رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

(إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا) الإقرار (غافِلِينَ) لم نرشد إليه ولم ننبه عليه.

فإن قيل : قد خرجت الآية بأن أخذ الميثاق على الذرية إنما كان قطعا لا حتجاجهم ؛ لئلا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ونحن ما فينا من يذكر ذلك؟

قلت : قام إخبار الصادق مقام الذكر ، فالمعرض عنه عما أخبر به مقطوع الحجة والاعتذار بالغفلة.

فإن قيل : فأي فائدة فيه مع النسيان؟

قلت : تأكيد الحجة على الكافر الجاحد بعد الإشهاد عليه بإقراره على نفسه بأن الله تعالى ربه لا شريك له ، فإن الجحد بعد الإقرار أقبح وأعظم جريمة منه غير مسبوق بإقرار.

فإن قيل : ما الحكمة في إن شاء الإنسان الإقرار الأول؟

قلت : لأنه لو ذكر يوم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وكلام الله له بذلك ، لكان إيمانه [اضطراريا](١) لا اختياريا ، ولزال معنى الابتلاء والامتحان والتكليف بالإيمان بالغيب ، وما يترتب عليه من حسن الجزاء.

فإن قيل : فما تقول في قول الزمخشري (٢) بأن هذا تخيل وتمثيل ، وأن معنى ذلك : أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم؟

__________________

ـ والنشر (٢ / ٢٧٣) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٣٣) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٩٨).

(١) في الأصل : اضطرايا.

(٢) الكشاف (٢ / ١٦٦).

٣٠١

قلت : هو قول يصادم صريح القرآن وصحيح السنة وآثار السلف وإجماع الأمة ، وأخاف أن يزاحم الكفر ؛ لأنه تكذيب وتعطيل في المعنى ، فليت شعري ، أي ضرورة تحمل على مثل هذا ، وليس في المصير إلى مدلول اللفظ ما يخالف القضايا العقلية والدلائل النقلية ، اللهم فاعصمنا من مخالفة كتابك ، وألّا تعرضنا لغضبك وعقابك.

قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا) عطف على قوله : أن (تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فاقتدينا بهم ، لا يقدرون على الاحتجاج بذلك.

ولأن الله سدّ عليهم مسالك الاعتذار بما أخذه عليهم من الإقرار وأتتهم به الرسل من الإنذار.

والآية التي بعدها سبق تفسيرها.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ)(١٧٨)

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) أي : اقصص على اليهود. وقيل : على قومك. والأول أظهر ؛ لأن المقصود من تلاوة هذا الخبر

٣٠٢

تحذيرهم وتقريعهم ، وتشبيههم بالمنسلخ من آيات [الله](١) ؛ لكونهم عرفوا الكتاب والعلم الأول ، فانسلخوا من ذلك ، كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسدا له.

ويجوز عندي ـ والله أعلم ـ : أن يراد بقوله : " واتل عليهم" جميع الناس ، ويرجع الضمير في «عليهم» إلى بني آدم ، وقد تقدم ذكرهم في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ).

وفي المشار إليه أربعة أقوال :

أحدها : أنه بلعام. واختلف في اسم أبيه ، فالمشهور في التفسير والمنصوص عن ابن عباس : أنه ابن باعوراء (٢).

وروي عن ابن عباس : أنه من مدينة الجبارين ، من الكنعانيين (٣).

وروى عنه عطية : أنه كان من بني إسرائيل (٤).

وروي عنه : أنه رجل من أهل اليمن (٥).

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٢٠) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٦ ـ ١٦١٧) ، ومجاهد (ص : ٢٥٠) وفيه : بلعام بن باعر. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٨) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري (٩ / ١٢١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٦ ـ ١٦١٧). وانظر : تفسير ابن عباس (ص : ٢٤٠). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ١٢١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٨) كلاهما عن مجاهد. وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٠).

