رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)(٧٣)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال ابن عباس : في الميراث (١).

وقال قتادة : في النصرة (٢).

وليس هذا على وجه الحكم عليهم بذلك ، كما في الآية التي قبلها ، وإنما هو نهي للمؤمنين عن موالاتهم ومناصرتهم.

(إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي : تفعلوا ما أمرتكم به من الموالاة والمعاضدة والميراث ومصارمة الكفار ، وقطع ما بينكم وبينهم من المودة والقرابة ، وغير ذلك من أسباب الوصل ، (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) أي : ضلال وشرك ، (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي : عظيم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ٥٦) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٧٤٠). وانظر : تفسير الماوردي (٢ / ٣٣٥) ، وزاد المسير (٣ / ٣٨٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١١٦) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (١٠ / ٥٥). وانظر : الماوردي (٢ / ٣٣٥) ، وزاد المسير (٣ / ٣٨٦).

وهذا القول هو الذي اختاره الطبري (١٠ / ٥٦) وقال : وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال : معناه : أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين ، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقام في دار الحرب وترك الهجرة ؛ لأن المعروف في كلام العرب من معنى الولي أنه النصير والمعين ، أو ابن العم والنسيب. فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده ، وذلك معنى بعيد ؛ وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.

٤٨١

وقرأ أبو هريرة وابن سيرين وابن السميفع : " كثير" بالثاء (١) ، وبها قرأت على شيخنا أبي البقاء للكسائي من رواية الشيزري عنه.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)

قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي : حققوا إيمانهم وصدقوه بالعمل بمقتضاه وفعل ما يحبه الله تعالى ويرضاه ، والرزق الكريم : الحسن. وهذه الآية ثناء عليهم ، والتي قبلها أمر لهم بالتواصل والتناصر ، فلا تكرار.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) يريد اللاحقين بالسابقين إلى الهجرة.

قال ابن عباس : هم الذين هاجروا بعد الحديبية (٢).

(فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) في الموالاة وغيرها ، (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) يعني : القرابات (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في الميراث.

قال المفسرون : وهذا نسخ لما كانوا يتوارثون به من الهجرة والمؤاخاة (٣).

وقد استدل علماؤنا بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام ، وبه قال أبو حنيفة.

وقال مالك والشافعي : لا يرثون.

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٣ / ٣٨٦).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٧٤) ، وزاد المسير (٣ / ٣٨٧).

(٣) مثل السابق.

٤٨٢

وقد روى الإمام أحمد بإسناده : «أن أبا عبيدة كتب إلى عمر رضي الله عنه في رجل قتل ولا وارث له إلا خال ، فكتب إليه عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الله ورسوله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له» (١).

ولأن ذوي الأرحام ساووا المسلمين في الإسلام وامتازوا بقرابة الرّحم فوجب تقديمهم.

فصل

وميراثهم عند الإمام أحمد رضي الله عنه بالتنزيل ، فإذا مات عن بنت بنت وبنت أخت ، فلكل واحد منهما النصف ، ويرث الأبعد مع الأقرب إذا كانا من جهتين.

مثاله : (خالة وبنت عمة) : للخالة الثلث ، والباقي لبنت العمة.

وقال أكثر المنزلين : المال للأقرب ، وهي الخالة ، كما لو كانا من جهة واحدة.

وهل يستوي بين الذكور والإناث في الميراث؟ فيه عن إمامنا روايتان :

إحداهما : يسوّى بينهم ؛ لأنهم يرثون بالرحم المحض ، فلا يفضل الذكر على الأنثى كالإخوة من الأم.

والأخرى : يفضل الذكر على الأنثى ، وبها قال أبو حنيفة وأصحابه.

والمراد بقوله (فِي كِتابِ اللهِ) : اللوح المحفوظ. وقيل : القرآن ، فأتى فيه قسمة الموارث ، وقيل : في حكمه وقسمته.

(إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ) مما خلق وفرض وحدّ (عَلِيمٌ).

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٤٢١ ح ٢١٠٣) ، وابن ماجه (٢ / ٩١٤ ح ٢٧٣٧) ، وأحمد (١ / ٢٨ ح ١٨٩).

