تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢٠) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢١)

____________________________________

لمالكه وتفويض الأمر إلى مدبره ، وهذا التعبير لا ينافي علم عيسى عليه‌السلام بأنهم معذبون ، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر : «إنه بيدك إن شئت فعلت وإن شئت تركت» حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة. هذا بالإضافة إلى أن بعضهم ـ وهم القاصرون ـ قابلون للغفران.

[١٢٠] (قالَ اللهُ) بعد ذلك الحوار ، في مشهد القيامة (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) فلا الكاذب المغالي القائل «المسيح ابن الله» ، أو «هو الله» ، ينفعه كذبه ، ولا الكاذب المغالي القائل «بأن المسيح بشر غير نبي» ينفعه كذبه ، إنه يوم الصدق ، وينفع الصادق صدقه (لَهُمْ) أي للصادقين (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي تحت قصورها وأشجارها (الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) مما لا نهاية له (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بما عملوا في دار الدنيا (وَرَضُوا عَنْهُ) بما أعطاهم من الجزاء والثواب (ذلِكَ) المقام الذي حصلوه بما عملوا (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز بعده أعظم منه.

[١٢١] إن النصارى كذبوا في جعل الشريك لله ، ف (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا شريك له فيهن ، ولا ملك غيره (وَما فِيهِنَ) مما يوجد فيهما من إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو غيرها (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يمتنع عليه شيء ، ومن هذه صفته لا يكون له شريك في الملك.

٤١

(٦)

سورة الأنعام

مكيّة ـ مدنية / آياتها (١٦٦)

سميت بذلك لاشتمالها على كلمة «الأنعام».

وفي حديث : أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة ، وشيعها سبعون ألف ملك لعظمتها (١).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الإله الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد ويعطف عليهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٦ ص ٢٣٠.

٤٢

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (٢)

____________________________________

[٢] ولما كان ختام السورة السابقة أن (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك الختام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) واللام في الحمد للجنس ، أي أن جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه ، و «السماوات» غالبا تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعارا بأكثرية السماوات على الأرض ، وإلا فالأرضون أيضا سبعة كما قال سبحانه : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (١) (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) أي كوّنهما ، و «الظلمة» إن كانت عدم ملكة ، فمكوّن الملكة مكون العدم لأن أعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا. وقد أتى بالظلمات جمعا بخلاف النور ، للتناسب مع الجملة السابقة «السماوات والأرض» ولعل سر الإتيان بصيغة الجمع انقسام الظلمات حوالي النور فإن النور يشق طريق الظلمة ، كلما قرب النور كان أرق.

ثم أظهر سبحانه التعجب من الذين يتخذون من دون الله أندادا بينما كان كل شيء لله سبحانه (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد كل هذه الآيات والدلائل (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يسوونه بغيره ويجعلونه عدلا وشريكا ومثيلا لأشياء أخرى مما لا أثر لها ولم تخلق شيئا.

[٣] وحيث أن الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءا ومعادا ، والأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل بالآيات من عقيدة إلى

__________________

(١) الطلاق : ١٣.

٤٣

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٣) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٤)

____________________________________

عقيدة ، ومن خلق إلى خلق (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) إما باعتبار أبينا آدم عليه‌السلام وإما باعتبار خلق كل فرد من التراب والماء ، فإن الإنسان من النطفة وهي من النبات والحيوان وهما من الأرض والماء (ثُمَّ قَضى) أي قدّر وكتب (أَجَلاً) أي مدة للإنسان عامة ، حتّى تنقضي الدنيا ، أو لكل فرد حيث أن لكل فرد مدة لا يتجاوزها (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) إما تفصيل ل «أجلا» أي أن الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سمي لكل شخص فليس بيد غيره الآجال ، وإما المراد أن البعث الذي هو أجل ومدة لبقاء الإنسان في الدنيا حيا وميتا (عِنْدَهُ) فبيده قيام الساعة (ثُمَّ أَنْتُمْ) أيها البشر (تَمْتَرُونَ) أي تشكّون في الله سبحانه. إنه بيده الخلق والموت والبعث لا بيد غيره ، فكيف تشكون فيه وتتخذون غيره شريكا له؟!

