رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

والفتّاح. وأنشد أبو عبيدة (١) :

ألا أبلغ بني عصم رسولا

بأنّي عن فتاحتكم غنيّ (٢)

قال الزجاج (٣) : وجائز أن يكون المعنى : أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف. فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم.

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩٥)

__________________

(١) مجاز القرآن (١ / ٢٢٠).

(٢) البيت ينسب للأسعر الجعفي ، ومحمد بن حمران بن أبي حمران. انظر : إصلاح المنطق (ص : ١١٢) ، وأمالي القالي (٢ / ٢٨١) ، ومعجم مقاييس اللغة (٤ / ٤٦٩) ، والصحاح (٤ / ١٧٠٩) ، والبحر المحيط (٤ / ٣٤٦) ، واللسان (مادة : فتح ، رسل) ، والدر المصون (٣ / ٣٠٤) ، والماوردي (٢ / ٢٤٠) ، والطبري (١ / ٣٧١ ، ٩ / ٢) ، وزاد المسير (٣ / ٢٣٢).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٨).

٢٠١

قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) هذه لام القسم.

وقوله : (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) سدّ مسدّه جوابي الشرط والقسم (١).

قال ابن عباس : إنكم إذا لمغبونون (٢).

وقال عطاء : جاهلون (٣).

والمعنى متقارب ؛ لأنهم باستبدال الضلالة بالهدى مغبونون جاهلون.

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قد ذكرنا معناها في قصة صالح.

وقال ابن عباس وغيره : فتح الله تعالى عليهم بابا من أبواب جهنم ، فأرسل عليهم ريحا ومدّة وحرا شديدا فأخذ أنفاسهم ، فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم البيوت ، فلم ينفعهم ظل ولا ماء ، وأنضجهم الحر ، فبعث الله سبحانه وتعالى سحابة فيها ريح طيبة ، فوجدوا برد الريح وطيبها وظل السحابة ، فتنادوا : عليكم بها ، فخرجوا إلى البرية ، فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم ألهبها الله تعالى عليهم ، ورجفت بهم الأرض ، فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي ، وصاروا رمادا (٤) ، وهو عذاب يوم الظلة ، فذلك قوله تعالى : (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود : ٩٤].

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٠٥).

(٢) انظر : الطبري (٩ / ٣) ، والبغوي (٢ / ١٨٢) كلاهما بلا نسبة.

(٣) ذكره البغوي (٢ / ١٨٢).

(٤) أخرجه الطبري (١٩ / ١١٠) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨١٤ ـ ٢٨١٥) ، والحاكم (٢ / ٦٢٠ ح ٤٠٧٤). وذكره السيوطي في الدر (٦ / ٣٢٠) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس.

٢٠٢

قال أبو العالية : في منازلهم.

قال ابن إسحاق : بلغني أن رجلا من أهل مدين يقال له : عمرو بن جلها ، لما رأى الظلة فيها العذاب قال شعرا :

يا قوم إنّ شعيبا مرسل فدعوا عنكم

سميرا وعمران بن شدّاد

إنّي أرى غيثة يا قوم قد طلعت

تدعو بصوت على صمّانة الوادي

وإنّه لم يروا فيها صحاء غد

إلّا الرّقيم يمشي بين أنجاد

وسمير وعمران : كاهنان ، والرقيم : كلب لهم (١).

وقال أبو عبد الله [البجلي](٢) : أبو جاد ، وهوّز ، وحطّي ، وكلمن ، وصعفص ، وقرشت ، أسماء ملوك مدين ، وكان ملكهم يوم الظلة : كلمن ، فقالت أخت كلمن تبكيه :

__________________

(١) أخرجه الطبري (٩ / ٤) ، وابن أبي حاتم (٩ / ٢٨١٤). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠٤ ـ ٥٠٥) وعزاه لابن أبي حاتم والحاكم.

(٢) في الأصل : البلخي. والتصويب من المصادر التالية. ولم أجد من يكنى بهذا ، ولكن روى الطبري في تاريخه مثل هذا الخبر ، في ذكر هؤلاء الملوك (١ / ١٢١) ، وإسناده يفسّر هذا الإسناد ، قال : حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن يحيى بن العلاء ، عن القاسم بن سلمان ، عن الشعبي قال : " أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، كانوا ملوكا جبابرة".

