تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ

____________________________________

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (١) ، و ((اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) (٢).

[٤٠] (فَسَوْفَ) في المستقبل (تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يفضحه ويهينه ويذله ، وذلك بالغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) لا يزول عنه ولا يتحول ، وهو عذاب الآخرة الممتد من بعد الموت في القبر ، ثم في جهنم إلى الأبد.

[٤١] (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) «حتى» غاية لحال نوح وحال قومه ، أي بقي نوح يصنع السفينة وبقي القوم على كفرهم يستهزئون منه ، حتى حين مجيء أمرنا بإهلاكهم ونجاة المؤمنين (وَفارَ التَّنُّورُ) بالماء ، فقد كان فوران التنور بالماء علامة لوقت العذاب كي يحمل نوح عليه‌السلام في السفينة المؤمنين (قُلْنَا) أي أوحينا إلى نوح عليه‌السلام : (احْمِلْ فِيها) في السفينة (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) من كل أجناس الحيوانات زوجين ذكر وأنثى ، يطلق «الزوج» على الذكر كما يطلق على الأنثى ، وقد يطلق على الاثنين معا ، فيقال لهما «زوج» ، ولما كان يحتمل في الآية إرادة المعنى الأخير حتى يكون اللازم حمل أربعة من كل جنس ، بيّن «الزوجين» بأن المراد بهما فرد وفرد ، فيصير الحاصل اثنين لا أكثر.

(وَ) احمل في السفينة (أَهْلَكَ) عائلتك ، زوجتك وأولادك

__________________

(١) البقرة : ١٩٥.

(٢) البقرة : ١٦.

٦٠١

إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)

____________________________________

(إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) من تقدم حوله قولنا بأنه من الهالكين من عائلتك وهي زوجة نوح عليه‌السلام واسمها واغلة ، وكانت أما لكنعان الولد الذي هلك بالغرق ، فقد كان لنوح عليه‌السلام زوجتان وأولاد كلهم صالحون إلا هذه المرأة وابنها (وَ) احمل في السفينة (مَنْ آمَنَ) وهم بين ثمانية وثمانين ، كما في الأحاديث ، ولذا قال سبحانه : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) وقد ورد أن نوحا عليه‌السلام نادى الحيوانات فأجابته واجتمعت حوله فأركبها في السفينة ، وذلك ليس على الله بعزيز.

ومن غريب الأمر أن بعض المسلمين الذين فقدوا ثقتهم بنفوسهم أمام الغرب يأوّلون جميع المعاجز مهما تمكنوا ويجعلونها أمورا عادية وقصصا خارجية لا مسحة عليها من الغيب والإعجاز ، وإذا لم يلائم شيء مع هذه الطريقة سمّوه ب «الإسرائيليات» ولم ذلك؟ لأنه معجز خارج عن نطاق مفاهيم الماديين الغربيين. ففي قصتنا مثلا ، يقول : سفينة نوح سفينة عادية صنعت ، و «الوحي حولها» هو الإلهام في القلب كما يلهم قلب كل متعلم بالعلم ، و «حمل نوح عدة حيوانات» مما يملكه نوح من الحيوانات ، وكان الموسم فيضانا والمطر وابل فغرق بعض الناس الذين كانوا في تلك المناطق ، وسلم نوح وقومه المؤمنون.

وهكذا يحرّفون كل خارقة إلى رماد وتراب بعد ما كانت خارقة تأخذ بالأنفس وتدل على رسالة الأنبياء ، فإذا لم يكن في القرآن فهو خرافة وإسرائيليات ، مهما بلغ سنده من الصحة والثبات ، أما إذا كان

٦٠٢

____________________________________

في القرآن فباب التأويل واسع ، ف ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) يراد به انشقاق بعض الأقمار التي دل العلم على وجودها سابقا ثم صارت منشقة بصورة هائلة أي : ابتعاد الأنجم بعضها عن بعض. و ((وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (٢) كانت أسراب طير معها «ميكروب» الوباء فلما اختلطت بالناس ، عدى المرض إليهم فماتوا بالوباء ، وما أشبه هذه التأويلات .. وهكذا هلمّ جرا.

حتى أن بعضهم ـ وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، طبعا ـ ذكر أن المراد ب «الإله» القوة المسيّرة للكون أو الطاقة المحركة للحياة ، و «المعاد» هو حساب التاريخ للإنسان ، و «الجنة» ذكره الطيب المنبعث عن أعماله الحسنة ، و «النار» ذكره السيئ المنبعث عن أعماله القبيحة ..

