الدليل ، وإن سلم فما بعض الذوات أولى بتلك الصفات والأحكام من بعض ؛ لأنه تأثير إيجاب لا تأثير اختيار.

وإما آلة (٣) ، وذلك السبب ، والتأثير للفاعل ضرورة ، كالنظر فإنه آلة للناظر.

وإما لا تأثير له تأثير إيجاب بإقرارهم ، ولا اختيار له بإقرارهم أيضا ، ولا يعقل تأثير ثالث ، وذلك (٤) الشرط ، وإن سلم لزم (٥) تأثير بين مؤثرين (٦) ، كمقدور بين قادرين ، وهم يحيلونه.

وإما غرض ، والمؤثر الفاعل ضرورة ، وذلك نوعا الداعي ، وإن سلم لزم أن لا يحصل الفعل من الفاعل إلا عند وجود ذلك الغرض ، وأن لا يتمكن الفاعل من ترك الفعل عند وجوده ، وإن سلم عدم اللزوم لزم أن يكون تأثير بين مؤثرين ، كمقدور بين قادرين وهم يحيلونه.

وإما لا دليل عليه رأسا ، وذلك المقتضي ، كما مر من بطلان تأثيره ، وأيضا هو متلاش ؛ لأنه (٧) إما موجود أو معدوم ، أو لا موجود ولا معدوم ، ليس الثالث إذ

__________________

(١) الصفة الأخص : أي : التي تختص بالذات ، كالجوهرية ، فإنها مختصة به ، مقتضية للتحيز ، والصفة الأخص في حق الله تعالى : هي الصفة الذاتية التي تقتضي لمن اختص بها كونه قادرا عالما حيا موجودا.

(٢) ما بين القوسين غير موجود في الشرح.

(٣) عطف على قوله : « إما لا دليل على تأثيرهما » وإما آلة.

(٤) أي : الذي لا تأثير له.

(٥) م ط (لزم أن يكون تأثير).

(٦) وهما الشرط والداعي.

(٧) م ط (إذ هو).

٣٠

لا واسطة إلا العدم (١) ولا الثاني ؛ إذ لا تأثير للعدم ، والأول إما قديم أو محدث ، أو لا قديم ولا محدث ليس الثالث ؛ إذ لا واسطة إلا العدم ولا تأثير له كما سبق ، ولا الثاني (٢) لأنه (٣) مؤثر في صفات الله تعالى بزعمهم (٤) فيلزم أن تكون صفات الله محدثة لحدوث مؤثرها ، وسيأتي بطلان ذلك ، مع أنهم لا يقولون بذلك وحاشاهم ، ولا الأول ؛ لأنه يلزم أن يكون قديم [آخر] مع الله ، تعالى الله عن ذلك ، وسيأتي (٥) بطلانه ، مع أنهم لا يقولون ذلك وحاشاهم.

وقد اصطلح على إثبات أمور لا تعقل غير ما تقدم ذكره ، وهي طبع الطبائعي ، وكسب الأشعري ، وطفر النظام (٦) ومزايا أبي الحسين البصري (٧) وعرض لا محل له

__________________

(١) م ط (إذ لا واسطة بين الوجود والعدم).

(٢) أي : المحدث.

(٣) أي : المقتضي.

(٤) أي : البهشمية.

(٥) م ط (وسيأتي في فصل الصفات بطلانه أيضا).

(٦) طفر النظام : هو كون الكائن في مكان بعد كونه في مكان آخر من دون قطع مسافة ، والطفر لغة : الوثب في الاستواء. والطمر : الوثب من أعلى إلى أسفل.

والنظام : هو إبراهيم بن سيار ، النظام ، البصري ، المعتزلي ، أبو إسحاق ، يقال : هو مولى. قال الإمام المهدي في شرح الملل والنحل : قيل : إنه كان لا يكتب ولا يقرأ ، وقد حفظ التوراة والإنجيل والزبور مع تفسيرها ، قال الجاحظ : ما رأيت أحدا أعلم بالفقه والكلام من النظام ، وهو من الطبقة السادسة من المعتزلة ، اه وسمي نظاما لأنه كان ينظم الكلام ، وقيل : كان ينظم الخرز ، توفي سنة بضع وعشرين ومائتين.

