رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

ذلك الدعاء ؛ لأنه لا يرجى منهم الإجابة.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني : الأصنام ، (عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) قال ابن السائب : مملوكون أمثالكم (١).

وقال الأخفش : عباد أمثالكم في التسخير ، أي : أنهم مسخرون مذللون لأمر الله (٢).

وقال صاحب الكشاف (٣) : قوله : " عباد أمثالكم" استهزاء ، أي : قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ، لا تفاضل بينكم ، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم فقال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها).

وقرأ سعيد بن جبير : «إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم» بتخفيف : «إن» ، ونصب «عبادا أمثالكم» (٤). والمعنى : ما الذين تدعون من دون الله [إلا](٥) عبادا أمثالكم ، على إعمال «إن» النافية عمل «ما» الحجازية.

ثم إن الله تعالى بيّن نقصان الآلهة بالنسبة إلى عابديها توبيخا لهم ، وتضليلا لآرائهم ، وتجهيلا لأحلامهم ؛ فذلك قوله : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) ... الآية ، المعنى : فكيف عبدتموها وأنتم أفضل منها بالأرجل الماشية ، والأيدي الباطشة ، والأعين الباصرة ، والآذان السامعة ، (قُلِ) لهم يا محمد مجيبا لهم عن تخويفهم إياك

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٣٦).

(٢) انظر : الوسيط (٢ / ٤٣٦) ، وزاد المسير (٣ / ٣٠٦) بلا نسبة.

(٣) الكشاف (٢ / ١٧٨).

(٤) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٤ / ٤٤٠) ، والدر المصون (٣ / ٣٨٤).

(٥) زيادة على الأصل.

٣٤١

بآلهتهم ، (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي : استعينوا بهم في معاداتي ، (ثُمَّ كِيدُونِ) أنتم وهم ، (فَلا تُنْظِرُونِ) أي : لا تمهلون.

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)(١٩٨)

ثم بيّن السبب الموجب لعدم اكتراثه فقال : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ) إن الذي يتولى نصري وحفظي الله ، (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) دليلا على صدقي ومعجزة شاهدة برسالتي ، (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ).

قال ابن عباس : هم الذين لا يعدلون بالله شيئا (١).

والمعنى : هو يتولاهم بالنصر على أعدائهم.

قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي : كأنهم ينظرون إليك بالأعين المصورة ، (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) على الحقيقة.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٢٠٠)

قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) أخرج البخاري في صحيحه : «أن عبد الله بن الزبير قال في هذه الآية : أمر الله نبيه أن يأخذ العفو من أخلاق الناس» (٢) ، أي : الميسور

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٣٦).

(٢) أخرجه البخاري في (٤ / ١٧٠٢ ح ٤٣٦٧).

٣٤٢

من أخلاقهم ، ولا يستقصي عليهم فينفرهم.

وقيل : المعنى : خذ ما تيسر من صدقاتهم ، ثم نسخ بالزكاة المفروضة.

وقيل : هو أمر بمساهلة الكفار ، فيكون منسوخا بآية السيف (١).

قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) قال عطاء : لا إله إلا الله (٢).

والمشهور في التفسير : عمومه في كل ما تعرف العقول حسنه من مكارم الأخلاق.

(وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) يعني : المشركين.

فعلى هذا : تكون منسوخة بآية السيف.

وقد يمتحن بهذه الآية فيقال : ما آية نسخ طرفاها وبقي وسطها؟ فيجاب بهذه.

والصحيح : أنها كلها محكمة ، والمعنى : لا تكافئ الجاهلين بسفههم إكراما لنفسك النفيسة عن الأخلاق الخسيسة.

وقال الربيع بن أنس : الناس رجلان : مؤمن وجاهل ، فأما المؤمن فلا تؤذه ، وأما الجاهل فلا تجاهله (٣).

__________________

(١) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ٩٠ ـ ٩١) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٣٨) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٤٠ ـ ٣٤٢).

قلت : هذه الآية من عجيب المنسوخ ؛ لأن أولها منسوخ ـ وهو قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) ـ وآخرها منسوخ ـ وهو قوله تعالى : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ـ ، وأوسطها محكم ـ وهو قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) ـ. (انظر : الناسخ والمنسوخ لابن سلامة ولابن حزم ، الموضعان السابقان).

