رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

قال عكرمة : سأل عمر بن الخطاب رجلا منهم : ماذا أعنت في هذا المسجد؟ قال : أعنت فيه بسارية ، فقال له عمر : أبشر بها في عنقك في نار جهنم (١).

ولا خلاف بين العلماء أن مجمعا صلحت حاله وصح إيمانه.

وروي : أن بني عمرو بن عوف سألوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لهم في الائتمام بمجمع بن جارية بمسجد قباء ، فقال : لا ولا نعمة عين ، أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال : يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ ، فو الله لقد صليت بهم وإني لا أعلم ما أضمروا عليه ، ولو علمت ما صليت معهم فيه ، كنت غلاما قارئا للقرآن ، وكانوا شيوخا قد عشوا (٢) ، وكانوا لا يقرؤون من القرآن شيئا ، فصلّيت ، ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى ، فعذره عمر رضي الله عنه وصدقه ، وأمره بالصلاة في مسجد قباء (٣).

قوله تعالى : (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) أي : لا تصلّ في مسجد الضرار ولا تتخذه معبدا ، (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) أي : على الطاعة ، وهو المسجد الذي فيه القبر والمنبر على صاحبهما أفضل الصلاة والسّلام. هذا قول ابن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب (٤).

__________________

ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٨٥) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس.

(١) القرطبي (٨ / ٢٥٤).

(٢) في القرطبي : وكانوا شيوخا قد عاشوا على جاهليتهم.

(٣) القرطبي (٨ / ٢٥٥). وانظر : الماوردي (٢ / ٤٠١).

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٢٧) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨١). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٢٤) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠١).

٦٠١

وقد روى سهل بن سعد : «أن رجلين اختلفا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الآخر : هو مسجد قباء. فذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هو مسجدي هذا» (١).

وعن أبي سعيد الخدري قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأخذ الحصباء فضرب بها الأرض وقال : هو مسجدكم هذا ، مسجد المدينة» (٢).

وأنبأنا حنبل بن عبد الله بن الفرج ، أخبرنا ابن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، أخبرنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى ، حدثني أبي ، سمعت أبا سعيد الخدري قال : «اختلف رجلان ، رجل من بني عمرو بن عوف ورجل من بني خدرة في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال العمري : هو مسجد قباء. فأتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن ذلك فقال : هو هذا المسجد ـ لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال : في ذلك خير كثير ، ـ يعني : مسجد قباء ـ» (٣).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٢ / ١٤٨ ح ٧٥٢٢) ، والطبراني في الكبير (٦ / ٢٠٧ ح ٦٠٢٥).

(٢) أخرجه مسلم (٢ / ١٠١٥ ح ١٣٩٨).

(٣) أخرجه مسلم (٢ / ١٠١٥) ، والترمذي (٢ / ١٤٤) ، والنسائي (١ / ٢٥٧) ، وأحمد (٣ / ٢٣) ، وابن حبان (٤ / ٤٨٣) ، وابن أبي شيبة (٢ / ١٤٨) ، وأبو يعلى (٢ / ٢٧٢) ، والطبري (١١ / ٢٧) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٨٧) وعزاه لابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبي الشيخ والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي سعيد الخدري.

٦٠٢

وقيل : هو مسجد قباء. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (١) ، وبه قال سعيد بن جبير وقتادة وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن والضحاك ومقاتل (٢).

قال صاحب الكشاف (٣) : هو أولى ؛ لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع.

وقيل : كل مسجد بالمدينة بني على الطاعة (٤).

(مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أي : منذ أول يوم.

قال الزجاج (٥) : دخلت" من" في الزمان ، والأصل منذ ومذ ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول" من" ؛ لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض ، ومثله قول زهير (٦) :

لمن الديار [بقنة](٧) الحجر

أقوين من حجج ومن دهر

قيل : معناه : من مرّ حجج ومن دهر.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن عباس (ص : ٢٧٣).

