رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

بكر ، سيفان في غمد لا يصطلحان فقال : من الذي له هذه الثلاثة؟ (إِذْ هُما فِي الْغارِ) من هما؟ (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) من صاحبه؟ (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) مع من؟ قال : فبسط يد أبي بكر وضرب عليها ، ثم قال للناس : بايعوا ، فبايع الناس أحسن بيعة (١).

أخبرنا حنبل بن عبد الله بن الفرج في كتابه ، أخبرنا هبة الله بن الحصين ، أخبرنا ابن المذهب ، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي قال : حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم (٢) ، حدثنا المبارك بن فضالة (٣) ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن ربيعة الأسلمي (٤) قال : «كان بيني وبين أبي بكر كلام ، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها وندم ، فقال لي : يا ربيعة ، ردّ عليّ مثلها حتى تكون قصاصا ، قال : قلت : لا أفعل ، فقال أبو بكر : لتقولنّ أو لأستعدينّ عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : ما أنا بفاعل. قال : فانطلق أبو بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانطلقت أتلوه. فجاء ناس من أسلم فقالوا لي : رحم الله أبا بكر ، في أي [شيء](٥) يستعدي عليك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الذي قال لك ما قال. فقلت : أتدرون ما هذا؟! هذا أبو بكر الصديق ،

__________________

(١) أخرجه النسائي في الكبرى (٥ / ٣٧) ، والبيهقي في الكبرى (٨ / ١٤٥).

(٢) هاشم بن القاسم بن مسلم بن مقسم الليثي ، أبو النضر البغدادي ، خراساني الأصل ، ولقبه قيصر ، توفي سنة سبع ومائتين (تهذيب التهذيب ١١ / ١٨ ، والتقريب ص : ٥٧٠).

(٣) مبارك بن فضالة بن أبي أمية ، أبو فضالة البصري ، مولى زيد بن الخطاب. صدوق ، توفي سنة خمس وستين ومائة (تهذيب التهذيب ١٠ / ٢٧ ـ ٢٨ ، والتقريب ص : ٥١٩).

(٤) ربيعة بن كعب بن مالك الأسلمي ، أبو فراس المدني ، كان من أهل الصفة ، خدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مات سنة ثلاث وستين بعد الحرة (تهذيب التهذيب ٣ / ٢٢٦ ، والتقريب ص : ٢٠٨).

(٥) زيادة من المسند (٤ / ٥٨).

٥٠١

هذا ثاني اثنين ، وهذا ذو شيبة المسلمين ، إياكم لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب ، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه ، فيغضب الله عزوجل لغضبهما ، فيهلك ربيعة. قالوا : ما تأمرنا؟ قال : ارجعوا. قال : فانطلق أبو بكر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتبعته وحدي ، حتى أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدثه الحديث كما كان ، فرفع إليّ رأسه فقال : يا ربيعة! ما لك والصدّيق؟ قلت : يا رسول الله ، كان كذا كان كذا ، قال لي كلمة كرهها ، فقال لي : قل كما قلت لك حتى تكون قصاصا ، فأبيت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجل فلا تردّ عليه ، ولكن قل : غفر الله لك يا أبا بكر ، فقلت : غفر الله لك يا أبا بكر. وقال : فولّى أبو بكر وهو يبكي» (١).

قوله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي : على أبي بكر ، في قول علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ وابن عباس وعامة المفسرين (٢) ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ساكنا مطمئنا.

وقال مقاتل (٣) : " عليه" أي : على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَيَّدَهُ) يعني : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) يعني : الملائكة ، وذلك يوم بدر والأحزاب وحنين.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٥٨).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠١) عن ابن عباس وحبيب بن أبي ثابت ، وابن أبي شيبة (٦ / ٣٤٩) عن حبيب. وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٠٧) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن حبيب بن أبي ثابت ، وعزاه للخطيب في تاريخه.

(٣) تفسير مقاتل (٢ / ٤٨).