فلنتساءل : أي فرق بينكم أيها المؤمنون! وبين الماديين؟ وهل أحد ينكر الطاقة ومحاسبة التاريخ والذكر الحسن والسيئ؟ وإذا سألت هؤلاء المنهزمين ، ماذا تصنعون بالنصوص والتصريحات؟ أجابوا بأنها على سبيل الكناية والمجاز ، حسب فهم العرب المخاطبين ..

نقول : إن المؤمن هو من يؤمن بكل نص ، أما أن يكون الإنسان ماديا قلبا ، مسلما صورة فليس ذاك إلا النفاق ، والانهزام أمام بريق الغرب المادي .. ومثل هذه الانهزامية في العقائد ، والانهزامية في الأحكام ، كمن يقول إن الإسلام جمهوري لقوله تعالى في قصة بلقيس : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (٣)؟ ، أو برلماني ، لقوله تعالى : (وَأَمْرُهُمْ

__________________

(١) القمر : ٢.

(٢) الفيل : ٤ و ٥.

(٣) الأعراف : ١١١.

٦٠٣

وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ

____________________________________

شُورى) (١) ، أو اشتراكي ، لقوله : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (٢) ، أو ربوي لقوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) (٣) ، مما يفهم منه جواز أكله بدون أن يصبح أضعافا ، وهكذا .. مما هم بالهوس أقرب منهم إلى الإسلام. وقد رأينا أن معيار هؤلاء هو الغرب فما ذكره فهم تبع له ، فإن وافق الإسلام فهو ، وإلا فاللازم أن يطبق الإسلام عليه ، يا للهراء والسخف!!

[٤٢] (وَقالَ) نوح عليه‌السلام : (ارْكَبُوا فِيها) في السفينة (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي قائلين بسم الله ، وقت جريانها على الماء ، ووقت إرسائها أي وقوفها وحبسها عن المسير ، أو المعنى : بالله إجراؤها وإرساؤها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) وبهاتين الصفتين استحق المؤمنون النجاة.

[٤٣] (وَ) كانت السفينة (هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ) جمع «موجة» وهي ما علا من الماء بسبب دخول الهواء فيه ، فيكون الماء متخلخلا عاليا يسير بسير الهواء واتجاه الرياح ، ومعنى «بهم» أي في حال كونها معهم ، وحال كونهم فيها (كَالْجِبالِ) بارتفاعها وضخامتها (وَنادى نُوحٌ) عليه‌السلام في تلك الحالة (ابْنَهُ) كنعان الذي كان من تلك المرأة

__________________

(١) الشورى : ٣٩.

(٢) المعارج : ٢٥.

(٣) آل عمران : ١٣١.

٦٠٤

وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ

____________________________________

الخائنة (وَكانَ) الابن (فِي مَعْزِلٍ) أي محل عزلة ، لأنه لم يركب معهم في السفينة : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) في السفينة لتنجو (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) حتى تهلك وتغرق.

[٤٤] فأجابه الابن (قالَ سَآوِي) من «أوى يأوي» إذا اتخذ مأوى ومحلّا ، أي سأرجع إلى مأوى (إِلى جَبَلٍ) شاهق لا يعلوه الماء (يَعْصِمُنِي) يحفظني (مِنَ الْماءِ) فلا أغرق ولا أركب معك في السفينة (قالَ) نوح عليه‌السلام : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي لا شيء يحفظ الإنسان من عذاب الله وغرقه الذي قدّره على الكافرين (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) من المؤمنين الذين ركبوا السفينة ، فآمن بالله واركب السفينة كي تنجو ويرحمك الله (وَحالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح وابنه (الْمَوْجُ) جاءت الأمواج حتى لم يشاهد نوح ابنه (فَكانَ) أي صار الابن (مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أغرق وأهلك في جملة الكافرين.

