تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا

____________________________________

الله ويقتلون الأنبياء بغير حق (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) في إخبارنا عن بني إسرائيل وما فعلوا وما فعلنا بهم ، وذلك بخلاف كثير من الأعداء حيث يلفّقون أخبارا مكذوبة على أعدائهم لحطّهم في أعين الناس.

[١٤٨] (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) يا رسول الله فيما ذكرت للمشركين من التحريم والتحليل ، حيث قالوا : إن حرام الله وحلاله كما نقول ، أو فيما ذكرت عن اليهود من تحريم الله عليهم المذكورات بسبب بغيهم (فَقُلْ) لهم : (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) يرحم جميع ذوي الروح ، ولذا لا يعاجلكم بالعقوبة لكي تتوبوا (وَ) لكن مع ذلك (لا يُرَدُّ بَأْسُهُ) أي : لا يدفع عذابه إذا جاء وقته (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) الذين ارتكبوا الجرائم.

[١٤٩] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) واتخذوا شريكا لله سبحانه ، للدفاع عن أنفسهم ، وتبرير شركهم (لَوْ شاءَ اللهُ) أن لا نشرك (ما أَشْرَكْنا) نحن (وَلا) أشرك (آباؤُنا) من قبل (وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) فإذا أشركنا وحرمنا وسكت الله عنا فهو يرضى بذلك ويريد شركنا وتحريمنا (كَذلِكَ) أي كتكذيب هؤلاء لك يا رسول الله في قولك : إن الله لا يرضى بالشرك ولم يحرّم ما حرّمتموه (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أنبياءهم (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) أي : حتى نالوا عذابنا ونكالنا

١٤١

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (١٤٨) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ

____________________________________

(قُلْ) يا رسول الله لهم ، ردّا على حجتهم (هَلْ عِنْدَكُمْ) أيها المشركون (مِنْ عِلْمٍ) بأن الله يريد شرككم وتحريمكم للمحللات (فَتُخْرِجُوهُ لَنا) وإذ ليس لكم دليل فكلامكم خال عن الحجة (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون في أقوالكم وأعمالكم (إِلَّا الظَّنَ) فإنكم تظنون ما تقولونه لما اعتدتم عليه (وَإِنْ أَنْتُمْ) أي : ما أنتم (إِلَّا تَخْرُصُونَ) الخرص ، هو : التخمين.

[١٥٠] (قُلْ) يا رسول الله لهم : إنكم إذا عجزتم عن إقامة الدليل على عقيدتكم ومدّعاكم (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) التي بلّغتكم ، بأنه لا يريد الشرك ، ولم يحرّم المذكورات (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) بالجبر والإكراه ، لكنه لا يشاء ذلك حتّى يجري الاختيار والاختبار.

[١٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين حرموا الأمور المذكورة : (هَلُمَ) أي : أحضروا (شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) الذي ذكرتم حرمته من أقسام الحيوان والزرع ، إنه طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم ، ثم طالبهم بالشاهد ، لكنه لا شاهد عندهم ، ولكنهم قد يأتون بشهود زور (فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ) يا رسول الله (مَعَهُمْ) فإن شهادتهم باطلة.

وإن قيل : كيف دعاهم إلى الشهادة ، ثم لم يقبل شهادتهم؟

١٤٢

وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١٥٠) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً

____________________________________

قلنا : إنه دعاهم إلى أن يأتوا بالشهود العدول لا من أنفسهم ، وإلّا فالمدعي لا يكون شاهدا ، فإن شهدوا بأنفسهم لم تقبل شهادتهم.

(وَلا تَتَّبِعْ) يا رسول الله (أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي هوى أنفسهم ، فإن من لا يعمل بالحق لا بد وأن يكون متبعا لهواه ، وحيث يرشده الهوى إليه (وَ) لا تتبع أهواء (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) كالكفار الذين كانوا ينكرون البعث. ومن المعلوم أن الكفار كانوا على قسمين : منهم من يؤمن بالآخرة كأهل الكتاب ، ومنهم من لا يؤمن بها كالدهرية (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي : يجعلون له عدلا وشريكا.