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٧) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٢). وانظر : تفسير مقاتل (٢ / ٧١) ، والماوردي (٢ / ٤٠٢) ، والوسيط (٢ / ٥٢٤) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٨٨) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

(٣) الكشاف (٢ / ٢٩٦).

(٤) وهو قول محمد بن كعب. انظر : الماوردي (٢ / ٤٠٣) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠١).

(٥) معاني الزجاج (٢ / ٤٧٨). وانظر : زاد المسير (٣ / ٥٠٠).

(٦) البيت لزهير. انظر : ديوانه (ص : ٨٩) ، والقرطبي (٨ / ٢٦٠) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠٠ ، ٤ / ٤٣٣).

ويروى البيت : (أقوين مذ حجج ومذ دهر).

(٧) في الأصل : بقية. والتصويب من مصادر البيت.

٦٠٣

قوله تعالى : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) أخرج أبو داود في سننه عن أبي هريرة قال : «نزلت هذه الآية في أهل قباء : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) قال : كانوا يستنجون بالماء فنزلت هذه الآية فيهم» (١).

وقيل : لما نزلت هذه الآية مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فقال : ما الذي أثنى الله به عليكم؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ، ثم نتبع الأحجار الماء (٢).

وقيل : يحبون أن يتطهروا من الذنوب.

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) من الشرك والمعاصي والأنجاس والأقذار.

(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(١١٠)

قوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ) ، قرأ نافع وابن عامر : " أسّس بنيانه" بضم الهمزة وكسر السين ورفع" البنيان" ، على ما لم يسمّ فاعله في الموضعين ، وقرأها الباقون بفتح الهمزة وفتح السين ونصب" البنيان" (٣).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ١١ ح ٤٤).

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ١٢٧ ح ٣٥٥) بنحوه.

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٣٣٦) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٣ ـ ٣٢٤) ، والكشف (١ / ٥٠٧) ، والنشر (٢ / ٢٨١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٨).

٦٠٤

والتأسيس : إحكام أسّ البناء ، وهو أصله ، والبنيان : مصدر ، يراد به : المبني.

(عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ) في محل الحال (١) ، التقدير : أسس بنيانه متقيا لله يرجو ثوابه ويخاف عقابه.

(خَيْرٌ) أمن (أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ) قال الزجاج (٢) : شفا الشيء : [حرفه](٣) وحدّه ، والشّفا مقصور ، يكتب بالألف ، ويثنى : شفوان (٤).

وقال الزمخشري (٥) : الشّفا : الحرف والشفير ، وجرف الوادي : جانبه الذي يتحفر أصله بالماء وتجرفه السيول فيبقى واهيا ، والهار : الهائر ، وهو المتصدّع الذي أشفى على التهدم والسقوط.

قال ابن قتيبة وغيره (٦) : ومنه تهوّر البناء وانهار ؛ إذا تداعى للسقوط.

قال صاحب الكشاف (٧) : المعنى : أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة ، وهي الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير أمن أسسه على قاعدة هي أضعف القواعد [وأرخاها وأقلها بقاء](٨) وهو الباطل والنفاق ، الذي مثله مثل

__________________

(١) انظر : التبيان (٢ / ٢٢) ، والدر المصون (٣ / ٥٠٥).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٧٠).

(٣) في الأصل : جرفه. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) انظر : اللسان ، مادة : (شفي).

(٥) الكشاف (٢ / ٢٩٧).

(٦) تفسير غريب القرآن (ص : ١٩٢).

(٧) الكشاف (٢ / ٢٩٧).

(٨) زيادة من الكشاف ، الموضع السابق.

٦٠٥

شفا جرف هار في قلة الثّبات والاستمساك. وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى ؛ لأنه جعل مجازا عما ينافي التقوى.

فإن قلت : فما معنى قوله : (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ)؟

قلت : لما جعل الجرف الهائر [مجازا عن الباطل قيل : فانهار به في نار جهنم ، على معنى](١) : فطاح به الباطل في نار جهنم ، إلا أنه رشح المجاز ، فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف.

