تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)

____________________________________

سبحانه : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) (١) ، والمجسمة بقوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٢) ، والقدرية بقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣) ، والقائلين بحجية التوراة والإنجيل بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً) (٤) ، (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) (٥) ، والقائلين بمعصية الأنبياء بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٦) ، والقائل بجهل الله سبحانه وتعالى بقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ) (٧) ، والقائل بتعدد الآلهة بقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٨) ، حيث دلل على أن الآلهة مع الله لا توجب الفساد. وهكذا من أمثال هذه الاستدلالات التي إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم اطلاع القائل بأساليب الكلام ، وعدم جمعه بين النص والظاهر ، والعام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والحقيقة والمجاز ، ومعارض السياق.

(إِنْ أَنَا) أي ما أنا (إِلَّا نَذِيرٌ) أنذر الكافر والعاصي بالعقاب (وَبَشِيرٌ) أبشر المؤمن المطيع بالثواب (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اللام للعاقبة ، أي أن فائدة إنذاري وبشارتي إنما هي للمؤمن ، أما غيره فالرسول بشير نذير له ، لكنه حيث لا ينتفع بقوله ، فكأنه ليس مرسلا بالنسبة إليه.

وقد ورد في بعض التفاسير أن أهل مكة قالوا : يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه ،

__________________

(١) الأعراف : ١٨٧.

(٢) القلم : ٤٣.

(٣) القمر : ٥٠.

(٤) المائدة : ٤٥.

(٥) المائدة : ٤٨.

(٦) طه : ١٢٢.

(٧) يونس : ١٩.

(٨) الأنبياء : ٢٣.

٢٨١

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما

____________________________________

وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت ، فأنزل الله هذه الآية.

[١٩٠] وحيث انتهى السياق من قصة المعاد ، ونبذ من يوم البعث ، يأتي دور قصة أخرى من قصص البشر الذي لا يزال ينحرف عن الفطرة ويتوجه نحو الشرك والكفر ، كما تقدمت قصة «بلعم» بهذا الصدد (هُوَ) الله وحده (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) فابتداء الخلقة بآدم عليه‌السلام وحده (وَجَعَلَ) أي خلق (مِنْها) أي من جنس تلك النفس ونوعها وصورتها (زَوْجَها) حواء عليها‌السلام (لِيَسْكُنَ) آدم عليه‌السلام المفهوم من قوله «نفس واحدة» (إِلَيْها) أي إلى الزوجة ، فيستريح بها وتكون موضع سكونه واطمئنانه وراحته (فَلَمَّا تَغَشَّاها) أي قاربها ، إذ الرجل حين المقاربة يكون كالغشاء والغطاء لها (حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً) هو الماء الذي يستقر في الرحم أول الأمر ، وفي هذا الحين لا يحسّان بالحمل حتى يعلّقا عليه آمالا ، وينذرا لأجل الجنين نذورا (فَمَرَّتْ بِهِ) أي استمرت بالحمل على الخفة (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ) أي صارت ذات ثقل ، وتبيّن الحمل وظهر أثره في الزوجة (دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما) أي دعا الزوج والزوجة ، فإن الكلام حول الإنسان لا حول آدم وحواء عليهما‌السلام ، فإنه سبحانه يريد بيان الطبيعة البشرية التي تستقيم في أول الأمر ثم تنحرف لنوازع ورغبات ، والكلام في مثله حيث يبتدأ بجهة ، ثم ينصرف لجهة أخرى ، يسمى استخداما ، فإن اللفظ خدم معنى ، والضمير معنى آخر

٢٨٢

لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)

____________________________________

كما قال : (وَالْمُطَلَّقاتُ) ـ إلى قوله ـ (وَبُعُولَتُهُنَ) (١) ، فإن الضمير يرجع إلى بعض المطلقات ، وهنّ الرجعيات فقط. (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً) أي ولدا صالحا كاملا صحيح الخلقة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لك وحدك لا شريك لك ، فنقدر فضلك ولطفك علينا ، ونحمدك ونشكرك على ما أعطيتنا هذا الولد الصالح.

