رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

فالمعنى : فارقوا دينهم الذي جاءهم به موسى وعيسى.

ومعنى (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) : صاروا فرقا وشيعا ، أو هو إيمانهم بالبعض وكفرهم بالبعض.

أخبرنا الشيخ أبو طاهر إسماعيل بن ظفر بن أحمد النابلسي (١) سنة أربع وستمائة ، أخبرنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمد بن محمد بن اللبان (٢) العدل بأصبهان ، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد (٣) ، أخبرنا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني (٤) ، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين

__________________

ـ السدي ، وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(١) إسماعيل بن ظفر بن أحمد النابلسي ، ولد سنة أربع وسبعين وخمسمائة ، مات رابع شوال سنة تسع وثلاثين وستمائة ، ودفن بسفح قاسيون (ذيل التقييد ١ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥).

(٢) أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن النعمان بن عبد السّلام ، أبو المكارم اللبان التيمي الأصبهاني ، ولد سنة سبع وخمسمائة ، حدث عن أبي علي الحداد بجميع مسند الطيالسي وكتاب صفة الجنة لأبي نعيم وغير ذلك ، وسماعه صحيح. توفي يوم الخميس سابع عشري ذي الحجة سنة سبع وتسعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء ٢١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، والتقييد ص : ١٨١).

(٣) الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن مهرة ، أبو علي الحداد الأصبهاني المقرئ ، كان شيخا عالما ثقة صدوقا من أهل القرآن ، حدث عن أبي نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ فأكثر عنه ، ورحل إليه الناس ، وكان خيرا ديّنا صالحا ، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة ، وتوفي في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس عشرة وخمسمائة (التحبير ص : ١٧٧ ـ ١٧٩ ، والتقييد ص : ٢٣٧).

(٤) أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران المهراني أبو نعيم الأصبهاني. ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ، وأجاز له مشايخ الدنيا وله ست سنين ، وتفرد بهم ، ورحلت الحفاظ إلى بابه لعلمه وضبطه وعلو إسناده. صنف" الحلية" ، و" المستخرج على البخاري" ، و" المستخرج على مسلم" ، و" دلائل النبوة" ، و" تاريخ أصبهان" ، و" فضائل الصحابة" ، و" صفة الجنة" وغيرها. مات ـ

٦١

الآجري (١) ، قال : حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي (٢) ، حدثنا أبو بكر بن زنجويه (٣) ، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي (٤) ، حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم (٥).

قال الآجري : وأخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي (٦) ، حدثنا الهيثم بن خارجة (٧) ، حدثنا إسماعيل بن

__________________

ـ في سنة ثلاثين وأربعمائة (طبقات الحفاظ ص : ٤٢٣).

(١) محمد بن الحسين بن عبد الله الآجري البغدادي ، مصنف كتاب الشريعة ، كان مجاورا بمكة ، وكان عالما عاملا صاحب سنّة واتباع ، ديّنا ثقة. توفي بمكة في المحرم سنة ستين وثلاثمائة (تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٣٦ ، وطبقات الحفاظ ص : ٣٧٩).

(٢) جعفر بن محمد بن يعقوب ، أبو الفضل الصندلي ، كان ثقة صالحا ديّنا يسكن باب الشعير. مات في ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة وثلاثمائة (تاريخ بغداد ٧ / ٢١١).

(٣) محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، أبو بكر البغدادي الغزال ، صاحب الإمام أحمد ، واسع الرحلة ، وثقه النسائي وغيره ، توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين ومائتين (سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، وتذكرة الحفاظ ٢ / ٥٥٤).

(٤) محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الفريابي ، أبو عبد الله الضبي ، نزيل قيسارية من مدائن فلسطين ، أخذ عن عمر بن ذر والأوزاعي والثوري وخلق. وكان رجلا صالحا ثقة ، مات في أول سنة اثنتي عشرة ومائتين (سير أعلام النبلاء ١٠ / ١١٤ ـ ١١٨ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٣٧٦).