٤٨٣

سورة براءة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي مائة وثلاثون آية ، وقيل : مائة وتسعة وعشرون آية. والكلام عليها تحصره فصول :

الأول : في أسمائها :

وهي تسعة أسماء : براءة والتوبة ، وهما مشهوران.

الثالث : سورة العذاب. قاله حذيفة (١).

الرابع : سورة البحوث ؛ لأنها بحثت عن سرائر المنافقين. قاله المقداد (٢).

الخامس : المقشقشة ؛ لأنها تبرئ من مرض الشك والنفاق ، من قولك : تقشقش المريض ؛ إذا برأ (٣).

قال الأصمعي : وكان يقال ل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) المقشقشتان ؛ لأنها تبرئان من النفاق (٤).

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٣٦١) ، وابن أبي شيبة (٦ / ١٥٢) ، والطبراني في الأوسط (٢ / ٨٥ ـ ٨٦).

وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٢٠) وعزاه لابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ١٢٩) ، والبيهقي في سننه (٩ / ٢١).

(٣) انظر : اللسان ، مادة : (قشش).

(٤) انظر : القرطبي (٢٠ / ٢٢٥).

٤٨٤

قال أبو عبيدة (١) : كما يقشقش الهناء (٢) الجرب فيبرئه. قاله ابن عمر (٣).

السادس : الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين. قاله ابن عباس (٤).

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : «هي الفاضحة ، ما زالت تقول : ومنهم [ومنهم](٥) ، حتى ظنوا أن لا يبقى أحد إلا ذكر فيها» (٦).

السابع : المثيرة. قاله قتادة (٧) ؛ لأنها أثارت مخازي المنافقين.

الثامن : المبعثرة. قاله ابن إسحاق (٨). ومعناه قريب من الذي قبله.

التاسع : الحافرة ؛ لأنها حفرت عما في ضمائرهم (٩).

__________________

(١) مجاز القرآن (١ / ٦).

(٢) الهناء : ضرب من القطران (اللسان ، مادة : هنأ).

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٤ / ١٢١) وعزاه لأبي الشيخ وابن مردويه.

(٤) أخرجه الطبري (١٠ / ١٧١) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٩) كلاهما عن قتادة. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٢٠) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وذكره السيوطي أيضا (٤ / ٢٢٩) من طريق قتادة ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) زيادة من الصحيحين.

(٦) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٥٢ ح ٤٦٠٠) ، ومسلم (٤ / ٢٣٢٢ ح ٣٠٣١).

(٧) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٩). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٢٩) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٨) الماوردي (٢ / ٣٣٦). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ١٢١) وعزاه لابن المنذر.

(٩) زاد المسير (٣ / ٣٨٩).

٤٨٥

الفصل الثاني :

ذهب عامة أهل العلم إلى أنها مدنية ، وأنها من أواخر ما نزل من القرآن (١) ، نزلت في سنة تسع.

ويروى : أن أعرابيا سمع قارئا يقرؤها فقال : أحسبها من آخر ما نزل. فقيل له : من أين علمت هذا؟ فقال : أسمع عهودا تنبذ ، ووصايا تنفذ.

وقد ذكرنا في مقدمة الكتاب حديثا مسندا صحيحا في بيان صحة هذا المعنى.

الفصل الثالث : في سبب نزولها.

ذكر محمد بن إسحاق وغيره من أهل العلم بالتفسير والسير : أنه لما انتظم الصلح بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين سهيل بن عمرو عام الحديبية كتبوا : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع [الحرب](٢) عشر سنين (٣) [يأمن فيها الناس ، ويكفّ بعضهم عن بعض ، على أنه لا إسلال ولا

__________________

(١) قال السيوطي في الإتقان (١ / ٤٨) : قال ابن الغرس : مدنية إلا آيتين : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ...) إلى آخرها.

قلت ـ يعني السيوطي ـ : غريب ، كيف ورد أنها آخر ما نزل واستثنى بعضهم (ما كانَ لِلنَّبِيِ) ... الآية لما ورد أنها نزلت في قوله عليه الصلاة والسّلام لأبي طالب : «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك».

(٢) زيادة من زاد المسير (٣ / ٤٠٠).