٥٠٢

وقال الزجاج (١) : ذلك في الغار حين صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) وهي كلمة الشرك ، (وَكَلِمَةُ اللهِ) وهي كلمة التوحيد (هِيَ الْعُلْيا).

وقرأت ليعقوب الحضرمي : " وكلمة الله" بالنصب (٢).

(وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(٤١)

قوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قال أكثر المفسرين : شبابا وكهولا (٣).

وروى عطاء عن ابن عباس : رجالة وركبانا (٤).

وروي عنه أيضا : " خفافا" : أهل اليسرة من المال ، " وثقالا" : أهل العسرة (٥). وهو اختيار الزجاج ، قال (٦) : موسرين ومعسرين.

__________________

(١) معاني الزجاج (٢ / ٤٤٩).

(٢) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٢).

(٣) أخرجه الطبري (١٠ / ١٣٨) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٠٨) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر.

(٤) الوسيط (٢ / ٤٩٩) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٢).

(٥) مثل السابق.

(٦) معاني الزجاج (٢ / ٤٤٩).

٥٠٣

وبعكس هذا القول قال أبو صالح والفراء ، قال الفراء (١) : " الخفاف" : ذوو العسرة وقلّة العيال ، و" الثقال" : ذوو العيال والميسرة.

وقال جويبر : أصحّاء ومرضى (٢).

قال الزهري : خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو قد ذهبت إحدى عينيه ، فقيل : إنك عليل صاحب ضرر. فقال : استنفر الله الخفيف والثقيل ، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع (٣).

وقال صفوان بن عمرو : كنت واليا على حمص ، فلقيت شيخا كبيرا من أهل دمشق ، قد سقط حاجباه على عينيه وهو على راحلته يريد الغزو ، فقلت : يا عم ، لقد أعذر الله إليك ، فرفع حاجبيه وقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا (٤).

وقال أهل المعاني : هذا عامّ في كل أحد ؛ لأنه ما من أحد إلا وتخف عليه الحركة أو تثقل ، فهو ممن أمر الله في هذه الآية بالنفير (٥).

ويؤيد ذلك قول ابن عباس : نسخت بقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً)(٦).

__________________

(١) معاني الفراء (١ / ٤٣٩).

(٢) زاد المسير (٣ / ٤٤٣).

(٣) ذكره البغوي (٢ / ٢٩٦ ـ ٢٩٧) ، والقرطبي (٨ / ١٥١).

(٤) أخرجه الطبري (١٠ / ١٣٨).

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٩٩).

(٦) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٩٩) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٣).

٥٠٤

وقول السدي : هي منسوخة بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى)(١).

وعند الفقهاء : أن هذا تخصيص لا نسخ.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) قال القاضي أبو يعلى : أوجب الله الجهاد بالمال والنفس جميعا ، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف [لا يصلح للقتال](٢) فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به ، [كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويا](٣). وإن كان له مال وقوة فعليه الجهاد بهما ، ومن كان معدما عاجزا فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله ؛ لقوله تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ)(٤).

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من التثاقل إلى الأرض (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما في ذلك من الثواب يوم المآب.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٣ ـ ١٨٠٤). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٣).

وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢٠٨) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

وانظر دعوى النسخ في : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٠٠) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٦٦).

(٢) زيادة من زاد المسير (٣ / ٤٤٣).

(٣) مثل السابق.

(٤) زاد المسير (٣ / ٤٤٣).