ويحيى بن العلاء البجلي كنيته : أبو سلمة ، ويقال : أبو عمرو. ولم أجد كنيته : أبو عبد الله ، ولكن ظاهر هذا الإسناد يرجح أن : أبا عبد الله البجلي ، هو نفسه : يحيى بن العلاء البجلي ، والله أعلم.

٢٠٣

كلمن هدّ ركني

[هلكه](١) وسط المحلّه

سيّد القوم أتاه

الحتف نار وسط ظلّه

جعلت نار عليهم

دارهم كالمضمحلّه (٢)

قوله تعالى : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) مبتدأ ، خبره : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا)(٣).

قال الأصمعي والزجاج (٤) وغيرهما : المغاني : المنازل ، يقال : غنينا بمكان كذا ، أي : نزلناه (٥). فالمعنى : كأن لم يقيموا بها ولم يسكنوا فيها.

وقال ابن عباس : كأن لم يعيشوا في ديارهم (٦).

قال الزجاج (٧) : يجوز أن يكون المعنى : كأن لم يعيشوا فيها مستغنين ، كما قال حاتم طيء (٨) :

__________________

(١) في الأصل : ملكه. والتصويب من المصادر التالية.

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ٤). وانظر : البغوي (٢ / ١٨٢) ، والبحر المحيط (٤ / ٣٤٨).

(٣) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٨٠) ، والدر المصون (٣ / ٣٠٥).

(٤) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٨).

(٥) انظر : اللسان (مادة : غنا).

(٦) أخرجه الطبري (٩ / ٥) ، وابن أبي حاتم (٦ / ٢٠٥٢). وانظر : تفسير ابن عباس (ص : ٢٣٠).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠٤) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٧) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٨).

(٨) البيت في ديوانه هكذا :

غنينا زمانا بالتصعلك والغنى

كما الدهر في أيامه العسر واليسر

كسينا صروف الدهر لينا وغلظة

وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر

انظر : ديوانه (ص : ٥١) ، والقرطبي (٧ / ٢٥٢) ، والبحر المحيط (٤ / ٣٤٨) ، وزاد المسير (٣ / ٢٣٢) ، وروح المعاني (٩ / ٦) ، واللسان (مادة : صعلك).

٢٠٤

غنينا زمانا بالتّصعلك والغنى

فكلّا سقاناه بكأسيهما الدّهر

فما زادنا بغيا على ذي قرابة

غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر

قال : معنى غنينا : عشنا زمانا بالتصعلك ، وهو الفقر ، والعرب تقول للفقير : صعلوك.

ثم استأنف الله تعالى ذكر شعيب وكرره ، ولم يكنّ عنه مبالغة في تفخيمه وتعظيمه وتضليل مكذّبيه فقال : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) أي : المخصوصين بالخسران العظيم.

قوله تعالى : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) الأسى : شدة الحزن (١).

قال العجّاج :

وانحلبت عيناه من فرط الأسى (٢)

قال الزجاج (٣) : نقول : أسيت على الشيء آسى أسى ؛ إذا اشتد حزنك عليه.

قال ابن إسحاق : أصاب شعيبا على قومه حزن شديد ، ثم عاتب نفسه فقال : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)(٤). فيكون منكرا على نفسه فرط حزنه على قومه.

ويجوز أن يكون قوله : " فكيف آسى" خارجا مخرج الاعتداد ، كأن قائلا قال له : أحزنت على قومك ، أو هلا حزنت على قومك ، فقال معتذرا : فكيف آسى على

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : أسا).

(٢) الرجز للعجاج ، وقبله : (يا صاح هل تعرف رسما مكرسا* قال نعم أعرفه وأبلسا)

انظر : اللسان وتاج العروس (مادة : حلب ، كرس).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٩). وانظر : مجاز القرآن (١ / ٢٢٢).

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ٦). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٢٣٣).

٢٠٥

قوم بالغت في إنذارهم وبذلت جهدي في مناصحتهم فكذبوني وآذوني.

وقرأت لأبي عمرو من رواية القزاز عن عبد الوارث عنه : «أسى» بقصر الهمزة (١).

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ) قال الزجاج (٢) : يقال لكل مدينة قرية ؛ لاجتماع الناس فيها.