(٢) ذكره القرطبي (٧ / ٣٤٦) ، والبغوي (٢ / ٢٢٤).

(٣) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٦ / ٣٥٣) ، وأبو نعيم في الحلية (٢ / ١١١) كلاهما من حديث ـ

٣٤٣

ويدل على إحكامها بالمعنى الذي ذكرت ، ما أخرج البخاري بإسناده عن ابن عباس قال : «قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير [فتستأذن عليه. فاستأذن](١) الحر لعيينة ، فأذن له عمر ، فلما دخل عليه قال : ها يا ابن الخطاب ، والله ما تعطينا [الجزل](٢) ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى همّ أن يقع به. فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، إن الله عزوجل قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين ، فو الله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله» (٣).

ويروى : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل عن هذه الآية ، فقال : لا أدري حتى أسأل ، ثم رجع فقال : يا محمد! إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك» (٤).

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا ، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (٥).

__________________

ـ الربيع بن خثيم.

(١) في الأصل : فتستان عليه فاستان. والتصويب من الصحيح.

(٢) في الأصل : الجزيل. والتصويب من الصحيح.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٠٢ ح ٤٣٦٦).

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ١٥٥). وذكره ابن حجر في فتح الباري (٨ / ٣٠٦) وعزاه للطبري مرسلا ، وابن مردويه موصولا.

(٥) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٠١ ح ٢٥٨٨).

٣٤٤

وقال جعفر الصادق عليه‌السلام : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (١).

وقال عبد الرحمن بن زيد : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف يا رب؟ والغضب». فنزل : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ)(٢).

النّزغ في اللغة : الحركة اليسيرة (٣). والمعنى : وإما يعرضن لك الشيطان بوسوسة يستميلك بها أو غضب يستفزك به ، إلى خلاف ما اقتضته هذه الآية.

(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) معتصما به من كيده.

وفي الصحيحين من حديث سليمان [بن](٤) صرد قال : كنت جالسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجلان يستبّان ، وأحدهما قد احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه (٥) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ذهب ما يجد» (٦).

إنه سميع لدعائك ، عليم بذاتك ودوائك.

فإن قيل : ما الحكمة في الاستعاذة عند الغضب؟

قلت : لأنها حالة يضعف عنها عقل الإنسان ، ويقوى عليه الشيطان.

__________________

(١) ذكره القرطبي (٧ / ٣٤٥) ، والبغوي (٢ / ٢٢٤).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٥٦ ـ ١٥٧). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣١) وعزاه لابن جرير.

(٣) انظر : اللسان (مادة : نزغ).

(٤) زيادة على الأصل. وانظر ترجمته في : تقريب التهذيب (ص : ٢٥٢).

(٥) الأوداج : هما ودجان ، وهما عرقان غليظان عريضان عن يمين ثغرة النحر ويسارها (اللسان ، مادة : ودج).

(٦) أخرجه البخاري (٥ / ٢٢٤٨ ح ٥٧٠١) ، ومسلم (٤ / ٢٠١٥ ح ٢٦١٠).

٣٤٥

قال بعض الحكماء : أول الغضب جنون ، وآخره ندم.

وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول : الغضب عدو العقل ، فلذلك يحول بينه وبين السمع والفهم ، فإذا ثبت ذلك فأحب أن يعتصم المقهور بالغضب بقوة الله وعز سلطانه من شر الشيطان.

ومن جملة أدوية الغضب : ما أخرجه الإمام أحمد رضي الله عنه في المسند من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا غضب أحدكم فليسكت» (١).

وروى أبو داود في سننه من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» (٢).

وأنزل الله في بعض كتبه : يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت ، فلا أمحقك مع من أمحق ، وإذا ظلمت [فارض](٣) بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك (٤).

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ)(٢٠٢)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) قال ابن عباس : يعني : الشرك والفواحش (٥).

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٣٩ ح ٢١٣٦).

(٢) أخرجه أبو داود (٤ / ٢٤٩ ح ٤٧٨٢).

(٣) في الأصل : فأعرض. والتصويب من الدر المنثور (٣ / ٥٥٩).

(٤) ذكره السيوطي في الدر المنثور (٣ / ٥٥٩) وعزاه لأحمد عن وهيب المكي.

(٥) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٤٣٨).

