تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ

____________________________________

يلجأ إليه ليستمد منه القوة في نوائبه ، كذلك من اتخذ الله ظهيرا رجع إليه في حوائجه بالتوسل إليه لقضاء حوائجه.

[٩٠] ثم أخذ شعيب ينصح القوم ويذكرهم بمصارع الأقوام السابقة الذين خالفوا النبيين فأهلكوا (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) أي لا يحملنّكم الخلاف معي والعناد واللجاج (أَنْ يُصِيبَكُمْ) العذاب ، فعنادكم يلجئكم إلى الكفر والتمادي في الغيّ حتى يصيبكم العذاب (مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) من الغرق (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الريح الصرصر (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرجفة (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) فإنهم أهلكوا في عهد قريب ، خالفوا الرسول وتمادوا في الفساد ، فإن لم تعتبروا بالمتقدمين ، فاعتبروا بهؤلاء القريبين منكم.

[٩١] (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) اطلبوا غفرانه لما سلف منكم من الكفر والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه في عقيدتكم وأعمالكم ، فالاستغفار لما مضى ، والتوبة لما يأتي (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) بكم ، فإذا فعلتم ما ذكرته رحمكم وتلطّف بكم (وَدُودٌ) أي محبّ لكم ، ومعنى ذلك أنه يفعل بهم ما يفعل المحب بمحبّه.

[٩٢] (قالُوا) أي قال القوم بعد أن وعظهم شعيب بتلك الموعظة البالغة : (يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) أي ما نفهم ، فإن «الفقه» في اللغة بمعنى «الفهم»

٦٤١

كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ

____________________________________

(كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) وهذا كلام المعاند فإنه يقول مثل ذلك ويريد أنه معرض عن كلام المتكلم ، فقد أقيم السبب مقام المسبب لأن عدم العمل معلول لعدم العلم (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوة لك ولا عزة ، فلا تتمكن من دفع أذانا لو أردنا إيذاءك (وَلَوْ لا) وجود (رَهْطُكَ) أي عشيرتك ، وحرمتهم عندنا (لَرَجَمْناكَ) أي لقتلناك بالحجارة (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أي لا عزّة لك عندنا. وكأن الإتيان بلفظ «علينا» لأجل أن العزيز فوق الناس مرتبة ومقاما.

[٩٣] (قالَ) شعيب عليه‌السلام : (يا قَوْمِ أَرَهْطِي) أي هل عشيرتي وقومي (أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) فتتركون إيذائي لأجل حرمة عشيرتي ، ولا تتركون إيذائي لأجل الله سبحانه ، أي تراقبون العشيرة ولا تراقبون إله العشيرة وخالق الجميع. قال هذا الكلام على نحو الاستفهام الإنكاري (وَاتَّخَذْتُمُوهُ) جعلتم الله سبحانه (وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) جعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء ظهوركم ، ومعنى «الظهري» جعل الشيء وراء الظهر حتى ينسى (إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) قد أحاط علمه بأعمالكم ، فلا يخفى عليه شيء تصنعونه ، فيجازيكم عليه.

[٩٤] (وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على المكانة التي أنتم عليها من الكفر والعصيان ، فإن «المكانة» هي الحالة التي يتمكن بها صاحبها من

٦٤٢

إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا

____________________________________

العمل. وهذا تهديد يريد : أنكم سترون جزاء أعمالكم السيئة (إِنِّي عامِلٌ) حسب أمر الله سبحانه ولا أتزحزح عن أوامره ، فهذا كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (١) ، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في الدنيا (مَنْ) منّا (يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) يهينه ويفضحه ، هل أنتم أم أنا؟ فيتبيّن من هو الصادق (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) منّا (وَارْتَقِبُوا) انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) وإني أيضا أنتظر وأرتقب ما وعدتكم أن يأتيكم ، ليدلّ على صدقي وصحة رسالتي.

[٩٥] وهكذا بقي القوم في الغيّ وتمادوا في الكفر والعصيان ، ولم تنفعهم نصائح شعيب عليه‌السلام حتى جاءهم العذاب (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) بعذابهم (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) حيث رحمناهم فلم يشملهم العذاب ، وإن كان المؤمنون به مستحقين للعذاب أيضا لما تقدم أن كل إنسان ـ غير معصوم ـ لا بد وأن يصدر منه ذنب يستحق العقاب به فتكون نجاة كل فرد برحمته سبحانه.

