تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً

____________________________________

[١٢١] (وَلا يُنْفِقُونَ) هؤلاء المسلمون ، في الجهاد (نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) أي قليلة أو كثيرة (وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً) أي لا يجتازون أرضا في مسيرهم إلى الكفار للجهاد (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ) ذلك ليثابوا عليه (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ) أي يكتب ذلك للجزاء ب (أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) جزاء أحسن أعمالهم ، أو أحسن جزاء أعمالهم. وعلى الأول : فالسكوت عن سائر الأعمال ليس لعدم الجزاء وإنما لوضوح أن من يجزي على الأحسن يجزي على غيره. وعلى الثاني : يكون المعنى أنه سبحانه يجازيهم بجزاء هو أحسن من عملهم ، فلو استحق عملهم جزاء ألف دينار ، أعطاهم ألفين.

[١٢٢] ورد أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا خرج غازيا لم يتخلّف عنه إلا المنافقون والمعذورون ، فلما بيّن سبحانه عيوب المتخلّفين ـ في غزوة تبوك ـ قال المؤمنون : والله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سرية من سراياه. فلمّا أمر رسول الله بالسرايا إلى الغزو أراد المسلمون أن ينفروا جميعا ، وكان ذلك مستلزما لأن يبقى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فنهاهم الله عن ذلك.

أقول : في الآية احتمالات نذكر أقربها إلى الظاهر وإلى السياق ـ أي الارتباط بالقصة المتقدمة في غزوة تبوك ـ.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) هذا نفي معناه النهي ، أي :

٤٨١

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

____________________________________

ليس للمؤمنين أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم ويتركوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحيدا (فَلَوْ لا) تحضيض وحث ، بمعنى : أن اللازم ذهاب بعض وبقاء بعض (نَفَرَ) وخرج إلى الجهاد (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ) من كل قبيلة ونحوها (طائِفَةٌ) جماعة ، ويبقى من كل فرقة جماعة آخرون (لِيَتَفَقَّهُوا) أي ليتفقه هؤلاء الباقون ـ المفهوم من قوله : (نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ـ (فِي الدِّينِ) يبقون خدمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتعلموا أحكام الإسلام التي تنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تدريجا (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ينذر الباقون قومهم النافرين (إِذا رَجَعُوا) رجع النافرون (إِلَيْهِمْ) أي إلى الباقين (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي يحذر النافرون عما أنذروا به.

فلنفرض أن زيدا ذهب إلى الجهاد ، وبقي عمرو وتعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة الاستمناء ـ مدة غياب زيد ـ فإذا رجع زيد حذره عمرو عن الاستمناء حتى يترك وينقلع. ولو كان المعنى على هذا السياق المذكور لكان فهم وجوب الذهاب إلى مراكز العلم لتحصيله ، بالفحوى ، لأن المقصود من البقاء عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إلا تعلم الحكمة وإفادتها للغائب ، وكذلك من يسافر في طلب العلم ثم ينذر أهله إذا رجع إليهم.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن ينفر منهم طائفة وتقيم طائفة للتفقه ، وأن يكون الغزو نوبا» (١). ولا ينافيه ما ورد عن الإمام الصادق ـ لأن الظاهر إرادة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٥٧.

٤٨٢

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً

____________________________________

الفحوى ـ في تفسير الآية ، «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله ويختلفوا إليه ، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ..» (١).

ثم إنه لو قلنا : إن الآية مستقلة برأسها لا ترتبط بما قبلها ، يكون المعنى : أن اللازم على كل طائفة من كل فرقة من المسلمين المنتشرين هنا وهناك أن يذهبوا إلى طلب العلم في مراكزه ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم حتى يحذروا عن ترك الواجبات وإتيان المحرمات. وتكون المناسبة بينها وبين الآيات السابقة بيان أن النفر واجب في مقامين : في مقام الجهاد وفي مقام العلم. ولا يخفى أن الآية تشمل التفقه بنحو الاجتهاد ، وبنحو أخذ الرواية ، ونحو بيان المسائل بعد أخذها عن المجتهد ، فهي أعم من الاجتهاد والوعظ ونشر المسائل.

[١٢٣] وإلحاقا بما تقدم من أمر الجهاد ، يأتي السياق ليبيّن خطة الإسلام في جهاد الكفار (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) من «ولي يلي» إذا قرب ، أي : يقربونكم ـ في الأرض ـ (مِنَ الْكُفَّارِ) فقاتلوا الأدنى فالأدنى ، وذلك لتتصل أرض الإسلام بعضها ببعض ولا تحدث بينها فجوة يتّخذها العدو مرصدا وقاعدة لمحاربتكم. وقد دلّ الدليل على جواز مقاتلة الأبعد إذا كان المسلمون في أمن من الأقرب لمهادنة أو معاهدة أو ما أشبه (وَلْيَجِدُوا) أي يجد الكفار (فِيكُمْ غِلْظَةً) وخشونة ، فإن ذلك مما يسبب انهيار معنويات العدو ، لكن ليست «الغلظة» بالمثلة ونحوها فقد حرّم الإسلام ذلك كما منع عن قتل المرأة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٢٧ ص ١٤٠.