٣٤٦

(إِذا مَسَّهُمْ) طيف (مِنَ الشَّيْطانِ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : «طيف» (١) ، وهو إما مصدر من قولهم : طاف يطيف طيفا ، وإما تخفيف طيف ، فعيل ، من طاف يطيف ، كلان يلين ، أو طاف يطوف ، كهان يهون ، فهو طيّف منهما ، كليّن وهيّن.

ويؤيد هذا قراءة ابن عباس في آخرين : «طيّف» بالتشديد (٢). وقرأ الباقون" طائف" ، وهما بمعنى واحد (٣).

المعنى : إذا مسّهم لمم من الشيطان ؛ وسوسة أو غضب أو همّ بمعصية ، (تَذَكَّرُوا) حجج الله وزواجره ، وتفكروا في اطلاعه عليهم وعظمته وقدرته ، فاستحيوا وخافوا غضبه وعقابه ، (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) بأعين قلوبهم آثار قبح المعاصي وسوء عاقبتها ، فاستتروا من ذلك ، خوفا يردعهم ، وحياء يقرعهم.

قال محمد بن كعب القرظي : ما عبد الله بشيء أحب إليه من ترك المعاصي (٤).

فصل

يتضمن نبذة زاجرة عن ارتكاب المعاصي :

أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أذنب الرجل كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٨٧) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٠٥) ، والكشف (١ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧) ، والنشر (٢ / ٢٧٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٣٤) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٠١).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٣ / ٣٠٩).

(٣) انظر مصادر التعليق ما قبل السابق.

(٤) ذكره ابن الجوزي في ذم الهوى (ص : ١٨٤).

٣٤٧

واستغفر صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله عزوجل في كتابه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)(١). قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال أبو الدرداء : إن العبد يخلو بمعاصي الله ، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر (٢).

وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : أما بعد ، فإن العبد إذا عمل بمعصية الله عاد حامده من الناس ذاما (٣).

وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العبد ليحرم الرزق قد هيء له بالذنب يصيبه» (٤).

وقال وهب بن منبه : يقول الله عزوجل : «إني إذا أطعت رضيت ، وإذا رضيت باركت ، وليس لبركتي نهاية ، وإذا عصيت غضبت ، وإذا غضبت لعنت ، ولعنتي تبلغ السابع من الولد» (٥).

وروي : أن الله تعالى أوحى إلى موسى : يا موسى! أول من مات إبليس ، وذاك

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٣٤ ح ٣٣٣٤) ، وأحمد (٢ / ٢٩٧ ح ٧٩٣٩).

(٢) أخرجه أبو نعيم في الحلية (١ / ٢١٥).

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة (٦ / ١٩٨).

(٤) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٣٤ ح ٤٠٢٢) ، وأحمد (٥ / ٢٧٧ ح ٢٢٤٤٠) ، وابن حبان (٣ / ١٥٣ ح ٨٧٢).

(٥) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٦٩). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠) وعزاه لأحمد في الزهد.

٣٤٨

لأنه عصاني ، وإنما أعدّ من عصاني من الأموات (١).

قوله تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ) جائز عود الضمير إلى «الذين اتقوا» ، وهو قول جماعة ، منهم : ابن الأنباري. والمعنى : وإخوان الذين اتقوا من المشركين ، أو كونهم من بني آدم ، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) بما يزينون لهم من الاقتداء بالآباء.

والمشهور في التفسير : أن الضمير يعود إلى «الجاهلين» ، التقدير : وإخوان الجاهلين وهم الشياطين.

وقيل : يرجع الضمير إلى الشيطان ، وهو اسم جنس ، تقديره : وإخوان الشياطين وهم الكفار (٢).

(يَمُدُّونَهُمْ) يعني : الشياطين يمدون الكفار.

وقرأ نافع : «يمدّونهم» بضم الياء وكسر الميم (٣) ، من الإمداد ، وقد سبق ذكره فيما مضى.

قال المفسّرون : المعنى : يمدونهم بالتزيين والإغواء.

(ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) وقرأ الزهري : «يقصّرون» بالتشديد (٤) ، أي : لا يقصّرون في إغوائهم.

(وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٧ / ٣٠٤) ، وابن الجوزي في : صفة الصفوة (٢ / ٢٣٣).

(٢) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٨٩).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٢٨٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٣٠٦) ، والكشف (١ / ٤٨٧) ، والنشر (٢ / ٢٧٥) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٣٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٣٠١).