(٥) أخرجه الطبري (٩ / ١٢١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٨). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٩) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

٣٠٣

وكان من حديثه على ما ذكره ابن عباس ونقله محمد بن إسحاق والسدي وغيرهم : أن موسى عليه‌السلام لما قصد حرب الجبارين ونزل أرض بني كنعان من أرض الشام ، وكان بلعام بقرية من قرى البلقاء ، وكان أهلها كفارا ، وكان عنده الاسم الأعظم ، فغزاهم نبي الله موسى عليه‌السلام ، فأتاه قومه فقالوا : يا بلعام ، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ، وإنا قومك ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله عليهم ، فقال : ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون ، فكيف أدعو عليهم ، وأنا أعلم من الله ما [لا](١) تعلمون؟ فما زالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه ، فركب حماره متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل ، فسار قليلا فربضت أتانه (٢) ، فنزل عنها فضربها ، فأذن الله لها في كلامه فقالت : ويحك يا بلعام أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم؟ فلم يرتدع.

ويروى : أنه رجع ، فقال ملكهم : إما أن تدعو عليهم وإما أن أصلبك ، فدعا عليهم وعلى موسى بالاسم الأعظم أنهم لا يدخلوا المدينة ، [فوقع](٣) موسى وقومه في التيه بدعائه ، فقال موسى : يا رب كما استجبت دعاءه عليّ فاستجب دعائي عليه ، فدعا الله تعالى أن ينزع منه الاسم الأعظم فنزعه منه (٤).

__________________

(١) زيادة على الأصل.

(٢) ربضت الدابة : أي : بركت (اللسان ، مادة : ربض). والأتان : الحمارة. والجمع : أتن (اللسان ، مادة : أتن).

(٣) في الأصل : قوع.

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ١٢٥).

٣٠٤

ويروى : أن موسى قتله بعد ذلك (١).

ويروى : أن بلعام لما أراد أن يدعو على بني إسرائيل ، جعل لا يدعو عليهم بشيء إلا صرف لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرف إلى بني إسرائيل ، فقيل له في ذلك ، فقال : هذا شيء قد غلب الله عليه ، فاندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، ولم يبق إلا المكر والحيلة ، وسأحتال لكم ، جمّلوا النساء وأرسلوهن في عسكر بني إسرائيل ، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها ، فإنه إن زنى رجل واحد منهم كفيتموهم ، فوقع رجل منهم على امرأة ، فأرسل الله على بني إسرائيل الطاعون فهلك منهم سبعون ألفا في ساعة واحدة.

وكان فنحاص بن العيزار صاحب أمر موسى عليه‌السلام ، وكان قد أعطي في الخلق ، وقوة في البطش ، فأخبر خبر الزانيين ، فدخل عليهما مضطجعين فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، وقال : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عباس وجمهور المفسرين (٢).

القول الثاني : أنه أمية بن أبي الصلت ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت ، فلعبت به الأطماع الكاذبة ورجا أن يكون هو. فلما اصطفى الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختصه برسالته ، حمله الحسد والبغي على الكفر به. فلما مات أمية أتت أخته الفارعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألها عن وفاة أخيها فقالت : بينا

__________________

(١) انظر : الطبري (٩ / ١٢٥) ، وزاد المسير (٣ / ٢٨٩).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٢٥ ـ ١٢٦).

٣٠٥

هو راقد أتاه اثنان [فكشفا](١) سقف البيت ونزلا ، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : أوعى؟ قال : وعى. قال : أزكى ، قال : أبي ، فسألته عن ذلك فقال : خير أريد بي فصرف عني ، ثم غشي عليه فلما أفاق قال :

كلّ عيش وإن تطاول دهرا

صائر مرة إلى أن يزولا

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي

في قلال الجبال أرعى الوعولا

إن يوم الحساب يوم عظيم

شاب فيه الصغير يوما ثقيلا

ثم قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنشديني شعر أخيك ، فأنشدته :

لك الحمد والنعماء والفضل ربنا

ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد

مليك على عرش السّماء مهيمن

لعزّته تعنو الوجوه وتسجد

حتى أتت على آخر القصيد.

