رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة

وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه (١)

قال الضحاك : كان المؤمنون يرضون بما أعطوا ويحمدون الله عليه ، وأما المنافقون فإن أعطوا كثيرا فرحوا ، وإن أعطوا قليلا سخطوا ، فذلك قوله : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)(٢).

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي : قنعوا بما أعطاهم الله قضاء وتقديرا ، ورسوله قسما ، (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) ما نحتاج إليه ، (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) في الزيادة وسعة الرزق ، التقدير : لكان خيرا لهم وأعود عليهم ، فحذف الجواب للعلم به.

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦٠)

قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) اختلف العلماء في هذين الصفتين أيهما أشد حاجة ، فذهب الإمامان أحمد والشافعي إلى أن الفقراء أشد

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم. انظر : ديوانه (ص : ٧٨) ، ولسان العرب ، مادة : (همز) ، والطبري (١٠ / ١٥٦) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥٥) ، وجمهرة اللغة (ص : ٧٢٧) ، ومقاييس اللغة (٦ / ٦٦) ، ومجمل اللغة (٤ / ٤٨٨) ، وأساس البلاغة (ص : ٤١٤) ، وإصلاح المنطق (ص : ٤٢٨).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨١٦). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٥).

٥٢١

حاجة من المساكين ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعاذ من الفقر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» (١). أخرجه الترمذي.

قال أحمد بن عبيد : المسكين أحسن حالا من الفقير (٢) ؛ لأن الفقير أصله في اللغة : المفقور الذي نزعت فقرة من فقر ظهره ، فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر (٣) ، فصرف عن مفقور إلى فقير ، كما قالوا في مجروح جريح ، ومطبوخ طبيخ.

قال الشاعر :

لمّا رأى لبد النّسور تطايرت

رفع القوادم كالفقير الأعزل (٤)

قال : ومن الحجة لهذا القول ، قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) [الكهف : ٧٩] ، فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا (٥).

وذهب الأصمعي وأبو حنيفة إلى أن المسكين أشد حاجة (٦) ، واحتج كذلك ابن السكيت (٧) بقول الراعي (٨) :

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٧٧ ح ٢٣٥٢).

(٢) انظر : القرطبي (٨ / ١٦٩) ، والتمهيد لابن عبد البر (١٨ / ٥١).

(٣) انظر : اللسان ، مادة : (فقر).

(٤) البيت للبيد وهو يصف لبدا ، (وهو السابع من نسور لقمان بن عاد). انظر : ديوانه (ص : ٢٧٤) ، واللسان ، مادة : (فقر) ، والقرطبي (٨ / ١٦٩) ، والتمهيد (١٨ / ٥١) ، والمغني (٦ / ٣٢٣) ، ومعجم البلدان (٤ / ١٩٤) ، والماوردي (٢ / ٢٧٥) ، ومعجم مقاييس اللغة (٤ / ٩٠).

(٥) زاد المسير (٣ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧).

(٦) انظر : المغني (٦ / ٣٢٣).

(٧) إصلاح المنطق (ص : ٣٢٦).

(٨) البيت للراعي. وهو في : القرطبي (٨ / ١٦٩) ، والتمهيد (١٨ / ٥٠) ، والمحلى (٦ / ١٤٩) ، والمغني (٦ / ٣٢٣) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥٦).

٥٢٢

أما الفقير الذي كانت حلوبته

وفق العيال فلم يترك له سبد

فسمّاه فقيرا وله حلوبة تكفيه وعياله.

وقال يونس بن حبيب (١) : قلت لأعرابي : أفقير أنت؟ قال : لا والله بل مسكين (٢). يريد : أنا أسوأ حالا من الفقير.

وقال ابن عباس وجمهور المفسرين : الفقير : المتعفف عن السؤال ، والمسكين : الذي يسأل (٣).

وقال قتادة : الفقير : المحتاج الذي به زمانة ، والمسكين : المحتاج الذي لا زمانة به (٤).

ويجوز أن يعطيا من الزكاة ما يصير بهما إلى الغنى.

قوله تعالى : (وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) يعني : السّعاة لجبايتها ، فيعطون منها بقدر أجورهم عندنا. وعند الشافعي وعند مالك وفقهاء العراق : هو مفوّض إلى اجتهاد الإمام.