(٥) عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، أبو أيوب الإفريقي الشعباني ، قاضي إفريقية وعالمها ومحدّثها. قيل : كان أول مولود ولد في الإسلام بإفريقية ، توفي سنة ست وخمسين ومائة (سير أعلام النبلاء ٦ / ٤١١ ـ ٤١٢).

(٦) أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي ، مشهور ، وثقه الدارقطني ، مات سنة ست وثلاثمائة (ميزان الاعتدال ١ / ٢٢٦ ، ولسان الميزان ١ / ١٥١ ـ ١٥٣).

(٧) الهيثم بن خارجة الخراساني ، أبو أحمد المروزي البغدادي ، أصله من خراسان ، روى عن إسماعيل بن ـ

٦٢

عياش (١) ، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليأتينّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل ، تفرّق بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملّة ، وستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين ، تزيد عليهم ، كلّها في النّار إلّا ملّة واحدة ، قالوا : من هذه الملة ، قال ما أنا عليه وأصحابي» (٢).

وهذا لفظ حديث الصوفي.

وبالإسناد ، قال الآجري :

حدثنا أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا المسيب بن واضح قال : سمعت يوسف بن أسباط يقول : «أصول البدع أربع : الروافض (٣) ، والخوارج (٤) ،

__________________

ـ عياش وحفص بن ميسرة ، وروى عنه الإمام أحمد وابنه ، والبخاري وأبو حاتم وغيرهم ، وثقه ابن معين ، مات في ذي الحجة سنة سبع وعشرين ومائتين (سير أعلام النبلاء ١٠ / ٤٧٧ ـ ٤٧٩ ، وطبقات الحفاظ ص : ٢٠٧).

(١) إسماعيل بن عياش بن سليم ، أبو عتبة الحمصي العنسي ، محدّث الشام ، كان من بحور العلم ، محتشما نبيلا جوادا ، صادق اللهجة ، متين الديانة ، صاحب سنّة واتباع وجلال ووقار ، ولد سنة ست ومائة ، وتوفي سنة اثنتين وثمانين ومائة (سير أعلام النبلاء ٨ / ٣١٢ ـ ٣٢٨ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٢٥٣ ـ ٢٥٥).

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٦ ح ٢٦٤١) وقال : هذا حديث مفسر غريب ، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه ، وأبو نعيم في الحلية (٩ / ٢٤٢) ، والآجري في الشريعة (ص : ٢١).

(٣) الروافض : من الشيعة ، وهم الذين رفضوا زيد بن علي حين سألوه عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما ، فقالوا : إذا نرفضك ، فقال : اذهبوا فأنتم الرافضة.

(٤) الخوارج : هم المفرطة المكفرة لسيدنا علي رضي الله عنه ، ومن أذنب كبيرة ، وهم عشرون فرقة (تحفة الأحوذي ٧ / ٣٣٤).

٦٣

والقدرية (١) ، والمرجئة (٢) ، ثم تتشعب كل فرقة ثماني عشرة طائفة ، فتلك ثنتان وسبعون فرقة ، والثالثة والسبعون الناجية (٣) التي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنها الناجية» (٤).

القول الثالث : أنهم المشركون. قاله الحسن (٥).

ومعنى : «فارقوا دينهم» : أي : تركوا دين إبراهيم وإسماعيل وعبدوا الأصنام ، وفارقوا دينهم الذي جاءهم به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى فرّقوه : صاروا فرقا وشيعا ، وذهبوا إلى التكذيب به كل مذهب ، فهؤلاء يقولون : كهانة ، وهؤلاء يقولون : سحر ، وهؤلاء يقولون : أساطير الأولين ، إلى غير ذلك.

قوله تعالى : (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) قال أبو الضحى : برئ نبيكم منهم (٦).

__________________

(١) القدرية : نسبة إلى القدر ، وهي فرقة كلامية ذات مفاهيم خاطئة في مفهوم القدر ، حيث زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته وليس لله في فعله مشيئة ولا خلق ، وأول من أظهر القول بالقدر معبد الجهني.

