رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي

رموز الكنوز في تفسير الكتاب العزيز - ج ٢

المؤلف:

عزّ الدين عبدالرزاق بن رزق الله الرسعني الحنبلي


المحقق: عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الأسدي للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٤٤

وقول الآخر :

وعلفتها تبنا وماء باردا

 ..................(١)

وقد سبق تقدير مثله.

ويجوز أن يكون المعنى : أفيضوا علينا من الماء ، أو أفيضوا علينا مما رزقكم الله من سائر الأشربة غير الماء التي يحسن إطلاق الإفاضة عليها.

وقال الزجاج (٢) : أعلم الله عزوجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب وإن كان معذّبا ، وهو قول عامة المفسرين.

فإن قيل : كيف سألوا الممتنع وهو تنعّمهم بما اختص به أهل الجنة؟

قلت : ما هذا بأول أطماعهم الكاذبة ، وأمانيهم الخائبة ، فإنهم مع إياسهم وقنوطهم يستغيثون من شدة عذابهم : (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] وينادون : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ* رَبَّنا

__________________

ـ والإنصاف (٢ / ٦١٢) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٥٠) ، والكامل (١ / ٣٣٤) ، ومجاز القرآن (٢ / ٦٨) ، وتأويل المشكل (ص : ٢١٤) ، وشرح القصائد العشر (ص : ٢٤٧) ، والمقتضب (٢ / ٥٠) ، والطبري (١ / ٦١) ، والقرطبي (٦ / ٩٥) ، والبغوي (٣ / ٣٦٣) ، وزاد المسير (٨ / ١٣٨).

(١) صدر بيت لذي الرمة ، وعجزه : (حتى شتت همّالة عيناها). انظر ملحقات ديوانه (٣ / ١٨٦٢) ، ومعاني الفراء (١ / ١٤ ن ٣ / ١٢٤) ، وتأويل المشكل (ص : ٢١٣) ، والخصائص (٢ / ٤٣١) ، وشرح المفصل لابن يعيش (٢ / ٨) ، والإنصاف (٢ / ٦١٣) ، وأوضح المسالك (١ / ٢٩٨) ، والخزانة (١ / ٤٩٩) ، والهمع (٢ / ١٣٠) ، والعيني (٣ / ١٠١) ، وشرح المفضليات (١ / ١٢٦) ، وأمالي ابن الشجري (٢ / ٣٢١) ، واللسان (مادة : قلد).

(٢) معاني الزجاج (٢ / ٣٤٤).

١٤١

أَخْرِجْنا مِنْها) [المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧] ، وهذا شأن المتجن ، يتعلل ما لا يجدي عليه نفعا ، ويستغيث بمن لا يستطيع عنه دفعا.

(قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) يعني : الطعام والشراب في الآخرة على الكافرين في الدنيا ، وهذا تحريم منع (١) لا تحريم تعبد وتكليف.

ثم وصف الكافرين فقال : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ) يعني : دينهم الذي شرع لهم وأمروا بالاعتصام به ، (لَهْواً وَلَعِباً).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد : المستهزئين (٢).

وقيل : اتخذوا دينهم الذي كانوا عليه من أمر البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي ، وغير ذلك من الخصال المنكرة شرعا وعقلا.

(فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) أي : نتركهم في العذاب أو نفعل بهم فعل الناسين ، (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) أهملوه ولم يستعدوا للقائه كفرا به واستخفافا بشأنه.

وقد روى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا ، وسخرت لك الأنعام والحرث ، وتركتك ترأس وترباع ، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟

__________________

(١) كقول القائل :

حرام على عيني أن تطعما الكرى

 ...................

(انظر : البحر المحيط ٤ / ٣٠٧). وقال الآلوسي (٨ / ١٢٦) : أي منع كلا منهما ، أو منعهما منع المحرم عن المكلف ، فلا سبيل إلى ذلك قطعا ولا يحمل على معناه الشائع ، لأن الدار ليست بدار تكليف.

(٢) ذكره الواحدي في الوسيط (٢ / ٣٧٤) ، وزاد المسير (٣ / ٢٠٩).