[٤] (وَهُوَ اللهُ) لا إله غيره (فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) أي أن الخالق والمتصرف في هذا الكون ليس إلا الله ، خلافا لمن كان يجعل للسماء إلها خاصا ، وللأرض إلها غيره. ومعنى «في» الظرفية المجازية ، وإلا فليس لله سبحانه مكان ، إذ المكان يوجب التحديد ، والتحديد يوجب التجزئة ، والتجزئة من صفات المصنوع لا الصانع (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) الخفي المكتوم ، أعم مما في الصدور ، أو من الأسرار (وَجَهْرَكُمْ) مقابل ذلك بالمعنيين (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) أي ما تعملون من الأعمال ، فإن العمل من كسب الإنسان. وفي هذه الآيات ردّ على

٤٤

وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ

____________________________________

الدهرية القائلين بقدم السماوات والأرض ، والثنوية القائلين بإلهين : نور وظلمة ، والمشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكا ، والجهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته ، ومن أشبههم من أصحاب العقائد الزائفة حول إله الكون.

[٥] ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين تقدم ذكرهم في أول السورة ، قال : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ) أي معجزة ودليل وبرهان وحجة (مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) الدالة على وجوده وصدق رسالتك يا رسول الله (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) لا يقبلونها ولا ينظرون إليها نظر منصف معتبر.

[٦] (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي الكفار (بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) من القرآن والرسول وسائر الآيات (فَسَوْفَ) في القيامة ، أو في الدنيا حين ظهور الرسول ووضوح صدقه بالسيطرة والغلبة ـ كما أخبر ـ (يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من الحق. وفي الآية تهديد ، كما تقول للمجرم : «سوف تعلم إجرامك» تريد أنه يلاقي جزاءه ، إن كان المراد ب «سوف» القيامة.

[٧] ثم حذرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذبوا وعصوا وعتوا عن أمر ربهم (أَلَمْ يَرَوْا) استفهام تذكيري توبيخي ، أي «ألم يعلموا» ـ فإن الرؤية تستعمل بمعنى العلم ـ (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) أي من الأمم ، و «القرن» أهل كل عصر ، وسمّوا بذلك لأن

٤٥

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ

____________________________________

بعضهم يقترن ببعض ، ولذا اختلف في المدة المراد به ، لاختلاف الاعتبار (مَكَّنَّاهُمْ) أي تلك الأمم (فِي الْأَرْضِ) بأن جعلناهم ملوكا وقادة وساسة ذا عدد وعدد وإمكانيات (ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) حيث كانوا هم أكثر تمكنا منكم. والظاهر أن الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث كان السابقون أكثر تمكنا منهم. لا يقال : إن من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكنا من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاما؟ لأن الجواب ظاهر ، إذ قوله : «ألم يروا» ينافي ذلك فإن الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة ـ كما تقولون ـ بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً) هو من «درّ إذا هطل» ، و «مدرار» صيغة مبالغة ، أي كثيرة الهطول ، حتّى عمّهم الخير والبركة والثروة. والمراد بالسماء : المطر ، بعلاقة الحال والمحل ، كما قال الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا

(وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ) أي مياهها بعلاقة الحال والمحل (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ) أي تحت قصورهم وأشجارهم ، أو باعتبار أن الماء تحت سطح الأرض التي يمشون عليها. وكل ذلك لم يفدهم في بقائهم وحسن ذكرهم (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) والمراد : هلاكهم بذهاب أثرهم وانقطاع نسلهم وعقبهم ، وفناء حضارتهم ، بسبب عصيانهم وكفرهم مقابل الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين الذين بقوا إلى يوم الناس هذا ، وإن

٤٦

وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٧) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٨) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٩)

____________________________________

صلاحهم وحسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم وبقاء ذكرهم وبقاء مناهجهم (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) أي خلّفنا من بعدهم أمة أخرى وجماعة آخرين.

[٨] ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكفار معاندون في كفرهم ، لا لأنهم لم يعملوا الحق (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ) يا رسول الله (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) أي مكتوبا في ورق يشهد لك بصدقك (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) أي مسّوه بيدهم ، حتى يتيقنوا بأن ذلك ليس من الشعوذة وستر العيون (لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا الكتاب (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي سحر ظاهر ، فلا يصدقونك.