(٢) المرجئة : هي القائلة بأنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهي خمس فرق (تحفة الأحوذي ٧ / ٣٣٤).

(٣) في الآجري : الجماعة.

(٤) أخرجه الآجري في الشريعة (ص : ٢١). وذكره الأحوذي في التحفة ، في تعليقه على حديث افتراق الأمة (٧ / ٣٣٤). وأصل الحديث في الترمذي ، وقد سبق تخريجه في الحديث السابق. وانظر : طبقات الحنابلة (٢ / ٣٢).

(٥) الماوردي (٢ / ١٩٢) ، وزاد المسير (٣ / ١٥٨).

(٦) أخرجه الطبري (٨ / ١٠٦) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٣١) كلاهما عن أبي الأحوص. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٠٣) وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي ـ

٦٤

وقيل : المعنى : لست من السؤال عنهم في شيء.

وقال السدي : لست من قتالهم في شيء (١).

فعلى هذا ؛ تكون الآية في المشركين وفي أهل الكتاب ، وتكون منسوخة بآية السيف.

(إِنَّما أَمْرُهُمْ) المجازاة والمكافأة (إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) إذا وردوا القيامة.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦٠)

قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وقرأت ليعقوب الحضرمي : «عشر» بالتنوين ، «أمثالها» بالرفع (٢).

فمن قرأ بالإضافة ؛ فعلى معنى : فله عشر حسنات أمثالها.

ومن رفعهما ؛ فعلى معنى : فله حسنات عشر أمثالها ، وهذا أقلّ الجزاء ، والله يضاعف لمن يشاء ما يشاء.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول الله عزوجل :

__________________

ـ الشيخ عن أبي الأحوص.

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٠٦) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٣١). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ١٥٩). والسيوطي في الدر (٣ / ٤٠٣) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. وانظر : نواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٣٧).

(٢) النشر (٢ / ٢١٦ ـ ٢١٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٠).

٦٥

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) أو أزيد ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) [فجزاؤه](١) سيّئة مثلها أو أغفر» (٢).

وقال سفيان الثوري : لما نزلت : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ربي زدني ، فنزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) ... الآية [البقرة : ٢٦١] ، قال : رب زد أمتي ، فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] ، قال : رب زد أمتي ، فنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠]» (٣).

والظاهر : عموم الآية في كل حسنة وسيئة.

وقال ابن مسعود ومجاهد والنخعي : «الحسنة» : لا إله إلا الله ، و «السيئة» : الشرك (٤).

__________________

(١) في الأصل : فجزاء. والمثبت من صحيح مسلم (٤ / ٢٠٦٨).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٦٨ ح ٢٦٨٧).

قال النووي في شرحه على مسلم (١٧ / ١٢) : قوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) وأزيد» معناه : أن التضعيف بعشرة أمثالها لا بد بفضل الله ورحمته ووعده الذي لا يخلف ، والزيادة بعد بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف ، وإلى أضعاف كثيرة ، يحصل لبعض الناس دون بعض على حسب مشيئته سبحانه وتعالى.

(٣) انظر : العجاب في بيان الأسباب (١ / ٦٠٦).

(٤) أخرجه الطبري (٨ / ١٠٨) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٣١). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٠٤) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في الحلية عن ابن مسعود. وانظر : تفسير ابن عباس (ص : ٢٢١).

٦٦

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بالنقصان من الثواب والزيادة على العقاب ، فإنه سبحانه وتعالى قدّر لكل حسنة وسيئة جزاء معلوما عنده.

(قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (١٦٣)

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو دين الإسلام.

(دِيناً) بدل من محل (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) لأن التقدير : هداني صراطا مستقيما ، كما قال : (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢].

وقوله : (قِيَماً) [فيعل](٢) ، من قام ، أصله : قيوم ، ثم أدغمت الياء في الواو ؛ كسيّد وميّت (٣).

وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة : «قيما» بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها (٤).

فعلى هذا : هو مصدر بمعنى القيام وصف به.

(مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) عطف بيان ، (حَنِيفاً) : حال من «إبراهيم» (٥) ، تقديره : هداني ربي ملة إبراهيم في حال حنيفيته.