(٣) من هنا سقط عدة لوحات من الأصل وذلك إلى قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ... الآية. وقد استدركنا بقية الأثر من زاد المسير (٣ / ٤٠٠).

٤٨٦

إغلال (١) ، وأن بيننا عيبة مكفوفة (٢) ، وأنه من أحبّ أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليّه ردّه إليه ، وأنّه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردّوه ، وأنّ محمدا يرجع عنا عامه هذا وأصحابه ، ويدخل علينا في قابل في أصحابه ، فيقيم بها ثلاثا ، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر ، السيوف في القرب (٣) ، فوثبت خزاعة فقالوا : نحن ندخل في عهد محمد وعقده ، ووثبت بنو بكر فقالوا : نحن ندخل في عهد قريش وعقدها. ثم إن قريشا أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح ، فبيتوا خزاعة ليلا فقتلوا منهم عشرين رجلا ، ثم إن قريشا ندمت على ما صنعت ، وعلموا أن هذا نقض للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه بما أصابهم ، فخرج إليهم ، وكانت غزاة الفتح](٤).

__________________

(١) الإسلال : السرقة الخفية (اللسان ، مادة : سلل).

والإغلال : الخيانة (اللسان ، مادة : غلل).

(٢) العيبة : ما يجعل فيه الثياب. والعيبة المكفوفة : قال ابن الأعرابي : معناه : أن بيننا وبينهم في هذا الصلح صدرا معقودا على الوفاء بما في الكتاب ، نقيّا من الغلّ والغدر والخداع. والمكفوفة : المشرجة المعقودة. والعرب تكني عن الصّدور والقلوب التي تحتوي على الضمائر المخفاة : بالعياب. وذلك أن الرجل إنما يضع في عيبته حرّ متاعه ، وصون ثيابه ، ويكتم في صدره أخصّ أسراره التي لا يحبّ شيوعها ، فسمّيت الصدور والقلوب عيابا ؛ تشبيها بعياب الثياب (اللسان ، مادة : عيب).

(٣) القرب : جمع ، واحده : قراب ، وهو : غمد السيف والسكين (اللسان ، مادة : قرب).

(٤) ما بين المعكوفين استدرك من زاد المسير (٣ / ٤٠٠).

٤٨٧

[عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم قال : خرجت مع شداد بن أوس فنزلنا مرج الصفر ، فقال : ائتوني بالسفرة نبعث بها ، فكان القوم يحفظونها منه ، فقال : يا بني أخي ، لا تحفظوها عني ، ولكن احفظوا مني ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اكتنز الناس الدنانير والدراهم ، فاكتنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد](١) وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب» (٢).

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)(٣٦)

قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) قال الزجاج (٣) : أعلم الله عزوجل أن عدة شهور المسلمين التي تعبّدوا بأن يجعلوها لسنتهم اثنا عشر شهرا على منازل القمر ، واستهلال الأهلة.

(فِي كِتابِ اللهِ) وهو اللوح المحفوظ.

__________________

(١) ما بين المعكوفين زيادة من صحيح ابن حبان (٣ / ٢١٥ ـ ٢١٦).

(٢) أخرجه ابن حبان (٣ / ٢١٥ ـ ٢١٦) ، وابن أبي شيبة (٦ / ٤٦) ، والحاكم في المستدرك (١ / ٦٨٨).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦).

٤٨٨

قال ابن عباس : هو الإمام ، الذي عند الله كتبه (١).

(يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) وقد ذكرناها عند قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ).

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) قال ابن عباس : القضاء المستقيم (٢).

وقال ابن قتيبة (٣) : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) أي : في الأشهر الحرم (أَنْفُسَكُمْ).

قال قتادة : الظلم في الأشهر الحرم أعظم وزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما (٤).

وقال ابن إسحاق : المراد بالظلم فيهن : فعل الشيء ، وهو تحليل شهر محرّم وتحريم شهر محلّل (٥).

وقال مقاتل (٦) : المعنى : لا تظلموا أحدا بالقتال في الشهر الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتل.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٩٤) ، وزاد المسير (٣ / ٤٣٢).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٨٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) تفسير غريب القرآن (ص : ١٨٥).