١٤٢

فيقول : لا ، فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني» (١).

قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب.

و «ما» في قوله : (وَما كانُوا) في موضع جر عطفا على «ما» التي قبلها (٢).

والمعنى : وما كانوا بآياتنا التي ظهرت دلائل إعجازها وبهرت الفصحاء بدائع حقائقها وأساليب مجازها ، (يَجْحَدُونَ) أي : ينكرونها مع العلم بصحتها.

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) وهو القرآن ، (فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) أي : بينا أحكامه ومواعظه.

«على علم» : في محل الحال من ضمير الفاعل في «فصلناه» (٣).

والمعنى : على علم منا بما يصلحكم ، أو على بما فصلناه ، فجاء سليما قويما غير ذي عوج ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٦١٩ ح ٢٤٢٨).

(٢) انظر : الدر المصون (٣ / ٢٧٨).

(٣) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٧٥) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٨).

١٤٣

وقرأ جماعة ـ منهم : ابن السميفع ـ : «فضلناه» (١) ، على سائر الكتاب.

(هُدىً وَرَحْمَةً) حالان من المفعول في «فصلناه» (٢).

قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ) أي : هل ينظرون إلا عاقبة ما وعدهم به من العذاب والعقاب والحساب وبعث الأجساد يوم المعاد.

(يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) وهو يوم القيامة ، (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ) وهم الذين تقدم ذكرهم ، (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) أي : بالصحة والصدق ، وهو اعتراف حملهم عليه فرط ما عندهم من الندامة ، (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) قالوا ذلك حين رأوا انتفاع الموحدين الذين عذبوا بذنوبهم الذي كانت عليهم ، ثم أخرجوا بالشفاعة ، (أَوْ نُرَدُّ) أي : أو هل [نرد](٣) إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ) جواب الاستفهام بالفاء (٤).

وقرأ ابن أبي إسحاق : «أو نرد» بالنصب ، عطفا على" فيشفعوا لنا" (٥) ، أو تكون «أو» بمعنى حتى.

وقرأ الحسن : بنصب «نرد» ، ورفع «فنعمل» (٦) ، أي : فنحن نعمل (غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).

__________________

(١) انظر هذه القراءة في : زاد المسير (٣ / ٣١٠) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٨).

(٢) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٧٦) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٩).

(٣) في الأصل : ترد.

(٤) انظر التبيان (١ / ٢٧٦) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٩).

(٥) انظر هذه القراءة في : البحر المحيط (٤ / ٣٠٨) ، والدر المصون (٣ / ٢٧٩).

(٦) انظر : إتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٥).

١٤٤

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٥٤)

قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) في مقدار ستة أيام ؛ لأن اليوم عبارة عن الزمان الكائن من طلوع الشمس إلى غروبها ، ولم يكن إذ ذلك شمس ولا سماء ، ولا فلك دوائر ، ولا ليل ولا نهار.

وقد روي عن ابن عباس : أن مقدار كل يوم من الستة : ألف سنة. وإليه ذهب كعب ومجاهد والضحاك (١).

قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رضي الله عنه (٢) : ولو قال قائل إنها كأيام الدنيا كان قوله بعيدا ، من وجهين :

أحدهما : خلاف الآثار.

والثاني : الذي يتوهمه المتوهم من الإبطاء في ستة آلاف سنة يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢].

قلت : وقد قيل أنها كأيام الدنيا ، وهو الذي يقوى في نظري. ويدل على صحته وجوه :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٧ / ٢٦١ ح ٣٥٨٩٤) ، والطبري (٨ / ٢٠٥) كلاهما عن مجاهد ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٤٩٦) عن ابن عباس. وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٢١١). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٧٢) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن مجاهد.

(٢) زاد المسير (٣ / ٢١١ ـ ٢١٢).

١٤٥

أحدها : ما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : «أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي فقال : خلق الله عزوجل التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» (١).