ثم أنشدته أيضا :

عند ذي العرش تعرضون عليه

يعلم الجهر والسرار الخفيا

يوم نأتي الرحمن وهو رحيم

إنه كان وعده مأتيا

يوم نأتيه مثل ما قال فردا

ثم لا بد راشدا وغويّا

إلى أن قال :

ربّ إن تعف والمعافاة ظني

أو تعاقب فلم تعاقب بريّا

__________________

(١) في الأصل : فكشطا. انظر : البغوي (٢ / ٢١٥).

٣٠٦

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آمن شعره وكفر قلبه». وأنزل الله فيه : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) ... الآيات (١).

وهذا قول جماعة منهم عبد الله بن عمرو بن العاص وسعيد بن المسيب (٢).

الثالث : أنه أبو عامر الراهب ، وكان رجلا من الأنصار قد ترهبن ولبس المسوح في الجاهلية وبني له مسجد الضرار ؛ على ما سنذكره في سورة براءة إن شاء الله تعالى (٣).

قال ابن عباس : الأنصار تقول في هذه الآية : هو أبو عامر الراهب (٤) ، الذي بني له مسجد الشقاق. وروي عن سعيد بن المسيب نحوه.

الرابع : أنه البسوس ، وهو رجل من بني إسرائيل (٥).

وكان من حديثه :

ما قرأته على الشيخ أبي القاسم علي بن أبي الفرج المعروف بابن الموصلي ، أخبركم يحيى بن أسعد بن بوش فأقرّ به ، أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن كادش ، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري ، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا

__________________

(١) انظر : أسباب النزول للواحدي (ص : ٢٣٠ ـ ٢٣١).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١٢١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٦) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٤٨ ح ١١١٩٤). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٩) وعزاه لعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والطبراني وابن مردويه.

(٣) عند الآية رقم : ١٠٧.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٦). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦١٠) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٥) انظر : ابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٧ ـ ١٦١٨) ، والبغوي (٢ / ٢١٥) ، والقرطبي (٧ / ٣٢٠) ، وأسباب النزول للواحدي (ص : ٢٣١) ، وزاد المسير (٣ / ٢٨٧) ، والدر المنثور (٣ / ٦٠٨ ـ ٦٠٩).

٣٠٧

الجريري ، حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي (١) ، حدثنا أبو إسماعيا الترمذي ، حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) قال : هو رجل كان في بني إسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ما يدعو به ، وكانت له امرأة له منها ولد ، وكانت سمجة (٢) دميمة ، فقالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله لها. فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها رغبت عن زوجها وأرادت غيره ، فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة ، فذهبت منه فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا : ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمنا كلبة نباحة يعيّرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولا ، فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات الثلاث (٣).

قال أبو الفرج المعافى بن زكريا : سمجة : بكسر الميم ، مثل : بطرة.

وحكى سيبويه عن العرب (٤) : رجل سمج ، بتسكين الميم ، مثل : سمح.

قال : وقالوا : سميج ؛ كقبيح.

وقول الراوي [في](٥) هذا الخبر : «يعيرنا الناس بها» ، الفصيح من كلام

__________________

(١) الحسين بن القاسم الكوكبي ، أخباري مشهور ، وفي أخباره مناكير كثيرة بأسانيد جياد (لسان الميزان ٢ / ٣٠٩).

(٢) سمج الشيء : قبح ، يسمج سماجة : إذا لم يكن فيه ملاحة. وسميج : قبيح (اللسان ، مادة : سمج).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٦١٧ ـ ١٦١٨). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٠٨ ـ ٦٠٩) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) انظر : الكتاب (٤ / ٣٠).

(٥) زيادة على الأصل.

٣٠٨

العرب : عيرت فلانا كذا وكذا. وأما عيرته بكذا فلغة مقصرة عن الأولى في الاستشهاد والفصاحة ، وإن كانت هي الجارية على ألسنة العامة.

ومن اللغة الأولى قول النابغة :

وعيرتني بنو [ذبيان](١) وهبته

وهل عليّ بأن أخشاك من عار؟ (٢)

وقال المتلمّس :

تعيّرني أمي رجال ولا أرى

أخا كرم إلا بأن يتكرّما (٣)

وقال المقنع الكندي في اللغة الأخرى :

يعيّرني بالدّين قومي وإنما

تديّنت في أشياء تكسبهم مجدا (٤)

والمشهور في التفسير : القول الأول ، ومن أضاف نزولها إلى غيره ، فلدخوله في عمومها وإن وردت على السبب الخاص. وإلى هذا أشار عكرمة بقوله : هو كل من انسلخ عن الحق بعد أن أعطيه (٥).