[١٩١] (فَلَمَّا آتاهُما) أي أعطى الله الأبوين ولدا (صالِحاً جَعَلا) أي الأبوان (لَهُ) سبحانه (شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) في الشؤون المرتبطة بالولد ، فتشكر الأصنام كما يشكر الله في إعطاء الولد ، ويسمياه بعبد العزى وعبد اللات وعبد مناة ، وأحيانا كانا ينذرانه للأصنام ذبحا أو خدمة ؛ كما ينذر لخدمة المسجد ونحوه (فَتَعالَى اللهُ) أي أن الله أعلى وأجل (عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي يشرك البشر ، إنه سبحانه ليس له شريك ولا مثيل.

[١٩٢] (أَيُشْرِكُونَ) استفهام توبيخي ، أي كيف ي شرك هؤلاء مع الله شريكا (ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً)؟ فإن الأصنام لا تتمكن من خلق شيء (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أي أولئك الشركاء ـ كالأصنام ـ هي كلها مخلوقة ، أو المراد أن الجميع من المشرك والأصنام مخلوقون.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٢٨٣

وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)

____________________________________

[١٩٣] (وَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي لا تستطيع تلك الأصنام (لَهُمْ) أي لعبّادها (نَصْراً) حيث يقعون في المشاكل (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) لا تستطيع الأصنام نصر أنفسها إذا تعدّى عليها متعدّ ، كما قد رأى ذلك الشاعر أن الثعلب يبول على رأس صنمه ، فكسره قائلا :

أرب يبول الثعلبان برأسه؟ لقد

ذلّ من بالت عليه الثعالب

ولا يخفى أن الإتيان بضمير العاقل للأصنام للتشاكل بما كان يعتقده عابدوها من أنها تعقل وتفهم وتضر وتنفع.

[١٩٤] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) أيها المسلمون إن تدعوا هؤلاء المشركين (إِلَى الْهُدى) ليهتدوا ويتركوا أصنامهم (لا يَتَّبِعُوكُمْ) حيث استحوذ الشيطان عليهم (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) فإن دعاءهم إلى الإيمان والسكوت عنهم متساويان ، كما قال سبحانه : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

وقد يستشكل بعض الملحدين : بأن الأمر إن كان بالنسبة إلى مرحلة الظاهر فالله «سبحانه» والأصنام متساويان من هذه الجهة ، فإنه لا يظهر أثر للنصرة وعدمها ، وإن كان بالنسبة إلى مرحلة الواقع ، فأي

__________________

(١) البقرة : ٧.

٢٨٤

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤)

____________________________________

دليل على الفرق ، وإن الأصنام تنصر في زعم عبادها كما أن الله ينصر في نظر المسلمين؟

والجواب : إن الأدلة لما دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع ، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب ، والآخر جاهل ، ولم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض ، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل ، وإنما يجب أن يعلل بعلة أخرى ، وإن شئت قلت : إن الدليل في قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً) خطاب في الظاهر ، وإنما البرهان المقنع ما ذكرنا. وبهذا يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى التوسل بالأنبياء والأولياء مما دلّ الدليل عليه.

[١٩٥] (إِنَّ الَّذِينَ) أي الأصنام الذين (تَدْعُونَ) هم (مِنْ دُونِ اللهِ) أي تجعلونهم آلهة (عِبادٌ) أي مخلوقة لله ، فإن العبد هو المطيع. ومن المعلوم أن الجمادات تطيع الله تعالى ، كما يطيعه الإنسان ، كما قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) ، (أَمْثالُكُمْ) أيها البشر فليسوا بآلهة حتى تعبدونهم.

(فَادْعُوهُمْ) في مهماتكم وكشف الضر عنكم (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) الأمر هنا للتعجيز والتوهين ، كما تقول للعاجز عن القيام : «قم إن صدقت أنك قادر» (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أنها آلهة تنفع وتضر.

__________________

(١) الإسراء : ٤٥.

٢٨٥

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)

____________________________________

ومن الوهابيين من يستدل بهذه الآية بعدم صحة التوسل بالأنبياء والأئمة ، قائلا : «فادعوهم فليستجيبوا لكم».

والجواب : نقضا ؛ «فادع الله فليستجب لك» فإن قال : يستجيب ، قلنا : يستجيبون بأمر الله تعالى وإذنه. وحلا ؛ بأن الفارق هو الدليل ، وعدم الاستجابة العاجلة لا دلالة فيه لأحد الطرفين.