٥٠٥

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)(٤٢)

قوله تعالى : (لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً) نزلت في المنافقين. والمعنى : لو كان الذي دعوا إليه غنيمة قريبة ، (وَسَفَراً قاصِداً) وسطا سهلا (لَاتَّبَعُوكَ) طمعا في اكتساب المال ، وخوفا من انكشاف الحال ، (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) وهي المسافة الشاقة ، (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) عند رجوعكم إليهم اعتذارا من تخلفهم عنكم (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) أي : لو قدرنا وكان لنا سعة في المال وما يتوصل به إلى الجهاد لخرجنا معكم ، (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بالكذب والأيمان الفاجرة والنفاق ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فما يغني عنهم الاعتذار والكذب.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)(٤٧)

٥٠٦

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لجماعة منهم في التخلف حين خرج إلى تبوك ، فأنزل الله عزوجل : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

قال عمرو بن ميمون الأودي : اثنان فعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يؤمر بهما : إذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى ، فعاتبه الله كما تسمعون (١).

قال مورق : عاتبه ربه بهذا (٢).

قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف ، بدأه بالعفو قبل أن يعيّره بالذنب (٣).

وهذا أسلوب لطيف من أساليب العتاب. وقريب منه قول قيس فيما بعث به إلى ليلى العامرية :

عفا الله عنها أنّها كلّ ليلة

من الدّهر قد يدنوا إليّ خيالها

فأجابته :

وعنه عفى ربّي وأصلح حاله

فعزّ علينا حاجة لا ينالها

قال الزمخشري عند تفسير هذه الآية (٤) : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) هذا كناية عن الجناية ؛ لأن العفو رادف لها ، ومعناه : أخطأت وبئس ما فعلت (٥).

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق (٥ / ٢١٠) ، والطبري (١٠ / ١٤٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢١٠) وعزاه لعبد الرزاق في المصنف وابن جرير.

(٢) أخرجه الطبري (١٠ / ١٤٢) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢١٠) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٠٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٥).

(٤) الكشاف (٢ / ٢٦١).

(٥) قلت : هذا قول خبيث ، يستدل به على خبث طويته وفساد عقيدته. وقد أجاد المؤلف في الرد عليه.

٥٠٧

وهذا تغفيل من الزمخشري عن اللطيفة المودعة في تصدير هذه الآية بذكر العفو ، وعبارة جافية لا يليق إطلاقها على آحاد ذوي الأقدار ، فكيف بسيد ولد آدم؟ الذي جعل الله تعالى تعظيمه فرضا ، فقال : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النور : ٦٣].

ولقد أجاد محمد بن الحنفية في قوله : البلاغة قول مفقه في لطف.

وأحسن الحسن بن سهل في قوله : البلاغة ما فهمه العامة ، ورضيته الخاصة. والعبارة المنكرة هاهنا لا يرضاها والله الخاصة ولا العامة.

وقال بعضهم : البلاغة : وضوح الدلالة وحسن الإشارة.

وقال أعرابي : البلاغة : حسن الاستعارة.

ولست أجهل أن لهذا الرجل المشار إليه (١) بالرد عليه أقواما ترعد أنفسهم غضبا وحمية له ، (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ).

ولله درّ حسان حيث يقول :

فإن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء (٢)

قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ)(٣) أي : حتى يظهر لك الذين صدقوا في اعتذارهم من الذين كذبوا فيه.

__________________

(١) أي : الزمخشري.

(٢) انظر البيت في : لسان العرب ، مادة : (عرض) ، وسير أعلام النبلاء (٢ / ٥١٥) ، وسيرة ابن هشام (٥ / ٨٧) ، والاستيعاب (٤ / ١٨٨٥) ، والطبري (١٨ / ٨٨).

(٣) زيادة على الأصل.

٥٠٨

قال قتادة : نسخت بقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ)(١) [النور : ٦٢].

قوله تعالى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قال الزجاج (٢) : أعلم الله عزوجل أن علامة المنافق في ذلك الوقت : الاستئذان في التخلّف عن الجهاد.

قال ابن عباس : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)(٣) [النور : ٦٢].

وأنكر أبو سليمان الدمشقي دعوى النسخ هاهنا ؛ لإمكان العمل بالآيتين ، فإنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لحاجة (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ١٤٢) ، والبيهقي (٩ / ١٧٣) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٥). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٥) ، ومعاني القرآن للنحاس (٣ / ٢١٤). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٢١١) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبي الشيخ.