(٧) مزايا أبي الحسين : هو قوله : إن بعض صفات الله تعالى أحوال زائدة على ذاته ، ومزايا زائدة على ذاته ، لا هي الله ولا هي غيره ، وهي كونه عالما ، وكونه مدركا ، وأما سائر صفاته تعالى فلا يجعلونها مزايا.

وأبو الحسين البصري : هو محمد بن علي بن الطيب البصري ، في الطبقة الحادية عشرة من طبقات المعتزلة ، قال الإمام يحي : هو الرجل فيهم ، قال ابن خلكان : كان جيد الكلام ، مليح العبارة ، غزير المادة ، إمام وقته له التصانيف الفائقة ، منها : المعتمد في أصول الفقه ، نشره المعهد الفرنسي بدمشق ، ومنه أخذ الرازي كتاب المحصول. وـ له تصفح الأدلة مجلدان ، وغرر الأدلة في مجلد كبير ، وشرح الأصول ، وكتاب في الإمامة ،

٣١

(١) ، وحركة لا هي الله ولا هي غيره (٢) ، ومعاني لا هي الله ولا هي غيره (٣) ، وغير مانع للحيز من ثلاث جهات دون الرابعة (٤) ، وثابت غير موجود (٥) ، وأمور لا توصف بالحدوث ولا القدم ، ولا الوجود ولا العدم (٦) ، ولله در القائل (٧) :

وبعض القول ليس له عناج

كمخض الماء ليس له إتاء

فصل [في ذكر الحد]

والحد لغة : طرف الشيء ، وشفرة نحو السيف. والمنع.

__________________

وانتفع الناس بكتبه ، سكن بغداد ، وتوفي بها يوم الثلاثاء خامس شهر ربيع الآخر سنة ٤٣٧ ه‍ ، وذكر محقق شرح الأساس أنه توفي سنة ٤٣٦ ه‍ ومن مؤلفاته في علم الكلام كتاب الانتصار في الرد على ابن الراوندي ، وأخذ عنه محمود بن الملاحمي ، حدثت بينه وبين المعتزلة نفرة لكثرة قراءاته لكلام الأوائل ـ يعنون الفلاسفة.

(١) عرض لا محل له : هو الإرادة في حقه تعالى ، التي زعم بعض المعتزلة أنها عرض لا محل له.

(٢) هي الإرادة أيضا عند هشام بن الحكم ومتابعيه ، حيث زعموا أنها حركة لا هي الله ولا هي غيره.

(٣) هي قول بعض الأشعرية في صفات الله سبحانه ، وسيأتي ذكر ذلك.

(٤) هو قول المعتزلة في الجوهر الفرد.

(٥) هو قول بعض المعتزلة في ذوات العالم : إنها ثابتة في الأزل لا موجودة.

(٦) هو قول بعض المعتزلة في صفاته تعالى : إنها أمور زائدة على ذاته.

(٧) هذا البيت لقيس بن الحطيم ، وقيس : شاعر جاهلي ، وابنه الصحابي ثابت بن قيس ش ١ / ٢٦٢.

قال في الشرح : العنج ـ بالتحريك ـ والعناج (في الدلو العظيمة) : حبل أو بطان يشد إلى أسفلها ، ثم يشد إلى العراقي ، فيكون عونا لها وللوذم ، فإذا انقطعت الأوذام أمسكها العناج ، فإذا كانت الدلو خفيفة فعناجها خيط يشد في إحدى آذانها إلى العرقوة ، قال الحطيئة :

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم

شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وقالوا : قول لا عناج له : إذا أرسل على غير روية. والمصدر : العند ـ بسكون النون ، وفتح العين ـ والأتوء ـ بفتح الهمزة ـ الزبد ، يقال للسقاء إذا مخض وجاء الزبد : جاء أتؤه ، ولفلان أتوء أي : غطاء ، ويقال : ما أحسن أتوء ثدي الناقة ، وأتا أيضا : رجع ثديها في السير ، والإيتاء.