[١٩٦] ثم بيّن سبحانه أن الأصنام لا تقدر على شيء حتى على ما يقدر الإنسان العادي عليه ، فمن لا يقدر على أقل شيء كيف يكون إلها معبودا؟ (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) أي : هل لهذه الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم ، أو مشيا لأنفسهم ، حتى يتساووا مع أقل حيوان أو إنسان؟ (أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) «البطش» هو الأخذ بشدة ، أي يأخذون بأيديهم بشدة ما يريدون الانتقام منه ، أو مطلق الأخذ (أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها) الأشياء؟ (أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) الأصوات والشكاوى وغيرهما؟ إنها لا تحس إطلاقا ، فكيف تعبدون أنتم أيها البشر هذه الأشياء الفاقدة لكل حس؟

(قُلِ) يا رسول الله للمشركين : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) أي الشركاء الذين جعلتموهم مع الله سبحانه (ثُمَّ كِيدُونِ) أي امكروا بي بأجمعكم عابدا ومعبودا (فَلا تُنْظِرُونِ) لا تأخروني ، بل أسرعوا في الكيد ، فإن ربي ينصرني عليكم جميعا. إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا

٢٨٦

إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)

____________________________________

يتحدّاهم ، لبيان أن الله ناصر نبيه ، لكن أصنامكم لا تنصركم.

[١٩٧] (إِنَّ وَلِيِّيَ) الذي يتولى أمري وينصرني (اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) أي القرآن ، فإنه كما أمرني بالرسالة ضمن لي النصرة (وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) يتولى أمورهم وينصرهم على أعدائهم ، وهذا لا ينافي عدم الحيلولة بينهم وبين أعدائهم أحيانا لمصالح وجهات.

[١٩٨] (وَ) الأصنام (الَّذِينَ تَدْعُونَ) هم (مِنْ دُونِهِ) أي غير الله سبحانه من الآلهة (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ) لا يقدرون على أن ينصروكم (وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ) فإذا تعدّى عليهم متعدّ لا يتمكنون من الدفاع عن أنفسهم.

[١٩٩] (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ) إن تدعوا أيها المسلمون ، المشركين (إِلَى الْهُدى) والحق (لا يَسْمَعُوا) دعاءكم فإنهم معاندون ، وقيل : المعنى إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا لأنهم جماد (وَتَراهُمْ) يا رسول الله ، أو كل من يتأتى منه الرؤية (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) أي المشركون ، أو الأصنام ، فإن الأصنام عيونها مفتوحة إلى الإنسان كالناظر (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إبصارا نافعا ؛ إذا كان وصفا للمشركين ، أو أصل الإبصار ؛ إذا كان وصفا للأصنام.

[٢٠٠] وحيث أن الإنسان إذا ورد في خضم الاحتجاج ورأى عناد الخصم

٢٨٧

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ

____________________________________

على الباطل يأخذه الغضب الموجب للخروج عن آداب المحاورة ، أوصى الله سبحانه نبيه بمكارم الأخلاق ـ بمناسبة المقام ـ فقال : (خُذِ الْعَفْوَ) عن الناس أي لازم العفو عنهم ، وأصفح عن السيئ منهم ، أو المراد خذ الزائد من أموالهم ، أي ما عفا وفضل من نفقاتهم ، فإن الخمس والزكاة والخراج والجزية كذلك ـ غالبا ـ والمعنى الأول أقرب إلى الظاهر ، والمعنى الثاني وارد في الحديث ، ولا يبعد إرادة الأمرين ، فإن استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز إذا كان هناك دليل (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي ما يستحسنه العرف ، وهو ما ليس بقبيح عند العقل ، وهو ضد النكر (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) فلا تقابل جهلهم بجهل. إن المتكلم مع طبقات الناس المختلفة يحتاج إلى التزام هذه الأشياء إن أراد مراعاة الآداب ، فاللازم أولا أن يعفو عمن يخشن في الكلام ويتنكب عن طريق الحق ، ثم يأمره بالمعروف لعله يرجع ويسترشد ، فإذا رأى منه جهلا وإصرارا ، فليعرض عنه ولا يقابله بمثل عمله.