وفي بعض الألفاظ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لفارعة حين أنشدت شعر أخيها أمية : «كان مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها» (٦) ، وإن الآية مكية ، وقصة أبي عامر الراهب في المدينة ، فدل مجموع ذلك على صحة القول الأول ، وأن

__________________

(١) في الأصل : ذبان. والتصويب من الديوان (ص : ٥٧).

(٢) البيت للنابغة الذبياني ، وهو في : ديوانه (ص : ٥٧) ، واللسان (مادة : عير).

(٣) انظر البيت في : أدب الكاتب لابن قتيبة (١ / ٣٢٤).

(٤) انظر البيت في : جمهرة الأمثال (٢ / ٢٠٦).

(٥) زاد المسير (٣ / ٢٨٨).

(٦) ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (٤ / ١٨٩٠) ، والسيوطي في الدر (٣ / ٦٠٩) وعزاه لابن عساكر عن سعيد بن المسيب.

٣٠٩

إضافتها إلى غيره لدخوله في عمومها.

قوله تعالى : (فَانْسَلَخَ مِنْها) أي : خرج من الآيات ـ وهي كتب الله ودلائل توحيده ، أو اسمه الأعظم ـ كما تخرج الحية من جلدها.

(فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ) قال ابن قتيبة (١) : لحقه وأدركه.

وقال الأخفش (٢) : تبعته وأتبعته بمعنى ، مثل : ردفته وأردفته ، ومنه : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠].

قال الزجاج (٣) : هما [بمعنى واحد](٤) ، ومنه قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [البقرة : ٣٨] ، وقال : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ) [يونس : ٩٠].

وقرأ طلحة بن مصرف : «فاتّبعه الشيطان» بتشديد التاء ووصل الهمزة (٥).

قال اليزيدي : هما لغتان ، وكأن أتبعه ـ خفيفة ـ بمعنى : قفاه ، واتّبعه ـ مشدّدة ـ : حذا حذوه (٦).

قوله تعالى : (فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) أي : فصار من الفاسدين الهالكين.

قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) أي : لو شئنا [لرفعنا](٧) منزلته بالآيات وشرفناه بها.

__________________

(١) تفسير غريب القرآن (ص : ١٧٤).

(٢) انظر قول الأخفش في : القرطبي (١١ / ٤٨).

(٣) لم أقف عليه في معاني الزجاج. وانظر قول الزجاج في : زاد المسير (٣ / ٢٨٩).

(٤) في الأصل : معنى. والتصويب والزيادة من زاد المسير ، الموضع السابق.

(٥) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٣ / ٢٨٩) ، والدر المصون (٣ / ٣٧٢).

(٦) انظر : زاد المسير (٣ / ٢٨٩).

(٧) زيادة من زاد المسير (٣ / ٢٩٠).

٣١٠

وقال مجاهد وعطاء : المعنى : ولو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا (١).

(وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) قال الزجاج (٢) : يقال : أخلد وخلد. والمعنى : ركن إلى الدنيا وأهلها ، (وَاتَّبَعَ هَواهُ) معرضا عن آياتنا وزواجرنا ، وكأن المخذول زجر في منامه وقيل له : لا تدع على موسى وبني إسرائيل ، فلم ينزجر ، وكلّمته أتانه فلم ينته.

وقيل في قوله : "(وَاتَّبَعَ هَواهُ)" : أرضى امرأته بذلك ، وكانت زيّنت له الدّعاء على موسى وقومه.

(فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) يريد : الكلب اللاهث ، (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) يقال :

لهث الكلب يلهث لهثا ؛ إذا دلع لسانه (٣).

والمعنى : إن تحمل عليه زاجرا أو ضاربا يلهث ، وإن تتركه يلهث ، فهو في حالتيه لم يزل لاهثا ، كذلك بلعام إن زجر أو وعظ فهو ضال ، وإن ترك لا يزجر ولا يوعظ ، فهو ضال.