قالوا : نزلت هذه الآية في جماعة من الكفار قالوا : يا محمد لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله.

[٩] (وَقالُوا) أي قال هؤلاء الكفار (لَوْ لا) أي هلّا ، ولماذا ما (أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) أي على الرسول ، ملك نشاهده فنصدق به ، ثم رد الله عليهم مقالتهم بأنه (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) كما اقترحوه (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أي انتهى أمدهم وأجلهم (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) أي يهلكون ويموتون ، وذلك لما جرت سنة الله أن لا تنزل الملائكة بالنسبة إلى المعاندين ، إلا وقت موتهم.

٤٧

وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً

____________________________________

وهنا سؤال : إن هذا لا يكون جوابا للكفار ـ على هذا المعنى ـ إذ لهم أن يقولوا : فليغيّر الله سنته ، بأن ينزل الملك ويبقينا حتى نؤمن؟ وسؤال ثان : لماذا جرت سنة الله على ذلك ، أليس هداية الناس غاية الخلقة ، فما المانع من توفر أسباب الهداية بإنزال الملك؟

والجواب عن الأول : إن سنة الله جرت على الهلاك عقب مجيء الملائكة ، كما جرت سنته على الإحراق عقيب الإلقاء في النار ، وليس للكفار أن يشكلوا بهذا الإشكال ، إذ يقول النبي : ولماذا تريدون نزول الملائكة؟ أللعناد؟ فلا داعي إلى إجابتكم ، أم لأنه خارق والإتيان بالخارق موجب للتصديق؟ فقد أتيت بالخوارق ، أم لأنه خارق خاص؟ فالخارق الخاص لا يلزم إجابته لدى العقل والعقلاء ، وهذا كما إذا حمل الطبيب شهادة الكلية فيقول له المريض : ائتني بشهادة رئيس الحكومة ، إنه سؤال سخيف لدى العقلاء ..

والجواب عن الثاني : إنه سبحانه علم عنادهم وأنه لا يفيد معهم إنزال الملك ، كما بيّن ذلك في قوله (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً) (١) ، وما كان يمنعهم أن يقولوا أن ما يشاهدونه من صورة الملك إنما هو سحر مبين!

[١٠] ثم بيّن سبحانه وجها آخر لعدم إجابة اقتراحهم (وَلَوْ جَعَلْناهُ) أي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مَلَكاً) منزلا من السماء (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) أي في صورة رجل ، فإن خلقة البشر غير مستعدة لرؤية الملك في صورته ، إلا إذا بدّلت صورته إلى صورة إنسان وواقع ملك ، وذلك لا يفيد اقتراحهم ، فإن الملك جرم لطيف لا تراه أعين البشر ، كما لا يرى

__________________

(١) الأنعام : ٨.

٤٨

وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ

____________________________________

الإنسان الهواء (وَلَلَبَسْنا) من اللبس بمعنى الاشتباه (عَلَيْهِمْ) أي على هؤلاء المقترحين إنزال الملك (ما يَلْبِسُونَ) أي كما يلبسون اليوم على أنفسهم أمر النبي لأنه إنسان مثلهم ، فكان إنزال الملائكة في صورة بشر موجبا لأن نلبس نحن عليهم الأمر ـ مثل لبسهم هذا اليوم ـ وحاصل جواب الاقتراح :

أولا : أن الملك لا ينزل إلا لأمور خاصة ، كما نزل في قصة إبراهيم عليه‌السلام ولوط عليه‌السلام.

ثانيا : إن الملك إذا نزل ، نزل في صورة بشر ، فيبقى شكّهم على حاله.

[١١] ثم قال سبحانه على سبيل التسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) استهزأت بهم أممهم وسخروا منهم ، فلست أنت بأول رسول يستهزأ بك ويقترح عليك اقتراحات عن عناد وسخرية (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) أي : فحلّ وأحاط بالساخرين بالرسل (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء سخريتهم ، أو المراد أن الأنبياء كانوا يتوعدونهم بالعذاب فكانوا يسخرون بوعيدهم ، فحاق بهم العذاب المستهزأ به.