[١٥٢] وبعد استنكار ما حرمه المشركون على أنفسهم ، واستنكار استحلالهم لبعض المحرمات ، يأتي السياق لبيان المحرمات الواقعية التي حرّمها الله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (تَعالَوْا) أي أقبلوا واحضروا (أَتْلُ) أي أقرأ (ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) «ما» مفعول «أتل» (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ) أي بالله (شَيْئاً) أي لا تجعلوا له سبحانه شريكا. والجملة في تأويل المصدر ، فيكون بدلا من «ما حرم» أي أتل تحريم الشرك. فلا يقال : إن النفي في النفي يفيد الإثبات.

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) أي أوصاكم بهما إحسانا ، إذ في «حرّم» معنى الإيصاء ، و «إحسانا» منصوب بفعل مقدّر ، تقديره : «أحسنوا

١٤٣

وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٥١)

____________________________________

بالوالدين إحسانا». ومن المعلوم أن ترك كل واجب حرام ، ولذا صحّ تعداده في جملة «ما حرم» (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ) بنين وبنات (مِنْ إِمْلاقٍ) هو الفقر ، أي من جهة الفقر ، فقد كان المشركون يقتلون أولادهم ، خوف أن يفتقروا فلا يجدوا مؤونتهم. (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ) أنتم أيها الآباء (وَإِيَّاهُمْ) أي الأبناء ، فليس رزقهم عليكم ، ثم إن من المعلوم أن الرزق يحتاج إلى جدّ وتعب فليس المراد برزقه إياهم أنه ينزله من السماء في الدلو (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ) جمع فاحشة ، صفة للمقدر أي «الصفة الفاحشة» (ما ظَهَرَ مِنْها) للناس (وَما بَطَنَ) أي أتي به سرا ، وهذا يشمل جميع المحرمات غير المذكورة بالنص (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) من المسلم والمعاهد (إِلَّا بِالْحَقِ) وقد تقدم أن مثل هذه الاستثناءات من أصل الكلام ، لا من قيده ، أي لا تقتلوا النفس إلّا بالحق ، والحق في القتل في موارد خاصة ، كالجهاد ، والزاني المحصن ، والمرتد الفطري ، والمهاجم والقصاص ، وما أشبه. (ذلِكُمْ) المذكور في الآية من المحرمات (وَصَّاكُمْ) الله (بِهِ) أي أمركم به ، فإن الوصية بمعنى الأمر (لَعَلَّكُمْ) أيها البشر (تَعْقِلُونَ) أي تحكّمون عقولكم في المحرم والمحلل ، فلا تقولوا شيئا اعتباطا.

١٤٤

وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها

____________________________________

[١٥٣] (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) وهو من فقد الأب والجد ، أو الأعم منه ومن فقد الأم ، وكلمة «لا تقربوا» للمبالغة في الاجتناب ، وتخصيص اليتيم بالذكر ، مع عدم جواز التصرف في مال كل أحد بدون رضاه ، لأجل أن اليتيم لا يقدر على الدفاع عن نفسه (إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالطريقة التي هي أحسن من سائر الطرق ، بأن يحفظ له ماله إلا بمقدار ضروري لمعاش اليتيم حيث ينفق عليه (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) «الأشد» : جمع «شد» نحو : أضر ، جمع : ضر ، والشد : القوة ، وهو استحكام قوة الشباب ، أي حتى يبلغ إلى قوة شبابه ، وهو إنما يحصل بالبلوغ والرشد ، والبلوغ في الولد كمال خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، أو الاحتلام ، وفي البنت غالبا كمال التسعة والدخول في العاشرة (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ) فلا تنقصوا الكيل والميزان عند البيع ، ولا تزيدوهما عند الشراء (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل ، فلا إفراط ولا تفريط.

(لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي بالمقدار الذي يسعها ، ولا يوجب ضيقا وحرجا عليها ، فهذه التكاليف السابقة ، لا حرج فيها على النفس ، أو المراد أن الوفاء بالكيل والوزن حسب المتعارف ، لا الدقة العقلية حتى يوجب عسرا وحرجا.

ولا يقال : فكيف كلّف الإنسان بالجهاد؟

لأنا نقول : إن الجهاد خارج عن هذا العموم ، فإنه لإرساء قواعد

١٤٥

وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١٥٢) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ

____________________________________

الإسلام ، والعموم إنما هو في مقابل التكاليف في سائر الشرائع ـ المنحرفة ـ والقوانين المرهقة ، فإنه يريد بيان سهولة أحكام الإسلام وسماحتها.

(وَإِذا قُلْتُمْ) شيئا (فَاعْدِلُوا) في القول ، والعدل فيه أن لا يميل القائل نحو الباطل. فالغيبة ، والسبّ ، والقضاء بغير الحق ، وما أشبهها ، ظلم ، ليس بعدل (وَلَوْ كانَ) المقول فيه (ذا قُرْبى) فإن الناس غالبا يقولون الباطل لصالح ذوي قرباهم ، ولذا يأمرهم سبحانه بالعدل بالنسبة إليهم (وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) والمراد جميع معاهداته ، كما قال : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (١) ، فالمراد الإتيان بالواجبات وترك المحرمات (ذلِكُمْ) الذي تقدم ذكره من الأحكام (وَصَّاكُمْ بِهِ) على طريق اللزوم والحتم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي تتذكروا وتأخذوا به ، والتذكّر باعتبار ما هو كامن في الفطرة من حسن هذه الأشياء ، كما سبق.

[١٥٤] (وَ) وصّاكم سبحانه (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً) أي أن الأحكام التي أنزلتها توصل إلى السعادة ، فهي طريق إليها بالاستقامة ، لا كسائر الطرق الملتوية ، التي قد لا توصل ، وقد توصل بالتواء وعناء (فَاتَّبِعُوهُ) أي سيروا عليه وانتهجوه (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ) الأخرى من سبل الكفر والبدع

__________________

(١) البقرة : ٤١.

١٤٦

فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (١٥٤) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥)

____________________________________

والشبهات (فَتَفَرَّقَ) أي تتفرق تلك السبل (بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) فتشتّتكم ، وتلهيكم عن طريقه سبحانه (ذلِكُمْ) الاتباع لسبيله (وَصَّاكُمْ) الله (بِهِ) إلزاما (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي لكي تتقوا عقابه وتحذروا الخسران.

[١٥٥] إن هذا الصراط كان قديما قبل موسى وعيسى ومحمد عليهم‌السلام ، وإن الجميع كانوا مأمورين باتباعه (ثُمَ) بعد سبق هذا الصراط عند الأنبياء السابقين (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي أعطيناه التوراة (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) أي لأجل إتمام عمل موسى عليه‌السلام الحسن الذي أدّاه ؛ من القيام بالتبشير والهداية ، أو لأجل إتمام النعمة على موسى الذي أحسن الخدمة لله سبحانه ، فإن إنزال الكتاب على النبي من أعظم المفاخر بالنسبة إليه (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) مما يحتاج إليه الناس (وَهُدىً) أي دلالة على الحق (وَرَحْمَةً) يرحم الله بسببه على عباده حيث ينقذهم من الشقاء إلى السعادة (لَعَلَّهُمْ) أي لعل الناس (بِلِقاءِ رَبِّهِمْ) أي بملاقاة جزائه وثوابه وعقابه (يُؤْمِنُونَ) فيسعدون.

[١٥٦] (وَهذا) القرآن (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) له بركة يأتي منه الخير الكثير (فَاتَّبِعُوهُ) أيها الناس (وَاتَّقُوا) معاصي الله سبحانه ، ومخالفة كتابه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لكي تشملكم الرحمة.