وقيل : المعنى ولكنه أخلد إلى الدنيا فوضعنا منزلته ، فمثله في الخسّة والضّعة (٤) كمثل الكلب في أخسّ أحواله ، وهي حالة لهثه.

وقيل : مثله حين خرج لسانه وتدلى على صدره ـ كما ذكرناه في قصته ـ كمثل الكلب اللاهث.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ١٢٧) ، ومجاهد (ص : ٢٥١) وفيه : «لدفعنا عنه».

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٩١).

(٣) انظر : اللسان (مادة : لهث).

(٤) الضّعة والضّعة : خلاف الرّفعة في القدر. والوضيع : الدنيء (انظر : اللسان ، مادة : وضع).

٣١١

(ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بلعام وغيره من الكفار ، (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) يا محمد (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، فيحدث لهم التفكر في قصص المكذبين المعذبين اعتبارا وانزجارا وخوفا من سوء العاقبة وزوال العافية ، ويستدلوا بقصصك على صحة رسالتك ؛ لأن العلم بذلك لا يتلقّى إلا من جهة الوحي أو التعليم ، وقد علموا عدم القسم الثاني ، وتحققوا أنك أمّيّ من أمّة أمّيّة ، وطائفة جاهلية لم تتشاغل بعلم ، ولم تعاشر أهل كتاب ، ولم تخرج من بين أظهر قومك ؛ فيتعين القسم الأول.

قوله تعالى : (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) هو على حذف المضاف ، أي : ساء مثلا مثل القوم (١).

وقرأ الجحدري : «ساء مثل القوم» (٢).

و" مثلا" منصوب على التمييز (٣) ، (وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) معطوف على (كَذَّبُوا بِآياتِنا)(٤) ، أي : جمعوا بين التكذيب والظلم ، فيكون الظلم داخلا في حيز الصلة. ويجوز أن يكون منقطعا عن الصلة ، بمعنى : وما ظلموا إلا أنفسهم ، وتقديم المفعول للاختصاص (٥) ، كأنه قيل : خصّوا أنفسهم بالظلم.

قوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) أي : من يتولى الله هدايته فهو المهتدي ،

__________________

(١) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٨٩) ، والدر المصون (٣ / ٣٧٣).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٤ / ٤٢٤) ، والدر المصون (٣ / ٣٧٣).

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٧٣).

(٤) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٧٤).

(٥) مثل السابق.

٣١٢

(وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : ومن يخذله ويضلّه (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)(١٧٩)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا) أي : خلقنا (لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) خلقنا كثيرا (مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) وهم الذين حقّت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاء الذين خلقوا للنار.

قرأت علي أبي المجد محمد بن الحسين القزويني ، أخبركم الإمام أبو منصور محمد بن أسعد المعروف بحفدة العطاري فأقرّ به ، قال : حدثنا الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد الصيرفي (١) ، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي حمزة البلخي ، حدثنا موسى بن محمد بن الحكم الشطوي ، حدثنا حفص بن غياث ، عن طلحة [بن](٢) يحيى (٣) ، عن عائشة بنت طلحة (٤) ، عن عائشة أم المؤمنين رضي

__________________

(١) يعقوب بن أحمد بن محمد أبو بكر الصيرفي ، حدث بنيسابور عن الحسن بن أحمد المخلدي وأحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الخفاف ، وغيرهم ، توفي في سنة ست وستين وأربعمائة (التقييد ص : ٤٩٥).

(٢) في الأصل : عن. وهو خطأ ، والتصويب من البغوي (٢ / ٢١٧). انظر ترجمته في المصادر التالية.

(٣) هو طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي المدني ، نزيل الكوفة ، صدوق يخطئ ، مات سنة ثمان وأربعين ومائة (تهذيب التهذيب ٥ / ٢٥ ، وتقريب التهذيب ص : ٢٨٣).