وجه الحجة من الحديث : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر بأن الله تعالى خلق المخلوقات المذكورة في هذه الأيام ، فإما أن يريد هذه الأيام التي نعرفها أو زمانا يماثلها في قدرها ، على معنى : خلق الله التربة في مثل يوم السبت ، وكذلك التقدير في سائر الأيام ، وأيا ما كان فمقصودنا حاصل.

الثاني : أن الذي ذكرناه هو المتبادر إلى الأذهان والأفهام عند إطلاق الأيام ، وهو الظاهر فيجب المصير إليه ما لم يصرف عنه دليل نقلي أو عقلي. وقول بعض العلماء معارض بمثله.

الثالث : أن المقصود تعريف العباد مقدار زمن الخلق بما يتعارفونه من الأزمان المعبر عنها بالأيام ، فوجب صرف اللفظ إلى ما يعرفونه.

الرابع : أنه سبحانه وتعالى نبه عباده بما ذكره على عظيم قدرته جلت عظمته. ومعقول أن حمل الأيام على ما نتعارفه أدل على القدرة العظيمة من حملها على ستة آلاف سنة.

الخامس : قوله تعالى في موضع آخر : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٤٩ ح ٢٧٨٩).

١٤٦

بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] أي : نصب وتعب ، نفى سبحانه وتعالى عن نفسه اللغوب حين ذكر ما دل على عظيم اقتداره وبديع صنعته من خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ولامرية أن هذا المعنى بالأيام المعلومة أشبه.

فإن قيل : ما الحكمة في إن شاء الخلق في هذا الزمن المتطاول ، والله تعالى قادر على إيجاده في أقرب الأزمان؟

قلت : فيه حكم ؛ منها : إظهار عظمته للملائكة بما يبدي في كل يوم من عجائب قدرته وبدائع صنعته ولطائف حكمته ، وتنبيههم على شرف من ابتدع هذه المخلوقات لأجلهم ، واخترع هذه المصنوعات لمصالحهم ، فإن إنشاء هذه الأشياء شيئا فشيئا أبلغ في الحكمة وأوقع في الصدور من وقوعها جملة واحدة.

ومنها : تعليم العباد الرفق والتثبت في الأمور ؛ لأنه إذا تثبت من لا يجوز تطرق الزلل إليه ، فتثبت من يجوز عليه أولى.

قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قال الخليل بن أحمد : العرش : السرير ، وكل سرير لملك يسمى عرشا (١).

قال مجاهد : ما السماوات والأرض في العرش إلا مثل حلقة بأرض فلا ة (٢).

وقال كعب : إن السماوات والأرض في العرش كالقنديل معلقا بين السماء

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٢١٢).

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٩٢٠). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٣٥) وعزاه لسعيد بن منصور وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.

١٤٧

والأرض (١).

وقيل : إن العرش ياقوتة حمراء (٢).

وضل قوم فقالوا : العرش بمعنى : الملك (٣) ، وهو قول يشهد ببطلانه الكتاب والسنة والإجماع واللغة ، وقد ذكر أمية بن أبي الصلت في شعائره فقال :

احمدوا الله فهو للحمد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى الذي سبق النا

س ، وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا (٤) لا يناله ناظر العي

ن ، ترى دونه الملائك صورا (٥)

يشير إلى معنى قوله : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥].

فصل

مذهب أهل الحق في هذه الآية وأمثالها من آيات الصفات وأخبار الصفات : الإقرار والإيراد ، من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل. وإلى هذا وأمثاله أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «وسكت عن أشياء رحمة لكم فلا تبحثوا عنها» (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم (٦ / ١٩٢٠). وذكره ابن الجوزي في زاد المسير (٣ / ٢١٢) ، والسيوطي في الدر (٤ / ٣٣٥) وعزاه لا بن أبي حاتم.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٥ / ١٤٩٧ ، ٦ / ١٩٢٠) ، وأبو الشيخ في العظمة (٢ / ٥٨١ ح ٢٦) كلاهما من حديث سعد الطائي. وانظر : زاد المسير (٣ / ٢١٣). وذكره السيوطي في الدر (٤ / ٣٣٤) وعزاه لا بن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة عن سعد الطائي.