[٢٠١] (وَإِمَّا) مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة تأتي لتجميل الكلام وفوائد أخر (يَنْزَغَنَّكَ) «النزغ» هو الإزعاج بالإغراء ، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب ، أي إن تالك (مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ) وسوسة ونيل ونخسه في القلب ، وحركة وإزعاج بأن ثار القلب أمام الجاهل وغضب واحتد ، حتى أراد الانتقام والسباب (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي سل الله سبحانه أن يعيذك ويحفظك من شر الشيطان (إِنَّهُ) سبحانه (سَمِيعٌ)

٢٨٨

عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)

____________________________________

لقولك (عَلِيمٌ) بقصدك وما عرض لك.

[٢٠٢] ثم بيّن سبحانه أن هذه قاعدة المؤمنين كلما ألقى الشيطان في قلوبهم ميلا وزيغا ، أدركتهم الفطنة ، فلم يميلوا إليه (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) بأن جعلوا التقوى شعارهم ، وذاقوا حلاوتها وصارت ملكة وعادة عندهم (إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) بأن أتاهم من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم ، فأراد إغواءهم ، وميلهم عن الحق ، وأعمى قلوبهم ، وزين في نفوسهم الشهوات. وقد دلت الأدلة الشرعية والعلمية (١) على أن في الجو أرواح شريرة شأنها الإغراء والإغواء ، ولا يراها الإنسان.

(تَذَكَّرُوا) وأدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) يبصرون الطريق ولا يعمهون عن الحق ، ولا يتمكن الشيطان من تغشية قلوبهم بغشاء الشهوات والمغريات.

[٢٠٣] هذا شأن المتقين الذين لا يسايرون الشياطين في إغوائهم وإغرائهم (وَ) أما (إِخْوانُهُمْ) أي إخوان الشياطين الذين لا تقوى لهم ليرتدعوا عن المعاصي والآثام فإنهم (يَمُدُّونَهُمْ) أي يمدون الشياطين ويسايرونهم (فِي الغَيِ) والضلال ، فإذا مس العاصي طائف من الشيطان عمل بما يوحي إليه ، وكان ذلك إمدادا للشياطين ، لأنه مشى في ركابهم ، ومسايرة لهم (ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) بل يذهبون إلى آخر

__________________

(١) المس الروحي / عبد الرزاق نوفل.

٢٨٩

وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ

____________________________________

الشوط ، بخلاف المتقين الذين لا يمدون الشياطين ويقصّرون في المسايرة ، ولعل جملة «ثم لا يقصرون» للإشارة إلى أن المتقي إذا غفل وأغري ومشى بعض الطريق مع الشيطان أدركته بصيرته فرجع ولا يسير إلى آخر الشوط ، بخلاف إخوان الشياطين.

[٢٠٤] وفي سياق الكلام حول أدب الحوار مع الناس ، وأن المتقي متأدب بالآداب يأتي دور المحاورة بين الرسول والكفار حول القرآن كشاهد لأدب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكون الكفار إخوان الشياطين الذين يمدونهم في الغي (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ) يا رسول الله (بِآيَةٍ) أي بمعجزة يقترحونها عليك ، فإن الكفار كانوا يقترحون على الرسول الأمور الخارقة للعادة لمجرد المجادلة والمعاندة ، لا لإرادة الاهتداء والاسترشاد ، فإذا لم يستجب الرسول لمطلبهم (قالُوا) أي الكفار : (لَوْ لا اجْتَبَيْتَها) أي لماذا لم تختر هذه الآية المقترحة؟ ولماذا لم تأت بها؟ كأنهم ، يرون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفاعل لما يشاء ، فمهما اجتبى آية واختارها ، أتى بها (قُلْ) يا رسول الله : إن الآيات ليست باختياري واجتبائي ، بل (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) فاللازم اختيار الله للآيات ، فما رآها صلاحا أرسلها وزودني بها ، وما لم يرها صلاحا لم يرسلها ، إن كنتم تريدون الحق والهدى ـ حقيقة ـ وقصدكم من طلب الآيات ، إقامة الدليل والحجة على صدقي ف (هذا) الذي جئت به من القرآن المعجز الذي لم تتمكنوا أن تأتوا بمثله (بَصائِرُ) وحجج وبراهين (مِنْ) قبل (رَبِّكُمْ وَهُدىً) يهدي من أراد الحق إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) يوجب

٢٩٠

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً

____________________________________

ترحّم الله سبحانه ولطفه بالعاملين به (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اللام للعاقبة ، إذ المنتفع بهذه الآيات هم المتقون فقط.