١٤٧

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

____________________________________

[١٥٧] وإنما أنزلنا هذا الكتاب (أَنْ تَقُولُوا) أي لئلّا تقولوا : (إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ) من قبل الله سبحانه (عَلى طائِفَتَيْنِ) اليهود والنصارى (مِنْ قَبْلِنا) ولم يرتبط الكتاب بنا حتى نؤمن به (وَإِنْ كُنَّا) «إن» مخففة من المثقلة ، أي أنه كنّا نحن العرب (عَنْ دِراسَتِهِمْ) أي دراسة أولئك الطوائف المنزلة عليهم الكتب ، أي لغتهم (لَغافِلِينَ) فلم نعرف ما في كتبهم حتى نؤمن بها ، فقد أنزلنا إليكم الكتاب حتى لا يكون لكم عذرا في عدم الإيمان.

[١٥٨] (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ) الذي نفهمه (لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) أي أكثر هداية في التمسك والعمل على طبق الكتاب لأنا ألين عريكة ، وأكثر تمسكا بالمعتقدات (فَقَدْ جاءَكُمْ) أيتها الأمة المعاصرة للرسول (بَيِّنَةٌ) أي دلالة واضحة (مِنْ رَبِّكُمْ) وهو القرآن (وَهُدىً) يهتدى به إلى الحق (وَرَحْمَةٌ) يرحم بها الله من تمسّك به ، إذ يسعده في الدنيا والآخرة.

(فَمَنْ أَظْلَمُ) أي من يكون أكثر ظلما لنفسه (مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللهِ)؟! وهو القرآن (وَصَدَفَ) أي أعرض (عَنْها) أي عن الآيات (سَنَجْزِي) في الآخرة ، أو الأعم منها ومن الدنيا (الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

١٤٨

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (١٥٧) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٥٨)

____________________________________

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ) أي العذاب الشديد (بِما كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب إعراضهم عن الحق والآيات.

[١٥٩] ما ينتظر هؤلاء الكفار بعد نزول القرآن؟ (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي هل ينتظرون للإيمان (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وذلك لا يمكن في دار التكليف (أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وذلك مستحيل لأن الله لا مكان له ولا حركة (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) أي العذاب ، حتى يروا العذاب فيؤمنوا (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) يا رسول الله (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) فإن العذاب إذا نزل لا تقبل التوبة ، لأن العذاب لا ينزل إلا بعد تمام الحجة والمخالفة ، وحين ذاك قد تم الاختبار وصار موعد المجازاة (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) عطف على «لم تكن آمنت» ، والمعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم ، أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير ، فإنها إذا آمنت فقد نفعها إيمانها ، وكذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة لنفعها أيضا ، فلا ينفع إيمان الكافر ، ولا طاعة المؤمن عند حلول العذاب ، وإنما النافع الإيمان السابق ، والطاعة السابقة (قُلِ) يا رسول الله لهؤلاء : (انْتَظِرُوا) إتيان بعض آيات الله ف (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) ذلك

١٤٩

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩)

____________________________________

حتى يرى كل واحد منّا جزاءه العادل وما قدم لنفسه.

[١٦٠] ثم يقرّر سبحانه أن الإسلام إنما هو دين واحد لا تفرقة فيه ، فالذين يتفرقون ليسوا من الإسلام ، كما أن من أشرك ليس من الإسلام (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) تفريقا بالأهواء كالكفار المختلفين ، أو بالأديان كاليهود والنصارى وفرقهم ، أو بالضلالة والشبهات ولو في دين الإسلام ، كالفرق المبتدعة ، فإن الذين يفعلون ذلك (وَكانُوا شِيَعاً) جمع «شيعة» أي طوائف مختلفة (لَسْتَ) يا رسول الله (مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) فلا ربط بينكما أبدا ، وإنما هم في جهة وأنت في جهة.