(٣) انظر : الماوردي (٢ / ٢٣٠) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٤) الشرجع : الطويل (لسان العرب ، مائدة : شرجع).

(٥) انظر الأبيات في : تأويل مختلف الحديث (١ / ٦٧ ، ٢٧٣) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٢).

(٦) أخرجه البيهقي في الكبرى (١٠ / ١٢) ، والدارقطني (٤ / ١٨٤).

١٤٨

وقيل للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه : كيف استوى؟ فقال : الكيف مجهول ، والاستواء معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة (١).

ولو استقصيت ما ورد في الزجر عن الخوض في آيات الصفات عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم لطال ذلك ، ويكفي الإنسان في هذا الثابت.

ولك قول الشافعي رضي الله عنه : آمنت بالله وما جاء من عند الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

فإن قيل : فما تقول فيما روي عن الفراء وأبي العباس والزجاج : أن المعنى : عمد إلى خلق العرش وأقبل إليه بعد خلق السماوات والأرض ، وقول قوم : أن استوى بمعنى : استقر ، وقول بعضهم : أنه بمعنى : استولى (٣) ، وأنشدوا فيما زعموا قول الشاعر :

حتى استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (٤)

وقول الآخر :

__________________

(١) انظر : البغوي (٢ / ١٦٥) ، والقرطبي (١ / ٢٥٤) ، والبحر المحيط (٤ / ٣١٠ ـ ٣١١).

(٢) انظر : ذم التأويل (ص : ١١ ، ٤٤).

(٣) وهو قول المعتزلة وجماعة من المتكلمين. انظر : الماوردي (٢ / ٢٢٩) ، والبغوي (٢ / ١٦٥) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٤) البيت للبعيث ، وهو خداش بن بشر. انظر البيت في : رصف المباني (ص : ٤٣١) ، والقرطبي (٧ / ٢٢٠) ، والوسيط (٢ / ٣٧٦) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٣) ، والدر المصون (١ / ١٧٢) ، وروح المعاني (٨ / ١٣٥) ، والماوردي (٢ / ٢٢٩).

١٤٩

هما استويا بفضلهما جميعا

على سرر الملوك بغير زور (١)

قلت : أما قول أهل اللغة ؛ فغايته أن العرب تستعمل هذه الكلمة بالمعنى الذي ذكروه ثم ، وهو مسلم ، فلم قالوا بأنه هاهنا هو المراد مع تجويز غيره من المعاني ، ولأن قالوا بأنه معنى جائز الإرادة فيكون مرادا فعارضهم بمثله.

وأما قول الذين قالوا أنه بمعنى : استقر ، فنقول لهم : ما معنى الاستقرار هاهنا؟ فإن فسره بالمعنى المتبادر إلى الأفهام ، فلا يخفى ما في ذلك من المحذور ، حيث أثبتوا لله صفة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ، ولم يساعد عليها دليل العقل ، وإن لم يفسروه بالمعنى المتبادر إلى الأفهام ، فلا يخلو : إما أن يفسروا الاستقرار بشيء معلوم أولا ، وإن فسروه بشيء معلوم ورد عليهم من الكلام ما ورد عليهم في تفسير الاستقرار بالمعنى المتبادر إلى الأفهام من كونهم أثبتوا لله صفة من غير كتاب ولا سنة ، وإن لم يفسروه بشيء فليقتصروا أولا على تلاوة الآية ، والإيمان بالاستواء على المعنى الذي أراده الله كما قلنا.

وأما قول الذين قالوا أنه بمعنى : استولى ، فغير صحيح من جهة نقل اللغة ومن جهة المعنى.

قال ابن الأعرابي : العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى ، ومن قال ذلك فقد أعظم (٢).

وقال ابن فارس : البيتان لا يعرف قائلها (٣).

__________________

(١) البيت في : البحر المحيط (٤ / ٣١٠) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٢) انظر : البحر المحيط (٤ / ٣١٠) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٣) انظر : زاد المسير (٣ / ٢١٣).