قال الزجاج (٢) : وهذا مثل. المعنى : أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارا وكفرا كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها.

قال قتادة : ذكر لنا أنهم حفروا حفرة في مسجد الضرار فرؤي فيها الدخان (٣).

قال جابر : رأيت الدخان يخرج منه (٤).

قوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قال ابن عباس : شكا ونفاقا في قلوبهم ؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه (٥).

__________________

(١) زيادة من الكشاف (٢ / ٢٩٧).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٧٠).

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٢) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٤). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٣٣) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٤) ، والحاكم (٤ / ٦٣٨). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٣) وعزاه لمسدد في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه.

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٥). وانظر : الطبري (١١ / ٣٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٣) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل.

٦٠٦

وقيل : المعنى : لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا (١) ، وسببا لتصميمهم على الشك والنفاق لا يضمحل أثره ولا يزول رسمه عن قلوبهم.

(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم : " تقطّع" بفتح التاء ، وقرأ الباقون بضم التاء (٢).

وقرأت ليعقوب الحضرمي : " إلى أن" ، جعله حرف جرّ (٣).

فمن قرأ" إلا" بحرف الاستثناء معناه : إلا أن تقطع قلوبهم قطعا ، وتفرق أجزاؤهم بالموت أو بالقتل ، فحينئذ ينمحي آثار الريبة من قلوبهم. فأما ما دامت سالمة فالريبة لازمة لهم. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين (٤).

وقال الزجاج (٥) : قال بعضهم : إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.

فصل

قال بعض العلماء : كل مسجد بني مباهاة ورياء وسمعة ، أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى ، أو بمال غير طيب ، فهو لاحق بمسجد الضرار (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٥). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٥٠٣).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٣٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٤) ، والكشف (١ / ٥٠٨) ، والنشر (٢ / ٢٨١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٩).

(٣) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٥).

(٤) انظر : الطبري (١١ / ٣٣).

(٥) معاني الزجاج (٢ / ٤٧١).

(٦) الطبري (١١ / ٢٦). وانظر : القرطبي (٨ / ٢٥٤).

٦٠٧

وروي : أن شقيقا فاتته الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا فيه بعد ، قال : لا أحب أن أصلي فيه ، فإنه بني على ضرار (١).

وقال عطاء : لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه (٢).

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١١١)

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) سبب نزولها : «أن الأنصار لما بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة العقبة ـ وكانوا سبعين ـ. قال عبد الله بن رواحة : اشترط يا رسول الله لربك ولنفسك. فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم. قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة. قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» (٣).

__________________

(١) الطبري (١١ / ٢٦). وانظر : القرطبي (٨ / ٢٥٤).

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٢٧).

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥ ـ ٣٦) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٦). وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٦٦) ، والوسيط (٢ / ٥٢٦) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٤) وعزاه لابن جرير.

٦٠٨

ويروى : أن أعرابيا مر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ هذه الآية فقال : كلام من هذا؟ فقال : كلام الله. فقال : بيع والله مربح ، لا نقيله ولا نستقيله ، فخرج إلى الغزو فاستشهد (١).

وقال الحسن : اسمعوا إلى بيعة ربيحة ، بايع الله بها كل مؤمن (٢).

وقال قتادة : ثامنهم الله فأغلى لهم (٣).

وكان جعفر الصادق عليه‌السلام يقول : يا من ليست له همة ، إنه ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها إلا بها (٤).

وأنشد الأصمعي لجعفر الصادق (٥) :

أثامن بالنّفس النّفيسة ربّها

فليس لها في الخلق كلّهم ثمن

بها تشترى الجنّات إن أنا بعتها

بشيء سواها إنّ ذلكم غبن

إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

فقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثّمن

وأنشد بعضهم :

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (٨ / ٢٦٨).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٦). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٢٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٥) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٥) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

(٤) ذكره الآلوسي في تفسيره روح المعاني (١١ / ٣٠).