__________________

(١) يونس بن حبيب الضبي بالولاء ، أبو عبد الرحمن ، ويعرف بالنحوي ، علّامة بالأدب ، كان إمام نحاة البصرة في عصره ، أخذ عنه سيبويه والكسائي والفراء وغيرهم من الأئمة ، من كتبه : " معاني القرآن" ، و" اللغات" ، و" النوادر". توفي سنة ١٨٢ ه‍ (الأعلام ٨ / ٢٦١).

(٢) زاد المسير (٣ / ٤٥٦).

(٣) أخرجه الطبري (١٠ / ١٥٨). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٦) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٢٢) وعزاه لابن أبي شيبة عن جابر بن زيد.

(٤) أخرجه الطبري (١٠ / ١٥٨) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨١٩ ، ١٨٢٠) ، والنحاس في ناسخه (١ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٢١) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبي الشيخ.

٥٢٣

قوله تعالى : (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) يعطون بقدر ما يحصل به التأليف. وهم قسمان ؛ مسلمون وكافرون.

فأما المسلمون فقسمان ؛ قسم دخلوا في الإسلام ونياتهم ضعيفة ، فيعطون من الصدقات ما يثبتهم على الإسلام ، كما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس (١).

وقسم دخلوا فيه على بصيرة وهدى لا تزلزل عندهم ، إلا أنهم شرفاء في قومهم ، فيعطون منها ما يرغب أمثالهم في الإسلام ، كما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر ، وأعطى أبو بكر الصديق رضي الله عنه عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة (٢).

وأما الكافرون : فيعطى منهم من الزكاة من يرجى إسلامه ، أو يخاف شره ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه (٣) ؛ ترغيبا له واستمالة إلى الإسلام حتى أسلم.

__________________

(١) أخرج البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : " بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذهيبة فقسمها بين الأربعة ؛ الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي ، وعيينة بن بدر الفزاري ، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان ، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب ، فغضبت قريش والأنصار قالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا ، قال : إنما أتألفهم ..." (٣ / ١٢١٩ ح ٣١٦٦).

(٢) انظر : تاريخ دمشق (٤٠ / ٨٠).

(٣) عن صفوان بن أمية قال : «أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إليّ فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ». أخرجه الترمذي (٣ / ٥٣ ح ٦٦٦).

٥٢٤

فصل

اختلف العلماء في انقطاع حكم المؤلفة الكفار ؛ فذهب الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري وإسحاق إلى أن حكمهم انقطع ؛ لأن الله تعالى أعزّ الإسلام وأغناه عن أن يتألف له الرجال.

وذهب الإمام أحمد رضي الله عنه إلى بقاء حكمهم. وهو الصحيح ؛ لأن سهمهم ثابت بكتاب الله وسنة رسوله ، فلا يزول إلا بناسخ ، ولا ناسخ ، فيجب بقاء حكمهم ، ولا [نزاع](١) في المقدمة الأولى.

وأما المقدمة [الثانية](٢) فبيانها من وجهين :

أحدهما : أن الأصل عدم الناسخ ، فيحتاج مدعيه إلى وجوده ، وأنى له ذلك.

الثاني : أن الإمام أحمد كان أقوم الناس بكتاب الله وأجمعهم لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو كان ثمّ آية ناسخة أو حديث ناسخ لحكمهم لظفر به. ويؤيد ذلك قول الزهري : لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة (٣).

قوله تعالى : (وَفِي الرِّقابِ) وهم المكاتبون ، فيعطون من الزكاة ما يؤدونه في كتابتهم.

واختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه‌الله هل يجوز الإعتاق من الزكاة؟

__________________

(١) في الأصل : نزاغ.

(٢) في الأصل : البانية.

(٣) انظر : المغني (٢ / ٢٨٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥٧) ، والتحقيق في أحاديث الخلاف (٢ / ٦٢).

٥٢٥

وقال مالك : يشترى بسهم الرقاب عبيد يعتقون. ويجوز أن [يفكّ](١) منها أسيرا مسلما.