__________________

(١) انظر : التبيان (١ / ٢٦٧) ، والدر المصون (٢ / ٢٢٧).

(٢) في الأصل : فعيل. وانظر : (اللسان ، مادة : قوم).

(٣) انظر : اللسان ، مادة : (قوم).

(٤) الحجة للفارسي (٢ / ٢٢٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٧٨ ـ ٢٧٩) ، والكشف (١ / ٤٥٨) ، والنشر (٢ / ٢٦٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٠) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٧٤).

(٥) انظر : التبيان (١ / ٢٦٧) ، والدر المصون (١ / ٣٨٣).

٦٧

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) قال الزجاج (١) : النّسك : كلّ ما يتقرب به إلى الله تعالى ، إلا إنّ الغالب عليه أمر الذّبح.

(وَمَحْيايَ وَمَماتِي) قرأ الأكثرون بتحريك الياء وبالفتح من «محياي» ؛ لالتقاء الساكنين ، وبإسكانها من «مماتي» ؛ لنقل الحركة على الياء.

وقرأ نافع بإسكان الياء من «محياي» للعلة المذكورة في «مماتي» في جعل المدّة حائلة بين الساكنين ، وقرأ بإسكانها في : «مماتي» (٢) ؛ لأنّ حقّ الياء في مثل هذا أن تكون مفتوحة ، مثل الكاف من : رأسك ، والتاء في : قمت.

والمعنى : إن صلاتي ونسكي من جميع ما أتقرب به إلى الله وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح.

(لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خالصا لوجهه.

(وَبِذلِكَ) الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥)

__________________

(١) معاني الزجاج (٢ / ٣١١).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٢٢٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٧٩) ، والكشف (١ / ٤٥٩) ، والنشر (٢ / ٢٦٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢١) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٧٤).

٦٨

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) أي : قل لهم يا محمد مجيبا لهم عن دعائهم إياك إلى عبادة آلهتهم : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) إلها وسيدا ، (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) فكيف أبغي سواه.

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) من صالح وطالح ، (إِلَّا عَلَيْها) عقابه ، ولها ثوابه.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أي : لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى ، وهو جواب لقولهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢].

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) قال ابن مسعود : يخلف حكم بعضكم بعضا (١).

وقال الزجاج (٢) : خلفتم سائر الأمم.

(وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) في العلم والرزق والشرف ، وغير ذلك.

(لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي : ليختبركم فيما أعطاكم ، فيظهر منكم ما تستحقون الجزاء عليه.

(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) قال عطاء : سريع العقاب لأعدائه ، (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) لأوليائه (٣).

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو الحسن بن روزبة البغداديان قالا : أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا ابن حمويه

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ١٦٣) من قول ابن قتيبة.

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣١٢).

(٣) الوسيط (٢ / ٢٤٦) بلا نسبة.

٦٩

السرخسي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله خلق الرّحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين ، وأرسل في خلقه كلّهم رحمة واحدة ، ولو يعلم الكافر بكلّ الّذي عند الله من [الرّحمة لم ييئس من الجنّة ، ولو يعلم المؤمن بكلّ الّذي عند الله من](١) العذاب لم يأمن من النّار» (٢).

والحمد لله على إحسانه.

__________________

(١) ما بين المعكوفين زيادة من الصحيح.

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ٢٣٧٤ ح ٦١٠٤).

٧٠

سورة الأعراف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي مائتا آية وست آيات (١).

وعامة المفسرين يقولون : نزلت بمكة. واستثنى قوم من قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) إلى قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (٢).

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣)

وقد ذكرنا أقوال العلماء في أول البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور.

وقد روى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله : (المص) قال : معناه أنا الله أعلم وأفصل (٣).

قوله تعالى : (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف (٤) ، أي : هذا كتاب ، (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) صفته ، (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ).

__________________

(١) انظر : البيان في عدّ آي القرآن (ص : ١٥٥).

(٢) انظر : الماوردي (٢ / ١٩٨) ، وزاد المسير (٣ / ١٦٤) ، وتفسير مقاتل (١ / ٣٨٣).