والكرب : الحبل الذي يشد في وسط العراقي ، ثم يثنى ، ثم يثلث ليكون هو الذي يلي الماء ، فلا يعفن الحبل الكبير ، والعرقوتان : العودان المعروضان في رأس الدلو ، ذكره هذا كله في الصحاح.

٣٢

واصطلاحا : قول يشرح به اسم ، أو تتصور به ماهية.

فالأول نحو قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) (١) أي : هو رب جميع الأجناس التي هي السموات والأرض وما بينهما ، في جواب فرعون [في قوله] : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : أيّ جنس رب العالمين؟.

والثاني : نحو قولهم : الإنسان حيوان ناطق.

ويرادفه لفظ الحقيقة والماهية.

فحد بعض المتكلمين للذات ، وحدّهم نحو موجود بالمعنى الثاني لا يصح ؛ لأن الله تعالى لا يصح تصوره ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى ، فليس بجامع.

وقولهم في حد العالم : من يمكنه إيجاد الفعل المحكم. لا يصح بالمعنيين معا لما مر ، ولدخول نحو النحلة ؛ لأنه يمكنها إيجاد الفعل المحكم ، وهو تقدير بيوت شمعها برصيفها له ، فليس حدهم بمانع.

فإن قيل : فما شرحه (٢)؟.

قلت : [وبالله التوفيق] هو من يمكنه إحكام الأشياء (٣) المتباينة ، وتمييز كل منها بما يميزه أو : من أدرك الأشياء إدراك تمييز ، وإن لم يقدر على فعل محكم.

__________________

(١) الشعراء : ٢٤.

(٢) أي : شرح العالم.

(٣) الإحكام : إيجاد فعل عقيب فعل ، أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداء ، وفي اللغة : الإتقان

٣٣

كتاب التوحيد

التوحيد هو لغة : الإفراد. واصطلاحا : قال الوصي عليه‌السلام : « التوحيد أن لا تتوهمه »

فصل [والعالم محدث]

والعالم (١) محدث (٢) خلافا لبعض أهل الملل الكفرية.

لنا قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣).

بيان الاستدلال بها : أما السموات والأرض فإنا نظرنا في خلقهما فوجدناهما لم ينفكا عن إمكان الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل ، والجمع بينهما ، وتفريق كل منهما ، فهما مع ذلك الإمكان إما قديمتان أو محدثتان ، ليس الأول ؛ لأنا قد علمنا ضرورة أنهما لا يعقلان منفكين عنه ، وكل ذي حالة لا يعقل منفكا عن حالته يستحيل ثبوته منفكا عنها ، كالعمارة (٤) فإنها يستحيل وجودها منفكة عن إمكانها ، وكالمستحيل فإنه يستحيل تخلفه عن عدم إمكانه ، فلو كانتا قديمتين لكانتا قد

__________________

(١) قال السيد حميدان عليه‌السلام : العالم عند الموحدين له معنيان.

المعنى الأول : أن يراد به جملة ما يعقل ، وما لا يعقل في السموات والأرض وما بينهما.

المعنى الثاني : أن يراد به جملة ما يعقل خاصة ، فالعالمون هم الملائكة ، والإنس ، والجن ، واحدهم عالم ، ويقال لأهل كل عصر : عالم

(٢) المحدث : هو ما سبق وجوده عدمه ، أو سبق وجوده وجود غيره.

(٣) البقرة : ١٦٤.

(٤) م ط (كالعمارة مثلا).

٣٤

تخلفتا عن ذلك الإمكان ؛ لأن الإمكان لا يكون إلا مع التمكن ، والتمكن لا يكون إلا بعد صحة الفعل ، وصحة الفعل لا تكون إلا بعد وجود الفاعل ، وما كان بعد وجود غيره فلا شك في حدوثه ، ولزم حدوث ما توقف عليه من جميع ذلك. ولزم تخلفهما عنه لو كانتا قديمتين (١) وهو محال لما بينا ، فثبت الثاني وهو حدوثهما (٢).