(٥) انظر الأبيات في : القرطبي (٨ / ٢٦٨) ، وروح المعاني (١١ / ٣٠) ، وجامع العلوم والحكم (١ / ٢٢١).

٦٠٩

من يشتري قبّة في العدن عالية

في ظلّ طوبى رفيعات مبانيها

دلّالها المصطفى والله بائعها

ممّن أراد ، وجبريل مناديها

وذكر الاشتراء مجاز عن إثابتهم الجنة في مقابلة ما بذلوا من الأنفس والأموال لله في جهاد أعدائه به ، اللهم فلك الحمد كما ينبغي لكرم وجهك وعظمة جلالك ، وعزتك يا رب ما بذلوا لك إلا أنفسا أنت خلقتها وأموالا أنت رزقتها ، فماذا يستحقون عليك وقد تقربوا بنعمتك إليك ، فما أحق المتلبس بهذه القضية والموفق لهذه البيعة المرضية بإنشاد ما قيل :

أزاهد نفسي فهو مالكها

وله أصون كرائم الذّخر

أو أهد مالا فهو واهبه

وأنا الحقيق عليه بالشّكر

قوله تعالى : (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) قرأ حمزة والكسائي : " فيقتلون" بضم الياء ، " ويقتلون" بفتح الياء ، وقرأ الباقون بالعكس من ذلك (١).

ومعنى الكلام : منهم من يقتل ، ومنهم من يقتل في سبيل الله.

ثم أخبر الله عزوجل أن هذا الوعد المذكور مثبت في كتبه المنزلة فقال : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ).

وفي قوله : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) ترغيب للمؤمنين في الجهاد بأبلغ الطرق ، ضرورة الانقياد إلى اعتقاد تحقق الوفاء بوعد مالك الأشياء.

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٣٤٢) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٢٥) ، والكشف (١ / ٥٠٩) ، والنشر (٢ / ٢٤٦) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٩).

٦١٠

(فَاسْتَبْشِرُوا) أي : افرحوا أيها المؤمنون الباذلون أنفسهم وأموالهم (بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

(التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(١١٢)

قوله تعالى : (التَّائِبُونَ) [رفع](١) على المدح ، أي : هم التائبون.

قال الزمخشري (٢) : وتدل عليه قراءة ابن مسعود وأبيّ : " التائبين" و" الحافظين" نصبا على المدح. ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين.

وقال الزجاج (٣) : هو رفع بالابتداء ، وخبره مضمر تقديره : التائبون العابدون لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا.

وقيل : " التائبون" بدل من الضمير في" يقاتلون" (٤).

ويجوز أن يكون مبتدأ ، خبره" العابدون" ، وما بعده خبر بعد خبر (٥).

قال ابن عباس : التائبون : الرّاجعون عن الشرك (٦).

__________________

(١) في الأصل : وقع. والصواب ما أثبتناه.

(٢) الكشاف (٢ / ٢٩٩).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٤٧١).

(٤) انظر : الدر المصون (٣ / ٥٠٨).

(٥) انظر : التبيان (٢ / ٢٣) ، والدر المصون (٣ / ٥٠٧).

(٦) الوسيط (٢ / ٥٢٧) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠٥).

٦١١

و (الْعابِدُونَ) المطيعون لله بالعبادة (١).

وقال سعيد بن جبير : العابدون : الموحدون (٢).

(الْحامِدُونَ) لله على كل حال.

قال الزجاج (٣) : (السَّائِحُونَ) في قول أهل التفسير واللغة جميعا : الصائمون ، قال : مذهب الحسن أنهم الذين يصومون الفرض (٤). وقد قيل : إنهم الذين يديمون الصيام (٥).

قال (٦) : وقول الحسن في هذا أبين.

فإن قيل : لم سمّي الصائم سائحا؟

قلت : لتشبيهه بالسائح في امتناعه من شهواته.

فإن قيل : هل قيل في السائحين غير ذلك؟

قلت : قد روي عن عطاء : أنهم الغزاة (٧).