وليس معنى أن الجميع على باطل ، بل المعنى أن ما ليس فيه الرسول باطل ، وإلّا فالحق دائما مع إحدى الطوائف (إِنَّما أَمْرُهُمْ) أي أمر هؤلاء الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا (إِلَى اللهِ) فهو الذي يجازيهم لسوء أفعالهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم (بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) من الأعمال. وهذا تهديد ، كقولك : «لأعلمنك غدا» لمن خالف أمرك ، تريد أنك تعاقبه بفعله.

وهنا سؤال : إذا علمنا نحن المسلمين بطلان سائر المذاهب والطوائف ، فما ذا نفعل بهذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم؟

والجواب : إن الكتاب والسنّة يأمراننا باتباع علي وأهل بيته الأئمة الأحد عشر عليهم‌السلام ، وبعد ذلك فقد عيّن الفقهاء الراشدون لمرجعية الأمة ، في قوله عليه‌السلام : «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ،

١٥٠

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا

____________________________________

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلدوه» (١). وقوله عليه‌السلام : «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله» (٢). أما الاختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع فليس ذلك اختلافا يذكر ، بل هو كالاختلاف بين كل مهندسين ، أو طبيبين ، أو حاكمين ، مع إخلاص كل منهما واتحاد منهجهما.

ثم إنه قد يستغرب : كيف يكون مصير هذه الكثرة من الناس الذين ليسوا بمسلمين ، وكثير من المسلمين المنحرفين ، النار ، ومن يبقى للجنة إذا؟

والجواب : إن ما يستفاد من الآيات والروايات أن الخلود في النار إنما هو للمعاند ، ولا دليل على أنه لا يمتحن القاصر من البشر في الآخرة ليدخل الجنة ، بل دلّ الدليل على ذلك ، كما هو مذكور في علم الكلام. ومن المعلوم عدم كون أكثر الناس مقصرين معاندين ، إذا فليس بالبعيد دخول كثرة هائلة من البشر الجنة ، للإيمان وحسن العمل في الدنيا ، أو حسن الامتحان في الآخرة.

[١٦١] وإذ تقدم الكلام حول الجزاء يقرر السياق القاعدة العامة له وأنه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) التاء إما للمبالغة ، وإما للتأنيث أي طاعة حسنة (فَلَهُ) من الثواب (عَشْرُ أَمْثالِها) على الأقل وإلا فقد يبلغ الثواب إلى (سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) (٣) ، (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) في التاء القولان ، وإذا كانت للتأنيث فهي صفة «خصلة» (فَلا

__________________

(١) تفسير الإمام العسكري : ص ٢٩٩.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠.

(٣) البقرة : ٢٦٢.

١٥١

يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦٠) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي

____________________________________

يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) سيئة واحدة وإن كانت عظيمة جدا ، فلا يقال : ما فائدة «الواحدة» فيما لو كانت أعظم من المعصية ككذبة واحدة جزاؤها سنة في النار ـ مثلا ـ؟ فمثلا جزاء من يسب الملك بلفظة مائة سوط ، وهو جزاء واحد ، وإن كان عظيما في نفسه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) في مقدار ما استحقوا من السيئات بل جزاء وفاقا.

[١٦٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي) أي أرشدني (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) والمراد : الصراط الموصل للإنسان إلى الحقائق والسعادة في الدنيا والآخرة ، بالنسبة إلى كل شيء من الأمور (دِيناً) منصوب على تقدير هداني ، أي هداني دينا ، أو على الحال أي أن الصراط في حال كونه دينا (قِيَماً) أي مستقيما ، وهو مصدر ، ك «الصغر والكبر» (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) بدل من «دينا» والملة : هي الشريعة ، مأخوذة من «الإملاء» لأن الشرع يمليه الرسول على أمته ، وإنما نسب الدين إلى إبراهيم عليه‌السلام لاتفاق جميع الأديان على جلالته عليه‌السلام وصحة دينه ، وقد كانت الأديان كلها دينا واحدا فلا مانع أن ينسب اللاحق إلى السابق (حَنِيفاً) أي في حال كون تلك الملة مائلة عن الباطل إلى الحق ، من «حنف» بمعنى «مال» (وَما كانَ) إبراهيم عليه‌السلام (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلم يكن مشركا كمشركي مكة ولا يهوديا ولا نصرانيا ، فكلاهما مشركان.