[٢٠٥] وإذ تقدم ذكر القرآن تلميحا بقوله «هذا بصائر» بيّن سبحانه لزوم الأدب أمام القرآن بقوله : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ) أي قارئ كان (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي أعيروا أسماعكم له (وَأَنْصِتُوا) «الإنصات» هو السكوت. ومن المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع ، فإن الإنسان ربما يستمع إلى الكلام وهو يتكلّم ، ولذا نص عليه ، فإن الأدب أن يستمع الإنسان ، ولا يتكلّم ، وهذا الأمر للاستحباب ، ككثير من أوامر القرآن الكريم كقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) (١) ، كما دلّت على ذلك الأحاديث (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي يرحمكم الله سبحانه بسبب تأدبكم أمام كتابه الكريم ، أو بسبب اتعاظكم بمواعظه ، حيث تستمعون لها.

[٢٠٦] وبمناسبة الإنصات عند تلاوة القرآن ، يأتي بيان كيفية دعوة الله سبحانه ، فإن القرآن كلام الله للخلق ، والدعاء كلام الخلق مع الله سبحانه (وَاذْكُرْ) يا رسول الله ، أو كل من يأتي منه الذكر (رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) أما المراد به حديث النفس ، وأما المراد التذكر بالهمس والإخفات ، ولعل الأول أقرب ، بقرينة ما يأتي بقوله : «ودون ...» (تَضَرُّعاً) أي بنحو الضراعة والاستكانة (وَخِيفَةً) أي مع الخوف من

__________________

(١) النور : ٣٤.

٢٩١

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ

____________________________________

الله تعالى ، فإن ذلك أقرب إلى الإجابة (وَ) اذكره سبحانه (دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) فإن الكلام المتوسط خير ، وهذا لا ينافي استحباب الإجهار لدواعي أخر ، كما نزل جبرئيل على الرسول ، وقال : «يأمرك ربك بالعج والثج» (١) في باب التلبية وما ورد من أن الصلوات المجهر بها تذهب بالنفاق ، وما دل على الإتيان بالصلوات الثلاث جهرية ، إلى غير ذلك ، والقول بأن الله لا يحتاج إلى الإجهار تعليل تافه ، فإنه ينقض بأن الله لا يحتاج إلى الكلام ، فليكتف المستشكل بحديث النفس في قراءته ودعائه وأذكاره؟ (بِالْغُدُوِّ) أي الصباح (وَالْآصالِ) جمع «أصل» ، وأصل جمع «أصيل» ، فهو جمع الجمع ، ومعناه «العشيات» ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس ، وهذا كناية عن دوام الذكر ، والتفريق بين «الغدو والآصال» بالإفراد والجمع ، تفنن بلاغي لا يخفى لطفه.

(وَلا تَكُنْ) يا رسول الله ، أو المراد العموم ، والمقصد العموم على أي حال ، وإنما الكلام في مرجع الضمير (مِنَ الْغافِلِينَ) الذين يغفلون عن ذكر الله سبحانه. وفي الآية الكريمة روايات كثيرة غالبها من باب بيان المصداق ، فلا تضر بعمومها.

[٢٠٧] ثم بيّن سبحانه أن الملائكة الذين هم أبعد عن النزوات ، وهم دائمو الذكر ، فأجدر بالإنسان أن يكون متذكّرا دائما (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٩٦ ص ٢٨٦.

٢٩٢

لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)

____________________________________

أي الملائكة ، والمراد بكونهم عنده سبحانه أنهم في قربه ، قرب الجاه والمكانة ، لا القرب المكاني (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) ولا يترفعون بأنفسهم عن الخضوع والخشوع له سبحانه (وَيُسَبِّحُونَهُ) أي ينزهونه عما لا يليق به ، بذكر «سبحان الله» أو غيره (وَلَهُ) تعالى (يَسْجُدُونَ) كسجودنا ، أو المراد غاية الخضوع.

٢٩٣

(٨)

سورة الأنفال

مكية ، مدنية / آياتها (٧٦)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الأنفال» وحكمها. والجو العام لهذه السورة حول السلم والحرب وشؤونهما ، وحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ومناوئيهم ، وأمثلة من آل فرعون ومن كذّب بآيات الله سبحانه.

ولما كانت سورة الأعراف لبيان قصص الأنبياء ، وثم ختمت بقصة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، افتتحت هذه السورة بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جرى بينه وبين قومه ، فقال سبحانه :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) دليلا على ابتداء هذه السورة ، واختتام السورة السابقة.