قال في تفسير الصافي : وإنما ذكر هنا وفي قصة عاد ب «الواو» أي «ولما» ، وفي قصتي صالح وهود ب «الفاء» أي «فلما» ، لسبق ذكر وعد يجري مجرى السبب في قصتي صالح وهود دون الآخرين. انتهى (٢).

__________________

(١) الكافرون : ٧.

(٢) تفسير الصافي : ج ٢ ص ٤٧٠.

٦٤٣

وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦)

____________________________________

واحتمل بعض أن يكون قوله : «برحمة منّا» لأجل أن نجاتهم كانت بسبب هداية الله لهم وألطافه الخفية الموجبة لخروجهم عن حظيرة الكفار.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) فقد صاح بهم جبرائيل عليه‌السلام صيحة شديدة زهقت روح كل واحد منهم في مكانه (فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) من «جثم» في المكان إذا أقام فيه ، أي ماتوا وهم في ديارهم ، ولم يتمكنوا من الحراك أصلا.

[٩٦] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) من «غنى في المكان» إذا أقام فيه ، أي كأنهم لم يكونوا بتلك الديار ، فقد ذهبت آثارهم ، وعفت رسومهم (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) فلينتبه السامع إلى طرد قبيلة مدين من رحمة الله ولطفه (كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) ولعلّ ذكر ثمود هنا لأن كلتا الأمتين ماتتا بالصيحة. وربما احتمل أن المراد ب «الصيحة» نوع من العذاب ، تقول العرب : «صاح الزمان بهم» إذا أهلكوا.

[٩٧] ثم يحكي القرآن الحكيم القصة السابقة في هذه السورة وهي قصة موسى عليه‌السلام وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) أي مع الأدلة الدالة على كونه من طرفنا ، وهي الثعبان واليد البيضاء وغيرهما (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة واضحة عقلية على أن للكون إلها ، وأن فرعون ليس بإله للناس.

٦٤٤

إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ

____________________________________

[٩٨] (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) إما المراد : الأشراف منهم ، وتخصيص الذكر بهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن الناس كلهم ، أو المراد بالملإ : قومه كلهم (فَاتَّبَعُوا) أي اتبع الملأ (أَمْرَ فِرْعَوْنَ) في اتخاذه إلها والإعراض عن موسى وحججه (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي ما هو هاد لهم إلى الرشد. وهو خلاف «السفه» فإن أمره غير مرشد وغير صحيح ، بل فيه ضلالة وسفاهة.

[٩٩] وكيف يكون أمره رشيدا ، والحال أنه وأتباعه يصيرون إلى النار؟! وهل الرشد ما يسبب الهلاك والعقاب؟! (يَقْدُمُ) فرعون (قَوْمَهُ) يتقدم عليهم ويمشي بين أيديهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) جميعا ، ففي الدنيا كان يهديهم إلى النار ، وفي الآخرة يدخلهم فيها (وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) «الورد» ورد الماء الذي يورد ، أي : بئس الماء الذي يردونه عطشى ، فإنه نار يردونها ، فقد شبّه هؤلاء بأهل الجنة حيث يردون المياه الجارية وأنهار من لبن وعسل وخمر ، وهؤلاء في مقابل أولئك يردون النار ويسقون من الحميم.

قال بعض المفسرين : أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم ، ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير؟

[١٠٠] (وَأُتْبِعُوا) ألحقوا (فِي هذِهِ) الدنيا (لَعْنَةً) إما بالغرق ، وإما بأن الناس يلعنونهم ، فكانت نتيجة اتّباعهم لفرعون أن تبعتهم اللعنة (وَيَوْمَ

٦٤٥

الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ

____________________________________

الْقِيامَةِ) يتبعون باللعنات والعذاب (بِئْسَ الرِّفْدُ) أي العطاء (الْمَرْفُودُ) المعطى لهم ذلك العذاب واللعنة ، إن هذا كان عطاء فرعون لقومه ، لهم النار واللعنة ، وهذا هو عاقبة من تخلّف عن الحق واتبع الباطل.