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٥٠٥).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٨٩). وانظر : الماوردي (٢ / ٤٠٧) ، وزاد المسير (٣ / ٥٠٥).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٤٧٢).

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٣٨). وانظر : الماوردي (٢ / ٤٠٧) ، والوسيط (٢ / ٥٢٧).

(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٩٠) ، والطبري (١١ / ٣٨). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢٩٨) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمر والعبدي.

(٦) أي : الزجاج.

(٧) زاد المسير (٣ / ٥٠٦).

٦١٢

وعن عكرمة : أنهم طلاب العلم (١).

وعن ابن زيد : أنهم المهاجرون (٢).

قوله تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) يريد : المصلين ، (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وهو الإيمان. وقيل : كل معروف.

(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الكفر. وقيل : كل منكر.

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) وهم القائمون بأمره.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(١١٤)

قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) ... الآية.

اختلفوا في سبب نزولها على أقوال ؛ أثبتها : ما أخبرنا به الشيخان أبو القاسم السلمي ، وأبو الحسن علي بن أبي بكر البغداديان قالا : أخبرنا أبو الوقت عبد الأول ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا عبد الله بن حمويه ، أخبرنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٩٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٥٠٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٨) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٩٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٥٠٦) ، والسيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٩٨) وعزاه لابن أبي حاتم.

٦١٣

عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه قال : «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي عم قل : لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١). هذا حديث متفق على صحته.

وأخرجه مسلم عن حرملة ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري.

وفي بعض طرق الصحيح : «فلم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة ، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم : أنا على ملة عبد المطلب ، وأبي أن يقول : لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ، فأنزل الله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) ... الآية ، وأنزل في أبي طالب فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : ٥٦]» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٤ / ١٧١٧ ح ٤٣٩٨) ، ومسلم (١ / ٥٤ ح ٢٤).

قال القرطبي (٨ / ٢٧٣) : فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه ، فإنه استغفر له بعد موته ، على ما روي في غير الصحيح.

وقال الحسين بن الفضل : وهذا بعيد ؛ لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ، ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة.

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٥٤ ح ٢٤).

٦١٤

وقال محمد بن كعب : دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البيت فوجده مملوءا ، فقال : خلّوا بيني وبين عمّي ، فجلس إليه فقال : يا عم ، جزيت عني خيرا ، كفلتني صغيرا ، وحفظتني كبيرا ، فجزيت عني خيرا ، يا عماه! أعنّي على نفسك بكلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة. قال : ما هي يا ابن أخي؟ قال : قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له. قال : إنك لي لناصح ، والله لو لا أن تعيّر بها بعدي يقال : جزع عمّك عند الموت ، لأقررت بها عينك. قال : فصاح القوم : يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ ، فقال : على ملة الأشياخ ، لا تحدّث نساء قريش أني جزعت عند الموت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أزال أستغفر لك ربي حتى ينهاني ، فاستغفر له بعد [ما](١) مات. فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذي قرابتنا؟ وقد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه. فاستغفر المسلمون للمشركين ، فنزلت هذه الآية (٢).

قال أبو الحسن بن المنادي : إنما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمه : «لأستغفرنّ لك ما لم أنه» قبل أن يموت وهو في السياق. وأما أن يكون استغفر له بعد الموت فلا ، وانقلب ذلك على الرواة.

__________________

(١) زيادة من أسباب النزول (ص : ٢٦٨).

(٢) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٦٧ ـ ٢٦٨). وإسناده ضعيف : موسى بن عبيدة ، ضعيف (المجروحين ٢ / ٢٣٤ ، والتاريخ الصغير ٢ / ٩٣ ، والضعفاء والمتروكين لابن الجوزي ٣ / ١٤٧ ، والكامل ٦ / ٣٣٣).