[١٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي سافروا فيها (ثُمَّ انْظُرُوا) إذا مررتم ببلدان الأنبياء ، وتفكروا (كَيْفَ

٤٩

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ

____________________________________

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي الأمم التي كذبت أنبياءهم ، كيف أبيدت ولم تبق منهم باقية ، فإن ديار الأمم السابقة حوالي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر كانت باقية وآثار الخسف والهلاك على بعضها ، وأخبار الهلاك والتدمير كانت عند الناس مشهورة ، فإذا سافروا وسألوا علموا ذلك ، وكان ذلك سببا لردعهم عن تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستهزاء بالقرآن.

[١٣] ثم احتج سبحانه على المكذبين بحجة أخرى فقال : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المكذبين : (لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إذ لا يتمكنون أن يجيبوا بأنها لهم ، ولا أنها لأصنامهم ، وإذ يتحيرون بالجواب (قُلْ) أنت : إنما هي كلها (لِلَّهِ) فلما ذا تتخذون إلها غيره؟ وإذ سبق التهديد والوعيد جاء هنا بالتبشير كي تلين القلوب القاسية بالتهديد مرة والتبشير أخرى (كَتَبَ) أي أوجب سبحانه (عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) على الخلق واللطف بهم ، وإيجاب ذلك من مقتضيات الحكمة لكي تطلبوا أيها الناس رحمته الواسعة بالإطاعة والامتثال ، لأنه إله الكون وراحمهم في هذه النشأة و (لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي جمعا ينتهي إلى ذلك اليوم ، فإن الناس يجتمعون تدريجا لا دفعة ، فكل إنسان يولد فولادته مقدمة للموت الذي ـ بدوره ـ يجمع الناس فردا فردا حتى ينتهي الجمع في يوم القيامة ، فبيده سبحانه المعاد أيضا (لا رَيْبَ فِيهِ) أي محل ريب ، وإن ارتاب المبطلون.

٥٠

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ

____________________________________

وإذا كان المبدأ والوسط والمعاد بيده تعالى ف (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي أن غير المؤمنين يكونون قد خسروا أنفسهم حيث باعوها واشتروا عوضها العذاب ، بينما باع المؤمنون أنفسهم واشتروا بها الجنة والثواب.

[١٤] (وَلَهُ) أي الله سبحانه (ما سَكَنَ) وهدأ (فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أو المراد ب «ما سكن» مطلق الأشياء الساكنة والمتحركة ، من قولهم : فلان يسكن بلد كذا ، أي يستقر فيه ، فلله كل ما استقر وحلّ في هذين الزمانين «الليل والنهار» ، أما على الثاني فوجه الكلام واضح ، وأما على الأول فلعل التخصيص بالساكن ـ مقابل المتحرك ـ لإلقاء الرهبة في النفس حيث أن الساكن يلقي ظلال الموت الرهيب ، ولذا يرى الإنسان نفسه تهدأ وتسكن إذا صار في محل ساكن لا حسّ فيه ولا حركة (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوال العباد ولكل صوت (الْعَلِيمُ) بكل شيء.

[١٥] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَغَيْرَ اللهِ) أي هل غير الله سبحانه (أَتَّخِذُ وَلِيًّا) أي مالكا ومولى وربا؟! وهو المتصف بكونه (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي خالقهما ومبدعهما ومنشئهما ، إنه من السخافة أن يترك الإنسان الخالق ويتمسك بذيل المخلوق (وَهُوَ) أي الله سبحانه (يُطْعِمُ) فإن الأطعمة والأرزاق من عنده (وَلا يُطْعَمُ) أي لا يرزقه أحد ، فهل من المنطق أن يترك الإنسان الخالق الرازق ويتخذ

٥١

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ

____________________________________

المخلوق المرزوق وليا من دون الله ، الذي ليس بيده أي شيء؟ (قُلْ) يا رسول الله هؤلاء الكفار : (إِنِّي أُمِرْتُ) أمرني الله (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) لله وصدّق بكلماته واتبع أوامره ، وكوني أول من أسلم لعلمي التّام بالخالق سبحانه ، كما قال : «إني أول من يجاهد» ، «وإني أول من يسافر» دلالة لامتلاء النفس بذلك الشيء (وَ) أمرني الله بأن (لا تَكُونَنَ) التأكيد للنفي (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يجعلون مع الله شريكا. والظاهر أن المراد بالشرك أعم ممن يجعل مع الله شريكا مع الاعتقاد به سبحانه ، أو بدون الاعتقاد به ، والمعنى : إني أمرت بالأمرين ، الإسلام ، وعدم الشرك.