[١٠١] ثم بيّن سبحانه الغرض الذي سيق من أجله تلك القصص ، وجعله كخاتمة للفصول المتقدمة (ذلِكَ) الذي ذكرناه فيما تقدم من هذه السورة (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) أي أخبار البلاد السابقة والأمم الخالية (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) ونخبره لك ليكون لك سلوة وذكرى (مِنْها) أي من تلك القرى (قائِمٌ) باق إلى الآن ، فإن بعض البلاد بقيت وإن هلك أهلها ، كمصر (وَحَصِيدٌ) أي منها حصيد قد حصد وعفا أثره ، كقرى قوم لوط عليه‌السلام.

[١٠٢] (وَما ظَلَمْناهُمْ) أي نحن لم نظلم الذين هلكوا (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والعصيان وهما سببين للهلاك والنكال (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) أي لم تنفعهم ولم تفدهم (آلِهَتُهُمُ) أصنامهم البشرية ، كفرعون ، والحجرية ، كالأوثان التي كانوا يعبدونها و (الَّتِي) كانوا (يَدْعُونَ) ها (مِنْ دُونِ اللهِ) ويتخذونها أربابا (مِنْ شَيْءٍ) متعلق به «ما أغنت عنهم» أي لم تنفعهم شيئا في دفع العذاب عنهم (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بإهلاكهم

٦٤٦

وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ

____________________________________

ونزول العذاب عليهم (وَما زادُوهُمْ) ما زادتهم تلك الآلهة (غَيْرَ تَتْبِيبٍ) من «التباب» أي الخسارة ، أي أن الآلهة زادتهم خسارة على خسارتهم ، فإنهم لو لم يكونوا يعبدونها ، بل كانوا مجرد عاصين لم يزد في عذابهم ، فقد جاء من قبل تلك الآلهة زيادة في عذابهم ونكالهم ، وإنما قال : «زادوهم» بضمير العاقل ، لأن الكفار كانوا يعتبرونها عاقلة ، فجرى الكلام حسب اعتقادهم.

[١٠٣] (وَكَذلِكَ) الذي بيّناه سابقا وأوضحناه (أَخْذُ رَبِّكَ) وهلاكه (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي أهلكهم وعذبهم ، فقد شبّه الإهلاك بالأخذ ، فكما أن الأخذ لا يتمكن المأخوذ من الإفلات منه كذلك الذين عذبهم سبحانه لا يتمكنون من النجاة.

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية» (١). (إِنَّ أَخْذَهُ) للظالم (أَلِيمٌ) مؤلم موجع (شَدِيدٌ) فلا يمكن الإفلات منه.

[١٠٤] (إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي تقدم من أحوال الأمم التي كفرت وعصت الرسل (لَآيَةً) دليل على بطش الله سبحانه لمن طغى وتكبّر (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي لمن آمن لعلمه بأنه أنموذج من ذلك العذاب المهول ، فإن ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه لعذاب الآخرة لمن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٧ ص ٣٣٥.

٦٤٧

ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥)

____________________________________

اعتقد بها (ذلِكَ) اليوم (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) يجمعون كلهم للحساب والجزاء (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ليشهده الخلائق كلهم من الجن والإنس ، وفي محضرهم يجري الحساب والجزاء.

[١٠٥] (وَما نُؤَخِّرُهُ) ما نؤخر يوم القيامة (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي أمد معدودة أيامه ، فإذا انتهى ذلك الأمد أظهرناه للوجود ، واللام في «لأجل» لام العلة ، أي لغرض تمام الأجل وانتهائه.

[١٠٦] (يَوْمَ يَأْتِ) حين يأتي يوم القيامة والجزاء (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لا يتكلم أحد مع أحد إلا بإجازة الله سبحانه ، فقد شمل يوم القيامة صمت رهيب ، فإن الإنسان إذا خاف ووجل لم يتكلم حيث يسود الخوف والرهبة. ولعل في الإتيان بصيغة المجهول ـ بناء على ذلك ـ للإشارة إلى أن الناس هناك كالمساجين الذين لا يحق لأحد أن يكلمهم ، وفيه دلالة بليغة على الخوف السائد والرهبة المخيمة على الناس حتى أن سماع الكلام لا يجوز إلا بإذن خاص ، ولا يخفى أن هذا لا ينافي تكلم بعضهم مع بعض في مواقف مختلفة لأن ذلك بالإذن ، وهل الإذن كالإذن هناك ، أو المراد به الإذن التكويني برفع الأبهة؟ احتمالان.