وقال أبو عمرو بن العلاء : ما رأيت قرويين أفصح من الحسن والحجاج.

وفيه إضمار ، تقديره : فكذّب النبي.

(إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) قال الزجاج (٣) : قيل : البأساء كل ما نالهم من شدة في أموالهم ، والضراء : ما نالهم من الأمراض. وقد سبق تفسيرهما في البقرة.

(لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي : يستكينون ويخشعون لعظمتي ، ويخضعون لعزتي ، ويخلعون أردية الكبر والأنفة من اتباع رسلي.

قوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي : حولناهم من البأساء والضراء إلى الصحة والرخاء ، ونزعنا عنهم لبوس البؤس (حَتَّى عَفَوْا) أي : كثروا وكثرت أموالهم وحسنت حالهم.

قال الشاعر :

عفوا من بعد إقلال وكانوا

زمانا ليس عندهم بعير

__________________

(١) لم أجد هذه القراءة فيما تيسير لي من المراجع.

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٩).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٣٥٩).

٢٠٦

وقالوا جهلا واغترارا وأشرا وبطرا : (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) يريدون : أن الذي نزل بهم إنما هو من غير الدهر وتصاريف الزمان ، فليست الضراء لعقوبة ، ولا السراء لمثوبة (فَأَخَذْناهُمْ) بعد أن بلوناهم بالخير والشر والنفع والضر ، فلم يتعظوا ولم يرجعوا عن عنادهم وكفرهم ، (بَغْتَةً) أي : فجأة ، آمن ما كانوا ، وذلك أشد الأخذ. (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) في محل الحال من الضمير المنصوب في" أخذناهم" (١).

والمقصود : تحذير هذه الأمة من مثل ذلك ، وتخويف العصاة المستدرجين بالنّعم من حلول النّقم.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٩٩)

قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قال الزجاج (٢) : المعنى : أتاهم الغيث من السماء ، والنبات من الأرض ، وجعل ذلك زاكيا كثيرا.

وقيل : هو مجيء الخير ، وتيسير أسباب الرزق من كل وجه.

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٠٨).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٦٠).

٢٠٧

(وَلكِنْ كَذَّبُوا) ما جاءت به رسلي وجحدوا وحدانيتي ، (فَأَخَذْناهُمْ) بقطع أسباب البركة في الرزق (بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من الكفر والفسق.

قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) هذه الفاء والواو التي بعدها في قوله : (أَوَأَمِنَ) حرفا عطف ، والهمزة فيهما للإنكار ، والمعطوف عليه : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) ، وما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراض (١) ، والمعنى : أفأمن أهل القرى الذين كذبوا الرسل ، (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً) ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ).

(أَوَأَمِنَ) وقرأ الحرميان وابن عامر : «أو أمن» بإسكان الواو على العطف ب «أو» (٢).

المعنى : أفأمنوا أن يأتيهم بأسنا نائمين أو لاعبين وممكورا بهم ، فعلى العاقل أن يكون وجلا دائم الحذر من الله.

قيل ابن عباس : أي رجل كان عمر بن الخطاب؟ فقال : كان كالطير الحذر ، الذي كان له بكل طريق شركا (٣).

وأخرج الإمام أحمد في كتاب الزهد (٤) بإسناده عن جعفر قال : قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها : ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ، فقال : يا بنتاه ، إن أباك يخاف البيات.

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٣ / ٣٠٨).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٢٥٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٩) ، والكشف (١ / ٤٦٨) ، والنشر (٢ / ٢٧٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٦).

(٣) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٢ / ٣٢) ، والمناوي في فيض القدير (٦ / ٢٥٧).

والشّرك : حبائل الصائد ، وكذلك ما ينصب للطير (انظر : اللسان ، مادة : شرك).

(٤) الزهد (ص : ٤٠٦).

٢٠٨

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ) أي : يتّضح ويتبين ، ولذلك عدّي باللام ، (لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) وهم كفار مكة ومن حولها الذين استخلفوا في أثر من كان قبلهم.

وقوله : (أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) في موضع رفع بإسناد «يهد» إليه ، المعنى : أو لم يتبينوا أنا لو شئنا أصبناهم بذنوبهم وكفرهم ، فأهلكناهم كما أهلكنا من كان قبلهم بذنوبهم وكفرهم.