وأيضا (٣) هما مختلفتان ، فاختلافهما لا يخلو إما أن يكون للعدم (٤) ، أو لعلة فرضا أو لفاعل ، ليس الأول ؛ لأن العدم لا تأثير له.

ولا الثاني : لأن تأثير العلة تأثير إيجاب بزعمهم ، فلو كان كذلك لوجب أن تكون السماء أرضا والعكس ، والسفلى من السموات عليا والعكس ؛ إذ ما جعل إحداهما أرضا والأخرى سماء [ونحو ذلك] بأولى من العكس لعدم الاختيار ، فثبت أنه لفاعل ، ولزم تقدمه ضرورة عدم اختياره ، وعدم صحة كونه فاعلا لو لا تقدمه.

وأيضا (٥) هما كالمبنيات ؛ إذ لم تكن [صحة] (٦) الزيادة والنقصان ، والتحويل والتبديل ، والجمع والتفريق في المبنيات إلا لأجل أنها محدثة ، والفارق معدوم.

__________________

(١) م ط (ولو كانتا قديمتين لزم تخلفهما عنه قبل حدوثه).

وفي النسخة القلم المتن (ولزم تخلفهما عنه قبل حدوثه لو كانتا قديمتين).

(٢) في نسخة (فذلك الإمكان إمام قديم أو محدث ، ليس الأول ؛ لأن الإمكان لا يكون إلا مع التمكن ، والتمكن لا يصح أن يكون إلا عند أن يصح الفعل ، والفعل لا يصح إلا بعد وجود الفاعل ضرورة ، وما كان بعد غيره فهو محدث فثبت الثاني ، وهو حدوثه ، ولزم حدوث لازمه ، وهو السموات والأرض).

ذكر في الشرح المطبوع أنه نسخة متأخرة ، والنسخة التي أثبتها الإمام هي الأصل ، وقد ذكره في الأصل الذي لدينا على أنه نسخة عن الإمام ، بمعنى الأولى. أما في المتن المطبوع فقد جمع بين النسختين ، على أنهما نسخة واحدة ، وهو غلط ، فالكلام متكرر ، وهو بمعنى واحد ، وما أثبتناه هو الموجود في الشرح المخطوط أيضا.

(٣) هذا هو الدليل الثاني على حدوث العالم.

(٤) م ط (فاختلافهما إما للعدم).

(٥) هذا هو الدليل الثالث على حدوث العالم.

(٦) ما بين القوسين غير موجود في الشرح المخطوط.

٣٥

وأما غيرهما مما ذكره الله تعالى في سياق الآية فحدوثه مدرك ضرورة.

فحدوث العالم لا يخلو إما أن يكون لفاعل أو لغيره (١) أو لا لفاعل ولا لغيره ليس الثالث ؛ لأن تأثيرا لا مؤثر له محال ، وبذا يعرف بطلان قول عوام الملحدة : الدجاجة والبيضة محدثتان ولا محدث لهما.

وقول ثمامة (٢) : المتولد محدث (٣) لا محدث له ، وإلا لزم أن يوجد بناء بلا بان ، وهو محال.

ولا الثاني : إذ لا تأثير لغير الفاعل كما تقدم في فصل المؤثرات ، فثبت أنه لفاعل.

قالوا : تعلق القدرة به حال عدمه محال.

قلنا : بل محال أن تتعلق القدرة بالموجود ، وإنما تتعلق بالمعدوم لتحصيله ، لأن المعدوم لو كان حاصلا عند (٤) تعلق القدرة لتحصيله لأغنى ذلك عن تعلق القدرة به.

قالوا : تعلقت القدرة بالحجارة للعمارة ، والحجارة موجودة.

قلنا : الحجارة من جملة آلة العمارة ، فتعلق القدرة بالعمارة إنما كان حال عدمها بواسطة الآلة.

قالوا : العمارة هي نفس الحجارة ، وإنما كانت كامنة في نفسها.

__________________

(١) م ط (فحدوثهما إما لفاعل).