(فَمِنْهُمْ) أي من الناس (شَقِيٌ) قد شقي بسبب الأعمال الفاسدة والعقائد الكاسدة (وَ) منهم (سَعِيدٌ) سعد وفاز بعقيدته الصحيحة

٦٤٨

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧)

____________________________________

وعمله الصالح.

[١٠٧] (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) وهم الذين تركوا الفطرة الأصلية بسبب ووساوس الشياطين والنفس الأمارة (فَفِي النَّارِ) تلك محلّهم ومسكنهم (لَهُمْ فِيها) أي في النار (زَفِيرٌ) هو إخراج النفس (وَشَهِيقٌ) وهو إدخال النفس. قالوا : «الزفير» أول نهيق الحمار ، و «الشهيق» آخر نهيقه ، وهما من أصوات المكروبين المحزونين ، و «الزفير» من شديد الأنين وقبحه ، بمنزلة إبقاء صوت الحمار ، و «الشهيق» الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار.

[١٠٨] (خالِدِينَ فِيها) أي دائمين أبدا في النار (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما بقيت جهة العلو وجهة السفل ، فإن اللفظين يطلقان على الجهتين (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فإن بعض أهل النار يخرجون منها بإدراكهم الشفاعة أو استيفاء عقابهم لأنهم كانوا أهل معاصي ، أو كانوا كفارا عصاة ، لكن لم تتم الحجة عليهم بما يوجب الخلود ، وإنما كانت الحجة عليهم بقدر دخولهم النار كما لو خالفوا بعض الأوامر الثابتة عندهم أنها من قبله سبحانه ، بقتل نفس محترمة ، أو سلب مال أو ما أشبه. ولا يلازم خروجهم من النار دخولهم في الجنة ، إذ هناك أماكن أخرى معدة للناس كالأعراف. فلا يقال : كيف يدخل الكافر الجنة؟

(إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا يمنعه عن إرادته مانع ولا يقف دون مشيئته شيء. ولعلّ الإتيان بصيغة المبالغة «فعّال»

٦٤٩

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ

____________________________________

باعتبار العموم في ما يريد ، أي يفعل كل ما يريده ، فإذا أراد خلود الكفار خلدوا ، وإذا أراد نجاة بعض العاصين نجوا.

[١٠٩] (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) بالطاعة والعمل الصالح (فَفِي الْجَنَّةِ) لهم مستقر ومأوى (خالِدِينَ فِيها) أبد الآبدين لا يزولون عنها ولا تزول عنهم (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي ما بقيت جهتا العلو والسفل ، فإن العرب تقول لما أطلها : «سماء» ، ولما أقلها : «أرض» (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) هذا الاستثناء لإفادة أن الأمر لم يخرج عن إرادة الله سبحانه ، فليس الخلود جبرا عليهم فإذا شاء إخراجهم من الجنة أمكنه ذلك وإن لم يفعل ، أو الاستثناء باعتبار الأول يعني أن السعيد في الجنة إلا المقدار الذي هو في المحشر أو في النار ـ ابتداء ـ لما صدر منه من بعض الأعمال السيئة ، فليس في ذلك الوقت في الجنة لأن الله لم يشأ كونه فيها ، وإذ كان الكلام موهما لانقطاع الخلود جاء التأكد لذلك بقوله سبحانه : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير مقطوع ، و «عطاء» منصوب بما فهم من الجملة ، أي أعطاهم الجنة عطاء دائما.