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ١١٥) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٣٧). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات.

(٤) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٦٧) ، والدر المصون (٣ / ٢٢٩).

٧١

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين : الحرج هاهنا : الشك (١).

وقال الحسن والزجاج (٢) : الحرج : الضيق (٣). وهذا هو الأصل ، واستعماله بمعنى الشك لما يخامر الشاكّ من الضيق والحرج.

والضمير في" منه" يعود إلى الكتاب. فعلى القول الأول معناه : فلا يكن عندك شك أن الكتاب منزل من عند الله ، ويكون هذا مثل قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ* وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) [يونس : ٩٤ ـ ٩٥] ، النهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظاهر الأمر ، والمراد غيره ، وقد أشرنا إلى حكمة ذلك في سورة البقرة.

وعلى القول الثاني معناه : لا يكن عندك ضيق وحرج من إبلاغ ما أرسلت به ، فإنه كان يخاف أذى قومه وإعراضهم عنه وتكذيبهم له.

وفي الحديث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أي رب! إني أخاف أن يثلغوا (٤) رأسي فيجعلوه كالخبزة» (٥).

قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ بِهِ) إما أن يتعلق ب «أنزل» ، فيكون معناه : أنزل إليك لكي تنذر به. وإما أن يتعلق بالنهي ، فيكون معناه : لا يكن في صدرك حرج منه لتتمكن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١١٦) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٣٨) ، ومجاهد (ص : ٢٣١). وانظر : الماوردي (٢ / ١٩٩). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١٣) وعزاه لابن جرير عن ابن عباس. ومن نفس الطريق عزاه أيضا لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣١٥).

(٣) الماوردي (٢ / ١٩٩). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١٣) وعزاه لأبي الشيخ عن الضحاك.

(٤) الثّلغ : الشّدخ (لسان العرب ، مادة : ثلغ).

(٥) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٩٧ ح ٢٨٦٥).

٧٢

من الإنذار (١).

قوله تعالى : (وَذِكْرى) إما أن يكون مرفوعا ، عطفا على" كتاب" ، أو خبر مبتدأ محذوف. وإما أن يكون منصوبا بإضمار فعل ، على معنى : لتنذر به وتذكّر تذكيرا. وإما أن يكون مجرورا عطفا على محل" لتنذر" ، تقديره : للإنذار والذكرى (٢).

وإنما خص المؤمنين ؛ لموضع انتفاعهم.

قوله تعالى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني : القرآن والسنة ، وهذا دليل واضح على وجوب تعلم العلم ، خصوصا علم التفسير ، فإن المراد بالاتباع : العمل ، وذلك يستدعي العلم قبله.

قال الحسن البصري رحمه‌الله : يا ابن آدم! أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله ما نزلت آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت وما معناها (٣).

(وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : من دون الله. وقيل : من دون المنزّل ، (أَوْلِياءَ) يعني : شياطين الإنس والجن ، فيحملوكم على عبادة الأوثان واتباع الأهواء والبدع.

(قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) هو كقوله : (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) [الحاقة : ٤١] ، وقد سبق القول عليه في البقرة.

قرأ ابن عامر بياء وتاء. وقرأ الباقون بتاء واحدة ، وخفف الذال أهل الكوفة

__________________

(١) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٦٧) ، والدر المصون (٣ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠).

(٢) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٦٨) ، والدر المصون (٣ / ٢٣٠ ـ ٢٣١).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٣٤٨).

٧٣

إلا أبا بكر (١).

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ)(٧)

قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) ، قال الزجاج (٢) : المعنى : كم من أهل قرية ، إلا أن [أهل](٣) حذفت ؛ لأن في الكلام دليلا عليه.

وقوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) محمول على لفظ القرية.

قال الزمخشري (٤) : إنما يقدر المضاف للحاجة ولا حاجة ، فإن القرية تهلك كما يهلك أهلها ، وإنما قدرناه قبل الضمير في" فجاءها" لقوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ).