(٤) عائشة بنت طلحة بن عبيد الله التيمية ، أم عمران ، تابعية ثقة ، أمها أم كلثوم بنت أبي بكر ، روت عن خالتها عائشة ، وعنها ابنها طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن وابن أخيها طلحة بن يحيى بن طلحة وغيرهم (تهذيب التهذيب ٥ / ٢٥ ، وتقريب التهذيب ص : ٢٨٣).

٣١٣

الله عنها قالت : أدرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جنازة صبي من صبيان الأنصار ، فقالت عائشة رضي الله عنها : طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» (١). هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة.

ومنه أيضا : حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) وقد سبق آنفا.

قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) أي : لا يفهمون ولا يعقلون بها الحق ، (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها) العجائب [الدالّة](٢) على وحدانية خالقها وقدرته وعظمته ، (وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) مواعظ القرآن ودلائل التوحيد ، (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) في عدم التفكر والاعتبار ، وما يدرك بالأسماع والأبصار.

وقال مقاتل (٣) : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ) يأكلون ويشربون ولا يلتفتون إلى الآخر (بَلْ هُمْ أَضَلُ) من الأنعام ؛ لأنها تجتلب منافعها وتجتنب مضارّها ، والكفار يقتحمون النار معرضين عن مصالحهم ، (أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) الكاملون الغفلة.

(وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٨٠)

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٥٠ ح ٢٦٦٢). وانظر : تفسير البغوي (٢ / ٢١٧).

(٢) في الأصل : الدلة. والصواب ما أثبتناه.

(٣) تفسير مقاتل (١ / ٤٢٦).

٣١٤

قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) ، سبب نزولها : أن رجلا دعا الله في صلاته ودعا الرحمن ، فقال الأحمق الجاهل أبو جهل : أليس يزعم محمدا وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا ، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فنزلت هذه الآية (١).

والحسنى : تأنيث الأحسن ، وقد سبق ذكره.

والمعنى : ولله الأسماء الدالة على المعاني الحسنة ، والأوصاف الجميلة ، من الرحمة والمغفرة والحلم والعفو والرزق والتعظيم والتحميد والتقديس ، (فَادْعُوهُ بِها) أي : اسألوه بأسمائه الحسنى وتوسلوا إليه بها ، كقولك : يا الله ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا كريم ، يا حليم (٢).

قرأت على الشيخ عماد الدين أبي محمد عبد الله بن الحسن بن الحسين بن أبي السنان بالموصل في المحرم سنة أربع وعشرين وستمائة ، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ، أخبركم الشيخ الحافظ أبو سعيد عبد اللطيف بن أبي سعد البغدادي سنة خمس وخمسين وخمسمائة فأقرّ به ، أخبرنا أبو القاسم غانم بن أبي نصير محمد بن عبيد الله البرجي (٣) ، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن الحسين بن فاذشاه (٤) ،

__________________

(١) انظر : زاد المسير (٣ / ٢٩٢).

(٢) انظر : مجاز القرآن (١ / ٢٣٣).

(٣) غانم بن محمد بن عبيد الله بن عمر بن أيوب الخرقي البرجي الأصبهاني ، أبو القاسم ، ولد في ذي القعدة سنة سبع عشرة وأربعمائة ، وتوفي سنة إحدى عشرة وخمسمائة (سير أعلام النبلاء ١٩ / ٣٢٠ ـ ٣٢٢ ، والتقييد ص : ٤٢١).

(٤) أحمد بن محمد بن الحسين ابن محمد بن فاذشاه الأصبهاني. سمع الكثير من أبي القاسم الطبراني ، وكان سماعه مع جده الحسين في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، روى المعجم الكبير كله عن الطبراني وغير ذلك. مات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة (سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥١٥ ـ ٥١٦).

٣١٥

حدثنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (١) ، حدثنا أسلم بن سهل (٢) ، حدثنا محمد بن أبان الواسطي (٣) ، حدثنا عمران بن خالد الخزاعي (٤) ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من [أحصاها](٥) دخل الجنة» (٦).

قال : هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه مسلم عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة.