قوله تعالى : (وَالْغارِمِينَ) وهم ضربان ، ضرب غرم لإصلاح ذات البين ، فإنهم يعطون بقدر حمالتهم ، وإن كانوا أغنياء.

والضرب الثاني : من غرم لإصلاح نفسه أو عياله في مباح ، فيعطى مع الحاجة ما يقضي دينه.

وإن غرم في معصية لم يدفع إليه قبل التوبة ؛ لأنه لا يؤمن أن يعاود المعصية.

وفيما بعد الموت خلاف بين العلماء.

قوله تعالى : (وَفِي سَبِيلِ اللهِ) يعني : الغزاة والمرابطين الذين لا حقّ لهم في الديوان ، فيعطون ما يحتاجون إليه لغزوهم ، من النفقة ، والسلاح ، والخيل ، وإن كانوا أغنياء ؛ لأنهم في مصلحة الإسلام وأهله.

وقال أبو حنيفة : لا يعطون مع الغنى.

ولا يجوز صرف الزكاة في الحج ، في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وبها قال أكثر العلماء (٢).

وكان ابن عباس وابن عمر يجيزان ذلك ، وإليه ذهب الحسن وإسحاق ، وهي رواية أخرى.

__________________

(١) في الأصل : يفتك.

(٢) انظر : المغني (٦ / ٣٣٤).

٥٢٦

قال أبو لاس (١) : حملنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إبل الصدقة للحج (٢).

قوله تعالى : (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به كما ذكرناه في البقرة ، فيعطى من الزكاة ـ وإن كان له مال في بلده ـ ما يبلغه إلى بلده ، وإن أراد إنشاء السفر فليس بابن سبيل.

وقال الشافعي : هو كالمنقطع به ، وعن [الإمام](٣) أحمد نحوه.

قوله تعالى : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) سبق القول عليه في النساء (٤).

(وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه (حَكِيمٌ) فيما فرض وشرع.

فصل

اتفق أهل العلم على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير هذه الأصناف الثمانية ، من بناء مسجد ، أو إصلاح طريق ، أو كفن ميت ؛ لأن الله تعالى خصّهم بها بقوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) ، ولفظة : " إنما" تثبت المذكور ، وتنفي ما عداه.

واختلفوا هل يجب تعميم الأصناف الثمانية ؛ فذهب [الإمامان](٥) أحمد وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب تعميمهم ، وأنه لو اقتصر على واحد من أحد الأصناف الثمانية

__________________

(١) أبو لاس الخزاعي المزني ، ويقال له : ابن لاس ، صحابي. قيل : هو عبد الله بن عنمة ، والصواب أنه غيره ، روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثين (تهذيب التهذيب ١٢ / ٣٠١ ، والتقريب ص : ٦٨٣).

(٢) أخرجه أحمد (٤ / ٢٢١) ، والحاكم (١ / ٦١٢ ح ١٦٢٤) وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وله شاهد صحيح. وقد ذكره البخاري تعليقا (٢ / ٥٣٤).

(٣) في الأصل : إمام.

(٤) عند الآية رقم : (١١).

(٥) في الأصل : الإمان.

٥٢٧

جاز ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» (١) ، فأمر بردها في صنف واحد.

وقال الشافعي : يجب التعميم والدفع إلى ثلاثة من كل صنف ؛ تمسكا بما اقتضته الآية من التشريك بينهم ، وأصحابنا يقولون : هذه الآية بيّنت أصناف المستحقين للزكاة على وجه لا تخرج عنهم ، وهذا كما تقول : الخلافة في بني هاشم ، وبني عبد شمس ، وبني تيم ، وبني عدي ، يريد : أنها فيهم لا تتعداهم إلى غيرهم.

فصل

وأربعة من هؤلاء يأخذون (٢) أخذا مستقرا وهم : الفقراء ، والمساكين ، والعاملون عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، والباقون يأخذون أخذا مراعا. فإن صرفوه فيما أخذوه له ، وإلا رجع عليهم به ، ومن فضل منه شيء أخذ منه (٣).

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٦١)

قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) أي : ومن المنافقين الذين يؤذون النبي.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٥٠٥ ح ١٣٣١) ، ومسلم (١ / ٥٠ ح ١٩).

(٢) في الأصل زيادة لفظة : مع.