قال أبو حيان في البحر المحيط (٥ / ٤٩) : وهذا غلط ؛ لأن النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق ، في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بقائهم في بيوتهم في بعض الأوقات ، فأباح الله أن يأذن ، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٠).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٦) ، والبيهقي (٩ / ١٧٣). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٤٦) ، والسيوطي في الدر (٤ / ٢١١) وعزاه لأبي عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.

(٤) انظر : زاد المسير (٣ / ٤٤٦). وانظر دعوى النسخ في : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ١٠٠) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٤٠) ، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص : ٥٠٥ ـ ٥٠٦) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٦٧ ـ ٣٦٨).

٥٠٩

قال الزجاج (١) في قوله (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) : موضع" أن" النصب. المعنى : لا يستأذنك هؤلاء في أن يجاهدوا ، ولكن" في" حذفت ، فأفضى الفعل فنصبت" أن".

قال سيبويه : ويجوز أن يكون موضعها جرا ؛ لأن حذفها هاهنا إنما جاز مع ظهور" أن" ، ولو أظهرت المصدر لم تحذف" في" ، لا يجوز : (لا يستأذنك القوم الجهاد) حتى تقول : في الجهاد ، ويجوز : (لا يستأذنك القوم أن يجاهدوا).

(إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) يعني : في القعود عن الجهاد (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : شكّوا في دينهم (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) متحيرين.

قال مقاتل (٢) : كانوا تسعة وثلاثين رجلا.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) قال ابن عباس : لأعدوا له النية وما يصلح للخروج من السلاح والمركوب (٣).

(وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) انطلاقهم بسرعة ونشاط ، (فَثَبَّطَهُمْ) بما قذف في قلوبهم من كراهية الخروج.

قال صاحب الكشاف (٤) : لما كان قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو قيل : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) ، كأنه قيل : ما خرجوا ولكن تثبطوا.

__________________

(١) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٠).

(٢) تفسير مقاتل (٢ / ٤٩).

(٣) زاد المسير (٣ / ٤٤٦).

(٤) الكشاف (٢ / ٢٦٣).

٥١٠

قوله تعالى : (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) إما أن يكون القول هاهنا مجازا عن إلهامهم أسباب الخذلان ، أو عن وسوسة الشيطان لهم ، أو هو قول بعضهم لبعض.

وحكى الماوردي (١) : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك لهم غضبا عليهم.

قال ابن السائب : يعني : مع القاعدين بغير عذر (٢).

وقيل : مع القاعدين بعذر ؛ كالنساء والصبيان ، وهو أظهر ، لقوله تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ ،) ولأنه أبلغ في ذمهم.

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) أي : شرا وفسادا.

قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (٣) : فإن قيل : كأن الصحابة كان فيهم خبال حتى قيل : ما زادوكم إلا خبالا؟

فالجواب : أنه من الاستثناء المنقطع. والمعنى : ما زادوكم قوة ، لكن أوقعوا بينكم خبالا.

قلت : والذي يظهر في نظري : أن هذا ليس من الاستثناء المنقطع ؛ لأن الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، والمستثنى منه هاهنا غير مذكور ، فيقع الاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئا إلا خبالا ، فيكون استثناء متصلا.

__________________

(١) تفسير الماوردي (٢ / ٣٦٨).

(٢) الماوردي (٢ / ٣٦٨) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٧).

(٣) زاد المسير (٣ / ٤٤٧).

٥١١

(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الإيضاع : الإسراع في السير. يقال : وضع البعير وغيره ؛ إذا أسرع ، وأوضعه : ركبه (١). وخلال الشيء : وسطه (٢).

والمعنى : ولأوضعوا ركابهم بينكم بالتضريب والنميمة والإفساد.

(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي : يحاولون إيقاع الخلاف بينكم وتشتيت كلمتكم وافتراق جماعتكم ، (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي : قوم ينقلون إلى المنافقين أخباركم.