[١٦٣] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (إِنَّ صَلاتِي) وهي الصلوات التي يأتيها

١٥٢

وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى

____________________________________

الإنسان واجبة أو مندوبة (وَنُسُكِي) النسك : العبادة ، يقال : رجل ناسك أي متعبد ، ويقال للأضحية : النسكية ، للتقرب بها إلى الله ، فهي عبادة (وَمَحْيايَ وَمَماتِي) أي حياتي وموتي (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فإن عبادتي له وحده بلا شريك ، وأموالي ملكه وبقدرته لا بشركة أحد معه.

[١٦٤] (لا شَرِيكَ لَهُ) لا أشرك أحدا به في العبادة ، ولا أزعم أن له شريكا في حياتي وموتي (وَبِذلِكَ) أي بالتوحيد (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) من هذه الأمة ، أو المراد رتبة إسلامي من أول الرتب.

[١٦٥] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي) أي أطلب (رَبًّا) وإلها (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) الاستفهام للإنكار ، أي كيف أتخذ غير الله إلها ـ بالاستقلال أو بالشركة ـ والحال أنه تعالى رب كل شيء لا رب سواه ولا إله إلا هو؟

(وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) فإذا اكتسبت المعصية بالشرك ، لحقني جزائي السيئ ، (وَلا تَزِرُ) أي لا تحمل من «وزر» بمعنى حمل الإثم (وازِرَةٌ) أي نفس حاملة (وِزْرَ) أي معصية نفس (أُخْرى) بل عصيان كل أحد على نفسه وهو يحمل تبعته.

قيل : إن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتبعنا وعلينا وزرك إن كان خطأ ، فأنزل الله هذه الآية.

١٥٣

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)

____________________________________

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) أي إلى حسابه مصيركم أيها المشركون ، أو أيها البشر (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم (بِما) أي بالشيء الذي (كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ليجازي كل إنسان وما عمله من إحسان وإساءة.

[١٦٦] (وَهُوَ) الله وحده (الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) فإنكم تخلفون أهل العصر السابق في إرث الأرض وما عليها ، كما أن من بعدكم يخلفكم ويرثكم في أرضكم وأموالكم (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) ذكاء ، وعلما ، ومالا ، ومنصبا ، ومن سائر الجهات ، فإن الأمور التكوينية والتقديرية كلها بيده لا شريك له (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) أي استخلفكم وأعطاكم عطاء متفاوتا ليختبركم ، ويظهر سرائركم ، وهل أنكم تطيعون أم تعصون (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ) فلا يظن الكافر والعاصي ، أن العقاب بعيد ، فإن أمد الدنيا قصير مهما طال ، أو المراد سرعة العقاب في الدنيا ، وقبل الآخرة ، إذ المعاصي توجب آثار وخيمة فورا في الدنيا (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ) لمن تاب وآمن (رَحِيمٌ) يرحم العباد ، ويتفضل عليهم من واسع فضله.

١٥٤

(٧)

سورة الأعراف

مكية / آياتها (٢٠٧)

سميت السورة بهذا الاسم لوجود كلمة «الأعراف» فيها. ولما ختم سبحانه «الأنعام» بالرحمة ، افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين والحكمة.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أبتدئ بها السورة ، وأجعل الإله الرحمن الرحيم ، قدام قراءتي لها.

١٥٥

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤)

____________________________________

[٢] (المص) قد تقدم تفسير فواتح السور المقطعة ، وأنها رموز بين الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أن من جنس هذه الحروف.