٤٨٣

وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ

____________________________________

والصبي والفاني والراهب وممن لا يساعد المحاربين (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون ـ إذا فتحوا البلاد ـ من كل إثم وشناعة ، فإن الإسلام جاء محرّرا لا فاتحا ، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت.

وقد زجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلالا حين رأى من بعض النساء اليهوديات ـ من أهل خيبر ـ تغيرا فسألهن ما بالهن؟ فلما أجبن بأن بلال مرّ بهن على مصارع قتلاهن ـ يعني يهود خيبر ـ قال الرسول لبلال زاجرا : كأن الله نزع الرحمة من قلبك!

[١٢٤] ويأتي السياق ليبيّن كلام المنافقين وما يرتسم في قلوبهم وحركاتهم إذا أنزلت سورة ، فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه وتحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة والواقع ليثلج صدره بالتكذيب ، وطبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتساءل ممن حوله عن وقع السورة في نفوسهم ، حتى يرتب الأثر ، فإن جذبت السورة ناسا ردّهم ، وإن لم تجذبهم يزيدهم ريبا وشكا. أما حركته فإنه ينزعج من الحضور في مجال تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم ولا إليها ، إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلا حتى لا يعلم نفاقه ، ويستريح إلى أقرانه (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) «ما» زائدة جيء بها لتحسين الكلام ، ولعله لنكتة بلاغية هي تصوير حال المنافق المنكر ، فقد نزلت السورة ، لكن في قلب المنافق «ما أنزلت» (فَمِنْهُمْ) أي من المنافقين (مَنْ يَقُولُ) على وجه الإنكار والاستخبار : (أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ) السورة

٤٨٤

إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ

____________________________________

(إِيماناً)؟ ليعلموا وقع أثر السورة في النفوس والمقاومة إذا أرادوا إلقاء الريب والشك.

وهنا يأتي الجواب من الله سبحانه ليفصل في الأمر بما هو الواقع ، من غير حاجة إلى جواب المؤمنين أو إلى جواب المنافقين : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) فإن المؤمن المخلص كلّما ذكر الله سبحانه وكلّما رأى آية من آياته يزداد إيمانا وعقيدة (وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون بنزول السورة فرحا يظهر في وجوههم أثره ، وكيف لا يفرحون وقد زادهم سبحانه دلالة وكرامة ، وقوّى جانبهم بنزول سورة أخرى؟!

[١٢٥] (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) روحي ، وهو الشك والنفاق والإنكار (فَزادَتْهُمْ) السورة (رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لأن قلوبهم كانت قذرة بإنكار ما سبق من آيات الله ، فإذا أنكروا هذه السورة وشكوا فيها زادت قذارة قلوبهم. ويسمى الكفر رجسا ، لأنه كالنجاسة الظاهرة التي تؤذي ، ويجب على الإنسان أن يتجنّبها (وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) فإن من لا تنفعه السور لا بد أن يبقى شاكا منافقا حتى يموت في كفره ونفاقه.

[١٢٦] إن أمر هؤلاء المنافقين عجيب ، فإن السور لا تفيدهم ، والفتنة لا ترجعهم عن غيّهم (أَوَلا يَرَوْنَ) هؤلاء المنافقون ـ على نحو الاستفهام الإنكاري ـ (أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ) أي يمتحنون ، تارة بنصر

٤٨٥

فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)

____________________________________

المسلمين ، وأخرى بكشف الرسول نواياهم ، وثالثة بالأمراض وما أشبه ، مما ينبغي أن يرجع المنافق عن غيّه إذا أصابه ذلك (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) فالفتنة كثيرة الوقوع في حياتهم (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ) عن نفاقهم وكفرهم (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) نعم الله سبحانه ، وأدلته وحججه ، إن قلوبهم قد تحجّرت فلا تفيدها السورة ولا الفتنة ، فما ذا يصنع بها؟