و" بياتا" مصدر واقع موقع الحال (٥) ، يعني : بائتين. يقال : بات بياتا حسنا وبيتة

__________________

(١) من خفّف حذف إحدى التاءين وهي الثانية ، وهما زائدتان ، إلا أن الأولى تدل على معنى الاستقبال ، والثانية إنما دخلت على معنى : (فعلت الشيء) على تمهل ، نحو قولك : تفهمت الشيء ، أي : أخذت على مهل. ومن شدد أدغم التاء في الذال لقرب مكان هذه من مكان هذه. انظر : الحجة للفارسي (٢ / ٢٣١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٧٩) ، والكشف (١ / ٤٦٠) ، والنشر (٢ / ٢٦٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٧٨).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣١٧).

(٣) في الأصل : أهلا. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) الكشاف (٢ / ٨٣).

(٥) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٦٨) ، والدر المصون (٣ / ٢٣٣).

٧٤

حسنة (١).

وقوله : "(هُمْ قائِلُونَ)" حال معطوفة على" بياتا" (٢) ، كأنه قيل : فجاءهم بأسنا بائتين أو قائلين.

والبيتوتة بالليل ، والقيلولة : الاستراحة نصف النهار من اشتداد الحر وإن لم يكن معها نوم (٣). والمعنى : جاءهم عذابنا غير متوقعين له في وقت الدّعة والغفلة ؛ إما ليلا ؛ كقوم لوط ، وإما نهارا ؛ كقوم شعيب.

فإن قيل : نظم الآية يدل على تقدم الهلاك على البأس ، وهو العكس؟

قلت : المراد : أردنا إهلاكها ؛ كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] ، وقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ) [النحل : ٩٨].

وقال الفراء (٤) : وقع الإهلاك والبأس معا ، كما تقول : أعطيتني فأحسنت إليّ.

وذكر ابن الأنباري عن ذلك جوابين (٥) :

أحدهما : أن الكون مضمر في الآية ، تقديره : أهلكناها وكان بأسنا قد جاءها ، كما أضمر في قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] أي : ما كانت تتلوه.

الثاني : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، تقديره : وكم من قرية جاءها بأسنا [بياتا](٦) أو هم قائلون فأهلكناها ، كقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : بيت).

(٢) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٦٨) ، والدر المصون (٣ / ٢٣٣).

(٣) انظر : اللسان (مادة : قيل) ، والصحاح (٥ / ١٨٠٨).

(٤) معاني الفراء (١ / ٣٧١).

(٥) ذكرهما ابن الجوزي في : زاد المسير (٣ / ١٦٨).

(٦) زيادة من زاد المسير (٣ / ١٦٨).

٧٥

والأول هو الجواب الذي ينبغي أن يعتمد عليه.

فإن قيل : لا يقال : جاءني زيد هو فارس ، بغير واو ، فكيف قال : " أو هم قائلون"؟

قلت : قال الفراء (١) : الواو مضمرة ، تقديره : أو وهم قائلون ، فاستثقلوا نسقا على نسق (٢).

وردّ هذا القول الزجاج فقال (٣) : لو قلت : جاءني زيد راجلا أو هو فارس ، أو جاءني زيد هو فارس ، لم تحتج فيه إلى واو ؛ لأن الذكر قد عاد [إلى](٤) الأول (٥).

قال الزمخشري (٦) : والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا ؛ لاجتماع حرفي عطف ؛ لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل ، فقولك : جاءني زيد راجلا أو هو فارس ، كلام فصيح وارد على حده ، وقولك : جاءني زيد هو فارس فخبيث.

قوله تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي : تضرعهم ودعاهم ودعاؤهم.

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٣٧٢).

(٢) أي اجتماع عطفين متتاليين.

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٣١٧).

(٤) في الأصل : على. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٥) قال السمين الحلبي في الدر المصون (٣ / ٢٣٤) : أما امتناعها في المثال الأول ؛ فلأن النحويين نصّوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها ، والعلة فيه المشابهة اللفظية ، ولأن واو الحال في الأصل عاطفة.

(٦) الكشاف (٢ / ٨٤).