(٤) أخرجه الطبري (١٠ / ١٢٧) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٨٧) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) أخرج نحوه الطبري (١٠ / ١٢٧) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٣). وانظر : الوسيط (٢ / ٤٩٤).

(٦) تفسير مقاتل (٢ / ٤٦).

٤٨٩

وقد ذكرنا في البقرة أن تحريم بداية مشركي العرب بالقتال في الشهر الحرام منسوخ عند أكثر العلماء.

وقيل : المعنى : لا تظلموا فيهن أنفسكم بترك قتال الكفار (١).

وقد روي عن ابن عباس : أن الضمير في قوله : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَ) يعود إلى قوله : (اثْنا عَشَرَ شَهْراً)(٢).

والأول اختيار أكثر اللغويين والمفسرين.

وقال ابن الأنباري (٣) : العرب تعد الهاء والنون على القليل من العدد ، والهاء والألف على الكثير منه ، والقلة : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والكثرة ما جاوز العشرة. يقولون : وجهت إليك أكبشا فاذبحهن ، وكباشا فاذبحها ، فلذلك قال : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ، وقال : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) لأنه يعني بقوله : " فيهن" : الأربعة الأشهر (٤).

ومن قال أن الضمير في" فيهن" يعود إلى قوله : " اثنا عشر" فإنه ممكن ؛ لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير ، وعلامة الكثير للقليل.

__________________

(١) وهو قول ابن بحر ، وهو عكس قول مقاتل. انظر : الماوردي (٣ / ٣٦٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٣٤).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٢). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٣٣) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٨٧) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٣٣).

(٤) فائدة : قال ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٣٤) : السرّ في أنّ الله تعالى عظّم بعض الشهور على بعض ؛ ليكون الكفّ عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها ، تدريجا للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.

٤٩٠

قوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) يعني : جميعا ، ونصبه على الحال من الفاعل ، أو المفعول (١). والأول أظهر.

ثم ضمن لهم النصر بشرط التقوى فقال : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)(٣٧)

قوله تعالى : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) قرأت لأبي جعفر ولأبي عمرو من رواية فرج عن اليزيدي : " النّسيّ" بالتشديد من غير همز (٢).

قال الزمخشري (٣) : النسيء مصدر نسأه ؛ إذا أخّره (٤) ، يقال : نسأه نسأ ونساء ونسيئا ؛ كقولك : مسّه مسّا ومساسا ومسيسا (٥).

وقال الجوهري (٦) وغيره : هو فعيل بمعنى مفعول ، من قولك : نسأت الشّيء فهو منسوء ؛ إذا أخّرته ، ثم صرفوا منسوءا إلى نسيء ، كما صرفوا مقتولا ومجروحا إلى قتيل وجريح.

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٦٢).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٣) ، والنشر (١ / ٤٠٥) ، والكشف (١ / ٥٠٢) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٢) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٤).

(٣) الكشاف (٢ / ٢٥٨).

(٤) انظر : اللسان ، مادة : (نسأ).

(٥) انظر : اللسان ، مادة : (مسس).

(٦) الصحاح (١ / ٧٧).

٤٩١

وقيل : نسأت الشّيء نسأ ؛ إذا أخّرته ، وكذلك أنسأته (١).

واختلفوا في أصل الكلمة ؛ فذهب الأكثرون إلى أنها من التأخير.

قال الأخفش (٢) : ومنه : النسيء في البيع ، ويقال : أنسأ الله في أجلك.

وقال قطرب : هو من الزيادة ، فكل زيادة حدثت في شيء فهو نسيء ، وقال : ومنه : قد نسأت الناقة وأنسأتها ؛ إذا زجرتها ليزداد سيرها.

والأول أظهر وأشهر.

قال ابن عباس وقتادة وعامة المفسرين واللغويين : كانت العرب تحرم الشهور الأربعة ، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم وإسماعيل ، وكانوا ربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم ، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر فيؤخرونه إلى الشهر الذي بعده ، ثم كذلك حتى يستدير التحريم على السنة كلها (٣).

فأعلم الله عزوجل أن ذلك زيادة في كفرهم ؛ لأنهم أحلوا الحرام وحرموا الحلال.

وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» (٤) ، أي : رجع التحريم إلى الشهور الأربعة ، وبطل أمر النسيء ، وكانوا لا يفعلون ذلك إلا في الموسم.