(٤) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٣ / ٣١١).

٣٤٩

هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٢٠٣)

قوله تعالى : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) يعني : المشركين (بِآيَةٍ) يتعنتونك بسؤالها أو يتأخر عنك إنزالها ، (قالُوا لَوْ لا) أي : هلّا (اجْتَبَيْتَها) افتعلتها من قبل نفسك ، لأنهم كانوا يقولون : إن هذا إلا إفك افتراه. فأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه متّبع لا مبتدع ، فقال : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا) يعني : القرآن ، (بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) ، أي : حجج نيّرة ، (وَهُدىً) من الضلالة ، (وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(٢٠٤)

قوله تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) نزلت في جماعة من الصحابة كانوا يقرؤون ويرفعون أصواتهم فيما يجهر فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

وقال قتادة : كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ)(٢) ، أي : فاصغوا (وَأَنْصِتُوا) اسكتوا. يقال : أنصتوه وأنصتوا له. قال الشاعر :

إذا قالت حذام فأنصتوها

فإن القول ما قالت حذام (٣)

ويروى : فصدّقوها.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ١٦٤) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦٤٥). وانظر : الدر المنثور (٣ / ٦٣٤).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٦٤) من حديث أبي هريرة. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٦) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ عن قتادة.

(٣) البيت للحيم بن صعب. انظر : القرطبي (٧ / ٣٥٤) ، واللسان (مادة : نصت).

٣٥٠

عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)(٢٠٦)

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) هذا عام في أنواع الأذكار من قراءة القرآن ، والتسبيح ، والتهليل ، والتحميد ، والتكبير ، والدعاء ، وغير ذلك تضرعا في طلب ثوابه ، وخيفة من عقابه ، (وَدُونَ الْجَهْرِ) أي : متكلما كلاما دون الجهر ، (مِنَ الْقَوْلِ) ؛ لأن الإخفاء أقعد في الإخلاص ، وأبعد من شوائب الرياء وأقرب إلى [الإخلاص](١) ، (بِالْغُدُوِّ).

وقال الواحدي والإمام أبو الفرج ابن الجوزي (٢) : الغدوّ : جمع غدوة.

والمعروف في اللغة : غدوة وغدى ، وقولهم : غدوات : جمع غداة ، مثل : قطاة وقطوات (٣).

[وقولهم](٤) : إني لآتيه بالغدايا والعشايا ، هو الازدواج [في](٥) الكلام ، كما قالوا : هنأني الطعام ومرأني ، وإنما هو أمرأني ، والغدو نقيض [الرواح](٦) ، تقول : غدا يغدو غدوا (٧) ، فمعنى الآية : اذكر ربك بأوقات الغدو ، وهي الغدوات ، فعبّر بالفعل عن الوقت ، كما يقال : أتيتك طلوع الشمس ، أي : وقت طلوعها.

__________________

(١) في الأصل : الخلاص.

(٢) الوسيط (٢ / ٤٤١) ، وزاد المسير (٣ / ٣١٤).

(٣) انظر : اللسان (مادة : غدا).

(٤) في الأصل : وقلهم.

(٥) زيادة على الأصل.

(٦) في الأصل : الرواج.

(٧) انظر : اللسان (مادة : غدا).

٣٥١

(وَالْآصالِ) جمع أصل ، وأصل جمع أصيل ، وهي العشيات (١).

قال أبو عبيدة (٢) : هي ما بين صلاة العصر إلى المغرب.

ويجمع أيضا أصيل على أصيلان ، مثل : بعير وبعران ، ثم صغّروا الجمع فقالوا : أصلان ، ثم أبدلوا من النون لاما فقالوا : أصيلال (٣) ، ومنه قول النابغة :

وقفت فيها أصيلالا أسائلها

عيّت جوابا وما بالرّبع من أحد (٤)

ويروى عن ابن عباس : أن المراد بالذّكر : القراءة في الصلاة (٥) ، صلاة الفجر وصلاة العصر.

(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) اللّاهين عن الذّكر.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يريد : الملائكة ، (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) أي : طاعته والخضوع لجلاله في الصلاة وغيرها.

(وَيُسَبِّحُونَهُ) قال عبد الله بن عمرو بن العاص : الملائكة عشرة أجزاء ، الكروبيون الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون تسعة أجزاء ، وجزء واحد

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : أصل).