٦١٥

وقال أبو هريرة [وبريدة](١) : لما مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبر أمه وقف عليه حتى حميت عليه الشمس ، رجاء أن يؤذن له في الاستغفار لها ، فلم يؤذن له ، فقام ونزلت هذه الآية ، فبكى وأبكى من حوله (٢).

قال الزمخشري (٣) : وهذا أصح ؛ لأن موت أبي طالب كان قبل الهجرة ، وهذا آخر ما نزل بالمدينة.

وأخرج الترمذي والنسائي من حديث علي رضي الله عنه قال : «سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان. فقلت له : أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك. قال : فذكرت ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)(٤).

قلت : والذي ذكره الزمخشري غير مرض ؛ لأن الحديث صحيح ، على أنه غير ممتنع أن ينزل بالمدينة ما كان سببه بمكة ، وأن يكون المجموع سببا لنزول الآية. هذا ما جاء في سبب النزول.

وأما التفسير فقوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي : ما ينبغي ولا يصح لهم أن يسألوا الله المغفرة لمن مات على الشرك ولو كانوا أقرب الناس إليهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ) بموتهم على الشرك (أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

__________________

(١) في الأصل : وأبو بريدة. والتصويب من البغوي (٢ / ٣٣١).

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٣١).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٨١ ح ٣١٠١) ، والنسائي (٤ / ٩١ ح ٢٠٣٦).

٦١٦

(وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) ، وهي قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) [مريم : ٤٧] ، وقوله : (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة : ٤].

فعلى هذا يكون ضمير الفاعل في" وعدها" : " إبراهيم" ، والضمير في" إياه" يعود إلى الأب. ويؤيده قراءة الحسن وابن السميفع ومعاذ القارئ : " وعدها أباه" بالباء المعجمة من تحت بنقطة واحدة (١).

وقيل : أباه وعده بالإيمان وخلع الأنداد إن استغفر له ، فيكون ضمير الفاعل للأب ، وضمير" إياه" يعود إلى إبراهيم ، والهاء في" وعدها" نصب على المصدر لا تعود إلى الموعدة ، والموعدة مصدر ، فكذلك ما يعود إليه.

(فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) أي : لإبراهيم بطريق الوحي ، أو بموت أبيه على الشرك (أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) فقطع الاستغفار له (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

قال صاحب الصحاح (٢) : قولهم عند الشكاية : أوه من كذا ، ساكنة الواو ، إنما هو توجّع.

قال [الشاعر](٣) :

فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها

ومن بعد أرض بيننا وسماء (٤)

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٣ / ٥٠٩).

(٢) الصحاح (٦ / ٢٢٢٥).

(٣) زيادة من الصحاح (٦ / ٢٢٢٥).

(٤) انظر : البيت في : لسان العرب ، مادة : (أوه) ، والطبري (١١ / ٥٢) ، والقرطبي (٨ / ٢٧٦) ، وروح المعاني (١١ / ٣٥).

٦١٧

وربما قلبوا الواو ألفا فقالوا : آه ، وربما شدّدوا الواو وكسروها وسكّنوا الهاء ، فقالوا : أوّه من كذا ، وربما مع التشديد حذفوا الهاء [فقالوا : أوّ من كذا ، بلا مدّ](١).

وبعضهم يقول : آوّه ، بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاء ؛ لتطويل الصوت بالشكاية. وربما أدخلوا فيه التاء فقالوا : أوّتاه ، يمدّ ولا يمدّ. وقد أوّه الرّجل تأويها [وتأوّه](٢) تأوّها ؛ إذا قال : أوّه. والاسم منه : الآهة ، بالمد. قال المثقّب :

إذا ما قمت أرحلها بليل

تأوّه آهة الرّجل الحزين (٣)

ويروى : أهّة ، من قولهم : أهّ ؛ إذا توجّع.

وقال أبو عبيدة (٤) : هو فعّال من التأوه ، [ومعناه](٥) : متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه.

وقال الفراء (٦) : هو الذي يتأوّه من الذنوب.

ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير الأوّاه : «أنه الخاشع الدّعّاء المتضرّع» (٧).