(٣) انظر : المغني (٢ / ٢٨٢) ، والكافي (١ / ٣٣٦).

٥٢٨

قال مقاتل (١) وغيره : منهم الجلاس بن سويد ، وشاس (٢) بن قيس ، ومخشي (٣) بن الحمير ، ورفاعة بن زيد ، ورفاعة بن عبد المنذر ، وعبيدة بن الحارث ، قالوا ما لا ينبغي ، فقال رجل منهم : لا تفعلوا ، فإنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بنا. فقال جلاس : نقول ما شئنا ، فإنما محمد أذن سامعة ، فنأتيه فيصدقنا بما نقول ، فنزل في الجلاس : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) ... الآية (٤).

فائدة ينبغي أن تلاحظ :

اعلم أنه يجب على العاقل أن لا يبادر إلى سبّ كل من سمع عنه النفاق والوقعية فيهم ، فإن جماعة من المنافقين بل أكثرهم راجعوا رشدهم حين اطلعوا على محاسن الإسلام وظهرت لهم براهين صحته ، وشاهدوا معجزات المبعوث به صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هذا مخشي بن الحمير كان يلمز بالنفاق ، ثم تاب وحسنت توبته ، وسمي عبد الرحمن ، وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا ، ولا يعلم مكانه ، فقتل يوم اليمامة شهيدا ، ولم ير له أثر (٥).

وأما الجلاس فحسنت توبته ، على ما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) تفسير مقاتل (٢ / ٥٥).

(٢) في تفسير مقاتل : وشماس.

(٣) في تفسير مقاتل : والمخش.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٦) عن السدي. وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٥٤) ، والماوردي (٢ / ٣٧٧). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٢٧) وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.

(٥) انظر : الإصابة (٦ / ٧١) ، ولباب النقول (ص : ١١٩) ، والدر المنثور (٤ / ٢٣١).

٥٢٩

ورفاعة حسن إسلامه أيضا. ورفاعة بن عبد المنذر هو أبو لبابة ، ولا مغمز فيه ، شهد بدرا والعقبة.

ومعنى قوله : (هُوَ أُذُنٌ) يصدّق كل ما يسمع ، فسماه بالجارحة التي هي آلة السماع ، مبالغة في استعداده لقبول كل ما يسمعه ، وانحلال عزيمته عن ظنهم الفاسد.

وكان نافع يسكّن الذال حيث وقع (١).

(قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي : هو أذن خير لا أذن شرّ ، يسمع الخير وينقاد إليه ، وإذا سمع الشر أعرض عنه تنزها منه.

وقرأت لعاصم من طريقي الأعشى والبرجمي عن أبي بكر عنه : " قل أذن" بالتنوين ، " خير" بالرفع (٢). وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد ، على معنى : قل هو أذن كما تقولون يسمع منكم ويصدقكم خير لكم من أن يحاققكم ويكذبكم.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ) يصدق بوحدانيته وتنزيله ، (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يصدقهم فيما يخبرونه به. فأما أنتم أيها المنافقون فإنه يجري معكم على وفق طباعه المستقيمة وأغراضه السليمة فيعيركم أذنا سامعة ، يتغابى عن فضائحكم وقبائحكم ، وهو أعلم بكم منكم كرما ووقارا. كما قيل :

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣١٩) ، والكشف (١ / ٥٠٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٥).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣).

٥٣٠

ليس الغبي بسيد في قومه

لكن سيد قومه المتغابي (١)

(وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي : هو رحمة لهم ؛ لأنه أوضح لهم مسالك النجاة.

وقيل : ورحمة للذين أظهروا الإيمان من المنافقين ، حيث لم ينقب عن ضمائرهم ويستكشف عن سرائرهم.

وقرأ حمزة : " رحمة" بالجر ، عطفا على قوله : " أذن خير" (٢).

وقرأ ابن أبي عبلة : " ورحمة" بالنصب (٣).

قال الزمخشري (٤) : هي علّة معلّلها محذوف ، تقديره : ورحمة لكم يأذن لكم ، فحذف ؛ لأن قوله : " أذن خير لكم" يدل عليه.