[٣] (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وهو القرآن فليس حروفه أمرا خارقا ، وإنما التركيب أمر خارق (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) يا رسول الله (حَرَجٌ) وضيق (مِنْهُ) أي من هذا الكتاب ، حيث ترى أن قومك يكذبوك ويؤذوك في سبيله ، بل اطمئن بنصر الله سبحانه وحسن ثوابه ، وإنما أنزل الكتاب إليك (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي بهذا الكتاب ، الكافرين والعصاة ، بعقاب الله تعالى (وَ) ليكون (ذِكْرى) وتذكرة (لِلْمُؤْمِنِينَ) فيتذكرون به الدين والأصول والفروع ، ليعملوا بما فيه.

[٤] (اتَّبِعُوا) أيها الناس (ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) من القرآن والأحكام (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي غير ربكم تعالى (أَوْلِياءَ) كالأوثان ، والكفار (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي قليل ـ أيها البشر ـ تذكركم واتعاظكم.

[٥] (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي كثيرا من أهل القرى (أَهْلَكْناها) عبّر بالقرية وأريد أهلها بعلاقة الحال والمحل ، والمراد بالإهلاك إرادته ، فإنه كثيرا ما يقال الفعل ويراد مقدماته ـ كما قرّر في علم البلاغة ـ (فَجاءَها بَأْسُنا) أي عذابنا (بَياتاً) أي بالليل (أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي في وقت القيلولة وهي نصف النهار ، من «أقال» بمعنى «أراح» ، ومن المعلوم أن العذاب

١٥٦

فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨)

____________________________________

في هذين الوقتين أشد وقعا لغفلة الناس وراحتهم.

[٦] (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم ، وكلامهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) وقت مجيء العذاب (إِلَّا) الاعتراف بذنبهم ب (أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فاعترفوا بما كان منهم حين رأوا العذاب.

[٧] لكن الاعتراف لم ينفعهم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل ، يسألهم عن أعمالهم ، وما أجابوا به الرسل لما بعثوا إليهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي الأنبياء ، فإن كل واحد من الرسل والأمم لا بد وأن يحضر في محضر الحساب.

[٨] وليس السؤال لجهلنا بما صدر من الطرفين (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي نقص ما كان من الطرفين قصة صادرة عن علمنا بأحوالهم ، فليس السؤال إلا التقرير والتأكيد على أنفسهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن أعمالهم حين عملوها بل كنّا شهودا عليهم حاضرين ـ علما ـ عند أعمالهم.

[٩] (وَالْوَزْنُ) للأعمال (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة (الْحَقُ) فلا ينقص حق ولا يزاد على حق ، وإنما توزن الأعمال بموازين عادلة (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) الصالحة ، وإنما جمع «الميزان» ، باعتبار كل عمل عمل (فَأُولئِكَ) الذين ثقلت موازينهم (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الذين فازوا بالسعادة الأبدية.

١٥٧

وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)

____________________________________

[١٠] (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الصالحة بأن ثقلت موازين سيئاته (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) فإن النفس كانت لتحصيل الجنة ، فقد حصل الإنسان بها النار (بِما كانُوا) أي بسبب كونهم (بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي بسبب جحودهم بما جاء به الرسل من الآيات.

وهنا سؤال : ما هي طبيعة «الموازين» في الآية؟

والجواب : من المحتمل أن يراد بها الموازين المعقولة لا المحسوسة ، كما يقال : وزنت فلان ، أو فلان خفيف الوزن ، أو فلان له وزن ، وهكذا. والله سبحانه يعلم قيمة الأعمال ، كما أنّا نعرف قيم بعض الأعمال ، فنقدر المهندس وعمله أكثر مما نقدر العامل. كما أن من المحتمل أن يراد بها الموازين المحسوسة بأن تتجسّم الأعمال ، فللصلاة صورة ووزن ، وهكذا لسائر الأعمال الخيرية والشرية ، ثم توزن في موازين كموازين الدنيا.