(٢) مجاز القرآن (١ / ٢٣٩).

(٣) انظر : اللسان (مادة : أصل).

(٤) البيت للنابغة. انظر : ديوانه (ص : ٣٠) ، والكتاب (٢ / ٣٢١) ، والمقتضب (٤ / ٤١٤) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٨٠) ، وأوضح المسالك (٢ / ٣٨٩) ، ومجاز القرآن (١ / ٣٢٨) ، والتصريح (٢ / ٣٦٧) ، والإنصاف (١ / ١٧٠) ، والطبري (١ / ٧٨) ، والقرطبي (٧ / ٣٥٦) ، واللسان (مادة : أصل).

(٥) زاد المسير (٣ / ٣١٣).

٣٥٢

الذين وكلوا بخزانة كل شيء (١).

وقال هارون بن رئاب [الأسيّدي](٢) : حملة العرش ثمانية ، يتجاوبون بصوت رخيم ، تقول أربعة : سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك ، وتقول الأربعة الأخرى : سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك (٣).

وقال سعيد بن جبير : يقال : أن أهل السماء الدنيا سجود إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان ذي العز والجبروت ، وأهل السماء الثالثة قيام إلى يوم القيامة ، يقولون : سبحان الحي الذي لا يموت (٤).

وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله أذن لي أن أحدث عن ملك قد خرقت (٥) رجلاه الأرض ، وعنقه مثنية تحت العرش ، وهو يقول : سبحانك ما

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٧ / ٨٩) من طريق عمرو البكالي. وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٧٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن عبد الله بن عمر.

(٢) في الأصل : الأسدي. والصواب ما أثبتناه. انظر ترجمته في : تهذيب الكمال (٣٠ / ٨٢) ، وسير أعلام النبلاء (٥ / ٢٦٣).

(٣) أخرجه الطبري (١٩ / ٧) من طريق هارون بن رئاب عن شهر بن حوشب ، والبيهقي في الشعب (١ / ٣٢٧) ، وأبو نعيم في الحلية (٣ / ٥٥) وأبو الشيخ في العظمة (٣ / ٩٥٤ ح ٤٨١). وذكره السيوطي في الدر (٧ / ٢٧٤) وعزاه لابن المنذر وأبي الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان.

(٤) أخرجه الطبري (١ / ٢١٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٤ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨). وذكره السيوطي في الدر (١ / ١١٤) وعزاه لابن جرير وأبي نعيم في الحلية.

(٥) في مصادر تخريج الحديث : مرقت.

٣٥٣

أعظمك ربنا. قال : فيرد عليه ما يعلم بذلك الذي يحلف به كاذبا» (١).

وقال علي عليه‌السلام في الملك المسمى [بالرّوح](٢) : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه ، في كل وجه سبعون ألف لسان ، في كل لسان سبعون ألف لغة ، يسبح الله بتلك اللغات كلها ، ويخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (٣).

أخرج الإمام أحمد في المسند من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحق لها أن تئطّ ، ما فيها موضع أربع ـ يعني : أصابع ـ إلا عليه ملك ساجد» (٤).

(وَلَهُ يَسْجُدُونَ) أي : يصلّون ، وهذا تعريض بالمكلف من بني آدم وتحريض له على الطاعة ؛ لأن الملائكة الكروبيين مع قربهم وفضلهم وعصمتهم بهذه المثابة ، فالمتلوث بأنجاس المعاصي أولى بتطهير نفسه لله وتزكيتها بفعل العبادة والطاعة لرب العالمين.

وقيل : إنها نزلت حين قال الكفار : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) [الفرقان : ٦٠].

__________________

(١) أخرجه أبو يعلى في مسنده (١١ / ٤٩٦) ، والحاكم (٤ / ٣٣٠ ح ٧٨١٣) وصححه. وقال الهيتمي في مجمع الزوائد (١ / ٢٥٣) : رواه أبو يعلى ، ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه الطبراني في الأوسط (٦ / ٣١٤) من حديث أنس بن مالك.

(٢) في الأصل : بالجروح. والتصويب من مصادر التخريج.

(٣) أخرجه الطبري (١٥ / ١٥٦) ، وأبو الشيخ في العظمة (٣ / ٨٦٨ ح ٤٠٨). وذكره السيوطي في الدر (٥ / ٣٣١ ـ ٣٣٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي الشيخ.