وقال الزجاج (١) : المعنى : أو لم يبيّن الله لهم أنه لو يشاء.

وقرأت ليعقوب الحضرمي : «أو لم نهد» بالنون (٢) ، على معنى : أو لم نبين لهم.

قوله تعالى : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ) معطوف على (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) ، أو على ما دلّ عليه معنى : (أَوَلَمْ يَهْدِ)(٣) ، تقديره : يغفلون عن الهداية ، ونطبع على قلوبهم ، أو هو منقطع ، على معنى : ونحن نطبع.

فإن قيل : هل يجوز أن يكون معطوفا على" أصبناهم" ، على معنى : وطبعنا؟

قلت : لا يساعد عليه المعنى ؛ لأنهم كانوا مطبوعا على قلوبهم من قبل ، وهذا التفسير يقتضي خلوّهم عن هذه الصفة.

__________________

(١) معاني الزجاج (٢ / ٣٦١).

(٢) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٣ / ٢٣٥).

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٣١٠).

٢٠٩

فإن قيل : فهل يجوز العطف على «أصبناهم» إذا جعلته في تأويل : نصيبهم؟

قلت : نعم ؛ لصحة المعنى وانتظامه ، لا سيما ومعنى الاستقبال في الماضي هاهنا واضح ، ونظيره قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) [الفرقان : ١٠] ، ثم عطف عليه : (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً)(١) [الفرقان : ١٠] ، وأنشد من ذلك قول الشاعر :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا

عني وما سمعوا من صالح دفنوا (٢)

أي : يدفنوا.

(فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) نفي السماع عنهم هاهنا في معنى إثبات الصمم لهم في قوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] وقد سبق تأويله.

وقيل : المعنى فهم لا يقبلون ، كقوله : «سمع الله لمن حمده» ، وقد سبق تقديره فيما مضى.

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ)(١٠٢)

__________________

(١) انظر : الدر المصون (٣ / ٣١٠).

(٢) البيت لقعنب بن أم صاحب. وهو في : المثل السائر (١ / ١١٧) ، وديوان الحماسة (٢ / ١٨٧) ، وروضة العقلاء (ص : ١٧٣) ، وزاد المسير (٣ / ٢٣٥ ، ٦ / ٤٧٦) ، وروح المعاني (١٠ / ١٢٦) ، واللسان ، مادة : (شور ، أذن) ، وتاج العروس (مادة : أذن).

٢١٠

قوله تعالى : (تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) قال الزمخشري (١) : هو كقوله : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] في أنه مبتدأ وخبر وحال. ويجوز أن يكون «القرى» صفة [ل «تلك»](٢) ، و «نقصّ» خبرا ، وأن يكون (الْقُرى نَقُصُّ) خبرا بعد خبر (٣).

فإن قلت : ما معنى" تلك القرى" حتى تكون كلاما مفيدا؟

قلت : هو كلام مفيد ، لكن بشرط التقييد بالحال ، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك : هو الرجل الكريم.

فإن قلت : ما معنى الإخبار عن القرى ب «نقص عليك»؟

قلت : معناه : أن تلك القرى المذكورة نقصّ عليك بعض أنبائها ، ولها أنباء غيرها لم نقصّها عليك.

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) وهي الدلائل والبراهين ، (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند مجيء الرسل إليهم ، وظهور البينات والمعجزات ، (بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ذلك.

وقيل : المراد بالقبليّة : ما سبق في العلم والمشيئة. وهو قول أبي بن كعب (٤).

وقيل : المعنى : ما كان الخلف ليؤمنوا بما كذب به السلف من قبل.

__________________

(١) الكشاف (٢ / ١٢٧ ـ ١٢٨).

(٢) في الأصل : لذلك. والتصويب من الكشاف (٢ / ١٢٧).

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٣١٢).

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ١١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٠). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠٧) وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

٢١١

وقال ابن عباس : المعنى : فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم ، حين أخرجهم من صلب آدم ، فآمنوا كرها ، حيث أقروا بالألسنة وأضمروا التكذيب (١).

وقال مجاهد : المعنى : فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم ، فهو نظير قوله : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ)(٢) [الأنعام : ٢٨].

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الطبع الشديد نطبع (عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ).

قوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي : ما وجدنا لأكثر الناس من وفاء بالعهد الذي أخذناه عليهم حين أخرجناهم من ظهر آدم. هذا هو قول ابن عباس وأكثر المفسرين (٣).