__________________

(١) انظر : اللسان ، مادة : (نسأ).

(٢) انظر : معاني الأخفش (ص : ٢١٠).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٩٤) ، وزاد المسير (٣ / ٤٣٥).

(٤) أخرجه البخاري (٣ / ١١٦٨ ح ٣٠٢٥) ، ومسلم (٣ / ١٣٠٥ ح ١٦٧٩).

٤٩٢

قال الفراء (١) : كانت العرب في الجاهلية إذا [أرادوا](٢) الصّدر عن منى ، قام رجل من بني كنانة يقال له : نعيم بن ثعلبة ـ وكان رئيس الموسم ـ ، يقول : أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ، ولا يردّ لي قضاء ، فيقولون : [صدقت](٣) ، أنسئنا شهرا ، يريدون : أخّر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، [وأحلّ المحرم](٤) ، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي الأشهر الثلاثة ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، وكانت عامة معيشتهم من الغارات.

قوله تعالى : (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : بالنسيء.

واختلف القراء في" يضلّ" فقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بضم الياء وفتح الضاد على ما لم يسمّ فاعله.

وقرأت لجماعة ، منهم يعقوب الحضرمي : بضم الياء وكسر الضاد (٥).

وقرأ الباقون بفتح الياء وكسر الضاد (٦).

فعلى القراءة الأولى والثالثة : " الذين كفروا" في موضع رفع. وعلى القراءة الثانية : جائز أن يكون في موضع رفع ، على معنى : يضلون به أتباعهم. وجائز أن يكون في موضع نصب ، على معنى : يضل الله ، أو يضل الشيطان به الكفار.

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧).

(٢) في الأصل : أراد. والتصويب من معاني الفراء (١ / ٤٣٦).

(٣) زيادة من معاني الفراء ، الموضع السابق.

(٤) زيادة من معاني الفراء (١ / ٤٣٧).

(٥) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٢).

(٦) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٤) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣١٨ ـ ٣١٩) ، والكشف (١ / ٥٠٢ ـ ٥٠٣) ، والنشر (٢ / ٢٧٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٢) ، والسبعة في القراءات (٣١٤).

٤٩٣

(يُحِلُّونَهُ عاماً) قال ابن عباس : إذا قاتلوا فيه أحلّوه وحرّموا مكانه صفر ، وإذا لم يقاتلوا فيه حرّموه (١).

(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) المواطأة : المماثلة والموافقة على الشيء. يقال : أوطأت فلانا على كذا ؛ إذا وافقته عليه (٢) ، فالمعنى : ليوافقوا عدة ما حرّم الله ، فلا يخرجون من تحريم أربعة أشهر ، ويقولون : هي بمنزلة الحرم.

(فَيُحِلُّوا) بهذه المواطأة (ما حَرَّمَ اللهُ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٠)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) قال المفسرون : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغزوة تبوك ـ وكان زمن عسرة

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٩٥).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (وطأ).

٤٩٤

وجدب وحرّ شديد ـ كرهوا ذلك إيثارا للثمر والظلال ، وفرارا من السفر والقتال ، وكان زمن طيب الثمار واستوائها ، فنزلت هذه الآية (١).

والاستفهام في معنى التوبيخ. وأصل النّفر : مفارقة مكان إلى مكان لا هاج على ذلك ، يقال : نفر فلان إلى ثغر كذا ينفر نفرا ونفيرا (٢) ، ومنه : نفور الدابّة ونفارها.

[والأصل](٣) في" اثّاقلتم" : تثاقلتم ، ومنه على الأصل قرأ ابن مسعود والأعمش (٤) ، فأدغمت التاء في الثاء ؛ لاشتراكهما في الهمس ، وتقاربهما في المخرج ، ثم اجتلبت الهمزة توصلا إلى النطق بالساكن. والمعنى : تثاقلتم وتقاعستم ذهابا مع طلب الراحة والدّعة.