[٤٥] لقد طافت السفينة على الماء أياما ، ونوح والمؤمنون والحيوانات فيها ، وأخذ الماء ينهمر من السماء ويخرج من الأرض حتى غرق الكفار بأجمعهم (وَ) حينذاك (قِيلَ) المراد أن الله سبحانه قال ذلك ، إما بنفسه أو بأمر بعض الملائكة أن يقول ذلك ، أو المراد إرادته سبحانه ، فعبّر عنه بالقول : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ردّي واشربي الماء الذي

٦٠٥

وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ

____________________________________

أخرجتيه بسبب تفجّر العيون ، وقد أريد بذلك : نشف الماء دفعة كأنه بلع له (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أي قال تعالى للسماء : أمسكي المطر ولا ترسلي الماء إلى الأرض. فبلعت الأرض ماءها ، وأمسكت السماء عن المطر. وهل أن المراد من «ابلعي ماءك» جميع الماء الموجود فيها ولو كان الماء النازل من السماء ، أم خصوص مائها ، وبقي ماء السماء وتسرب في المسارب والمنحدرات؟ احتمالان.

وقد روي عن الأئمة الطاهرين عليهم‌السلام : أن الماء بقي ، وصار بحارا وأنهارا (١).

أقول : إن العلم الحديث دلّ على كون الجبال كلها كانت غامرة في الماء ، حتى أرفع الجبال كانت كذلك ، وقد وجد فيها آثار للماء والحيوانات المائية ، ولعل ذلك ـ إن صح ـ كان من وقت الطوفان حيث دلّ الدليل على غمر الماء لكل الجبال.

وهل أن الخطاب حقيقي لشعور السماء والأرض بالأمر والنهي ، بمقتضى ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢) ، أو المراد نتيجة ذلك ، من باب خطاب العارف نحو : «أيا جبلي نعمان بالله خليا». احتمالان؟ ولا يبعد الأول ، كما قال سبحانه : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٣) ، وهكذا أمثالها ، مما ظاهره شعور السماء والأرض.

(وَغِيضَ الْماءُ) أي ذهب الماء من وجه الأرض إلى باطنها من

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٠٤.

(٢) الإسراء : ٤٥.

(٣) فصلت : ١٢.

٦٠٦

وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤)

____________________________________

«غاض يغيض» إذا تسرّب في الباطن (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تمّ الأمر المراد ، وهو هلاك الكفار ونجاة المؤمنين (وَاسْتَوَتْ) استقرت السفينة (عَلَى) جبل يسمى (الْجُودِيِ) وقد ورد في التفاسير أنه جبل بالموصل في شمال العراق (١) (وَقِيلَ) أي قال الله سبحانه ، أو الملائكة ، أو نوح والمؤمنون ، والمراد : نتيجة ذلك (بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الذين كفروا وظلموا أنفسهم ، فليبتعدوا عن رحمة الله ، وعن سعادة الدنيا بالهلاك ، وعن خير الآخرة بدخول النار.

وقد ذكر المفسرون وأهل البلاغة أن هذه الآية الكريمة في كمال البلاغة مما يدهش العقول والألباب فقد ذكروا أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم ، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية ، فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبه شيء من الكلام ، ولا يشبه كلام المخلوقين ، وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا.

وكان أهل الجاهلية إذا ألّفوا أفصح القصائد علقوها بالكعبة ، وهكذا حتى جمعت من أفصح القصائد وأبلغها على الكعبة سبع ، لامرئ القيس وزملائه ، فلما نزلت هذه الآية ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتابتها ، وأن تعلق قرب المعلقات السبع ، فف عل ذلك بعض المسلمين ، ولما أصبحت قريش وأتت إلى الكعبة ، ورأت الآية إلى جنب المعلقات ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٣٣.

٦٠٧

وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي

____________________________________

اضطرت إلى أن تقلع المعلقات ولم تدعها قرب الآية.

ويقال : أن ثلاثة من الملحدين أرادوا معارضة القرآن ليبطلوا أساس الإسلام ، فاجتمعوا في مكة ، وضمن كل واحد منهم أن يقول مثل ثلث القرآن إلى العام القابل ، واجتمعوا في القابل في مكة فقال أحدهم : إني أعرضت عن معارضة القرآن لما رأيت أن فيه قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) ، فقد علمت أني لا أتمكن أن آتي بما يشابهها. وقال الثاني : إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت في قوله : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) (١) ، فقد علمت أنه لا يتسنّى لي مقابلة هذه الآية. وقال الثالث : إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت فيه قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢) ، فقد علمت أنه لا يمكنني معارضة هذه الآية.

ويقال أن الإمام الصادق عليه‌السلام مرّ بهم في ذاك الحال وهم يتذاكرون عجزهم وينسبون تلك الأسباب فيما بينهم ، فقال لهم : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) (٤).