٧٦

حكى سيبويه (١) : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ، أي : دعائهم ، وأنشد على ذلك :

 ..........

ولّت ودعواها كثير صخبه (٢)

وأنشد ابن الأنباري :

إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي

بدعواك من مذل بها فيهون (٣)

وقيل : المعنى : فما كان استغاثتهم ، كقوله :

 ..........

دعوا : يا لكعب واعتزينا لعامر (٤)

وقال الزجاج (٥) : المعنى ـ والله أعلم ـ : أنهم لم يحصلوا مما كانوا ينتحلونه من المذهب والدّين ويدعونه إلا على الاعتراف بأنهم كانوا ظالمين. والدعوى : اسم لما ندّعيه.

وكل واحد من «دعواهم» و «أن قالوا» يصلح أن يكون اسما ل «كان» والآخر

__________________

(١) انظر : الكتاب لسيبويه (٤ / ٤٠).

(٢) عجز بيت ، لبشير بن النّكث. انظر : اللسان (مادة : دعا ، نكث) ، وتاج العروس (مادة : نكث).

(٣) البيت لكثير عزة. انظر : ديوانه (ص : ١٧٦) ، والطبري (٨ / ١٢٠) ، واللسان (مادة : مذل) ، وتاج العروس (مادة : مذل) ، وتهذيب اللغة (١٤ / ٤٣٥) ، والدر المصون (٣ / ٢٣٥).

ومذلت رجله مذلا ، بفتح وسكون ، وأمذت : خدرت (اللسان ، مادة : مذل). وكانوا يزعمون أن المرء إذا خدرت رجله ، ثم دعا باسم من أحب ، زال خدرها.

(٤) عجز بيت ، للراعي النميري وهو عبيد بن حصين ، من قبيلة نمير التي هجاها جرير ، سمي الراعي ؛ لكثرة نعته الإبل وجودة وصفه إياها. وصدر البيت : (فلمّا التقت فرساننا ورجالهم) وهو في : الطبري (١ / ١٦٧) ، وزاد المسير (١ / ٥٠) ، واللسان (مادة : عزا).

(٥) معاني الزجاج (٢ / ٣١٨).

٧٧

خبرا.

قوله تعالى : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي : لنسألنهم هل بلّغتكم الرسل ، (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) ماذا أجبتم؟ يسألهم سبحانه وتعالى مع أنه أعلم منهم بما قالوا ، وقيل لهم : إظهارا للعدل والنّصفة ، فإنهم ينكرون تبليغ الرسل ما أرسلوا به إليهم ، فتشهد هذه الأمة أن الرسل بلغت رسالات ربهم ، وفي ضمن ذلك توبيخهم وتقريعهم.

قوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي : على المرسلين وأممهم ما كان منهم وبينهم.

قال ابن عباس : يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا يعملون (١).

(وَما كُنَّا غائِبِينَ) عما جرى لهم.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ)(٩)

قوله تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ)" الوزن" مبتدأ ، خبره : " يومئذ" ، " الحق" : صفته (٢) ، على معنى : الوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن" الحق" ، أي : العدل.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٢٢) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٤٠). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١٤) وعزاه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث.

(٢) التبيان للعكبري (١ / ٢٦٩) ، والدر المصون (٣ / ٢٣٦).

٧٨

فصل

ذهب قوم إلى أن نصب الميزان يوم القيامة مجاز عن إرصاد الحساب السوي ، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة ، فمثّل ذلك بنصب الموازين تحقيقا لمعنى العدل.

والصحيح الذي عليه علماء النقل وأئمة الحديث وأعلام الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة فمن بعدهم : أنه ميزان ذو لسان وكفّتين (١) ؛ لما أخبرنا به الشيخان الحافظ عبد القادر بن عبد الله الرهاوي (٢) قراءة عليه وأنا أسمع بحران ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر بن سليمان الدّنبلي (٣) بقراءتي عليه بالموصل غير مرة ولا مرتين ، قالا : أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الأصبهاني (٤) بثغر الإسكندرية ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ١٢٣). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤١٨) وعزاه لأبي الشيخ.