__________________

(١) زيادة من الصحاح (٦ / ٢٢٢٥).

(٢) في الأصل : وتأوها. والتصويب من الصحاح ، الموضع السابق.

(٣) البيت للمثقب العبدي ، وهو العائذ بن محصن بن ثعلبة من بني عبد القيس من ربيعة : شاعر جاهلي من أهل البحرين. انظر البيت في : ديوانه (ص : ١٩٤) ، واللسان ، مادة : (رحل) ، والطبري (١١ / ٥٢) ، والقرطبي (٨ / ٢٧٦) ، والوسيط (٢ / ٥٢٩) ، والماوردي (٢ / ٤١١) ، وزاد المسير (٣ / ٥١٠) ، وطبقات فحول الشعراء (ص : ٢٣١).

(٤) مجاز القرآن (١ / ٢٧٠).

(٥) في الأصل : ومعنى. والتصويب من مجاز القرآن ، الموضع السابق.

(٦) معاني الفراء (٢ / ٢٣).

(٧) أخرجه الطبري (١١ / ٥١) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٩٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٣٠٥) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه.

٦١٨

قال إبراهيم النخعي : كان أبو بكر الصديق يسمى الأوّاه ؛ لرأفته ورحمته (١).

وقال أبو سريحة : سمعت عليا على المنبر يقول : ألا إن أبا بكر أوّاه منيب القلب ، ألا إن عمر ناصح الله فنصحه (٢).

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦) لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(١١٧)

ثم أعلم الله تعالى نبيه والمؤمنين أنه لا إثم عليهم بما صدر منهم من الاستغفار قبل النهي فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً) أي : ليحكم عليهم بالضلالة (بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ، وفيه إضمار تقديره : فلا يتقونه.

__________________

(١) ذكره القرطبي (٨ / ٢٧٦) بلا نسبة. وانظر : تهذيب التهذيب (٥ / ٢٧٦) ، وطبقات ابن سعد (٣ / ١٧٠) ، والإصابة (٤ / ١٧٤).

(٢) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (١ / ١٣٨ ، ١٧٦ ، ٤٠٦) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (٣ / ١٧٠) ، والترمذي في نوادر الأصول (١ / ٢٢٩) ، وعلل الدارقطني (٤ / ٩٧). وذكره الطبري في الرياض النضرة (١ / ٣٨٠). وقوله : " ألا إن عمر ..." أخرجه ابن أبي شيبة (٦ / ٣٥٦ ح ٣١٩٩٧).

٦١٩

وما بعده ظاهر إلى قوله : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) قال المفسرون : تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف ، كقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(١).

وقيل : هو إشعار بأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، ألا تراه يقول : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد : ١٩] ، وفيه تنبيه على فضل التوبة وإعلام بأنها بالمنزلة التي يفتقر إليها الأنبياء.

وقال أهل المعاني : ذكر النبي في التوبة مفتاح كلام ، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين ذكر معهم ، كقوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)(٢) [الأنفال : ٤١].

(وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) أي : في وقت العسرة.

قال الزمخشري وغيره (٣) : الساعة تستعمل في معنى الزمان ، كما يستعمل اليوم.

والمراد : غزوة تبوك ، وكانوا في عسرة من الظّهر ، يعقب العشرة على بعير واحد ، وكانوا في عسرة من الزاد ، حتى اقتسم التمرة الواحدة اثنان ، وربما مصّها الجماعة ليشربوا عليها الماء ، وكانوا في عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وشربوها ، وجعلوا ما بقي منها على أكبادهم ، وكانوا في عسرة وشدة من حمّارة القيظ (٤) والقحط.

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٢٩) ، وزاد المسير (٣ / ٥١١).

(٢) زاد المسير (٣ / ٥١١).

(٣) الكشاف (٢ / ٣٠٣).

(٤) حمّارة القيظ : أي شدّة حرّه (اللسان ، مادة : حمر).

٦٢٠