(٢) ثمامة : هو أبو معن ثمامة بن الأشرس النميري في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة ، كان ثمامة على دراية بفن الجدل والمناظرة لبلاغته وفصاحته ، وسعة مداركه ، كان الخليفة العباسي المأمون يجله ، وكان ثمامة يناظر في مجلسه الشعراء والأدباء ، وقد أساء لأبي العتاهية في بعض مناظراته وإن كان لم يقصد ، ونسب إليه أقوال خالف فيها المعتزلة ، منها قوله في النظر ، وأن المعرفة المتولدة عنه فعل لا فاعل له ، وهذا رأيه في المتولدات بصفة عامة ، ومنها قوله في الاستطاعة : بأنها مجرد سلامة الجوارح. ش ١ / ٢٩٥. وهو شيخ الجاحظ ، توفي سنة ٢١٣ ه‍.

(٣) قال في تعليقة في الشرح المخطوط : صوابه (حدث).

(٤) م ط (حاصلا حين تعلق القدرة).

٣٦

قلنا : هذا هو المحال ؛ لأن كون الشيء كامنا في نفسه لا يعقل.

فرع [في ذكر الصفات]

جمهور أئمتنا عليهم‌السلام ، والجمهور : وصفات العالم توصف بأنها محدثة (١).

الأمورية (٢) : الصفات (٣) لا توصف رأسا لما يلزم من التسلسل ، أو التحكم (٤) حيث اقتصر على وصفها دون وصف وصفها.

والجواب ـ والله الموفق ـ : أنه قد صح حدوثها لكونها لم تتقدم موصوفها المحدث ، فصح وصفها بأنها محدثة ؛ إذ ذلك دليل لا ينكر فلا تحكم ، ووصفها : هو القول بأنها محدثة ، وكل قول محدث.

فإن قيل فيه : بأنه محدث ، فذلك وصف له محدث ، وإن لم يقل : إنه محدث ، فلا وصف له حينئذ فلا (٥) يتسلسل.

والتحقيق أن ذلك فرار منهم كي لا يوصف ما ادعوه من الأمور الزائدة على ذاته تعالى ، التي هي صفاته بزعمهم ، ثم لاذوا بهذا ودفعوا به من ألزمهم وصفها بالقدم أو الحدوث ، وقد تبين لك بحمد الله بطلانه.

فصل [في إثبات صفات الله سبحانه]

ولا بد أن يكون المحدث للعالم موجودا ؛ إذ لا تأثير للعدم (١) قديما ؛ لأن المقارنة تبطل كون المحدث محدثا (٢) لعدم الاختيار من الفاعل ، وعدم صحة إحداثه ؛ لأنه (٣)

__________________

(١) لأنها لازمة للموصوف ، فكما يوصف العالم بالحدوث كذلك صفاته.

(٢) الأمورية : هم الذين يقولون : إن الصفات أمور زائدة على الذات ، ثم يقولون : لا هي موجودة ولا معدومة ، ويسمونها أحوالا وأمورا.

(٣) الصفات جميعها [صفات العالم ، وصفات الله سبحانه] عندهم لا توصف.

(٤) قال في المعجم الفلسفي : تحكمي : حكم يصدر من غير دليل ش ١ / ٣٢٢.

(٥) م خ (فلم يتسلسل).

٣٧

ليس إحداث أحدهما الآخر بأولى من العكس ، ولما يلزم من حدوثه لمقارنته المحدث ابتداء ، فيحتاج إلى محدث ويتسلسل وهو محال.

غير محدث (٤) لما يلزم من التسلسل كما مر آنفا ، أو التحكم في الاقتصار على البعض كما تزعمه المفوضة (٥) ، وكل منهما معلوم البطلان.

قادرا (٦) ؛ لأن الفعل لا يصح إلا من قادر ضرورة.

حيا ؛ لأن الجماد لا قدرة له [ضرورة].

عالما ؛ لأنا وجدنا العالم محكما ، رصين الإحكام على اختلاف أصنافه وتباينها ، مميزا كل منها عن الآخر أكمل تمييز ، نحو إحكام خلق الإنسان وتمييزه بذلك عن نحو إحكام خلق الأنعام ، وذلك لا يكون إلا من عالم ضرورة ، وليس ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.