[١٢٧] ولما فرغ من بيان أقوالهم ونواياهم ، بيّن عملهم النفاقي تجاه نزول السورة (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) «ما» زائدة كما تقدم ، وهم حضور عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (نَظَرَ بَعْضُهُمْ) أي بعض هؤلاء المنافقين (إِلى بَعْضٍ) ليغمز إليه ويشير إليه بأن لا يؤمن ولا يتزحزح عن نفاقه. فيقول بعضهم لبعض بالقول أو الغمز والإشارة : (هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ) من المؤمنين المخلصين؟ والظاهر أن المراد رؤية الالتفات إلى نواياهم وإشاراتهم ، لا رؤية العين ، فإنهم كانوا يريدون عدم التفات المسلمين إلى أحوالهم لئلّا يعرفوا سبب قيامهم عن المجلس وانصرافهم (ثُمَّ انْصَرَفُوا) عن المجلس إذا لم يرهم أحد ، أو حين انفضّ المجلس (صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) دعاء عليهم بأن يصرف الله قلوبهم عن فهم الحق وإدراكه ، فإنهم لما نافقوا لم يستحقوا الألطاف الإلهية الخفية بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) الحق ، فقد طبع على قلوبهم بالكفر والعصيان والنفاق.

٤٨٦

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ

____________________________________

[١٢٨] وفي ختام السورة تأتي آيتان لبيان وظيفة المؤمنين تجاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يحنو عليهم ، فاللازم أن ينصروه ويؤازروه ، ولبيان ما يفعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو تولّى الناس عنه وأعرضوا ، وكأنها خاتمة لما تقدم من أحوال من آمن وآزر ، ومن نافق وتخلف (لَقَدْ جاءَكُمْ) أيها البشر ، أو أيها المؤمنون (رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنس نفوسكم ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذا تحريض لاتباعه والأخذ بأمره حيث أنه من أنفسهم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) أي صعب عليه عنتكم وما يلحق بكم من الضرر والأذى (حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ) أي على حفظكم وتقدمكم وسعادتكم ، فلستم بهيّنين عليه حتى لا يهمّه أمركم ، ويلقي بكم في المهالك اعتباطا ، فإذا أمركم بأمر فإن فيه سعادتكم وخيركم ، لأنه جاء من المشفق الحريص على شؤونكم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ) الرأفة شدة الرحمة (رَحِيمٌ) للتأكيد وتفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف ، فهو وصف توضيحي من قبيل «سعدانة تنبت».

[١٢٩] (فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عنك يا رسول الله ، وعن رسالتك (فَقُلْ) يا رسول الله : (حَسْبِيَ اللهُ) أي كافيّ ، فإنه قادر على أن ينصرني (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا شريك له أرجوه أو أخافه ، بل هو وحده بيده كل شيء ، فهو قادر على نصري وإعزازي (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) اتكلت في أموري كلها

٤٨٧

وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)

____________________________________

عليه (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فهو أعظم من كل عظيم ، إذ العرش العظيم ـ أي السلطان الكبير ـ له ، فمن اتصل به لا يخشى أحدا سواه ، وإن أعرض عنه الناس ، فإن العرش كناية عن السلطة والسيادة.

٤٨٨

(١٠)

سورة يونس

مكية / آياتها (١١٠)

سميت السورة بهذا الاسم حيث اشتملت على قصة «يونس» النبي عليه‌السلام والسورة تدور مباحثها حول العقيدة ، وما يتفرع منها ـ غالبا ـ وحيث اختتمت سورة «براءة» بذكر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ابتدأت هذه السورة بذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ابتداء باسم الله سبحانه ، فهو وحده المستحق للتقديم ، وذكر الرحمن الرحيم ، لتلطيف الجو ، فإن الناس قد اعتادوا أن يروا الظلم والجور من الكبار والطغاة ، لكنه ليس كذلك إنه الرحمن بعباده ، الرحيم بالمؤمنين منهم ، فلا خوف من ظلمه ، ولا خشية من جوره.

٤٨٩

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٣)

____________________________________

[٢] (الر) من ألف ولام وراء وغيرها يتركب هذا القرآن المعجز ، فإنه من جنس كلام البشر ، لكنه معجز لا يتمكن أحد أن يأتي بمثله ، كما أن من جنس المعادن والنبات يتركب الإنسان ، لكن لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله ، وكذلك جميع صنع الله سبحانه ـ على الاختلاف في أوائل السور ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) خبر لقوله «الر» أي هذه الحروف آيات الكتاب ـ على بعض الأقوال ـ والمراد ب «الكتاب الحكيم» القرآن العظيم الحاكم بالحق ، المحكم في وصفه وأسلوبه وأحكامه.