٢٩٤

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ

____________________________________

[٢] (يَسْئَلُونَكَ) يا رسول الله (عَنِ الْأَنْفالِ) هو جمع «نفل» بمعنى الزيادة ، والمراد هنا : الغنيمة ، وإنما سميت نفلا لأنها عطية وفضل من الله سبحانه للمسلمين ، وقد اختلف التفسير حول الأنفال ، والذي نعتقده بعد الجمع بين الآيات والروايات أن الأشياء التي ليست ملكا لأحد وغنائم دار الحرب تنقسم إلى قسمين :

الأول : الغنائم ؛ وهي تقسم إلى خمسة أقسام : قسم يسمى «الخمس» لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. والأربعة الباقية للمقاتلين.

الثاني : الأنفال ؛ وهي ما سيأتي في الرواية ، وتكون لله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام ، وقد أبيحت في حال الغيبة لمن يتولى الأئمة عليهم‌السلام ، أو لمطلق من حازها مؤمنا كان أو غير مؤمن. وظاهر سياق الآية أن المراد بالأنفال هنا هي مطلق الغنائم ، فإن السورة نزلت في وقعة بدر ، ولما هزم المسلمون الكفار ، انقسموا ثلاث فرق.

روى عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهدت معه بدرا فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصيب العدو منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به. فنزلت

٢٩٥

____________________________________

الآية : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ)؟ (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين.

وهذا الحديث يدل على أن المراد بالأنفال مطلق الغنائم ، كما هو ظاهر السياق ، وهناك حديث يفسر الأنفال بما يحضر الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا منافاة بين الأمرين ، فقد تكرر منا سابقا أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في أكثر من معنى واحد إذا كانت هناك قرينة.

فعن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا وأعطوا بيدهم» (١).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «الفيء والأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو صولحوا أو أعطوا بأيديهم ولم تفتح بالسيف فهو يكون من الفيء والأنفال ، فهذه لله ورسوله فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء وهو للإمام بعد الرسول» (٢).

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : «الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال ، وكل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال والأرضون الموات والآجام وبطون الأودية وقطائع الملوك وميراث من لا وارث له فهو لله ولرسوله ولو من قام بنصه ومن مات وليس له مولى فماله من الأنفال» (٣).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٥٣٩.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٩ ص ٥٢٧.

(٣) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢١٠.

٢٩٦

قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا

____________________________________

وعلى هذا فتسمية هذا الشيء بالأنفال لزيادة الإمام بحصة دون سائر شركائه في الخمس.

(قُلِ) يا رسول الله في جواب السائلين عن الأنفال : (الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ليس لأحد حتى يتنازع فيها ، وإذا كانت لله والرسول فلهما الخيار في أن يقسماها كيف شاءا (فَاتَّقُوا اللهَ) خافوا عقابه في التنازع وطلب ما ليس لكم (وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي ما بينكم من الخصومة والمنازعة ، وإنما يؤتى بكلمة «ذات» لتشبيه الصلة التي بين الناس بأمر مجسّم فيما بينهم ، تشبيها للمعقول بالمحسوس (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في الغنائم وغيرها (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله سبحانه. قيل : إنه لما عرف المسلمين أنه لا حق لهم في الغنيمة وأنها لله والرسول ، قالوا : يا رسول الله سمعا وطاعة فاصنع ما شئت.

[٣] ثم ذكر سبحانه صفات المؤمنين الكاملين ليكون درسا للمسلمين في مستقبل حياتهم وليكون ميزانا يزن المسلم نفسه فيه فقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي اضطربت وخافت من عظمته ، وإن لم يكن خوفا من ذنب ، فإن الإنسان إذا علم أنه سيحضر محضرا كبيرا وعظيما ارتجف قلبه خوفا من الفشل (وَإِذا تُلِيَتْ) أي قرأت (عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ) الآيات (إِيماناً) فإن الإيمان ملكة في

٢٩٧

وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ

____________________________________

القلب ، كلما كرّر المطلب على الإنسان زادت الملكة قوة وثباتا (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في أمرهم ، فيفوّضون أمورهم إليه ، في كل مرجو ومخوف.