وقيل : المعنى : وفيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم.

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ)(٤٨)

(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي : لقد طلبوا لك العنت والشر من قبل غزوة تبوك ، (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) نصبوا لك الغوائل (٣) تارة بالسعي في تشتيت شملك وتفريق أصحابك ، وتارة بالعزم على الفتك بك.

قال المفسرون : وقف اثنا عشر رجلا من المنافقين على طريقه ليلا ليغتالوه وليفتكوا به فسلمه منهم (٤).

وتارة بالانخزال عنك في مضايق الحروب والكروب ، كما انسلّ ابن سلول يوم أحد بالصحابة.

__________________

(١) انظر : اللسان ، مادة : (وضع).

(٢) انظر : اللسان ، مادة : (خلل).

(٣) الغوائل : الغول : المشقّة. والغول : الخيانة (انظر : اللسان ، مادة : غول).

(٤) الوسيط (٢ / ٥٠١ ـ ٥٠٢) ، وزاد المسير (٣ / ٤٤٨).

٥١٢

(حَتَّى جاءَ الْحَقُ) وهو استعلاؤك على أعدائك ، (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) أي : غلب دينه وعلا شرعه ، (وَهُمْ) يعني : المنافقين (كارِهُونَ).

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٤٩)

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي : ائذن لي في القعود ولا تفتني بالخروج ، وذلك «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للجدّ بن قيس الأنصاري السلمي : هل لك في جلاد بني الأصفر ـ يعني : الروم ـ لعلك تغنم بعض بناتهم؟ فقال : يا رسول الله! ائذن لي ولا تفتني بذكر النساء ، فقد علم قومي أنني مغرم بهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : قد أذنت لك» (١).

قال ابن عباس : اعتلّ ، لم تكن له علّة إلا النفاق (٢).

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ) يعني : فتنة التخلف عنك.

قال ابن عباس : هي الكفر (٣).

(سَقَطُوا) وقعوا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ١٤٨) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨٠٩) ، والطبراني في الكبير (٢ / ٢٧٥) ، والأوسط (٥ / ٣٧٥). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢١٣) وعزاه لابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم في المعرفة عن ابن عباس. ومن طريق آخر عن جابر ، وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٠٢).

(٣) زاد المسير (٣ / ٤٤٩).

٥١٣

ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبني سلمة : «من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا : جد بن قيس على بخل فيه. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الأبيض الجعد بشر بن البراء بن معرور» (١). هكذا ذكره ابن إسحاق والزهري.

وقال الشعبي وابن عائشة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل سيدكم عمرو بن الجموح» (٢).

والأول أكثر عند أهل العقل. وفي ذلك يقول حسان بن ثابت (٣) :

وقال رسول الله والحق لاحق

بمن قال منا : من تعدّون سيدا

فقلنا له : جد بن قيس على الذي

نبخله فينا وإن كان أنكدا

فقال : وأيّ الداء أدوى من الذي

رميتم بها جدا وغلّ بها يدا

وسوّد بشر بن البراء لجوده

وحقّ لبشر ذي الندا أن يسوّدا

إذا ما أتاه الوفد أنهب ماله

وقال : خذوه إنه عائد غدا

قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : محدقة بهم يوم القيامة.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٠ / ١٤٩) ، والحاكم (٣ / ٢٤٢) ، والبيهقي في شعب الإيمان (٧ / ٤٣٠) ، والطبراني في الأوسط (٨ / ٣٧٣). وانظر : أسباب نزول القرآن للواحدي (ص : ٢٥٢).

(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (١١ / ٣٩٧ ح ١٢١١٦) ، والأوسط (٤ / ٧٤ ح ٣٦٥٠) ، والصغير (١ / ١٩٩ ح ٣١٧) ، والبيهقي في شعب الإيمان (٧ / ٤٣٠) كلهم عن ابن عباس. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٣١٤) وعزاه للطبراني في الأوسط والكبير عن أبي هريرة.