[٤٦] وإذ قد انتهى الأمر وتذكر نوح عليه‌السلام ابنه الغريق كنعان وأخذته الشفقة عليه (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ) نداء دعاء وضراعة (فَقالَ) : يا (رَبِّ إِنَّ ابْنِي

__________________

(١) يوسف : ٨١.

(٢) القصص : ٨.

(٣) الإسراء : ٨٩.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٧ ص ٢١٣.

٦٠٨

مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

____________________________________

مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) فقد وعدتني بنجاة أهلي فنجّه من الغرق ، أو من العذاب في الغرق ، فإن كان المراد الأول ، فلعلّ نوحا لم يكن يعرف مصير ولده هل أنه غرق أم لا (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أي إن حكمك أصح الأحكام ، فلا تحكم في ولدي أو غيره إلا بالصحيح.

[٤٧] (قالَ) الله سبحانه في جواب طلب نوح عليه‌السلام : (يا نُوحُ إِنَّهُ) أي ولدك (لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) فإن الأهل الذين وعدت بنجاتهم ليس أهل لحم ودم ، وإنما أهل عقيدة وإيمان (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) قد يبالغ في نسبة الفعل إلى شخص حتى يجعل ذلك الشخص نفس الفعل ، كما يقال : «زيد عدل» مع العلم أن زيد ليس قطعة من العدل وإنما هو ذو عدل ، ولكن البلاغة تقتضي ذلك. وهنا كذلك ، فإن ابن نوح لما كان يعمل الأعمال الفاسدة ، صار كأنه قطعة منها ، فقيل : «إنه عمل غير صالح» ، كما يقال : «زيد قطعة من فساد» ، يراد أنه منهمك فيه ، أو بتقدير «ذو» أي أنه «ذو عمل غير صالح» كما قال الشاعر : «فإنما هي إقبال وإدبار» أي : «ذات إقبال وإدبار».

وقال بعض أن الضمير في «إنه» يعود إلى سؤال نوح ، أي : إن طلبك بنجاة ابنك عمل غير صالح ، لكن هذا الاحتمال بعيد عن الظاهر.

(فَلا تَسْئَلْنِ) يا نوح (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) السؤال إنشاء ، والإنشاء لا يتصف بالصدق والكذب ، ومطابقة الواقع وعدم مطابقته ،

٦٠٩

إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٤٦) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

____________________________________

وكونه متعلق العلم وعدم كونه متعلقه. إلّا أن الإنشاء حيث يحمل دائما ـ في طيه ـ إخبار عن شيء صح الاتصاف بهذه الأمور ، فمثلا يسألك أحدهم مالا ، فتقول : إنه يكذب ، ولست تريد أنه يكذب في السؤال ، بل تريد أن الخبر الذي يدل عليه هذا الإنشاء ـ وهو أنه فقير معدم ـ غير صحيح ، إذ ظاهر السائل أنه لفقره يسأل ، فأنت تريد تكذيب ذلك الخبر المنطوي في هذا الإنشاء ..

وهنا كذلك ، فإن سؤال نوح لم يكن بما ليس له به علم ، بل الخبر الضمني كان بدون علم فإنه عليه‌السلام أخبر بأن الله وعده نجاة ابنه ـ بتشكيل القياس ـ «ابنه من أهله» ، و «أهله موعود نجاتهم» ، ف «ابنه موعود نجاته». وقد كان نوح عليه‌السلام يرى أن الوعد بنجاة الأهل شامل للولد أيضا ، وعلى هذا طلب الوفاء بالوعد ، لكنه سبحانه بيّن أنه لم يكن داخلا في الوعد ، ولم يدل دليل على لزوم علم الأنبياء بجميع الأمور ، حتى يقال أن نوحا عليه‌السلام كيف لم يعلم ذلك ، وهذا لا ينافي مقام العصمة ، فإن معنى العصمة أن لا يذنب ، لا أن يعلم كل شيء.

(إِنِّي أَعِظُكَ) يا نوح (أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي لئلّا تكون جاهلا ، ولا شك أن وعظه سبحانه يبدّد الجهل. وقد يظن بعض الناس أن هذه عبارة خشنة ، لكن الظاهر أنه جار مجرى التكلم المعتاد ، في مقابل التكلم بلين ، ومقامه سبحانه لا يقتضي اللين في الكلام ، ويحتمل أن يكون إفراغ الغالب في هذا القالب لإفادة مبغوضية الكفار لدى الله سبحانه ـ وقد سبق ما يشبهه في قصة أخذ موسى عليه‌السلام برأس أخيه ـ.