[١٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بمخالفة أوامره (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي عذاب يوم القيامة ، وإنما قال «أخاف» مع أنه متيقن إما من جهة التعبير بالخوف حتى عن المتيقن ، كما يقول من حكم عليه بالإعدام : «إني أخاف الموت» أي أرهبه ، وإما لاحتمال النجاة لأن رحمته وسعت كل شيء ، فمعنى الخوف على هذا الاحتمال رجاء العفو والرحمة.

[١٧] (مَنْ يُصْرَفْ) العذاب (عَنْهُ يَوْمَئِذٍ) أي في ذلك اليوم العظيم (فَقَدْ رَحِمَهُ) إذ لا أحد ـ باستثناء المعصومين ـ إلا ويكون مستحقا للعذاب ، ولذا كان الصرف عنه بمقتضى الرحمة (وَذلِكَ) الصرف ، أو الرحمة

٥٢

الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)

____________________________________

(الْفَوْزُ) والفلاح (الْمُبِينُ) الواضح الذي لا فوز مثله.

[١٨] ويستطرد السياق بذكر بعض صفاته سبحانه في مقابل المعاندين المنكرين (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) من «مسّ أي أمسك» بما هو ضرر من فقر أو مرض أو ما أشبههما (فَلا كاشِفَ لَهُ) أي دافع له (إِلَّا هُوَ) فلا أحد مؤثر في الكون ، وإنما العلل تؤثر في المعلولات بإذن الله سبحانه (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) غنى أو صحة أو ما أشبههما (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إنه القادر المطلق على الخير والشر ، أما من سواه فقدرته من قدرته ، مع أنه ليس له إلا قدرة ناقصة لبعض الأشياء.

[١٩] (وَهُوَ) تعالى (الْقاهِرُ) أي الذي يقهر ويغلب (فَوْقَ عِبادِهِ) أي الجميع تحت تسخيره وسيطرته ، لا الفوقية المكانية ، فإنه أجل من الزمان والمكان (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في أعماله ، فليس كونه قاهرا موجبا للخوف من ظلمه ، كسائر الجبابرة القاهرين (الْخَبِيرُ) بما يصدر من العباد ، فلا يأخذ أحدا بجرم أحد كما هو شأن القاهرين من البشر ، حيث يشتبهون كثيرا لجهلهم.

[٢٠] في بعض التفاسير : أن أهل مكة أتوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : أما وجد الله رسولا غيرك ، ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ، فأرنا من يشهد

٥٣

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى

____________________________________

أنك رسول الله كما تزعم (١) ، فنزلت هذه الآية : (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) أي أعظم من حيث الشهادة ، حتى آتيكم به دليلا على صدقي وصحة نبوتي ، إنهم يتحيرون في الجواب طبعا ، ويفكرون في الناس العظماء بنظرهم ليقولوا : «فلان» ، لكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقطع تحيرهم وتفكرهم بما علمه الله سبحانه (قُلْ) يا رسول الله : (اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أي هو شاهد يشهد بصدق نبوتي. وقد مرّ سابقا أن شهادة الله هي إجراء الإعجاز على يده الكريمة (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ) أنزله تعالى عليّ (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) أي لأخوفكم بهذا العقاب ، وأخوّف من كفر وعصى (وَمَنْ بَلَغَ) عطف على «كم» أي أنذر به من بلغه هذا القرآن إلى يوم القيامة.

وروي عن الباقر والصادق عليه‌السلام : أن «من بلغ» معناه : من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله (٢).

وعليه فهو عطف على الضمير المرفوع في «أنذر» أي أنذر أنا الرسول والأئمة ـ الذين هم مصداق «من بلغ» ـ الناس (أَإِنَّكُمْ) أي : هل إنكم أيها السامعون الكفار (لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى)؟ استفهام إنكاري ، أي : كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلة التوحيد وقيام

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٤ ص ٢٢ وتفسير القمي : ج ١ ص ١٩٥.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٤١٦.