(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) المنغّصة بالفناء (مِنَ الْآخِرَةِ) المخصّصة بالبقاء ، (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو نعيمها الذي ملتم إليه بالنسبة إلى نعيم الآخرة (إِلَّا قَلِيلٌ).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ١٣٤) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٦) كلاهما عن مجاهد ، ومجاهد في تفسيره (ص : ٢٧٨ ـ ٢٧٩). وانظر : الوسيط (٢ / ٤٩٥) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٥٠ ـ ٢٥١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٩٠) وعزاه لسنيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (نفر).

(٣) في الأصل : والأ.

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٢).

٤٩٥

أخبرنا الشيخ أبو المجد محمد بن الحسين بن أحمد القزويني بقراءتي عليه في رأس عين (١) بالجامع ، أخبرنا أبو منصور محمد بن أسعد الطوسي ، حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أخبرنا عبد الله بن محمود (٢) ، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال (٣) ، حدثنا عبد الله بن المبارك.

وأخبرنا عاليا أبو حفص عمر بن طبرزد إذنا ، أخبرنا الشيخ أبو غالب أحمد بن الحسن بن البناء ، أخبرنا الحسن بن علي الجوهري ، أخبرنا أبو عمر بن حيويه ، وأبو بكر محمد بن إسماعيل الوراق قالا : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي ، أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن المستورد بن شداد (٤) ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «والله

__________________

(١) رأس عين : مدينة كبيرة مشهورة من مدن الجزيرة بين حران ونصيبين ودنيسر ، بينها وبين نصيبين خمسة عشر فرسخا ، وقريب من ذلك بينها وبين حران ، وهي إلى دنيسر أقرب ، بينهما نحو عشرة فراسخ ، وفيها عيون كثيرة عجيبة صافية ، تجتمع كلها في موضع فتصير نهر الخابور (معجم البلدان ٣ / ١٤).

(٢) عبد الله بن محمود المروزي ، أبو عبد الرحمن ، روى عن حبان بن موسى ، وعلى بن حجر ، وعبد الوارث بن عبيد الله صاحب ابن المبارك ، وإبراهيم بن عبد الله الخلال صاحب ابن المبارك (الجرح والتعديل ٥ / ١٨٣).

(٣) إبراهيم بن عبد الله بن أحمد المروزي الخلال ، أبو إسحاق ، صدوق ، مات سنة إحدى وأربعين ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ١١٥ ، والتقريب ص : ٩٠).

(٤) المستورد بن شداد بن عمرو بن حنبل بن الأحنف بن حبيب بن عمرو بن سفيان بن محارب بن دثار القرشي الفهري الحجازي ، سكن الكوفة ، وتوفي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين (تهذيب التهذيب ١٠ / ٩٧ ، والتقريب ص : ٥٢٧).

٤٩٦

ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع» (١). هذا حديث صحيح ، انفرد مسلم بإخراجه في صحيحه ، فرواه عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل.

قوله تعالى : (إِلَّا تَنْفِرُوا) أي : تخرجوا من بيوتكم مع نبيكم لجهاد أعداء الله وإعلاء كلمة الإسلام (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه ، فأمسك الله المطر عنهم فكان عذابهم (٢).

(وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) خيرا منكم وأطوع.

ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه غني عنهم ، وأن تثاقلهم غير قادح في إظهار دينه فقال : (وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً) والضمير في" تضرّوه" يرجع إلى الله تعالى ، في قول الحسن (٣).

وقيل : يرجع إلى ما يرجع إليه قوله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والمعنى : إلا تنصروه أيها المتثاقلون عن النفير معه المتثبطون عن طاعته (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) ولستم معه حين كان بمكة وأجمعوا على المكر به ، (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : اضطروه إلى الخروج بأنواع الأذى ، وما تمالؤوا عليه من الفتك به يوم اجتمعوا بدار الندوة.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٩٣ ح ٢٨٥٨).

(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ١١) ، والبيهقي في سننه (٩ / ٤٨) ، والحاكم (٢ / ١١٤) ، والطبري (١٠ / ١٣٤) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٧٩٧). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤) وعزاه لأبي داود وابن المنذر وأبي الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه.

(٣) الماوردي (٢ / ٣٦٣) ، وزاد المسير (٣ / ٤٣٨).

٤٩٧

وقوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) كقوله : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] ، ونصبه على الحال (١) ، وهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.

ويروى : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لجبريل لما أمره بالخروج : «من يخرج معي؟ قال : أبو بكر» (٢).

وقوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(٣). والغار في جبل قريب من مكة يقال له : ثور.

قال مجاهد : مكثا فيه ثلاثا (٤).

قال عروة : وكان لأبي بكر منيحة من غنم ، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغار (٥).

قال قتادة : وكان عبد الرحمن بن أبي بكر يختلف إليهما ، فلما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج جاءهم بناقتين فانطلقوا (٦).

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٦٥).

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٥) ، والزمخشري في الكشاف (٢ / ٢٥٩). ولم يتعرض له الحافظ ابن حجر في تخريجه على الكشاف.

(٣) انظر : التبيان (٢ / ١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٦٥).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٣٤٥) ، والطبري (١٠ / ١٣٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٠٢) وعزاه لابن أبي شيبة.

(٥) أخرجه الطبري (١٠ / ١٣٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٠٤) من حديث طويل ، وعزاه لعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة.

(٦) ذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٠٤) بلا نسبة.

٤٩٨

قال الزهري : لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب ، والعنكبوت حتى نسج بيتا. فلما جاء سراقة بن مالك في طلبهما قال : لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ بيت العنكبوت (١).

وفي الصحيحين من حديث أنس : «أن أبا بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار وعلى رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه!! فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (٢).

وقال محمد بن سيرين : «ذكر رجال في عهد عمر ، فكأنهم فضّلوه على أبي بكر ، فبلغ ذلك عمر فقال : والله لليلة من أبي بكر خير من عمر وآل عمر ، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر. لقد خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له : يا أبا بكر! ما لك تمشي ساعة بين يديّ وساعة خلفي؟ فقال : يا رسول الله! أذكر الطلب فأمشي خلفك ، وأذكر الرصد فأمشي أمامك. فقال : يا أبا بكر! لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني ، فقال : نعم والذي بعثك بالحق. فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار. ثم قال : انزل يا رسول الله فنزل. فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر» (٣).

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٢٩٦). قال الماوردي في تفسيره (٢ / ٣٦٤) : وذهب بعض المتعمقة في غوامض المعاني إلى أن قوله تعالى : إِذْ هُما فِي الْغارِ أي : في غيرة على ما كانوا يرونه من ظهور الكفر فغار على دين ربه. وهو خلاف ما عليه الجمهور.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ١٣٣٧ ح ٣٤٥٣) ، ومسلم (٤ / ١٨٥٤ ح ٢٣٨١).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ٧ ح ٤٢٦٨) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين لو لا إرسال فيه ، ولم يخرجاه.

٤٩٩

قال الشعبي : لقد عاتب الله أهل الأرض جميعا غير أبي بكر في هذه الآية (١).

وفي الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحسان بن ثابت : قلت في أبي بكر شيئا؟ [قال : نعم. قال](٢) : قل حتى أسمع. قال : قلت :

وثاني اثنين في الغار المنيف وقد

طاف العدوّ به إذ صاعد الجبلا

وكان حبّ رسول الله قد علموا

من الخلائق لم يعدل به بدلا

الثّاني التّالي المحمود مشهده

وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا

فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) بدل ثان من" إذ أخرجه الذين كفروا" (٤).

قال أهل العلم : من أنكر أن يكون عمر أو علي أو عثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو كذاب مبتدع ، ومن أنكر أن يكون أبو بكر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كفر ؛ لأنه ردّ نص القرآن (٥).

ويروى : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوم السقيفة حين تنازع المهاجرون والأنصار فقال الحباب بن المنذر : منا أمير ومنكم أمير ، وأخذ بيد أبي

__________________

(١) الوسيط (٢ / ٤٩٦) ، وزاد المسير (٣ / ٤٣٩). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٩٩ ـ ٢٠٠) وعزاه لابن عساكر عن سفيان بن عيينة.

(٢) زيادة من المستدرك (٣ / ٦٧).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك (٣ / ٦٧ ح ٤٤١٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٩٩) وعزاه لابن عدي وابن عساكر من طريق الزهري عن أنس.

(٤) انظر : التبيان (٢ / ١٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٦٥).

(٥) الوسيط (٢ / ٤٩٩).

٥٠٠