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ١٧٣ ح ٢١٥٥٥).

٣٥٤

فصل

وهذه أول سجدات القرآن ، وهي أربع عشرة سجدة ، في الحج منها اثنتان.

وسجود التلاوة مستحب عند جمهور العلماء ، ويشترط له ما يشترط للصلاة من الطهارة وغيرها.

قرأت على الشيخ ثابت بن مشرف بن أبي سعد البناء البغدادي برأس عين على عين بانورا ، أخبركم أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي فأقرّ به ، أخبرنا أبو عاصم بن أبي منصور الفضيلي ، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح الأنصاري ، حدثنا أحمد بن علي الجرجاني ، حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال أو عن أبي سعيد ـ شكّ الأعمش ـ ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ ابن آدم سجدة فسجد ، اعتزل الشيطان يبكي ، ويقول : يا ويله! أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار» (١) هذا حديث صحيح ، انفرد مسلم بإخراجه ، فرواه عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش.

آخرها ولله الحمد.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٨٧ ح ٨١).

٣٥٥

سورة الأنفال

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وهي [خمس و](١) سبعون آية مدنية ، استثني منها آيات نذكرها إن شاء الله في موضعها.

وفي الصحيحين : «أن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال ، [قال](٢) : نزلت في بدر» (٣).

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٤)

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) ، سبب نزول هذه الآية : أن أهل بدر اختلفوا في الغنيمة وتشاحّوا (٤) فيها ، فقال الشّبّان : هي لنا ؛ لأنهم سارعوا إلى القتل

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) زيادة من الصحيحين.

(٣) أخرجه البخاري (٤ / ١٧٠٣ ح ٤٣٦٨) ، ومسلم (٤ / ٢٣٢٢ ح ٣٠٣١).

(٤) تشاحّوا في الأمر وعليه : شحّ به بعضهم على بعض وتبادروا إليه حذر فوته (اللسان ، مادة : شحح).

٣٥٦

والأسر وأبلوا بلاء حسنا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يومئذ : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا». وقال الشيوخ والوجوه الذين ثبتوا تحت الرايات : كنا ردءا لكم ، ولو انهزمتم لانحزتم إلينا. وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المغنم قليل والناس كثير ، وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم خرجت أصحابك ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)(١). رواه عكرمة عن ابن عباس.

فعلى هذا يكون المعنى : يسألونك عن حكم الأنفال سؤال استفتاء.

قال الزجاج (٢) : إنما سألوا عنها ؛ لأنها كانت حراما على من كان قبلهم.

وقال صاحب النظم : المعنى : يسألونك عن الأنفال لمن هي؟ يدل عليه قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) يحكمان فيها ما أرادا ، ويضعانها حيث شاءا ، فلما نزلت هذه الآية قسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أهل بدر على السواء.

والأنفال : جمع نفل ، وهي الغنيمة (٣) ، في قول الحسن ومجاهد وعطاء وعكرمة والضحاك والزجاج (٤) وجمهور العلماء (٥).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٣ / ٧٧) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٤٩) ، وابن حبان (١١ / ٤٩٠) ، والحاكم (٢ / ١٤٣) وابن أبي شيبة (٧ / ٣٥٤) ، والطبري (٩ / ١٧٢) ، والبيهقي في السنن (٦ / ٢٩١). وانظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٣٥) ، ولباب النقول (ص : ١٠٦). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٦) وعزاه لابن أبي شيبة وأبي داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٩٩).

(٣) انظر : اللسان ، مادة : (نفل).

(٤) معاني الزجاج (٢ / ٣٩٩).

(٥) أخرجه الطبري (٩ / ١٦٨ ـ ١٦٩) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦٤٩) ، ومجاهد (ص : ٢٥٧).

٣٥٧

وقيل : الأنفال : ما نفّله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاتل بقوله : «من قتل قتيلا فله كذا وكذا».

وأخرج أبو داود في سننه من حديث سعد بن أبي وقاص قال : «لما كان يوم بدر جئت بسيف ، فقلت : يا رسول الله ، قد شفي صدري من المشركين أو نحو هذا ، هب لي هذا السيف. فقال : هذا ليس لي ولا لك ، فقلت : عسى أن يعطى هذا من لا يبلي بلائي ، فجاءني الرسول [فقال](١) : إنك سألتني [هذا السيف](٢) وليس لي ، وإنه قد صار لي وهذا لك. قال : ونزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) ... الآية» (٣). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم طرفا من حديث طويل.