ثم توعد الذين يؤذون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المنافقين فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)(٦٣)

__________________

(١) البيت للمتنبي. وهو في : كشف الخفاء (٢ / ٧٨) ، وروح المعاني (٢٨ / ١٥٠).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٩) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٠) ، والكشف (١ / ٥٠٣) ، والنشر (٢ / ٢٨٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٥).

(٣) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٥ / ٦٥) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٧).

(٤) الكشاف (٢ / ٢٧٢).

٥٣١

قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) قال ابن السائب : نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزاة تبوك ، فلما رجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم ويحلفون ، فنزلت هذه الآية (١).

قال مقاتل (٢) : منهم عبد الله بن أبيّ ، حلف [ألّا](٣) يتخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليكونن معه على عدوه.

وقيل : حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم من قولهم : " هو أذن" وغير ذلك مما يبلغ الرسول والمؤمنين عنهم من الطعن والأذى.

(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) قال الزمخشري (٤) : وحّد الضمير لاتحاد رضى الله ورضى رسوله ، فكانا في حكم مرضي واحد.

وقال الزجاج (٥) : لم يقل : يرضوهما ؛ لأن المعنى يدل عليه ، فحذف استخفافا. والمعنى : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه. كما قال الشاعر :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف (٦)

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٤٦١).

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ٥٥).

(٣) في الأصل : لا. والمثبت من تفسير مقاتل ، الموضع السابق.

(٤) الكشاف (٢ / ٢٧٢).

(٥) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٨).

(٦) البيت نسب لعمرو بن امرئ القيس الخزرجي ، ونسب أيضا لقيس بن الخطيم ، ولدرهم بن زيد. انظر : الكتاب (١ / ٧٥) ، ومعاني الفراء (١ / ٤٣٤) ، وملحقات ديوان قيس (ص : ١٧٣) ، والمقتضب (٣ / ١١٢ ، ٤ / ٧٣) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٣١٠) ، والهمع (٢ / ١٠٩) ، والأشموني (٣ / ١٥٢) ، والبحر المحيط (٥ / ٦٥) ، والدر المصون (٢ / ٥٧٢ ، ٣ / ٤٧٨).

٥٣٢

والمعنى : نحن بما عندنا راضون وأنت بما عندك راض.

(إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) إيمانا حقيقيا.

قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا) وقرأت لعاصم من رواية أبي زيد عن المفضّل عنه : " تعلموا" بالتاء (١) ، على الخطاب للمنافقين (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) بالمخالفة والمعاداة ، (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) قرأ الأكثرون : " فأن له" بفتح الهمزة. وقرأ أبو رزين وأبو عمران وابن أبي عبلة : " فإن له" بالكسر (٢).

قال الزجاج (٣) : من كسر فعلى الاستئناف بعد الفاء ، كما تقول : فله نار جهنم ، ودخلت" إن" مؤكدة. ومن قال : " فأن له" فإنما أعاد" أن" الأولى توكيدا ؛ لأنه لما أطال الكلام كانت إعادتها أوكد.

وقال غيره : التقدير : فحق أن له نار جهنم.

قال الزمخشري (٤) : ويجوز أن يكون" فأن له" معطوفا على" أنه" ، على أن جواب" من" تقديره : ألم تعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك ، فأن له نار جهنم.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ)(٦٤)

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٦١).

(٢) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٦٢).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٩).

(٤) الكشاف (٢ / ٢٧٢).

٥٣٣

قوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) قال الحسن وقتادة : هذا إخبار من الله عن حالهم (١).

وقال الزجاج (٢) وغيره : هو أمر من الله لهم بالتحذر. المعنى : ليحذر المنافقون.

قال ابن الأنباري : العرب ربما أخرجت الأمر إلى لفظ الخبر ، فيقولون : يرحم الله المؤمن ويعذب الكافر (٣).

قال صاحب الكشاف (٤) : والضمير في" عليهم" و" تنبئهم" للمؤمنين ، و" في قلوبهم" للمنافقين. وصح ذلك ؛ لأن المعنى يقود إليه.

ويجوز أن تكون الضمائر للمنافقين ؛ لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم.

ومعنى : "(تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ)" كأنها تقول لهم : في قلوبكم كيت وكيت ، يعني :

أنها تذيع أسرارهم عليهم حتى [يسمعوها](٥) مذاعة ، وكأنها تخبرهم بها.