(٣) انظر الأبيات في : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٥٢ ـ ٢٥٣).

٥١٤

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٥١)

قوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أي : نصر وغنيمة (تَسُؤْهُمْ) تحزنهم ، (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) قتل أو هزيمة (يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي : علمنا بالحزم من قبل فلم نخرج ، (وَيَتَوَلَّوْا) عن مقامهم الذي قالوا فيه : قد أخذنا أمرنا من قبل إلى أهلهم (وَهُمْ فَرِحُونَ) مسرورون.

وقيل : " يتولوا" : يعرضوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الإيمان به.

(قُلْ) لهم يا محمد (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) قال ابن عباس : قضى علينا (١).

وقال الزجاج (٢) : ما بيّن لنا في كتابه من أنّا نظفر ، فيكون ذلك حسنى لنا ، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضا.

(هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومعيننا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) سبق تفسيره في آل عمران (٣).

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ

__________________

(١) انظر : الطبري (١٠ / ١٥٠) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥٠).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٢).

(٣) عند تفسير الآية رقم : (٢٢).

٥١٥

مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ)(٥٤)

(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ) أي : تنتظرون (بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) النصر أو الشهادة ، (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) قال ابن عباس : الصواعق (١).

وقيل : الموت (٢).

وقيل : ما أصاب الأمم الخالية.

(أَوْ بِأَيْدِينا) يعني : القتل ، (فَتَرَبَّصُوا) إحدى الحسنيين لنا (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) إحدى السوأيين لكم.

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) نزلت في الجد بن قيس ، فإنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عرض عليه الغزو : هذا مالي أعينك به (٣).

قال الزجاج (٤) : وهذا لفظ أمر ، ومعناه : الشرط والجزاء ، تقديره : إن أنفقتم طائعين أو كارهين لن يتقبل منكم. ومثله في الشعر قول كثيّر :

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٤٥١).

(٢) مثل السابق.

(٣) أخرجه الطبري (١٠ / ١٥٢). وانظر : الوسيط (٢ / ٥٠٤) ، وزاد المسير (٣ / ٤٥١). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٢١٧) وعزاه لابن جرير.

(٤) معاني الزجاج (٢ / ٤٥٣).

٥١٦

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة

لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (١)

وقال الزمخشري (٢) : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، وهذا إنما يجوز إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له.

ومعنى قوله : (طَوْعاً) : تبرعا ونفلا ، (أَوْ كَرْهاً) : إلزاما من الله ، (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) لتوقف القبول على الإيمان والإخلاص.

(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) مارقين من الدين ، فلا يتقبل منكم الإنفاق ما دمتم على النفاق.

(وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) قرأ حمزة والكسائي : " يقبل" بالياء الواقعة آخر حروف التهجي ؛ لأن النفقة في معنى الإنفاق. وقد أشرنا إلى تعليل مثل ذلك فيما سبق.

و" أن" في قوله : (أَنْ (٣) تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) في موضع نصب ، وفي (أَنَّهُمْ كَفَرُوا) في موضع رفع ب" منعهم" (٤) ، وتقديره : وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله وبرسوله.

__________________

(١) البيت لكثيّر. انظر : ديوانه (ص : ١٠١) ، واللسان ، مادة : (حسن) ، وأمالي ابن الشجري (١ / ٤٩) ، ومعاني الفراء (١ / ٤٤١) ، وتهذيب اللغة (٤ / ٨١٣) ، والبحر المحيط (٥ / ٥٤) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٢).

(٢) الكشاف (٢ / ٢٦٦).

(٣) في الأصل : لن. وهو خطأ.

(٤) انظر : التبيان (٢ / ١٦) ، والدر المصون (٣ / ٤٧٣).

٥١٧

(وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ) التي هي عماد الإسلام (إِلَّا وَهُمْ كُسالى) لأنهم لا يرجون ثواب فعلها ، ولا يخافون عقاب تركها ، (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) لأنهم يعدّون الإنفاق مغرما.