وقال الحسن البصري : المراد بالعهد هاهنا : ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا (٤).

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٢٣٦).

(٢) أخرجه الطبري (٩ / ١١) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٠) ، ومجاهد (ص : ٢٤١). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠٧) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (٩ / ١٢) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٠ ـ ١٥٣١). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٠٨ ـ ٥٠٩) وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن. ومن طريق آخر عن أبي العالية وعزاه لابن أبي حاتم. ومن طريق آخر عن أبي بن كعب ، وعزاه لابن جرير. ومن طريق آخر عن مجاهد ، وعزاه لابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٤) زاد المسير (٣ / ٢٣٦).

٢١٢

(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) قال أبو عبيدة (١) : المعنى : وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.

والقاعدة التي راعيناها في هذا الباب من هذا الكتاب ، ما عليه حذّاق البصريين : من أنّ «إن» هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية (٢) ، على معنى : وإن الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين مارقين من الطاعة.

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(١١٤)

__________________

(١) مجاز القرآن (١ / ٢٢٣).

(٢) انظر : الدر المصون (٣ / ٣١٣).

٢١٣

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد الرسل المذكورين (مُوسى بِآياتِنا) وهي المعجزات الخارقة التي أعطيها ؛ كالعصا وانفلاق البحر ، (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها) أي : جعلوا بدل الإيمان بها الكفر ، فظلموا بذلك غاية الظلم ، (فَانْظُرْ) بعين قلبك (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

قوله تعالى : (حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) قرأ نافع : بالتشديد ، بمعنى : واجب عليّ أن لا أقول إلا الحق.

وبها قرأت أيضا لأبان عن عاصم.

وقرأ عبد الله : «حقيق أن لا» بإسقاط «على» (١).

وقرأ أبيّ بن كعب : «حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق» بإسقاط «على» وإقامة الباء مقامها (٢).

وقرأ الأكثرون : «حقيق على أن لا أقول» بتخفيف وحذف الباء (٣).

قال الفراء (٤) : العرب تجعل الباء في موضع «على» ، فتقول : رميت بالقوس وعلى القوس ، وجئت بحال حسنة وعلى حال حسنة.

وقال أبو عبيدة (٥) : «حقيق» بمعنى : حريص.

__________________

(١) وهذه القراءة شاذة ؛ لمخالفتها الرسم العثماني. انظر : مختصر شواذ القرآن لابن خالويه (ص : ٥٠) ، والدر المصون (٣ / ٣١٦).

(٢) انظر هذه القراءة في : البحر (٤ / ٣٥٦) ، والدر المصون (٣ / ٣١٥).

(٣) الحجة للفارسي (٢ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٩) ، والكشف (١ / ٤٦٩) ، والنشر (٢ / ٢٧٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٧) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٧).

(٤) معاني الفراء (١ / ٣٨٦) وبه قال أبو الحسن والفارسي.

(٥) مجاز القرآن (١ / ٢٢٤).

٢١٤

(قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) قال ابن عباس : يعني : العصا (١).

(فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : أطلق عنهم يدك العادية حتى يذهبوا إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم ، وكان اللعين قد استعبدهم واستذلّهم بعزّ سلطانه ، واستخدمهم في الأعمال الشاقة بعد موت يوسف عليه‌السلام ، [وانقراض](٢) الأسباط ، فاستنقذهم الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسّلام وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر وبين اليوم الذي دخلها فيه موسى رسولا ؛ أربعمائة سنة.

(قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها) أي : فأتني بها وأظهرها لي (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تقول.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ظاهر لا لبس فيه. والثعبان : الحية الضخم الذّكر.

قال ابن عباس والفراء (٣) : الثعبان : أعظم الحيات ، وهو الذّكر (٤).

قال ابن السائب : [ملأت](٥) الحية دار فرعون ، ثم فتحت فاها ، فإذا شدقها ثمانون ذراعا ، ثم شدت على فرعون لتبتلعه ، فوثب عن سريره وهرب ، وقام به

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٣٩٢) ، وزاد المسير (٣ / ٢٣٧).

(٢) في الأصل : وانقراظ.

(٣) معاني الفراء (١ / ٣٨٧).