[٤٨] (قالَ) نوح عليه‌السلام بعد ذلك الكلام منه سبحانه : يا (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

٦١٠

بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)

____________________________________

بِكَ) أي أعتصم بك ، من «عاذ» إذا استجار (أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي أسألك شيئا ليس فيه صلاح ، ويكون سؤالي صادرا عن عدم علم لي بالواقع. ولا يخفى أن ذلك لا ينافي أيضا مقام العصمة ، فإن «ولدك لو سألك أن تذهب إلى النجف ، ولم يكن ذلك من الصلاح ، لأن الأجور تحمّلك خسارة كبيرة ، فهل أن سؤاله يعد عصيانا لك؟». لكن نوحا عليه‌السلام أراد أن يجنّبه الله سبحانه حتى من هذا النحو من السؤال.

(وَإِلَّا) أي : وإن لم (تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) «الغفران» الستر ، و «الترحم» التفضّل ، وهما كما يكونان بالنسبة إلى العاصي ، يكونان بالنسبة إلى المطيع ، فإن الإنسان مهما بلغ من النزاهة فإنه يحتاج إلى ستر الله لما لا يليق بشأنه ، كما يحتاج إلى تفضّله ، وهذا هو سر استغفار المعصومين.

فمثلا إن التوجه إلى إنسان في كلام مما يسبب عدم التوجه إلى الله سبحانه في ذاك الوقت لا يليق بشأن من يعرف الله حقّ معرفته ، وإن كان راجحا في نفسه ، ولذا يستحق الاستغفار. قال سبحانه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (١). ومن هذا القبيل ما قيل : «حسنات الأبرار سيئات المقربين» (٢).

__________________

(١) النصر : ٢ ـ ٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٠٥.

٦١١

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٨)

____________________________________

ثم إن من المعلوم أن للخسران مراتب فمن من شأنه تحصيل الربح الكثير إذا لم يحصل عليه كان خاسرا ، وهكذا قول نوح عليه‌السلام : «أكن من الخاسرين» فلو لا غفران الله ورحمته كان عليه‌السلام خاسرا إذا لم يحصّل تلك المراتب الرفيعة التي تليق بمثله.

[٤٩] ولما استقرت السفينة على جبل الجودي (قِيلَ) والقائل هو الله سبحانه ، إما بنفسه ، أو بأمر ملائكة بذلك : (يا نُوحُ اهْبِطْ) من السفينة والجبل إلى الأرض (بِسَلامٍ مِنَّا) بتحية لك من عندنا ، أو بنجاة وسلامة من قبلنا ، فأنت آمن ناج (وَبَرَكاتٍ) أي زيادة من فضل ، وخيرات نامية (عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) أي الجماعات التي معك من الإنس والطير والوحش ، فإنها تنمو وتزداد حتى تملأ الأرض من ذراريها ونسلها ، فإن الأمة تطلق على الحيوانات ، كما قال سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (١). وهنا طريفة لفظية ، وهي : أن ثمان «ميمات» اجتمعن في هذه الآية «أمم مّمّن مّعك» أصلها خمس ميمات ونونان وتنوين.

(وَ) من نسل هؤلاء (أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) نعطيهم متعة الحياة الدنيا في المستقبل (ثُمَ) يكفرون ويعصون ف (يَمَسُّهُمْ) يشملهم (مِنَّا) أي من طرفنا (عَذابٌ أَلِيمٌ) موجع مؤلم في الدنيا بصنوف القلق والمرض والفقر والحروب وما أشبه ، وفي الآخرة بالنار والعقاب.

__________________

(١) الأنعام : ٣٩.

٦١٢

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) وَإِلى عادٍ

____________________________________

وكان قوله «وأمم» لأجل أن لا يستفاد من قوله «وعلى أمم» أن من حملهم نوح وذريتهم كلهم تصحبهم السلامة والبركة ، بل هناك من نسلهم من يكفر ويعصي فلا بركة له ولا سلام.