وبذلك يعرف بطلان دعوى العلية ، والطبائعية ، والمنجمة ؛ إذ لا حياة للعلة والطبع لو تعقلا ، ولا للنجوم فضلا عن القدرة والعلم.

__________________

(١) م ط (لأن المعدوم لا تأثير له ضرورة) م خ (لأن العدم).

(٢) بكسر الدال وفتحها.

(٣) لو قال : (ولأنه) لكان أولى ؛ لأنه دليل آخر.

(٤) ش (ولا بد أن يكون محدث العالم قديما غير محدث) ص ٣٢٩.

(٥) المفوضة : فرقة من الرافضة زعموا أن الله سبحانه وتعالى يفوض إلى أحد من خلقه أن يخلق ويرزق ، كما فوض عندهم إلى نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو عندهم خالق العالم ومن فيه ، ومنهم الباطنية فإنها تقول : إن الله ـ تعالى عن ذلك ـ علة صدر عنها السابق ، وعن السابق التالي ، قالوا : والسابق والتالي جوهران روحيان ، والتالي : هو المدبر في جميع العالم ، ومنهم المنجمة ، فقالت : إن الأفلاك السبعة أحياء ناطقة ، وإن الله تعالى فوض تدبير العالم السفلي إليها.

(٦) ما تحته خط وهي قوله : (موجودا) وما بعده معمولات خبر يكون ، والمعنى : ولا بد أن يكون المحدث للعالم موجودا ، قديما ، غير محدث ، قادرا ، حيا ، عالما.

٣٨

فصل [في ذكر ما قيل في صفاته تعالى]

جمهور أئمتنا عليهم‌السلام ، والملاحمية (١) : وصفات الله هي ذاته ، وفاقا لأبي الحسين البصري ، والرازي ، وغيرهما (٢) في صفته تعالى الوجودية.

ومعناه (٣) : أنه قادر بذاته تعالى لا بأمر غيره ، ونحو ذلك (٤).

بعض أئمتنا عليهم‌السلام (٥) ، وبعض شيعتهم (٦) ، وأبو علي (٧) ، والبهشمية : بل هي أمور زائدة على ذاته.

__________________

(١) الملاحمية : أصحاب محمود بن الملاحمي الخوارزمي ، يقال له تارة : ابن الملاحمي ، وطورا بالخوارزمي ، وهو من تلاميذ القاضي عبد الجبار ، توفي سنة ٥٣٢ ه‍ ش ط ١ / ٢٤٣.

(٢) كأبي القاسم البلخي ، وابن الإخشيد ، وسائر شيوخ البغدادية ، فإنهم يوافقون في صفته تعالى الوجودية.

(٣) أي : معنى أن صفات الله ذاته.

(٤) أي : عالم بذاته ، وحي بذاته ، وسميع بصير بذاته.

(٥) هو الإمام المهدي أحمد بن يحي المرتضى عليه‌السلام.

(٦) هم الشيخ حسن الرصاص ، والفقيه يحي بن حسن القرشي ، صاحب المنهاج وغيرهم.

الشيخ حسن الرصاص : قال الجنداري : (الحسن بن محمد بن أبي طاهر) الحسن بن أبي بكر أحمد بن إبراهيم الرصاص ، أبو محمد وأبو علي ، الإمام المتكلم الحجة ، أحد شيوخ الزيدية المتبحرين المحصلين ، شيخ المنصور بالله ، أثنى عليه غيره ، وقال في رسالة : لا أعلم على وجه الأرض أعلم منه ، قرأ الشيخ على أبي جعفر وهو صغير في خمس عشرة سنة ، وله مؤلفات منها الثلاثين المسألة ، التي شرحها ابن حابس ، والكيفية ، والتحصيل ، والفائق في أصول الفقه ، والقاطف للوتين ، وغير ذلك ، وكان المنصور بالله يخرج إليه من صنعاء إلى سناع ليلا لمسائل ومشكلات ، وهو المعلل حلول الأعراض بالفاعل ، وكتبت المسألة على لوح قبره ، ولما مات قال رجل : أتفرحون بموت رجل كان يرد على اثنتين وسبعين فرقة ، ولما مات قيل : مات علم الكلام ، وله كتاب المؤثرات ، وفاته سنة ٥٨٤ ه‍.