١٥٠

وقال جماعة من حذاق العلماء : إنما يقال : استولى فلان على كذا ؛ إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه ، [ثم تمكن](١) منه ، والله تعالى لم يزل مستوليا على الأشياء (٢).

قال الأستاذ أبو إسحاق الثعلبي رحمه‌الله (٣) : قال أهل الحق من المتكلمين : أحدث الله فعلا سماه : استواء ، وهو كالإتيان والمجيء والنزول ، كلها من صفات أفعاله.

سأل رجل الأوزاعي عن قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] فقال : هو على العرش كما وصف نفسه ، وإني لأراك رجلا ضالا.

قال الثعلبي (٤) : وبلغني أن رجلا سأل إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقال : كيف استوى على العرش؟ أقائم هو أم قاعد؟ فقال : يا هذا إنما يقعد من يملّ القيام ، ويقوم من يملّ القعود ، وغير هذا أولى بك أن تسأل عنه.

قال الشريف القاضي أبو علي بن أبي موسى الهاشمي ـ من علمائنا ـ رضي الله عنه : اختلف أصحابنا هل الاستواء من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ على طريقين :

منهم : من قال إنه من صفات الفعل ، غير أنه لا يعلم كيفيته ، ولا نقول أنه انتقال من مكان إلى مكان ، ولكنا نسلمه ونقول فيه كما نقول في حديث النزول.

ومنهم من قال : إنه من صفات الذات ، لم يزل مستويا قبل خلق العرش من

__________________

(١) في الأصل : فلم يتمكن. والمثبت من زاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٢) انظر : زاد المسير (٣ / ٢١٣).

(٣) الثعلبي (٤ / ٢٣٩).

(٤) الثعلبي ، الموضع السابق.

١٥١

غير تكييف.

ومن أصحابنا من تأول الاستواء على معنى الارتفاع.

قال الشريف رحمه‌الله : فأنا لا أقول في ذلك إلا ما قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه : استوى كما قال ، بلا حدّ ولا كيف.

قلت : وعلى هذا القول الذي قاله الشريف وارتضاه ، وجدت علماءنا وأشياخنا الذين بالشام والعراق ، وله نعتقد ، وعليه نعتمد ، وبه نقول.

وقد صنّف شيخنا الإمام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي كتابا سمعناه عليه ، يخص هذه المسألة ، وجمع فيه ما صح في الأخبار والآثار الدالة على أن الله تعالى مستوي على عرشه فوق سبع سماواته ، وذكر فيه ما لا يجد المسلم المتّبع لشريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدّا من الانقياد إلى تسليمه والإيمان به ، فمن أراد الوقوف على دلائلنا السمعية وبراهيننا القطعية فليقف عليه ؛ ليستبين له الصواب ، ويعرف المبتدع من المتبع للسنة والكتاب. نسأل الله أن يعافينا مما ابتلي به فرق الضلال من أمراض الشك في عقائدهم ، وأن يثبت قلوبنا على سنة نبيه ، وأن يلهمنا العمل بكتابه ، إنه قريب مجيب.

قوله تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) وقرأ أهل الكوفة إلا حفصا : «يغشّي» بالتشديد. وقرأ الباقون : بالتخفيف (١) ، وكذلك في الرعد (٢).

والمعنى : يلبس الليل النهار حتى يذهب بضيائه ، أو يلبس النهار الليل حتى

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٤٠) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٤) ، والكشف (١ / ٤٦٤) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٦٩) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٥) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٢).

(٢) عند الآية رقم : ٣.

١٥٢

يذهب بظلامه ، فإن اللفظ يحتمل المعنيين ، والأول أكثر وأشهر عند علماء التفسير.

قال أبو علي الفارسي (١) : إنما لم يقل : يغشي النهار الليل ؛ لأنه معلوم من فحوى الكلام ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

(يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) ، سريعا من غير فتور ، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ) رفعهنّ ابن عامر على الاستئناف ، ونصبهنّ الباقون على النسق (٢) ، تقديره : خلق السموات وخلق هذه الأشياء ، ونصب «مسخرات» على الحال (٣) ، والمعنى : مذلّلات لما يراد منهن ، (بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ) فله تسخيره وتدبيره ، (وَالْأَمْرُ) فله قضاؤه وتقديره.