[١١] (وَ) كيف لا تخضعون لله سبحانه ، والحال أنه بالإضافة إلى نعمة إرسال الرسل والهداية ، ابتدأ عليكم بنعمة الحياة؟ ف (لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) أيها البشر (فِي الْأَرْضِ) بأن جعلنا الأرض تحت إرادتكم تبنون وتزرعون وتخرجون كنوزها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) أي ما تعيشون به من أنواع الرزق (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي أن شكركم للنعم قليل.

١٥٨

وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ

____________________________________

[١٢] (وَ) قبل ذلك (لَقَدْ خَلَقْناكُمْ) أي أوجدنا أصلكم الذي هو التراب ، أو المني ، أو الدم ، بعد العدم (ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أفضنا عليكم الصورة الإنسانية ، في رحم الأمهات (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) إن أريد ب «ثم» معناها الظاهر ، كان المراد من «خلقناكم» خلقنا أسلافكم ، أي آدم عليه‌السلام ، ومن البلاغة أن ينسب الإنسان ما للآباء إلى الأبناء ، كما قال : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) (١) ، بالنسبة إلى اليهود المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإن أريد بها الترتيب في الكلام ، نحو «إن من ساد ثم ساد أبوه» كان الخطاب في «خلقناكم» على ظاهره.

وقد كان أمرنا بالسجود لآدم ـ جدكم ـ نعمة وتشريفا لكم (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) الشيطان ، ويسمى إبليسا لأنه «أبلس» وحرم من رحمة الله سبحانه (لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) فإنه أبى واستكبر ، وهو لم يكن من الملائكة ، وإنما كان معهم فشمله الخطاب.

[١٣] (قالَ) الله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) «لا» زائدة في الكلام ، أي ما منعك أن تسجد ، وإنما يؤتى بها لنكتة بديعة ، هي قطع الكلام عما سبقه والابتداء بالكلام التالي ، ليتكرر التوبيخ كأنه قال «ما منعك»؟ وحذف المتعلق ثم سكت هنيئة ، وابتدأ «أن لا تسجد». ومثل هذا في المحاورات كثير (إِذْ أَمَرْتُكَ) بالسجود (قالَ) إبليس :

__________________

(١) البقرة : ٩٢.

١٥٩

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)

____________________________________

(أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) أي من آدم ، فلا ينبغي للأرفع أن يسجد ويتواضع للأخفض ، ثم علل كونه خيرا بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ) أي خلقت آدم (مِنْ طِينٍ) والنار مضيئة والطين كدر. لكن قياسه كان باطلا إذ مجرد الإضاءة لا تكون سبب الأفضلية ، وإنما الأشياء بالكسر والانكسار ، وإعدام النار للأشياء بعكس الأرض المحيية لها جهة نقص فيها ، سبب لرفعة الأرض عليها ، بالإضافة إلى أن التواضع كان للآمر لا لآدم ، فمن أمر عبده بأن يحمل طبقا من طين على رأسه كان عمل العبد امتثالا للسيد لا تواضعا للطين.

[١٤] (قالَ) الله سبحانه لإبليس : (فَاهْبِطْ) أي اخرج خروجا انحداريا ـ إما منزلة أو حقيقة ـ (مِنْها) أي من الجنة (فَما يَكُونُ لَكَ) أي ليس لك حق (أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها) أي في الجنة لأنها ليست موضع المتكبرين (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) من «الصغار» وهو «الذلة» ، فإنك ذليل في مقام قربنا ، حقير عندنا.

[١٥] (قالَ) إبليس لله سبحانه : (أَنْظِرْنِي) أي أمهلني لأن أبقى حيا (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي يوم القيامة الذي يبعث فيه الخلق للجزاء.

[١٦] (قالَ) الله سبحانه : (إِنَّكَ) يا إبليس (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي من الذين يمهلون ولا يعجل لهم بالموت ، ولعلّ المراد بسائر المنظرين «الملائكة» ـ أي أنت أيضا مثلهم في الإمهال ـ ولكن من المعلوم أنه

١٦٠