(٢) عبد القادر بن عبد الله الرهاوي الحنبلي ، الإمام الحافظ الرحال ، محدث الجزيرة. ولد بالرهاء سنة ست وثلاثين وخمسمائة ، ونشأ بالموصل ، وكان مملوكا لبعض المواصلة السفارين فأعتقه ، فطلب العلم وأقبل على الحديث. كان عالما ثقة مأمونا ، صالحا ناسكا ، خشن العيش ، إلا أنه عسرا في الرواية لا يكثر عنه إلا من أقام عنده ، توفي بحران في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستمائة ، وله ست وسبعون سنة (سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٧١ ـ ٧٤ ، وتذكرة الحفاظ ٤ / ١٣٨٨).

(٣) علي بن أبي بكر بن سليمان ، أبو الحسن الدنبلي الموصلي. قدم بغداد حاجا ، وحدّث بها عن الحافظ أبي طاهر السلفي. وكان مولده بالموصل سنة ثمان وأربعين وخمسمائة (تكملة الإكمال ٢ / ٥٩٥).

(٤) أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأصبهاني الجرواني ، أبو طاهر السلفي ، الإمام العلامة المحدث ، الحافظ المفتي شيخ الإسلام ، ولد في سنة خمس وسبعين وأربعمائة ، وسمع الكثير ، وكان أول سماع حضره مجلس رزق الله التميمي الحنبلي ، وحدث عن الكثير أيضا ، ورحل ، فدخل بغداد ثم الشام ، ثم ارتحل منها إلى خراسان ، وحج وسمع بمكة والمدينة ، وارتحل إليه خلق كثير جدا ، ـ

٧٩

إبراهيم الرازي (١) المعدل بالإسكندرية ، أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن حمصة الحراني (٢) بمصر ، حدثنا أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي الكناني (٣) الحافظ إملاء ، أخبرنا عمران بن موسى الطبيب ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير (٤) ، حدثني الليث بن سعد (٥) ، عن عامر بن يحيى المعافري ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يصاح برجل من

__________________

ـ فارتحل إليه السلطان صلاح الدين وإخوته وأمراؤه فسمععوا منه. وتوفي صبيحة يوم الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة (سير أعلام النبلاء ٢١ / ٥ ـ ٣٩).

(١) محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الرازي الإسكندري ، أبو عبد الله ، المعروف بابن الحطاب ، ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ، واعتنى به والده ، فسمع الكثير في سنة أربعين وما بعدها ، مات في سادس جمادى الأولى سنة خمس وعشرين وخمسمائة ، وله إحدى وتسعون سنة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٥٨٣ ـ ٥٨٤).

(٢) علي بن عمر بن حمصة الحراني الصواف ، ما سمع شيئا سوى مجلس البطاقة ، وتفرد عن حمزة الكناني. ولد في رمضان سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة ، ومات في ثالث رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة عن عثمان وتسعين سنة (سير أعلام النبلاء ١٧ / ٦٠١ ـ ٦٠٢).

(٣) حمزة بن محمد بن علي بن العباس ، أبو القاسم الكناني المصري ، مملي مجلس البطاقة ، كان حافظا ثبتا ، مات في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وثلاثمائة (طبقات الحفاظ ص : ٣٧٨).

(٤) يحيى بن عبد الله بن بكير ، الإمام المحدث الحافظ الصدوق ، أبو زكريا القرشي المخزومي. ولد سنة خمس وخمس ومائة ، وسمع من الإمام مالك والليث وابن لهيعة وحماد بن زيد ، وعنه البخاري وابن معين وخلق ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء ١٠ / ٦١٢ ـ ٦١٥ ، وطبقات الحفاظ ص : ١٨٤).

(٥) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي ، أبو الحارث المصري ، ثقة كثير الحديث ، مات في يوم الجمعة نصف شعبان سنة خمس وسبعين ومائة (تهذيب التهذيب ٨ / ٤١٢ ـ ٤١٧ ، والتقريب ص : ٤٦٤).

٨٠