وقيل : إن" عن" زائدة ، على معنى : يسألونك الأنفال ، وهي قراءة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبيّ بن كعب في آخرين ، على نحو ما سأله إنسان وتعدى.

(قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) قال عبادة بن الصامت : «اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله عزوجل من أيدينا فجعله لرسول الله ، يقسمه بين المسلمين على السواء ، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين» (٤).

__________________

(١) زيادة من السنن.

(٢) زيادة من سنن أبي داود (٣ / ٧٧).

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٨٧٧ ح ١٧٨٤) ، وأبو داود (٣ / ٧٧ ح ٢٧٤٠).

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ٣٢٢) ، والبيهقي في سننه (٩ / ٥٧) ، والحاكم (٢ / ٣٥٦) ، والطبري (٩ / ١٧٢). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٥) وعزاه لأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه.

٣٥٨

والمعنى : هي مختصة بالله وبالرسول ، يقضي فيها بأمر الله على ما تقتضيه حكمته من المساواة والمواساة بين الشباب الذين شرط لهم الأنفال ، وبين الشيوخ الذين كانوا ردءا لهم ؛ لما فيه من [انتظام](١) أمرهم ، وإصلاح ذات بينهم ، وإلفة قلوبهم.

وزعم بعضهم أنها منسوخة بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ) ... الآية (٢).

(فَاتَّقُوا اللهَ) بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وترك المنازعة والاختلاف بينكم ، وفعل ما يفضي إلى المصافاة والموافقة والتوادد.

(وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) بالتواسي والتراحم والتساعد.

قال الزجاج (٣) : البين : الوصل ، والمعنى : حقيقة وصلكم (٤).

وقال صاحب الكشاف (٥) : حقيقته أصلحوا أحوال بينكم ، يعني : ما بينكم من الأحوال ، حتى تكون أحوال إلفة ومحبة واتفاق ، كقوله : (بِذاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال : ٤٣] وهي مضمراتها ، لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها : ذات البين ، كقولهم : اسقني ذا إنائك ، يريد ما في الإناء من الشراب.

(وَأَطِيعُوا اللهَ) في حكمه وقضائه ، (وَرَسُولَهُ) في إنفاذ ما أمر به وأمضى به ، (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) كاملي الإيمان.

__________________

(١) في الأصل : انتضام.

(٢) الناسخ والمنسوخ لابن سلامة (ص : ٩٢ ـ ٩٣) ، والناسخ والمنسوخ لابن حزم (ص : ٣٩) ، ونواسخ القرآن لابن الجوزي (ص : ٣٤٣ ـ ٣٤٤).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٤٠٠).

(٤) الصّلات والروابط التي بينكم.

(٥) الكشاف (٢ / ١٨٥).

٣٥٩

ثم وصف المؤمنين الكاملي الإيمان فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : ذكرت عظمته وقدرته وعز سلطانه وشدة عقابه وبطشه بالعصاة من خلقه قرعت قلوبهم.

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله : (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الزمر : ٢٣]؟

قلت : الذّكر الذي نيط به الوجل هاهنا : هو ذكر الصفات الدالة على العظمة والجبروت على ما ذكرناه. والذّكر الذي نيط به لين الجلود والقلوب : الرحمة والرأفة والعفو ، ونحو ذلك.

فصل يتضمن الإشارة إلى ذكر جماعة من الخائفين

أخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد بإسناده عن الحسن البصري رحمه‌الله قال : صحبت أقواما كانوا بحسناتهم أن تردّ عليهم أخوف منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها (١).

وبإسناده عن إبراهيم التيمي : أنه كان يذكر في منزل أبي وائل ، فكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطير (٢).

وبإسناده عن مالك بن دينار أنه قال : لو استطعت أن لا أنام لم أنم ، مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم ، ولو وجدت أعوانا لفرّقتهم ينادون في منار الدنيا كلّها : يا أيها الناس! النار النار (٣).

__________________

(١) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٣١٨ ـ ٣١٩).

(٢) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٤٢٧).

(٣) أخرجه أحمد في الزهد (ص : ٣٨٧).

٣٦٠