[٥٠] (تِلْكَ) الأخبار التي قصصناها عليك من تفصيل أحوال نوح عليه‌السلام وقومه (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي أخبار ما غاب عنك يا رسول الله معرفته (نُوحِيها إِلَيْكَ) وليس في التوراة والإنجيل لهذه الكيفية والتفصيل والنزاهة (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ) يا رسول الله (وَلا قَوْمُكَ) قريش ، أو العرب ، أو الناس المعاصرون لك ، فإن لفظ «قوم» يستعمل بمعنى كل ذلك. ولا غضاضة في أن لا يعلمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل علم الرسول إلا من علم الله سبحانه ووحيه فهو قبل ذلك لا يعلم شيئا (مِنْ قَبْلِ هذا) أي من قبل الوحي ، أو من قبل القرآن (فَاصْبِرْ) يا رسول الله على أذى قومك كما صبر نوح عليه‌السلام (إِنَّ الْعاقِبَةَ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) الذين يخافون الله ويعملون بأوامره ، كما كانت العاقبة لنوح والمؤمنين به.

[٥١] وحيث ينتهي السياق من قصة نوح شيخ المرسلين ، يأتي الكلام حول قصة هود عليه‌السلام ويورد القرآن الكريم جملة من هذا القبيل من القصص كلها تركز على شيء واحد هو بعثة الأنبياء عليهم‌السلام لإصلاح الناس ، ثم عدم سماع الناس ـ إلا نادرا ـ منهم ، ثم إهلاك المكذبين وجعل كلمة الله هي العليا بنجاة المؤمنين ونصرتهم (وَ) أرسلنا (إِلى عادٍ) وهم

٦١٣

أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (٥٠) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ

____________________________________

قبيلة (أَخاهُمْ) في النسب (هُوداً) النبي عليه‌السلام ، وكان هؤلاء ساكنين في الأحقاف «والحقف» كثيب الرمل المائل ، في جنوب الجزيرة العربية ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم أخاهم من تلك القبيلة هودا عليه‌السلام ، ف (قالَ) لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده (ما لَكُمْ) ليس لكم (مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) دخول «من» في المنفي يفيد العموم (إِنْ أَنْتُمْ) ما أنتم في اتخاذكم الأصنام شركاء لله تعالى (إِلَّا مُفْتَرُونَ) كاذبون في قولكم ، وحيث أنكم تنسبون ذلك إلى الله سبحانه ، فهو افتراء وبهتان.

[٥٢] (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على التبليغ والإرشاد والهداية (أَجْراً) مالا ، فإنما أبلغكم مجانا وبلا عوض. وقد كانت الأنبياء تؤكد على ذلك لأن الناس دائما يخافون من الداعي لخوفهم على أموالهم ، فإذا أمنوا ذلك ، لم يكن لهم عذر مادي في عدم قبولهم الدعوة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ليس جزائي على الدعوة (إِلَّا عَلَى) الله (الَّذِي فَطَرَنِي) خلقني وسواني وأوجدني من العدم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) استفهام توبيخي ، أي لما ذا لا تعملون عقولكم لتعلموا صدق واستقامة طريقتي؟!

[٥٣] (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا عفوه وغفرانه لما سلف منكم من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا) ارجعوا (إِلَيْهِ) في العمل بأوامره

٦١٤

يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢)

____________________________________

ونواهيه ، فإن الإنسان العاصي يحتاج إلى أمر سلبي هو محو ما سلف ، وإلى أمر إيجابي هو الاستقامة على منهاج جديد لما يأتي. وقد تقدم أن «الاستغفار والتوبة» لو افترقا شملا الأمرين ، أما لو اجتمعا فالاستغفار للسلبي ، والتوبة للإيجابي.

فإذا فعلتم ذلك (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا ، بمعنى «جرى ونزل» ، واستعمال «السماء» مريدا به المطر ، لعلاقة الحال والمحل. قال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

وفي بعض التفاسير أنهم كانوا قد أجابوا فوعدهم هود عليه‌السلام بالغيث إن تابوا وأنابوا ، كما قال تعالى في آية أخرى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) (٢).

(وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) والمراد ب «القوة» كل ما يتقوّى به الإنسان من مال وأهل وقوى مادية ومعنوية ، وهذا بقدر ما هو مما وراء الغيب ، هو حسب القوانين العادية ، فإن المؤمنين أكثر نشاطا وتآلفا ، وأصح منهاجا مما تؤدي إليه كثرة القوة (وَلا تَتَوَلَّوْا) أي لا تعرضوا عن الله وأوامره في حال كونكم (مُجْرِمِينَ) تعملون الكفر والآثام.

__________________

(١) الأعراف : ٩٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٢٩٠.