قال مجاهد : كانوا يعيبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : عسى الله أن لا يفشي سرنا ، فنزلت هذه الآية (٦).

__________________

(١) الماوردي (٢ / ٣٧٨) ، وزاد المسير (٣ / ٤٦٣).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٩).

(٣) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٦٣).

(٤) الكشاف (٢ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣).

(٥) في الأصل : سمعوها. والتصويب من الكشاف (٢ / ٢٧٣).

(٦) أخرجه الطبري (١٠ / ١٧١) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٩) ، ومجاهد (ص : ٢٨٣). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٧) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٥٥) ، وزاد المسير (٣ / ٤٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٢٩) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٥٣٤

قال السدي : قال بعض المنافقين : وددت أني جلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا ، فنزلت هذه الآية (١).

وقال ابن كيسان : نزلت هذه الآية في اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العقبة ليفتكوا به إذا علاها ومعهم رجل مسلم يخفيهم شأنه ، فأخبر جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم ، وعمار بن ياسر يقود برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحذيفة يسوق به ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فضربها حتى [نحاها](٢). فلما نزل قال لحذيفة : من عرفت من القوم؟ قال : لم أعرف منهم أحدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فإنهم فلان وفلان ، حتى عدهم كلهم. فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال : أكره أن تقول العرب : لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم ، بل يكفيناهم الله بالدبيلة. قيل : يا رسول الله ، ما الدبيلة؟ قال : شهاب من جهنم يضعه الله على نياط فؤاد أحدهم حتى تزهق نفسه ، فكان كذلك ، ونزلت هذه الآية (٣).

(قُلِ اسْتَهْزِؤُا) وعيد وتهديد لهم ، (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) أي : مظهر ومبين لرسوله وللمؤمنين (ما تَحْذَرُونَ) إظهاره من نفاقكم.

__________________

(١) انظر : ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٦) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٥٥) ، وزاد المسير (٣ / ٤٦٣).

(٢) في الأصل : نحاهم. والتصويب من زاد المسير (٣ / ٤٦٣).

(٣) زاد المسير (٣ / ٤٦٣). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤) وعزاه للبيهقي في الدلائل عن عروة.

٥٣٥

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ)(٦٨)

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) قال ابن عباس : كان الجد بن قيس ووديعة بن خذام والجهير بن خمير يسيرون بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعه من تبوك ، فجعل رجلان منهم يستهزئان برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثالث يضحك ولا يتكلم بشيء ، فنزل جبريل فأخبره ، فقال لعمار : اذهب فاسألهم ممّ يضحكون؟ وقل لهم : أحرقكم الله ، فلما سألهم وقال لهم : أحرقكم الله ، علموا أنه قد نزل فيهم قرآن ، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال [الجهير](١) : والله ما تكلمت بشيء ، وإنما ضحكت تعجبا من قولهم ، فأنزل الله : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) يعني : جد بن قيس ووديعة (٢).

__________________

(١) في الأصل : الجمهور. والتصويب من زاد المسير (٣ / ٤٦٤).

(٢) زاد المسير (٣ / ٤٦٤).

٥٣٦

(إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) يعني : الجهير ، (نُعَذِّبْ طائِفَةً) يعني : الجد ووديعة.

وقال ابن عمر : قال رجل من المنافقين : ما رأيت مثل قرّاءنا هؤلاء لا أرغب بطونا ، ولا [أكذب ألسنا](١) ، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ـ ، فقال له عوف بن مالك : كذبت ، لكنك منافق ، لأخبرنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذهب ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب (٢).

وقال قتادة : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه على ذلك ، فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احبسوا عليّ الرّكب ، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا. قالوا : يا نبي الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، وحلفوا على ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٣).

__________________

(١) في الأصل : أكذ. والتصويب والزيادة من مصادر التخريج.

(٢) أخرجه الطبري (١٠ / ١٧٢) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٢٩). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٦٤ ـ ٤٦٥) ، والواحدي في أسباب النزول (٢ / ٢٥٥). والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٣٠) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه ، وفي لباب النقول (ص : ١١٩).