فإن قيل : أسماء الله كثيرة جدا ، فما وجه الحديث؟

قلت : ليس المراد حصر أسماء الله تعالى في هذا العدد ، وإنما المعنى : أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة ، كما تقول : لزيد مائة درهم أعدّها للصدقة ، ولا يدل على أنه ليس عنده أكثر من ذلك ؛ وإنما يدل على أن الذي عنده للصدقة هذا

__________________

(١) سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي ، أبو القاسم الطبراني ، من طبرية الشام ، كان ثقة حافظا ، استوطن أصبهان ، وحدّث بها إلى أن مات ، ولد سنة ستين ومائتين ، وتوفي يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة (التقييد ص : ٢٨٣ ـ ٢٨٤).

(٢) أسلم بن سهل بن سلم بن زياد بن حبيب الواسطي الرزاز ، ويعرف ببحشل ، وهو ثقة ثبت إمام ، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائتين (سير أعلام النبلاء (١٣ / ٥٥٣).

(٣) محمد بن أبان بن عمران بن زياد بن ناصح ، أبو عمران الواسطي الطحان ، صدوق تكلم فيه ، مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، وعاش تسعين سنة (تهذيب التهذيب ٩ / ٣ ، والتقريب ص : ٤٦٥).

(٤) عمران بن خالد الخزاعي البصري ، روى عن ابن سيرين والحسن وثابت البناني. روى عنه بشر بن معاذ العقدي. قال أبو حاتم : ضعيف. وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به (الجرح والتعديل ٦ / ٢٩٧ ، ولسان الميزان (٤ / ٣٤٥).

(٥) في الأصل : أحصا. والمثبت من صحيح مسلم (٤ / ٢٠٦٣).

(٦) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٦٣ ح ٢٦٧٧).

٣١٦

القدر.

فإن قيل : ما معنى : «أحصاها»؟

قلت : عنه أجوبة : أحدها : أن معناه : حفظها. وفي بعض ألفاظ الحديث : «من حفظها» (١).

الثاني : أن المعنى : من أطاقها ، كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [المزمل : ٢٠] ، وقوله عليه‌السلام : «استقيموا ولن تحصوا» (٢).

والمعنى : من أطاق العمل بها ؛ كالسميع والعليم ، فالعمل بهما أن يكفّ لسانه عن قول ما لا يجوز ، ويجتنب في خلواته ما يكره اطلاع الناس عليه ، ولا يركن ويعزم على ما يحرم ، وعلى هذا سائر الأسماء.

الثالث : أن المعنى : من عقلها وآمن بها دخل الجنة ، مأخوذ من الحصاة ، وهو العقل.

قال طرفة :

وإنّ لسان المرء ما لم يكن له

حصاة على عوراته لدليل (٣)

قال بعض العلماء : من قرأ القرآن وجمعه أتى على هذه الأسماء وعلى غيرها من أسماء الله تعالى المنزلة في كتابه ، فأشار بذلك إلى أنّ من قرأ القرآن دخل الجنة.

والصحيح : أن معنى الإحصاء : الحفظ ، لما ذكرناه أولا ، ولما كان في بعض

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٦٩ ح ٣٨٦١).

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ١٠١ ح ٢٧٧) ، وأحمد (٥ / ٢٧٦) ، والحاكم (١ / ٢٢٠ ح ٤٤٧).

(٣) البيت لطرفة ، وهو في : اللسان ، (مادة : حصي) ، وديوان الحماسة (٢ / ١٨١) ، وشرح كتاب الأمثال (١ / ٢٦٢).

٣١٧

طرق الصحيح : «من حفظها دخل الجنة» ذكرتها لتحفظ ، وهي ما قرأته على الشيخ أبي المجد القزويني ، أخبركم أبو منصور محمد بن أسعد فأقرّ به ، قال : حدثنا أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي ، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الضحالي الطوسي بها ، أخبرنا أبو منصور محمد بن نصر بن أحمد الطوسي ، أخبرنا الحاكم أبو أحمد الحافظ ، حدثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، حدثنا صفوان بن صالح بن عبد الملك الدمشقي ـ واللفظ له ـ :