[١١٠] إن الأقوام الذين كذبوا الرسل حق عليهم العقاب في الدنيا وحق عليهم العقاب في الآخرة ، كما استعرض كل من العقابين في قصصهم السابقة ، وإذ قد علمت يا رسول الله ذلك (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) أي في شك ، فإن «المرية» بمعنى الشك (مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) الكفار ، من الأصنام المنحوتة ، فإن مصير الجميع إلى النار والهلاك (ما يَعْبُدُونَ إِلَّا

٦٥٠

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠)

____________________________________

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) فليس لهم حجة في عبادتهم إلا التقليد للآباء عن جهالة وضلالة ، فليست لهم حاجة في عبادتهم لدليل أو منطق. ومن المعلوم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن يشك في أمرهم ، وإنما جرى الكلام من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ) أي معطوهم جزاء أعمالهم وعقاب أفعالهم وافيا (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) لا ينقص من عقابهم شيء.

[١١١] (وَ) شأن هؤلاء شأن من سبقهم من الأمم فلقد (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أعطيناه التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي في موسى ، هل هو نبي أم لا؟ أو اختلف في الكتاب ، هل هو من عند الله أم لا؟ وعلى كل حال ، فقد اختلفوا في الحق كما اختلف قومك يا رسول الله (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) حسب ما قدّر من المصالح ، بأن يكون لكل أمة أجل لا يتقدم ولا يتأخر (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) لحكم سبحانه بين المؤمنين والكافرين بنجاة المؤمنين وإعطائهم الأجر ، وهلاك الكفار وخزيهم ، لكنه سبحانه حكم وقضى أن تكون الدنيا دار مهلة واختبار ، ولذا يترك كلّا وشأنه يعمل ما يشاء (وَإِنَّهُمْ) أي الكافرين (لَفِي شَكٍ) فإنهم ما كانوا يتيقنون بكذب دعوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (مِنْهُ) أي من وعد الله ، أو من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من الكتاب (مُرِيبٍ) موجب للريب ، فان الإنسان قد لا يعتني فلا يكون الشك موجبا للريب وقد يعتني به حتى يوقعه في الريب حقيقة.

٦٥١

وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)

____________________________________

[١١٢] (وَإِنَّ كُلًّا) «إن» مخففة من الثقيلة ، أو نافية ، وعلى الأول أصل «لما» : «ل من ما» أي «لمن الذين» ، فأبدلت النون ميما واجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن ، فيكون المعنى : وإن كل طائفة من الفريقين ـ المؤمنين والجاحدين ـ لمن الذين يعطيهم الله أجورهم. وعلى الثاني يكون «لمّا» بمعنى «إلا» أي : «ما كل طائفة إلا ليعطيهم الله أجورهم» (لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (إِنَّهُ) سبحانه (بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا يفوته شيء من أعمالهم ، بل يعلم كل عمل ويعطي جزاءه.

[١١٣] (فَاسْتَقِمْ) يا رسول الله (كَما أُمِرْتَ) بالتبليغ والإنذار ، ولا يزحزحك إنكار المنكرين وجحود الجاحدين (وَ) ليستقم (مَنْ تابَ) ورجع إلى الله سبحانه بعد الكفر والعصيان (مَعَكَ) فإن الكافر والعاصي كأنهما ذاهبان عن الله سبحانه إلى غيره ، فإذا آمن الكافر ، واستغفر العاصي ، كانا تائبين راجعين إليه سبحانه. وتقدير «ليستقم» إنما هو بقرينة «استقم» نحو : «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض» أي : نحن بما عندنا راضون.

(وَلا تَطْغَوْا) أي لا تجاوزوا أوامر الله سبحانه ، بالزيادة أو النقصان ، فإن «الطغيان» تجاوز الحد ، يقال : «طغى الماء» إذا تجاوز حده. والخطاب للناس ، المفهوم من قوله «من تاب» (إِنَّهُ) تعالى (بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فيبصر ويرى طغيان الطاغين واستقامة

٦٥٢

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣)

____________________________________

المستقيمين ، فيجازي كلّ حسب عمله.

في تفسير «الصافي» : قال ابن عباس : ما نزلت آية كان أشق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الآية ، ولهذا قال : «شيبتني هود والواقعة وأخواتها» (١).

وعن بعضهم قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم ، فقلت : روي عنك أنك قلت : «شيبتني هود» فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم» ، فقلت : ما الذي شيّبك منها ، أقصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ قال : لا ، ولكن قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٢).