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥) وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ)(٥٧)

(فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) معنى الإعجاب : السرور [بما](١) يتعجب منه.

والمعنى : لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد ، كما قال في موضع آخر : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨].

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) أي : بالأموال ، وذلك بالتعب في جمعها وحفظها وتثميرها ، والخوف عليها والمصائب فيها ، وأخذ الزكوات والنفقات منها في الغزاة وغير ذلك.

وقال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وقتادة : في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة (٢).

__________________

(١) في الأصل : وربما. انظر : الوسيط (٢ / ٥٠٤).

(٢) أخرجه الطبري (١٠ / ١٥٣) ، وابن أبي حاتم (٦ / ١٨١٣) كلاهما عن قتادة. ـ ـ وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٤٥٢) ، والسيوطي في الدر (٤ / ٢١٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

٥١٨

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) يقال : زهقت الخيل : خرجت عن الحلبة ، وزهق السهم ؛ إذا جاوز الهدف (١). فالمعنى : وتخرج أرواحهم وهم على الكفر.

قوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) يعني : المنافقين ، (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) يعني : في الدين ، (وَما هُمْ مِنْكُمْ) لأنهم يضمرون من الكفر خلاف ما يظهرون من الإيمان ، (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) أي : يخافون القتل ، فلذلك يحلفون لكم إنهم لمنكم وما هم منكم.

(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) مكانا يلجؤون إليه ، (أَوْ مَغاراتٍ) وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان ، ومنه : غار الماء (٢).

قال ابن عباس : يعني : سراديب (٣).

(أَوْ مُدَّخَلاً) يعني : مكانا يدخلون فيه ، أو قوما يدخلون في غمارهم. وأصله : " مدتخلا" فأبدلوا من التاء دالا وأدغموا فيه الأولى.

وقرأت ليعقوب الحضرمي : " مدخلا" بفتح الميم والتخفيف (٤).

(لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) يسرعون إسراعا لا يردهم شيء ، ومنه : الفرس الجموح ، وهو الذي إذا حمل لم يردّه اللجام (٥).

__________________

(١) انظر : اللسان ، مادة : (زهق).

(٢) انظر : النهاية في غريب الحديث (٣ / ٣٩٣).

(٣) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٥٠٤).

(٤) إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣).

(٥) انظر : اللسان ، مادة : (جمح).

٥١٩

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ)(٥٩)

قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) وهو ذو الخويصرة التميمي ، ويقال : ابن ذي الخويصرة ، ويقال : أبو الخواصر ، وهو أصل الخوارج (١) ، قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقسم قسما : «اعدل فإنك لم تعدل ، فقال : ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟! فنزلت هذه الآية» (٢).

قرأ الأكثرون : " يلمزك" بكسر الميم. وقرأت على شيخنا أبي البقاء عبد الله بن الحسين ليعقوب الحضرمي ولابن كثير من رواية نظيف عن قنبل عنه ، ولعاصم من رواية أبان عنه ، ولأبي عمرو من رواية القزاز عن عبد الوارث عنه : " يلمزك" بضم الميم (٣) ، و" يلمزون" [التوبة : ٧٩] ولا [" تلمزوا"](٤) [الحجرات : ١١] بضم الميم فيهن.

والمعنى : ومنهم من يعنّيك ويطعن عليك. يقال : لمزت فلانا وهمزته بمعنى. قال الشاعر :

__________________

(١) الخوارج : سمّوا بذلك ؛ لخروجهم عن البيضة وشقّهم العصا ، ولذلك سمّوا المارقين ، والمروق : الخروج (الغريب لابن قتيبة ١ / ٢٥٢).

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٢٥٤٠ ح ٦٥٣٤) ، ومسلم (٢ / ٧٤٠ ح ١٠٦٣).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٣٢٥) ، والنشر (٢ / ٢٨٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٤٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣١٥).

(٤) في الأصل : تلمز.

٥٢٠