٦١٥

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً

____________________________________

[٥٤] (قالُوا) في جواب دعوته لهم : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) بحجة واضحة تدل على صدقك. فإنهم لم يكونوا يعتبرون الأدلة الواضحة حجّة ، كما هو شأن كل معاند (وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ) لسنا نترك عبادة الأصنام لأجل قولك بأن الله واحد. وإنما جيء ب «عن» لأنه يدل على التجاوز ، نحو : «رميت السهم عن القوس» ، أي فليس تركنا ناشئا عن قولك (وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) بمصدّقين مقالك.

[٥٥] (إِنْ نَقُولُ) ما نقول فيك وفي هذه المقالات التي تقولها (إِلَّا اعْتَراكَ) أي أصابك (بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) فإنك حيث كنت تسب آلهتنا ، أصابوك بالجنون فجننت وخبل عقلك ـ كذا قال المفسرون ـ فلما رأى هود عليه‌السلام أنه لا ينفع فيهم الكلام ولا يتفكرون (قالَ) لهم : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) عليّ فإني أجعلكم شهودا على (أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) مع الله من الآلهة الباطلة ، ولا أعترف لهم بالألوهية.

[٥٦] فإن آلهتكم المزعومة التي تعبدونها (مِنْ دُونِهِ) من دون الله ، ليست في نظري بآلهة حتى أعبدها ، وإنما هو إله واحد لا شريك له. ثم كيف تزعمون أن آلهتكم مستني بسوء لسبي إياها ، فإني أتحدّاكم أن تجتمعوا أنتم والآلهة التي تعبدونها (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) فاحتالوا واجتهدوا

٦١٦

ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)

____________________________________

لضرّي وإيذائي (ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) أي لا تمهلونني ، بل فاجئوني بالهجوم لقصد إيذائي ، فإني لا أبالي بكم ولا أكترث بكيدكم ، بعد ما كنت مستظهرا بالله سبحانه ، واثقا من نصره ، إنكم جميعا لا تقدرون على إيذائي ، فكيف يقدر بعض آلهتكم أن يمسني بسوء؟

قال بعض المفسرين : إن هذا من أعظم آيات الأنبياء عليهم‌السلام أن يكون الرسول وحده ، وأمته متعاونة عليه ، فيقول لهم : كيدوني ، فلا يستطيع واحد منهم صدّه ، وكذلك قال نوح عليه‌السلام : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ...) (١) ـ كما تقدم ـ وقال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٢). ومثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله وبأنه يحفظه عنهم ويعصمه منهم.

[٥٧] (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) إني وثقت به وفوضت أمري إليه فهو المدافع المحامي عني (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ) سبحانه (آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي ما من حيوان يدب على الأرض إلا هو مالك له يصرفه كيف يشاء ، و «الناصية» هو مقدم الرأس ، فكما أن الآخذ بشعر مقدم الرأس لأحد ، يتصرف في ذلك الإنسان بالقهر والغلبة ، كذلك المالك للدواب ، وهذا كناية عن قهره سبحانه لكل دابة وقدرته عليها كلها (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فإنه مع قدرته فهو عادل فيما يعامل به البشر ، وسنته وأحكامه عادلة مستقيمة. وهذا تشبيه للمعقول

__________________

(١) يونس : ٧٢.

(٢) المرسلات : ٤٠.

٦١٧

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨)

____________________________________

بالمحسوس فكما أن السائر المستقيم ، يمشي على صراط مستقيم ، فكذلك صراطه سبحانه في أحكامه وسننه.

[٥٨] ثم قال هود عليه‌السلام لقومه : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله «تتولوا» ، أي فإن أعرضتم عن دعوتي فإني غير ملوم وغير مأخوذ بإعراضكم إذ قد (أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) وبلغت لكم رسالة ربي ، فتوليكم من سوء اختياركم. ثم إن ذلك لا يضر الله سبحانه كما لا يضرّني فإنه يهلككم بمعاصيكم (وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يؤتي مكانكم بأناس آخرين يعبدونه ويوحّدونه ، بعدكم وخلفا لكم (وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً) بتولّيكم ، كما لم تضرّوني بذلك (إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) يحفظ دينه من الضياع فيأتي بغيركم ليعبدوه ، كما يحفظني عن أذاكم وضرركم.