وقيل : المعنى : ألا إليه إعادة الخلق وعليه مجازاتهم.

(تَبارَكَ اللهُ) قال الضحاك : تعظّم (٤).

وقال مجاهد : تمجّد (٥).

وقال أبو العباس : «تبارك الله» : ارتفع ، والمتبارك : المرتفع (٦).

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٤١).

(٢) الحجة للفارسي (٢ / ٢٤١) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٤) ، والكشف (١ / ٤٦٥) ، والنشر (٢ / ٢٦٩) ، والإتحاف (ص : ٢٢٥) ، والسبعة (ص : ٢٨٢ ـ ٢٨٣).

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٢٨١).

(٤) ذكره البغوي (٣ / ٣٦٠).

(٥) ذكره الآلوسي في : روح المعاني (١٨ / ٢٣٠) من قول الخليل.

(٦) الوسيط (٢ / ٣٧٦) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٤). وقال الأزهري : تبارك : تعالى وتعاظم وارتفع (انظر : تهذيب اللغة ١٠ / ٢٣٠).

١٥٣

وقال ابن قتيبة والزجاج (١) : تفاعل ، من البركة.

واعلم أن أصل البركة : زيادة الخير وكثرته. فقوله : " تبارك الله" يحتمل معنيين :

أحدهما : تزايد خيره وتكاثر.

والثاني : تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، وإلى هذين المعنيين تؤول أقوال المفسرين.

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(٥٦)

قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) انتصبا على المصدر أو الحال (٢) ، بمعنى : ذوي تضرع وخفية ، وكذلك (خَوْفاً وَطَمَعاً).

والتضرع : التذلل والخضوع.

والمعنى : سلوا ربكم واطلبوا منه ما يصلحكم في الدنيا والآخرة متضرعين متملّقين محقين ذلك.

قال الحسن البصري رضي الله عنه : إن الله يحب القلب التقي والدعاء الخفي ، إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره ، ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت إن كان ، إلا همسا بينهم وبين

__________________

(١) معاني الزجاج (٤ / ٥٧).

(٢) انظر : التبيان للعكبري (١ / ٢٧٦) ، والدر المصون (٣ / ٢٨٢).

١٥٤

ربهم ، وذلك أن الله يقول : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال تعالى : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(١) [مريم : ٣].

أخبرنا حنبل بن عبد الله بن الفرج كتابة ، أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن الحصين ، أخبرنا أبو علي ابن المذهب ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي ، حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي عثمان النهدي ، عن أبي موسى الأشعري قال : «كنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة فجعلنا لا نصعد شرفا ، ولا نهبط واديا ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير. قال : فدنا منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا ، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته. يا عبد الله بن قيس : ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله» (٢). هذا حديث متفق على صحته ، أخرجه البخاري عن محمد بن المقاتل ، عن ابن المبارك. وأخرجه مسلم عن ابن راهويه ، عن عبد الوهاب ، كلاهما عن خالد الحذاء.

قوله تعالى : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) يعني : ذوي الاعتداء في الدعاء ؛ كاللاعنين والداعين بالشر للمسلمين.

وقال ابن جريج : الاعتداء هاهنا : رفع الصوت (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) ، وابن المبارك في الزهد (ص : ٤٥). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٧٦) وعزاه لابن المبارك وابن جرير وأبي الشيخ.

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٢٤٣٧ ح ٦٢٣٦) ، ومسلم (٤ / ٢٠٧٧ ح ٢٧٠٤) ، وأحمد (٤ / ٤٠٢).

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٧). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٧٦) وعزاه لابن جرير.

١٥٥

وقال أبو مجلز : هو أن يسأل ما لا يستحقه من منازل الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام (١).