يحيى بن حسن القرشي : أحد أعلام الزيدية الكبار له العديد من المؤلفات أهمها منهاج التحقيق ومحاسن التلفيق مخطوط بالجامع الكبير ١٩ ـ ٢٠ ، وقد شرحه أحد الأئمة ، توفي بالعراق ٧٨٠ ه‍ (زيارة أئمة اليمن ٢٦٧)

(٧) أبو علي : هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي ، المتكلم ، أخذ العلم عن أبي يوسف يعقوب بن عبد الله الشحام البصري ، وله مقالات مشهورة في الأولين ، قال الحاكم الجشمي : هو الذي سهل علم

٣٩

قلنا : يلزم تلاشيها (١) لأنها إما موجودة أو معدومة ، أولا موجودة ولا معدومة ، ليس الثالث ؛ إذ لا واسطة بين الوجود والعدم (٢) ، ولا الثاني لما يلزم من كونه تعالى معدوما لعدم صفته الوجودية ونحو ذلك ، وقد صح بما مر أنه تعالى موجود ونحو ذلك ، مع أنهم لا يقولون بذلك وحاشاهم.

والأول إما أن تكون قديمة أو محدثة ، أولا قديمة ولا محدثة ليس الثالث ؛ إذ لا واسطة بين القديم والمحدث إلا العدم ، وقد مر وجه بطلانه ، ولا الثاني ؛ لأنه يلزم من ذلك كونه تعالى محدثا لحدوث صفته الوجودية ونحو ذلك ، وقد مر بطلانه ، مع أنهم لا يقولون بذلك وحاشاهم ، ولا الأول ؛ لأنه يلزم قدماء مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وذلك باطل لما يأتي إنشاء الله تعالى ، مع أنهم لا يقولون بذلك وحاشاهم ، وقد ثبتت لنا بما مر من الأدلة ، فما بقي إلا أن تكون ذاته.

قالوا : الصفات لا توصف كما مر لهم (٣). لنا : ما مر [عليهم] (٤).

أبو الحسين البصري : بل هي مزايا لا هي الله تعالى ولا غيره (٥).

__________________

الكلام وذلّله ، وله شرح على مسند ابن أبي شيبة ، وتفسير القرآن مائة جزء (مفقود) قيل : جملة مصنفاته مائة ألف ورقة ، وخمسون ألف ورقة ، الورقة نصف كراس ، وقرأ عليه أبو الحسن الأشعري وخالفه ، وجرت بينهما مناظرات طويلة ، ولأبي علي عناية في الرد على الفلاسفة والملحدة ، وتقرير العدل والتوحيد ، ولد سنة ٢٣٥ ه‍ ، وتوفي في شعبان سنة ٣٠٢ ه‍ وذكر محقق الأساس أنه توفي سنة ٣٠٣ ه‍ ويتحقق ولادته وولادة ابنه أبي هاشم لأن الفرق بين ولادتهما إحدى عشرة سنة فقط.

(١) أي : بطلان الأمور الزائدة التي هي بزعمهم صفات الله تعالى.

(٢) م ط (بين الموجود والمعدوم).

(٣) وهو ادعاؤهم لزوم التسلسل أو التحكم.

(٤) وهو صحة حدوثها ، لكونها لم تتقدم موصوفها المحدث ، فصح وصفها بأنها محدثة.

(٥) قال النجري رحمه‌الله في شرحه على القلائد : اعلم أن الصفة والحال والمزية في الاصطلاح بمعنى واحد ، وربما استعملت المزية وأريد بها غير الصفة كما يقوله أبو الحسين ، ومن يقول بقوله : إن لله تعالى بكونه قادرا وعالما وحيا ونحوها مزايا ، ونفى أن يكون له بها صفات ، ومن ثم سمي هو وأصحابه : أصحاب المزايا. ش ١ / ٣٦٩.

٤٠