وأخبرنا به عاليا أبو محمد عبد الله بن الحسن بن أبي السنان بقراءتي عليه ، أخبرنا عبد اللطيف بن أبي سعد البغدادي ، أخبرنا أبو القاسم البرجي ، أخبرنا ابن فاذشاه ، حدثنا أبو القاسم الطبراني ، حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي (١) وورد بن أحمد بن لبيد البيروتي قالا : حدثنا صفوان بن صالح (٢) ، حدثنا الوليد بن مسلم (٣) ،

__________________

(١) أحمد بن المعلى بن يزيد الأسدي ، أبو بكر الدمشقي ، نائب أبي زرعة في قضائها. صدوق ، مات في شهر رمضان سنة ست وثمانين ومائتين (تهذيب التهذيب ١ / ٧٠ ، وتهذيب الكمال ١ / ٤٨٥ ـ ١٨٧).

(٢) صفوان بن صالح بن صفوان بن دينار ، أبو عبد الملك الثقفي الدمشقي ، مؤذن جامع دمشق ، ثقة عند أهل الحديث. ولد سنة ثمان أو تسع وستين ومائة ، ومات في ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائتين (سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٧٥ ، وتهذيب التهذيب ٤ / ٣٧٤).

(٣) الوليد بن مسلم القرشي ، أبو العباس الدمشقي ، مولى بني أمية ، وقيل : مولى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ، ثقة كثير الحديث ، لكنه كثير التدليس والتسوية ، وكان من أوعية العلم ، ولد سنة تسع عشرة ومائة ، ومات سنة أربع وتسعين ومائة (تهذيب الكمال ٣١ / ٨٦ ـ ٩٨ ، والتقريب ص : ٥٨٤ ، وسير أعلام النبلاء ٩ / ٢١١ ـ ٢٢٠).

٣١٨

حدثنا شعيب بن أبي حمزة (١) ، عن أبي الزناد (٢) ، عن الأعرج (٣) ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة ، هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدي ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو

__________________

(١) شعيب بن أبي حمزة ، أبو بشر الأموي الحمصي الكاتب ، واسم أبيه دينار ، الإمام الحجة المتقن. كان مليح الضبط ، أنيق الخط ، مات سنة اثنتين ـ أو ثلاث ـ وستين ومائة (تذكرة الحفاظ ١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢ ، وسير أعلام النبلاء ٧ / ١٨٧ ـ ١٩٢).

(٢) هو عبد الله بن ذكوان القرشي ، أبو عبد الرحمن المدني ، المعروف بأبي الزناد ، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة ، وقيل : مولى عائشة بنت عثمان بن عفان ، ثقة فقيه ، وثقه أحمد وابن معين ، ولد سنة خمس وستين في حياة ابن عباس ، ومات سنة ثلاثين ومائة. وقيل بعدها (تهذيب التهذيب ٥ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، والتقريب ص : ٣٠٢ ، وسير أعلام النبلاء ٥ / ٤٤٥ ـ ٤٥١).

(٣) هو عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، أبو داود المدني ، مولى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، كان ثقة كثير الحديث ، مات بالإسكندرية سنة سبع عشرة ومائة (تهذيب التهذيب ٦ / ٢٦٠ ، والتقريب ص : ٣٥٢).

٣١٩

الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» (١).

قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث غريب ، حدث غير واحد عن صفوان بن صالح ، وهو ثقة عند أهل الحديث ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.

ويعلو لي هذا الحديث من طريق ابن أبي السنان برجلين ، فكأنني سمعته من أبي محمد البغوي.

فصل

يتضمن شرح ما أشكل من هذه الأسماء وإن كان معظمها قد مضى في كتابنا ، ويأتي فيما بقي إن شاء الله تعالى ، إلا أنا نشير إليه بطريق الاختصار ليكون مجموعا هاهنا.

أما اسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكرناه في أول الكتاب.

«القدوس» : الطاهر من العيوب.

و «السّلام» : الذي يسلم من كل عيب ونقص.

«المؤمن» : الذي أمن المؤمنين من عذابه.

«المهيمن» : الشهيد.

«المتكبر» : البليغ الكبرياء والعظمة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٣٠ ح ٣٥٠٧).

٣٢٠