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، أنه سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من ذلك ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها ، فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء وقرأ هذه الآية : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل» (٢).

قوله تعالى : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) يعني : بالكفر والمعاصي وسفك الدماء ، (بَعْدَ إِصْلاحِها) يعني : بعد إصلاح الله إياها بإرسال الأنبياء وبيان الشرائع. هذا قول جمهور المفسرين.

وقال عطية : لا تعصوا في الأرض ، فيمسك الله المطر ، ويهلك الحرث بمعاصيكم (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري (٨ / ٢٠٧) ، وابن أبي حاتم (٥ / ١٥٠٠). وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٤٧٥) وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ١٧٢ ح ١٤٨٣).

(٣) الوسيط (٢ / ٣٧٧) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٥).

قال أبو حيان في البحر المحيط (٤ / ٣١٣) : هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض ، وإدخال ماهيّته في الوجود ، فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأنساب والأموال والعقول والديان. وقال : وما روي عن المفسرين من تعيين نوع الإفساد والإصلاح ، ينبغي أن يحمل ذلك على ـ

١٥٦

فعلى هذا معنى قوله : " بعد إصلاحها" : بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) قال ابن عباس : خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه (١).

(إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) قال سعيد بن جبير : الرحمة هاهنا : الثواب (٢).

وقال الزجاج (٣) : إنما قيل «قريب» ؛ لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد.

وقال الأخفش (٤) : الرحمة بمعنى الإنعام ، فلذلك ذكّر.

وقال النضر بن شميل (٥) : الرحمة مصدر ، ومن حق المصادر التذكير ، كقوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) [البقرة : ٢٧٥].

(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)(٥٨)

__________________

ـ التمثيل ، إذ ادّعاء تخصيص شيء من ذلك لا دليل عليه.

(١) الوسيط (٢ / ٣٧٧) من قول ابن عباس ، والطبري (٨ / ٢٠٧) ، وزاد المسير (٣ / ٢١٦) بلا نسبة.

(٢) الوسيط (٢ / ٣٧٨).

(٣) معاني الزجاج (٢ / ٣٤٤).

(٤) انظر : معاني الأخفش (ص : ١٩٣).

(٥) هذا قريب من قول الزجاج ؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ. انظر : الوسيط (٢ / ٣٧٨).

١٥٧

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) قرأ الحرميان وأبو عمرو : بضم النون والشين ، وافقهم ابن عامر إلا أنه أسكن الشين ، ومثله حمزة والكسائي ، إلا أنهما فتحا النون. وقرأ عاصم : «بشرا» بالباء المضمومة وسكون الشين (١) ، وهكذا اختلافهم في التي في الفرقان (٢) والنمل (٣) ، فالقراءة الأولى والثانية جمع نشور ، كرسول ورسل. والنّشر : الريح الطيبة الهبوب ، تهب من كل جانب (٤).

قال أبو عبيدة (٥) : النّشر : المتفرقة من كل جانب.

وقيل : النشور بمعنى المنشور ، كالركوب بمعنى المركوب. يقال : أنشر الله الريح فنشرت ، أي : أحياها فحييت.

وأما ابن عامر فإنه خفف الشين ، مثل : كتب ورسل.

وأما القراءة الثالثة فمصدر ، أو مصدر في موضع الحال (٦).

قال أبو علي (٧) : يحتمل النشر أن يكون خلاف الطيّ ، كأنها كانت بانقطاعها

__________________

(١) الحجة للفارسي (٢ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣) ، والحجة لابن زنجلة (ص : ٢٨٥ ـ ٢٨٦) ، والكشف (١ / ٤٦٥) ، والنشر لابن الجزري (٢ / ٢٧٠) ، وإتحاف فضلاء البشر (ص : ٢٢٦) ، والسبعة في القراءات (ص : ٢٨٣).

(٢) عند الآية رقم : ٤٨.

(٣) عند الآية رقم : ٦٣.

(٤) انظر : اللسان (مادة : نشر).

(٥) مجاز القرآن (١ / ٢١٧).

(٦) انظر : الدر المصون (٣ / ٢٨٥).