[٥٩] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بهلاك عاد بعد أن لم تنفعهم الدعوة وتولّوا معرضين (نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) من الهلاك ـ وفي المجمع : قيل أنهم كانوا أربعة آلاف ـ (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) حيث رحمناهم بعدم عذابهم. وذكر هذه الجملة ، إما لإفادة أن نجاتهم لم تكن صدفة وإنما عن قصد ، وإما لإفادة أن نجاة أولئك المؤمنين لم تكن باستحقاقهم ، إذ أن كل أحد لا بد وأنه ممن يستحق العقاب ، فنجاته تكون برحمة وفضل من الله (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) شديد. والإتيان بهذا

٦١٨

وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ

____________________________________

اللفظ لدلالته على ما كان للعذاب من شدة وهول ، وتكرّر «نجينا» إما لبيان الخصوصية فإن اللفظ أولا كان مطلقا ، ثم جيء به مع المتعلق ، وإما لبيان أنهم نجوا من عذاب الآخرة كما نجوا من عذاب الدنيا ، وهذا فيما إذا أريد من «العذاب الغليظ» عذاب الآخرة.

[٦٠] ثم تأتي القصة في جمل قصار للتكرير والتركيز في الذهن (وَتِلْكَ) القبيلة التي أهلكت وهي (عادٌ) أي قبيلة عاد (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أنكروا براهينه وأدلته التي أقامها على توحيده ورسالة رسوله وسائر الأصول والفروع (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) بالمخالفة والمشاقة. وإنما قال «رسله» بلفظ الجمع ، لأن من كذّب رسولا فقد كذّب الرسل ، كما أن من المحتمل أن يكون سبحانه أرسل إليهم أنبياء ، وإنما تعرض لقصة أحدهم فقط وهو «هود» (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) «الجبار» هو من يجبر الناس على ما يريد ، و «العنيد» الكثير العناد الذي لا يقبل الحق ، والمراد جبابرتهم ، فقد كان قوم هود يمتثلون أمر الرؤساء الجبارين عوض امتثال أمر الأنبياء المصلحين.

[٦١] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) فإن الله سبحانه سخّر للمؤمنين لعنة الكفار ، فقوم هود «عاد» يلعنون في الدنيا ، فتعقبهم اللعنات مدى الزمان (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) يكونون ملعونين مطرودين عن الخير معذّبين في النار ، يلعنهم الأنبياء والملائكة والمؤمنون (أَلا) فلينتبه السامع (إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) أي : كفروا بربهم ، أو المراد أنهم ستروه بأن

٦١٩

أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ

____________________________________

لم يعترفوا به ، فإن «الكفر» أصله «الستر» (أَلا) فلينتبه السامع (بُعْداً لِعادٍ) أي أبعد الله عادا (قَوْمِ هُودٍ) النبي هود عليه‌السلام عن رحمته. وهذا دعاء عليهم يتضمن التوهين والإذلال.

وفي تكرّر «ألا» و «عاد» إظهار فظاعة أمرهم ، وحث الناس على الاعتبار بما نالهم ، والحذر من مثل أفعالهم ، وإنما قال «قوم هود» ليتميزوا عن «عاد إرم».

ورد أن عاد كانت بلادهم في البادية ، وكان لهم زرع ونخل كثير ، ولهم أعمار طويلة وأجسام ضخمة ، فعبدوا الأصنام وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام وخلع الأنداد ، فأبوا ولم يؤمنوا وآذوه ، فكفت السماء عنهم سبع سنين حتى قحطوا ، فجاءوا إليه فقالوا : يا نبي الله قد أجدبت بلادنا ولم تمطر ، فسل الله المطر وأن يخصب بلادنا ، فتهيأ للصلاة فصلى ودعا ، فقال لهم : ارجعوا فقد أمطرتم وأخصبت بلادكم. وبقي في قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن عبادة الأصنام حتى أخصبت بلادهم وأنزل الله عليهم المطر. فلما لم يؤمنوا وبقوا على كفرهم وإصرارهم بعبادة الأصنام أرسل الله عليهم الريح الصرصر يعني «الباردة» سبع ليالي وثمانية أيام حتى أهلكهم عن آخرهم.

[٦٢] (وَ) أرسلنا (إِلى ثَمُودَ) وهم قبيلة كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك ومدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً قالَ) صالح عليه‌السلام لهم : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وحده لا شريك له (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) من هذه الأصنام التي تعبدونها وسائر الآلهة الباطلة

٦٢٠