٥٤

قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً

____________________________________

الحجة والبرهان على بطلان كل شريك؟ والمراد الشريك مطلقا ولو كان واحدا ، وذكر «آلهة» من باب المورد (قُلْ) أنت يا رسول الله ، إذا لم يعترف أولئك بالتوحيد : (لا أَشْهَدُ) أنا بمثل شهادتكم بالشريك ، وإنما أنا لا أعتقد إلا إلها واحدا (قُلْ) يا رسول الله : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) لا شريك له (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) أي من الأوثان التي تشركون بسببها ، وتدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.

[٢١] ثم ذكر سبحانه أن أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ) أي أعطيناهم (الْكِتابَ) يراد به جنس الكتاب الأعم من التوراة والإنجيل وغيرهما (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون الرسول (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) فكما يعرف الشخص ابنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره ، كذلك لا يشتبه أهل الكتاب بمعرفة الرسول بوصفه ومزاياه الموجودة في كتبهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن باعوها بالكفر ، الذي عاقبته (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إن عدم الإيمان مترتب على الخسران ، فالخاسر لا يؤمن والرابح يؤمن.

[٢٢] (وَمَنْ أَظْلَمُ) أي من يكون أكثر ظلما وتعديا عن الحق (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً)؟! بأن جعل له شريكا وزعم أن الله أمره بذلك ، كأهل الكتاب وقسم من المشركين الذين كانوا يقولون : إن الله أمرنا باتخاذ

٥٥

أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣)

____________________________________

الأنداد والشركاء (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كما لو كذب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعجزات ، فإنها كلها من آيات الله سبحانه ، لكن الكتاب آية صامتة ، والرسول آية ناطقة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) إنهم لا يفوزون بخير الدنيا ، ولا سعادة الآخرة.

[٢٣] (وَ) اذكر يا رسول الله (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) وهو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون وسائر المكذبين (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) وجعلوا لله شريكا (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) أي الشركاء لله الذين زعمتم أنهم كذلك. والإضافة إلى «كم» باعتبار أنهم اتخذوها ، كما تضاف إلى «الله» باعتبار أنه سبحانه المجعول في رديفهم فيقال «شركائي» (الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم شركاء الله سبحانه؟ والاستفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.

[٢٤] (ثُمَ) بعد هذا السؤال منهم (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) أي معذرتهم ، فإن الفتنة على معان ، منها : المعذرة ، أو هو على سبيل المجاز ، أي : لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام ، إلا التبرؤ منها ، كما يقال : «لم يكن درسهم وقضاؤهم إلا رشوة وخيانة» يراد أن عاقبتهما كانت الرشوة والخيانة (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) فيحلفون بالله كذبا أنهم ما كانوا مشركين ، كما اعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذبا حينما يقعون في المشاكل.

٥٦

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها

____________________________________

[٢٥] (انْظُرْ) يا رسول الله إلى حلف هؤلاء (كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) بأنهم ما كانوا مشركين ، وهذا أمر يقصد به التعجّب والاستغراب (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، ويفترون الكذب على الله بقولهم : هذه شفعاؤنا عند الله ، فلم يجدوها ولم ينتفعوا بها وإنما الأمر لله وحده.

[٢٦] قيل : إن نفرا من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقرأ القرآن ، فقال بعضهم لبعض : ما يقول محمد؟ قال : أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. فنزلت هذه الآية (وَمِنْهُمْ) أي من الكفار والمشركين (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي إلى كلامك يا رسول الله (وَ) لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحجة بعد ما بيّنت لهم (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) هي جمع «كنان» وهي ما ستر شيئا ، فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة ، إذ صار الإعراض له ملكة وعادة ، ونسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا ، فإنه علة كل شيء ، وإن كان السبب المباشر هو الشخص (أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه (وَ) جعلنا (فِي آذانِهِمْ وَقْراً) «الوقر» هو الثقل في الأذن ، فهم كمن لا يسمع ، حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ) ومعجزة خارقة على نبوتك وصدقك (لا يُؤْمِنُوا بِها) أي بتلك

٥٧

حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)

____________________________________

الآيات ، إذ قد ران على قلوبهم ما كانوا يعملون (حَتَّى إِذا جاؤُكَ) لا يطلبون الحق بل (يُجادِلُونَكَ) ويناقشونك (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا) أي ما هذا القرآن (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) «أساطير» جمع أسطورة ، بمعنى الخرافة ، من سطر إذا كتب ، يعني : ما في القرآن من القصص والأحكام وغيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة وترّهاتهم.