[١١٤] وإذ أمر سبحانه المؤمنين بالاستقامة ، نهاهم عن الانحراف بالركون إلى الظالمين فإن كل انحراف عن الاستقامة ركون إلى الظالم الذي نهج ذلك المنهج المنحرف (وَلا تَرْكَنُوا) و «الركون» هو الاعتماد والميل والسكون إلى شخص أو جهة أو نحوها (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) في عقيدة أو عمل أو غيرهما (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) وتأخذكم. والتعبير ب «المس» لعله لإفادة أن مس النار يقتضي الحذر منه فكيف بما فوقه (وَما لَكُمْ) أيها المؤمنون (مِنْ دُونِ اللهِ) أي سوى الله سبحانه (مِنْ أَوْلِياءَ) ينصرونكم في الدنيا والآخرة ، فإن الله هو وليكم (ثُمَ) إن ركنتم إلى الظالمين (لا تُنْصَرُونَ) إذ الله سبحانه يقطع نصره عنكم ، والكافرون ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٦ ص ١٧٢.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١١ ص ٢١٣.

٦٥٣

وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ

____________________________________

بما انطووا عليه من عدائكم ـ لا ينصرونكم ، وقد جرب المسلمون ذلك ، فإنهم من يوم ركنوا إلى الكافرين أخذ أمرهم في الانحطاط إلى هذا اليوم ، حتى يرجعوا عما اقترفوا ، فينصرهم الله سبحانه.

[١١٥] وبمناسبة لزوم الاستقامة يأتي السياق لبيان وجوب الصلاة ، فإنها أحسن وسيلة للاستقامة ، إذ هي تحتاج إلى يقظة دائمة في النفس وملكة راسخة تحفظ الإنسان طيلة العمر عن الانحراف ، وهذه اليقظة والملكة لا تكون إلا بالتذكير الدائم الحاصل من إقامة الصلاة صباحا وعصرا وليلا (وَأَقِمِ الصَّلاةَ) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه ذلك (طَرَفَيِ النَّهارِ) صباحا وعصرا ، فإن صلاة الصبح في الطرف الأول من النهار ، وصلاة الظهرين في الطرف الآخر منه (وَزُلَفاً) جمع «زلفة» وهي المنزلة ، مثل «غرف جمع غرفة» ، وهي أول ساعات الليل ، كأن كل ساعة منزلة من منازل الليل (مِنَ اللَّيْلِ) وهي صلاة المغرب والعشاء (١).

وهذا هو المفهوم من رواية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن : «طرفي النهار» الغداة ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) هي صلاة العشاء.

أقول : فعلى هذا تكون الآية ساكتة عن الظهرين ، ولعلّ ذلك لصعوبة الثلاثة الأول دونهما.

(إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) فإن الحسنة تكفّر السيئة

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٣٧.

٦٥٤

ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)

____________________________________

وتمحقها ، ومن الحسنات «الصلوات الخمس» فإنها تمحق الذنوب وتمحيها. وقد روي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما روي عن الإمام المرتضى عليه‌السلام أنه قال : «إن الله يكفر بكل حسنة سيئة. ثم تلا هذه الآية» (١).

(ذلِكَ) الذي تقدم من قوله «استقم» (ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) أي فيه تذكرة وموعظة لمن أراد التذكّر والتفكّر.

[١١٦] (وَاصْبِرْ) يا رسول الله على الاستقامة ، أو على الصلاة ، أو مطلقا (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) والصابر من أفضل أقسام المحسنين ، والصبر على ثلاثة أقسام : صبر على البلاء ، وصبر على الطاعة ، وصبر على الأحوال ، بأن لا يبطر الإنسان عند الرخاء ولا يجزع عند البلاء.

[١١٧] إن دعاة الإصلاح الذين يتمكنون من تغيير الواقع السيئ هم الذين يبقون على الأمم من الانهيار والدمار فإذا خلت أمة منهم انهارت واضمحلت ، كما أن المرضى يحتاجون إلى أطباء يتمكنون من علاجهم. أما إذا كان هناك مرضى بلا طبيب أو كان هناك طبيب لكن لم يتمكن من تنفيذ أوامره وعلاج مرضاه فإن عاقبتهم الموت والهلاك. وهكذا جرت سنة الله في الأمم سابقها ولا حقها فحيث إن الأمم السابقة لم ينفذ فيهم دعاة الإصلاح لقساوة قلوبهم عذّبوا. وهكذا يذكّر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٩ ص ٣١٩.