(٤) أخرجه الطبري (٩ / ١٥) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٢). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥١١) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

(٥) في الأصل : ملأ. والتصويب من الوسيط (٢ / ٣٩٢).

٢١٥

بطنه ذلك اليوم أربعمائة مرة ، ولم يستمسك بطنه بعد ذلك حتى هلك (١).

ويروى : أن الناس ازدحموا حين انهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا (٢).

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) قال ابن عباس : أدخلها في جيبه ثم أخرجها فإذا هي تبرق مثل البرق ، لها شعاع غلب نور الشمس ، فخروا على وجوههم ، ثم أدخلها إلى جيبه فعادت كما كانت (٣).

فلما شاهدوا هذه الخوارق نسبوه إلى السحر ، فذلك قوله حاكيا عنهم : (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ).

فإن قيل : القصة واحدة ، فكيف عزا هذا القول هاهنا إلى الملأ ، وعزاه في الشعراء إلى فرعون فقال : (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)؟

قلت : إما أن يكون القول صدر منه ومنهم ، فحكاه سبحانه تعالى في أحد الموضعين عنه ، وفي الآخر عنهم. وإما أن يكون ابتداء القول من فرعون ، فتلقّاه الملأ فقالوه لمن دونهم في الرتبة على قبيل التبليغ.

والمعنى : إن هذا لساحر حاذق يعلم السحر ، يأخذ بأعين الناس بخداعه إياهم حتى يخيل إليهم الشيء بخلاف ما هو عليه ، ومنه : سحر المطر الأرض ؛ إذا قلع

__________________

(١) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٣٩٢).

(٢) انظر : الطبري (٩ / ١٥) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٢).

(٣) أخرج نحوه الطبري (٩ / ١٥) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٣٣). وانظر نص المصنف في : زاد المسير (٣ / ٢٣٨).

٢١٦

نباتها من أصوله ، وقلب الأرض ظهرا لبطن (١).

(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) يعني : يريد أن يخرجكم أيها القبط من أرض مصر (فَما ذا تَأْمُرُونَ) أي : ماذا تشيرون به عليّ ، من قولك : أمرته فأمرني بكذا ، أي : استشرته فأشار عليّ بكذا. وهذا من تمام كلام فرعون.

وقيل : من تمام كلام الملأ لفرعون وخاصته ، أو له وحده ، على مذهب التعظيم ، أو لمن دونه في الرتبة يستخرجون ما عندهم من الرأي.

والأول ـ وهو اعتقاد كونه من قول فرعون ـ أجود ؛ توفيقا ما بين هذا الموضع وبين ما في سورة الشعراء ، ولقوله عقيبه : (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ).

قرأ نافع وأهل الكوفة : «أرجه» بغير همز ، هنا وفي الشعراء (٢) ، غير أن عاصما وحمزة سكّنا الهاء ، وكسرها قالون. ووصلها بياء في الوصل : ورش والكسائي ، وهمزها الباقون ، غير أن أبا عمرو يضم الهاء ، وابن ذكون يكسرها (٣) ، وهشاما وابن كثير يصلانها بواو في الوصل والهمز (٤) ، وتركه لغتان صحيحتان. تقول : أرجأته وأرجيته ، بمعنى : أخّرته (٥).

__________________

(١) انظر : اللسان (مادة : سحر).

(٢) عند الآية رقم : ٣٦.

(٣) قال أبو بكر : وقول ابن ذكوان هذا وهم ؛ لأن الهاء لا يجوز كسرها وقبلها همزة ساكنة ، وإنما يجوز إذا كان قبلها ياء ساكنة أو كسرة ، وأما الهمز فلا.

(٤) الحجة للفارسي (٢ / ٢٥٥ ـ ٢٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٩ ـ ٢٩١) ، والكشف (١ / ٤٧٠) ، والنشر (٢ / ١٠٧) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٧ ـ ٢٢٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٧ ـ ٢٨٩).

(٥) انظر : اللسان (مادة : رجأ).

٢١٧

قال الفراء (١) : بنو أسد يقولون : أرجيت الأمر بغير همز ، وكذلك عامة قيس ، وبعض بني تميم يقولون : أرجأت الأمر بالهمز ، والقراء مولعون بهمزها ، وترك الهمز أجود.