[٢٧] (وَهُمْ) أي هؤلاء الكفار الذين سبق ذكرهم (يَنْهَوْنَ عَنْهُ) أي عن النبي ، أو القرآن ، يعني : ينهون الناس عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو القرآن ، (وَيَنْأَوْنَ) من «نأى» بمعنى تباعد ، أي يتباعدون (عَنْهُ) أي عن الرسول أو القرآن ، فهم يجمعون بين رذيلتي الكفر والأمر بالمنكر (وَإِنْ) أي : وما (يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فإنهم لا يضرون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل يضرون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة (وَما يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.

[٢٨] (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله أحوالهم في الآخرة وكيف أنهم يندمون على ما فرّطوا في دار الدنيا (إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) أي أشرفوا واطلعوا ووقفوا على حافتها لدخولها (فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ) أي يرجعوننا إلى الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) دلائله وبراهينه (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بالله والرسول وما جاء به. وجملتا «لا نكذب» و «نكون» من مدخول التمني ،

٥٨

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا

____________________________________

والتقدير : «يا ليت لنا انتفاء التكذيب ، والكون من المؤمنين».

[٢٩] (بَلْ بَدا لَهُمْ) أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليا بحيث لا مجال لإخفائهم له (ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ولعل وجه الإضراب ب «بل» بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم : لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا ، فإن التمني الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان ، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه (وَلَوْ رُدُّوا) إلى الدنيا كما تمنوا (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) أي لرجعوا إلى كفرهم وعصيانهم (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في أنهم لو ردّوا لعملوا صالحا كما في آية أخرى : (رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (١) ، ولا يخفى أن الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى ولو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهد المجرّب.

[٣٠] وقد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد وهم في دار الدنيا (وَقالُوا إِنْ هِيَ) أي ما هي (إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي الحياة القريبة التي نحن فيها وليس ورائها شيء (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) بعد الموت. و «البعث» هو الإرسال والإحياء.

[٣١] (وَلَوْ تَرى) يا رسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة (إِذْ وُقِفُوا

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١٠٠ و ١٠١.

٥٩

عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً

____________________________________

عَلى رَبِّهِمْ) أي في معرض خطابه وحسابه ، كالشخص الذي يقف عند الملك وهو مجرم ، فإنه في حال يأس واضطراب ممّا ينطق الملك في حقه من العقاب. ومن المعلوم أن الله لا يرى ، وليس بجسم ، ولا له مكان ، فالمعنى على سبيل المجاز (قالَ) ربهم لهم (أَلَيْسَ هذا) اليوم الذي كان يخبر به الأنبياء وكنتم تنكرونه (بِالْحَقِ) وهو استفهام توبيخ وتقريع (قالُوا) مقرّين مذعنين (بَلى) هو حق (وَرَبِّنا) وإنما حلفوا خوفا ، فإن الخائف يردف كلامه بالحلف استمالة لقلب المخوف منه وإظهارا بأنه يوافق كلام المتكلم (قالَ) الله سبحانه (فَذُوقُوا الْعَذابَ) والمراد ب «الذوق» ليس الذائقة اللسانية ، بل ذوق الجسد فإنه يطلق عليهما (بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم ، وكان السؤال للإهانة والإذلال.

[٣٢] ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) المراد (بِلِقاءِ اللهِ) جزاؤه وعقابه ، كما يقال : فلان لقي عمله ، أي جزاء عمله ، وإلا فليس لله مكان يرى (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) أي يوم القيامة (بَغْتَةً) أي فجأة من «بغت يبغت» بمعنى فاجأ ، وإنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حساب يوم القيامة حتى يستعدوا له. وهل المراد ب «الساعة» الموت ـ كما ورد : من مات قامت قيامته (١) ـ حتى يلائم ما بعده ، أم المراد القيامة ويكون المراد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ٧.

٦٠