[٤] (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) بالإتيان بها مواظبين عليها ، والحث عليها بالنسبة إلى سائر الناس ، فإن الإقامة غير الإتيان (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) سواء الواجب من الإنفاق أو غيره.

[٥] (أُولئِكَ) المتصفون بهذه الصفات (هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وهم الذين شعرت قلوبهم الإيمان وامتثلت جوارحهم لتطبيقه (لَهُمْ دَرَجاتٌ) رفيعة (عِنْدَ رَبِّهِمْ) فهم مكتوبون عنده أصحاب الدرجات الرفيعة ، وسينالونها في الآخرة (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) فهم يرزقون بإكرام وإعظام لا بإهانة وإذلال.

[٦] إن الأنفال لله والرسول ، وإن كره المسلمون ذلك ، فإن في كونها لله والرسول حسن العاقبة والمصير ، كما إن إخراجك يا رسول الله لوقعة بدر كان بالحق ولعاقبة حسنة ، وإن كره المسلمون ذلك ، فإن الله وحده يعلم العواقب ، ويأمر بما هو خير (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ) يا رسول الله (مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) والمراد ب «البيت» هنا محل الإقامة ، وهي المدينة المنورة ، ومعنى «الإخراج» أمره بذلك (وَ) الحال (إِنَّ فَرِيقاً مِنَ

٢٩٨

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)

____________________________________

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) للخروج.

وقصة بدر في الجملة هي إن الكفار في مكة لما شرّدوا قسما من المسلمين إلى الحبشة ، وطاردوا الرسول وأصحابه ، حتى اضطروا للهجرة تحت جنح الظلام ، أخذوا بعد ذلك يؤذون المسلمين الباقين في مكة ، ويشيعون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه مختلف الإشاعات ، فأراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضع حدا لهذه التعديات التي لا مبرر لها إلّا الحقد والحسد. وأخيرا عزم على قطع طريق تجارتهم التي تسير بين مكة والشام ، ليتأدبوا ويأخذوا بذلك حذرهم.

فخرجت عير لقريش إلى الشام فيها كثرة وافرة من أموالهم ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالخروج ليأخذوها ، وأخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين ؛ غنيمة العير ، أو مطاردة قريش ومحاربتها وتبديدها ، فخرج هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ، فلما قارب «بدر» وهي بئر هناك أبلغ أبا سفيان ذلك ، وكان في العير فخاف خوفا شديدا ، وبعث إلى قريش فأخبرهم بذلك وطلب منهم الخروج والدفاع عن العير وأمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر ، وتركوا الطريق ومروا مسرعين ، ونزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر أن العير قد أفلتت وأن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها وأمره بالقتال ، ووعده النصر ، فأخبر به رسول الله أصحابه فجزعوا من ذلك وخافوا خوفا شديدا إذ لم يتهيئوا للحرب ، فقال رسول الله : أشيروا عليّ. فقام أبو بكر فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ولا ذلت منذ عزّت ولم نخرج على هيئة الحرب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجلس فجلس.

٢٩٩

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ

____________________________________

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشيروا عليّ. فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر ، فقال : اجلس ، ثم قام المقداد فقال : يا رسول الله إنها قريش وخيلاؤها ، وقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ولو أمرتنا أن نخوض جو الفضاء وشوك الهراس لخضنا معك ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى : «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكنا نقول : «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» ولكنا نقول : «اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون». فجزاه النبي خيرا ثم جلس ثم قال : أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ قال : نعم قال : فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره. قال : نعم. قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند الله ، فمر بنا بما شئت وخذ من أموالنا ما شئت.

ثم قال : والله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. إلى أن قال : ولكن نعد لك الرواحل ونلقي عدونا فإنا صبّر عند اللقاء أنجاد في الحرب ، وإنا لنرجوا أن يقرّ الله عينيك بنا. فقال رسول الله : كأني بمصرع فلان هاهنا وبمصرع فلان هاهنا وبمصرع أبي جهل وعتبة وشيبة فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف الله الميعاد (١) ، فنزلت الآية : (كَما أَخْرَجَكَ) فأمر بالرحيل حتى نزل ماء بدر وأقبلت قريش.

[٧] (يُجادِلُونَكَ) يا رسول الله بعض المؤمنين فيما دعوتهم إليه من محاربة قريش (فِي الْحَقِ) فإن الحرب واجب وحق (بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أنه حق ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٤٧.

٣٠٠