٦٥٥

فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى

____________________________________

الله سبحانه بهذه الحقيقة حتى يأخذ الناس حذرهم ، ويعلموا أنهم إن لم يصلحوا انهاروا واستحقوا العذاب.

(فَلَوْ لا) أي فهلّا ، تقريح وذم (كانَ مِنَ الْقُرُونِ) جمع قرن وهو الجيل ، أي من الأجيال السابقة التي كانت (مِنْ قَبْلِكُمْ) أيها المسلمون (أُولُوا بَقِيَّةٍ) أصحاب بقايا فضل وعقل وتدبر ، فكأنهم كلهم كانوا أحداثا ، لا بقية عقل وحنكة وحكمة فيهم حتى يتدبروا ويتفكروا ويعتبروا بالماضين (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) فإنه كان من اللازم أن يكون فيهم جمع هذه صفتهم حتى ينقذوا الأمم والقرون من الهلاك (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) من أنبيائهم وبعض المؤمنين بهم ، مما لم يكن يكفي لدفع العذاب عنهم ، فإن الطبيب ولو كان من أحذق الأطباء لكنه إذا لم يجد آذانا صاغية من المرضى والممرضين لم يكن لأمره نفع في إنقاذ المرضى ، إن القليل الذين كانوا ينهون قد أنجيناهم ، أما سائر الجيل فقد أهلكوا بفسادهم وعصيانهم (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وعصوا (ما أُتْرِفُوا فِيهِ) أي اتبعوا ترفهم وشهواتهم ، في مقابل المؤمنين الذين اتبعوا أوامر الله سبحانه ومناهج الأنبياء (وَكانُوا مُجْرِمِينَ) ذوي إجرام وعصيان ، ولذا أهلكوا بسبب أعمالهم الفاسدة.

[١١٨] (وَما كانَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لِيُهْلِكَ الْقُرى) السابقة ، أي يهلك

٦٥٦

بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ

____________________________________

أهل القرى (بِظُلْمٍ) منه لهم (وَ) الحال أن (أَهْلُها مُصْلِحُونَ) يصلحون أنفسهم ومجتمعهم باجتناب المعاصي والنهي عن المنكر ، وإنما أهلكهم بالعدل حين كان أهلها مجرمين مفسدين.

[١١٩] إن الدنيا دار اختبار وامتحان ليجزي كل حسب عمله ولذا ترك الله سبحانه الأمم وما يختارون بعد أن بيّن لهم الرشد من الغي (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) يا رسول الله (لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) بإلجاء الجميع إلى الإيمان والعمل الصالح ، لكنه لا يشاء ذلك لئلّا يبطل الثواب والعقاب (وَ) لكن (لا يَزالُونَ) الناس (مُخْتَلِفِينَ) بعضهم كافر وبعضهم مؤمن ، وبعضهم مطيع وبعضهم عاص ، وذلك بأن شاء الله اختيارهم وقدرتهم.

[١٢٠] (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) من المؤمنين فإنهم لا يختلفون ويجتمعون على الحق. والمراد ب «الرحمة» الألطاف الخفية ، بعد هداية الجميع إلى الطريق وإرشادهم ، فمن قبل وآمن لطف به اللطف الخفي الزائد ، ومن أعرض تركه وغيّه ، كما أن الأب إذا أعطى أولاده رؤوس الأموال ليتّجروا بها فأعرض بعض وأقبل بعض ، لطف بالمقبل كثيرا وأخذ بيده ، أما المعرض فهو يخذله ويتركه ليفعل ما يشاء (وَلِذلِكَ) أي للرحمة (خَلَقَهُمْ) فقد خلقهم الله سبحانه حتى يرحمهم ، لكن قسما منهم أبوا وتخلّفوا وعصوا ، كما أن من أسس مدرسة إنما يؤسسها لتعليم الناس وهدايتهم ، فإذا أعرض البعض كان

٦٥٧

وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ

____________________________________

من عنده ، لا من عند من أسس المدرسة (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي انتهت فلا مبدل لها ، والكلمة هي : (لَأَمْلَأَنَ) من «ملأ» بمعنى : إدخال الشيء في الظرف حتى يمتلئ (جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) بسبب كفرهم وعصيانهم ، وإنما ذكر هذا الطرف من الناس لأن الكلام حول العصاة والكفار ، والذين أهلكوا بسبب مخالفتهم للأنبياء.