(٧) الحجة (٢ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦).

١٥٨

كالمطوية ، ويحتمل أن يكون معناها المتفرقة في الوجوه ، ويحتمل أن يكون من النشر الذي هو الحياة ، كقول الشاعر :

 ..........

يا عجبا للميّت الناشر (١)

قال (٢) : وهذا هو الوجه.

وأما القراءة الرابعة فجمع بشير ؛ كرغيف ورغف ، وسكنت الشين تخفيفا ، والنصب فيها على الحال (٣) ، والمعنى : أرسلها مبشرة ليجيء الغيث ، وهو قوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) يعني : حملت الريح.

(سَحاباً) قال الزجاج (٤) : جمع سحابة.

قال ابن فارس (٥) : سمّي بذلك ؛ لانسحابه في الهواء.

(ثِقالاً) بما فيها من الماء ، (سُقْناهُ) أي : سقنا السحاب ، رد الكناية إلى لفظه وهو واحد ، (لِبَلَدٍ) أي : إلى بلد أو لأجل بلد ، (مَيِّتٍ) [بالجدب](٦) ، (فَأَنْزَلْنا بِهِ) أي : بالسحاب أو بالسوق أو بالبلد ، (فَأَخْرَجْنا بِهِ) : يحتمل الوجوه المذكورة

__________________

(١) عجز بيت للأعشى ، من قصيدة يهجو فيها علقمة بن علاثة ، ويمدح عامر بن الطفيل ، في المنافرة التي جرت بينهما. وصدر هذا البيت : (حتى يقول النّاس ممّا رأوا). انظر : ديوانه (ص : ١٩١) ، ومعاني الفراء (١ / ١٧٣) ، ومجاز القرآن (٢ / ٧٠ ، ١٥٣ ، ٢٠٢ ، ٢٨٦) ، والأمالي للزجاج (ص : ٧٩) ، وتهذيب اللغة (١١ / ٣٣٨) ، والخصائص (٣ / ٣٢٥) ، واللسان (مادة : نشر).

(٢) أي : أبو علي الفارسي.

(٣) انظر : الدر المصون (٣ / ٢٨٥).

(٤) معاني الزجاج (٢ / ٣٤٥).

(٥) معجم مقاييس اللغة (٣ / ١٤٢).

(٦) في الأصل : بالجذب.

١٥٩

في الضمير الذي قبله.

والأحسن ـ والله أعلم ـ أن يكون المعنى : فأنزلنا بذلك البلد الماء ، فأخرجنا بالماء (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الإخراج الذي أشرنا إليه (نُخْرِجُ الْمَوْتى) من قبورهم أحياء ، (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فتستدلوا بأحد الإخراجين على الآخر.

قال ابن عباس : يرسل الله بين النفختين مطرا كمنيّ الرجال ، فينبت الناس في قبورهم كما نبتوا في بطون أمهاتهم (١).

أخبرنا الشيخان أبو القاسم السلمي وأبو بكر الصوفي قالا : أخبرنا عبد الأول بن عيسى ، أخبرنا أبو الحسن الداودي ، أخبرنا ابن أعين ، أخبرنا الفربري ، حدثنا البخاري ، حدثني محمد ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين النفختين أربعون. قال : أربعون يوما. قال : أبيت. قال : أربعون شهرا. قال : أبيت. قال : أربعون سنة. قال : أبيت. قال : ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ، ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» (٢). هذا حديث متفق على صحته. أخرجه مسلم عن محمد بن العلاء عن أبي معاوية أيضا.

والعجب : العظم الذي في أسفل الصلب ، وهو العسيب (٣).

قوله تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) أي : الأرض الطيبة التربة (يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ

__________________

(١) زاد المسير (٣ / ٢١٩ ، ٥ / ٣٩٦).

(٢) أخرجه البخاري (٤ / ١٨٨١ ح ٤٦٥١) ، ومسلم (٤ / ٢٢٧٠ ح ٢٩٥٥).

(٣) انظر : اللسان (مائدة : عجب).

١٦٠