(٣) أخرجه الطبري (١٠ / ١٧٢) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٣٠). وذكره الماوردي (٢ / ٣٧٨) ، وابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٦٥) ، والواحدي في أسباب النزول (٢ / ٢٥٥). والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٣٠) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وفي لباب النقول (ص : ١١٩).

٥٣٧

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) المنافقين عما صدر منهم وبلغك عنهم ف (لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ) ونلهو بالحديث (وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) فلم يعبأ باعتذارهم ؛ لأنهم كانوا كاذبين فيه.

وفي قوله تعالى : (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) دليل على استواء الجد واللعب في الكفر.

حدثني بعض فقهاء الحنابلة : أن رجلا قال ـ وقد سمع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جمع بين نسائه بغسل واحد ـ على سبيل اللعب : كان قد ثار برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [جماعه](١) ، فبلغ الإمام أبا الوفاء بن عقيل ، فأفتى بكفره وبإباحة دمه ، واحتجّ بهذه الآية.

قوله تعالى : (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) يعني : بإحداثهم التوبة وإخلاصهم في الإيمان (نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) بإصرارهم على النفاق.

وقرأ عاصم : " [إن](٢) نعف" بالنون المفتوحة وضم الفاء ، " نعذّب" بنون مضمومة وكسر الذال ، " طائفة" بالنصب (٣).

وقد ذكرنا عن ابن عباس : أن الطائفة المعفو عنها : جهير بن خمير (٤).

__________________

(١) في الأصل : جما. والصواب ما أثبتناه.

(٢) في الأصل : وأن. وهو خطأ.

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٣٣٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٠) ، والكشف (١ / ٥٠٤) ، والنشر (٢ / ٢٨٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٦).

(٤) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٦٤ ، ٤٦٦).

٥٣٨

وقال محمد بن إسحاق : مخشي بن حمير (١). وكأنه والله أعلم أشبه بالصواب ؛ لأن مخشيا معروف بحسن التوبة وصلاح السريرة ، وجهير غير معروف بذلك.

وقد ذكرنا فيما مضى تسمية الواحد باسم الجماعة.

وقال ابن الأنباري (٢) : إذا أريد بالطائفة الواحد كان أصلها : طائف ، فدخلت الهاء للمبالغة ، كما قيل : راوية ، وعلّامة ، ونسّابة.

قوله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) قال ابن عباس : بعضهم على دين بعض (٣).

وفيه تكذيب لقولهم فيما أضربه عنهم في قوله : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) ، وتقرير لقوله : (وَما هُمْ مِنْكُمْ).

ثم أوضح أمرهم وبيّن كفرهم فقال : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) وهو الكفر والنفاق ، (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) وهو الإيمان والإخلاص ، (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن الإنفاق في سبيل الله أو عن جهاد أعدائه ، (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ).

قال الزجاج (٤) : تركوا أمر الله فتركهم من رحمته وتوفيقه.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الكاملون في فسقهم وتمرّدهم ، المخرج لهم من الإيمان إلى الكفر.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ١٧٣). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٨) ، وسيرة ابن هشام (٥ / ٢٠٥).

(٢) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٦٦).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٠٨) ، وزاد المسير (٣ / ٤٦٧).

(٤) معاني الزجاج (٢ / ٤٦٠).

٥٣٩

(وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ) قال الزجاج (١) : كفاية ذنوبهم ، كما تقول : عذبتك حسب فعلك ، وحسب فلان ما نزل به ، أي : ذلك على قدر فعله.

(وَلَعَنَهُمُ اللهُ) سبق تفسيره.

(وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا انقطاع له ، ففي الدنيا الخوف والعار ، وفي الآخرة عذاب النار.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٩)

قوله تعالى : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال الزجاج (٢) : الكاف في موضع نصب ، أي : وعدكم الله على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم.

وقال غيره : في موضع رفع ، على معنى : اسم مثل الذين من قبلكم (٣).

(كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً) فلم تدفع عنهم قوتهم أمر الله لما نزل بهم ، (وَأَكْثَرَ

__________________

(١) معاني الزجاج (٢ / ٤٦٠).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٦٠).

(٣) الدر المصون (٣ / ٤٨٢).

٥٤٠