وجميع القراءات التي فيها جيدة ، غير أن الزجاج قال (٢) : من قرأ : «أرجه» بإسكان الهاء فلا [يعرفها](٣) الحذاق بالنحو ، ويزعمون أن هاء الإضمار اسم لا يجوز إسكانها.

قال (٤) : وزعم بعض النحويين أن إسكانها جائز ، وقد رويت لعمري في القراءة ، إلا أن التحريك أكثر وأجود.

ومعنى الكلام : أخّرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما.

(وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ) أي : مدائن مصر ، (حاشِرِينَ) رجالا يحشرون حذّاق السحرة ويجمعونهم إليك ، ألا تراه يقول : (يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ).

قرأ حمزة والكسائي : «سحّار» بلفظ المبالغة هنا وفي يونس (٥) ، على وزن [فعّال](٦) ، وقرأهما الباقون : «ساحر» بوزن فاعل. واتفقوا على التي في الشعراء (٧)

__________________

(١) لم أقف عليه في معاني الفراء. وانظر قول الفراء في : زاد المسير (٣ / ٢٣٩).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٦٥).

(٣) في الأصل : يعرفه. والتصويب من معاني الزجاج ، الموضع السابق.

(٤) أي : الزجاج.

(٥) عند الآية رقم : ٧٩.

(٦) في الأصل : فاعل. وهو خطأ. والصواب ما أثبتناه.

(٧) عند الآية رقم : ٣٧.

٢١٨

فقرؤوها : «سحّار» بتشديد الحاء بلفظ المبالغة (١).

قوله تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ) قال المفسرون : لم يترك في سلطانه ساحرا إلا أحضره ، وكانوا إذ ذاك متوافرين.

وقد اختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون اختلافا متنافرا ؛ فروي عن ابن عباس ثلاث روايات :

إحداها : أنهم اثنان وسبعون. والثانية : سبعون. والثالثة : اثنان وسبعون ألفا (٢).

وقال عطاء : سبعون ألفا (٣). وروي مثله عن وهب وقال : فاختار منهم سبعة آلاف (٤).

وقال الحسن : خمسة وعشرون ألفا (٥).

وقال ابن إسحاق : خمسة عشر ألفا (٦).

وقيل : غير ذلك. والله تعالى أعلم بعددهم.

قال ابن إسحاق : رؤوس السحرة : ساتور ، وعاذور ، وحطحط ، ومصفى ،

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٩١ ـ ٢٩٢) ، والكشف (١ / ٤٧١) ، والنشر (٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٩).

(٢) زاد المسير (٣ / ٢٤٠).

(٣) انظر : المصدر السابق.

(٤) زاد المسير (٣ / ٢٤١).

(٥) مثل السابق.

(٦) مثل السابق.

٢١٩

وهم الذين آمنوا (١). كذا حكاه ابن ماكولا (٢).

قال مقاتل (٣) : واسم أكبرهم : شمعون.

(قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً) قرأ الحرميان وحفص : «إن لنا» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر (٤). وقرأ الباقون بالاستفهام ، على ما عرف من تفاصيل مذهبهم.

قال أبو علي الفارسي في هذه القراءة (٥) : هو أشبه بهذا الموضع ؛ لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر ، وإنما استفهموا عنه.

(قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فضمن لهم الأجر عليه وزادهم قربهم إليه.

والمعنى : إنكم لمن المقربين عندي في المنزلة إن غلبتم موسى.

ويروى : أن السحرة قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما ، ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر ؛ [لأن الساحر](٦) إذا نام بطل سحره ، [فأبى](٧) إلا أن يعارضوه (٨).

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٨ / ٢٧٦٦). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥١٥) وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) الإكمال (٤ / ٢٤٩).

(٣) تفسير مقاتل (١ / ٤٠٨).

(٤) الحجة للفارسي (٢ / ٢٥٨) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٩٢) ، والكشف (١ / ٤٧٢) ، والنشر (٢ / ٢٧١) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٨) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٩).

(٥) الحجة (٢ / ٢٥٨).

(٦) زيادة من الكشاف (٣ / ٧٨).

(٧) في الأصل : فأبوا. والتصويب من الكشاف ، الموضع السابق.

(٨) ذكره الزمخشري في الكشاف (٣ / ٧٨). وانظر : البغوي (٣ / ٢٢٥).

٢٢٠