[١٢١] (وَكُلًّا) أي كلّا من هذه القصص المتقدمة (نَقُصُّ عَلَيْكَ) ونخبرك (مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ) أخبارهم ، كيف بلغوا ، وكيف وقف قومهم ضدهم وآذوهم؟ (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) أي نقوّي به قلبك ، حتى إذا رأيت إعراضا وأذى من قومك ، لم يسبب ذلك يأسك عن البلاغ. وليس معنى ذلك أنه لم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبات ، وإنما استمرار الثبات هو بيد الله سبحانه (وَجاءَكَ) يا رسول الله (فِي هذِهِ) القصص السالفة (الْحَقُ) فكل ما حكي كان حقا مطابقا للواقع (وَ) جاءتك في هذه (مَوْعِظَةٌ) تعظ بها الجاهلين وتبعد بها الناس عن المعاصي (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) تذكّرهم بالله وبآياته وبالآخرة.

[١٢٢] (وَقُلْ) يا رسول الله (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) من الكافرين (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي على حالتكم التي أنتم عليها ، وهذا تهديد لهم ،

٦٥٨

إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)

____________________________________

كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) ، (إِنَّا عامِلُونَ) على منهجنا ، حتى نرى ما يصنع الله بكم وبنا.

[١٢٣] (وَانْتَظِرُوا) أي توقعوا عقاب الله وعذابه (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) فضله ورضوانه ، أو المعنى : نحن وأنتم ننتظر نتائج الأعمال ، وهل نحن كنا على باطل أم أنتم؟.

[١٢٤] إن ما يأتي غيب وسينكشف الغيب ويظهر المجهول (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فكلّ ما غاب عن الحواس ، أو غاب عن الوجود ـ بأن لم يوجد بعد ـ سواء كان في السماوات أو في الأرض ، إنه لله وحده فهو العالم به وهو القادر على إيجاده أو إظهاره (وَإِلَيْهِ) أي إلى الله تعالى (يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) فكل الأمور مرجعها إليه في الدنيا وفي الآخرة ، فهو الفاصل في القضايا التكوينية والتشريعية ، حتى أنه إذا لم يشأ شيئا لم ينفع فيه إرادة الجن والإنس (فَاعْبُدْهُ) يا رسول الله (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) اجعله وكيلا عنك وناصرا لك ، فإن من يعلم الغيوب ، ويكون مصير الأمور إليه ، أحق بالعبادة والتوكل عليه ، من سائر الأشياء (وَما رَبُّكَ) يا رسول الله (بِغافِلٍ) أو جاهل (عَمَّا تَعْمَلُونَ) من الخير والشر ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها.

__________________

(١) فصلت : ٤١.

٦٥٩

(١٢)

سورة يوسف

مكية / آياتها (١١٢)

سميت السورة باسم «يوسف» عليه‌السلام ، لاشتمالها على قصته واسمه المبارك. وحيث كانت سورة «هود» مشتملة على قصص الأنبياء ، كانت هذه السورة مكملة لتلك القصص ، وأتت بقصة طريفة في موضوعها ، وهي تشمل المقصود العام من القرآن الحكيم من التوجيه نحو المبدأ والمعاد ، وتطهير النفس من الرذائل ، وذكر الأحكام والتشريعات.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء للكلام بسم الله ، فالله هو الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال ، فهو أحق الأسماء بالاستعانة والابتداء ، وبمن يبتدأ الكلام ، غيره؟ ولما ذا يبتدئ الإنسان بغيره؟ وهل يعطي الغير ما يتطلبه الإنسان؟ وهو الرحمن الذي يرحم الكل ، والرحيم الذي يتفضل على المؤمنين بأنواع خاصة من التفضّل.

٦٦٠