[٣] (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) استفهام إنكاري ، أي : هل إيحاؤنا إلى رجل منهم موجب للعجب والاستغراب ، إنه لا ينبغي ذلك ، فقد أوحي إلى جنس البشر قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالأنبياء كلهم كانوا بشرا (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) مفعول «أوحينا» فقد كان الناس يرتكبون المحرّمات ويفعلون القبائح ، فجاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينذرهم بالعذاب إن اقترفوا الآثام (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) واعتقدوا بما جئت به (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فكما أن الإنسان الصادق في قوله لا تزل قدمه عند المحاكمة والحكم ، كذلك من آمن له قدم صدق لا تتزلزل ولا تضطرب عند الله سبحانه ، ويوم محكمته الكبرى (قالَ الْكافِرُونَ) الذين لا يعتقدون بالله وآياته : (إِنَّ هذا) النبي ـ يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (لَساحِرٌ مُبِينٌ) أي

٤٩٠

إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ

____________________________________

واضح ، حيث أنهم لم يتمكنوا من مقابلته والإتيان بمثل كلامه.

[٤] ثم عطف سياق الكلام حول الإله ، على الكلام حول الرسول ، وأخّره لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يقول هذا الكلام ويثبته ويدعو إلى التوحيد ويقدم عليه البراهين والأدلة (إِنَّ رَبَّكُمُ) أيها البشر (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فالذي خلقهما واخترعهما وأوجدهما من العدم هو ربكم وخالقكم ، لا الأحجار المنحوتة والأشجار وسائر المخلوقات. (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) وقد جرت سنة الله سبحانه على التدرّج في الخلق ، مع أنه قادر على الخلق دفعة واحدة ، فالإنسان والحيوان والنبات كلها تتدرّج في الخلق حتى تكمل ، ولعلّ في ذلك اعتبار للملائكة ونحوهم ، كما أن في تدريج خلقة الإنسان وسائر الأشياء عبرة للبشر ، فإن الإذعان يأتي بالتدريج. وأما خصوصية «الستة» فهي كخصوصية «تسعة أشهر» للجنين وسائر الأزمان المضروبة لسائر المخلوقات.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه ، أو توجّه نحو خلقه ـ كما مر في سورة الأعراف ـ (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقدّره وينفذه على وجهه ، فهو الخالق ، وهو الآمر في الكون (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) فهو سبحانه كما بدأ وخلق ، وأمر ونفّذ ، كذلك بيده المعاد وإليه المرجع ، وهناك لا بد من الشفاعة للعصاة كما جرت العادة في الدنيا ، ولكن الشفاعة هناك أيضا بيده ، فلا يشفع أحد إلا من بعد إذنه (ذلِكُمُ اللهُ)

٤٩١

رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً

____________________________________

الموصوف بهذه الصفات هو (رَبَّكُمُ) لا غيره من الأصنام وسائر المعبودات (فَاعْبُدُوهُ) وحده بدون شريك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فيه حثّ على التذكّر والتفكّر ليهتدوا إلى الطريق ، ويجتنبوا المتاهات.

[٥] ثم بيّن أن الرجوع إليه كما كان منه البدء ، للتصريح بذلك بعد الإشعار والإلماع إليه (إِلَيْهِ) إلى الله سبحانه (مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم أيها البشر (جَمِيعاً) فلا يتخلّف منكم أحد (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) لا يخلف ما وعد من رجوعكم إليه (إِنَّهُ) وحده (يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) ويوجدهم من العدم (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد موته وفنائه وعدمه ، وإنما يعيده (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي يعطيهم جزاءهم (بِالْقِسْطِ) بالعدل ، فإذا لم يروا هنا «في الدنيا» جزاء أعمالهم الصالحة ، لا بد وأن يروا هناك «في الآخرة» (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ولم يؤمنوا بالله (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) «الحميم» هو الماء الحار الذي انتهى إلى آخر درجة من الحرارة (وَعَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم وموجع بسبب ما (كانُوا يَكْفُرُونَ) «ما» مصدرية ، أي جزاء على كفرهم.

[٦] ثم بيّن سبحانه صفاته الفعلية ، وأقام البرهان على الألوهية بما يرى الإنسان من الآثار الكونية البادية للعيان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً)

٤٩٢

وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ

____________________________________

أي نورا بالنهار ، ليستفيد منه الإنسان والحيوان والنبات وسائر المخلوقات الأرضية ، ولولاها لم يكن ذو روح على وجه البسيطة (وَالْقَمَرَ نُوراً) بالليل ، قالوا : والضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور ، وإن كان يطلق كل منهما على الآخر ، إلا أنهما إذا اجتمعا دلّ الأول على زيادة.

إن هذا البرهان كاف للإنسان العادي الذي لا يعرف إلا الفطرة السليمة ، كما أنه كاف لأكبر الفلاسفة دقة ، وكذلك جميع آيات القرآن ، فهي في حين تقنع الإنسان البسيط تكون أقوى الحجج للمنطقي والفلسفي والمجادل. فمن يأتري خلق هذه الأشياء؟ هل أنها صنعت نفسها؟ إن هذا لا يمكن أبدا ، أم صنعها جاهل عاجز؟ وهذا كالسابق في الاستحالة. فلا بد وأن يكون صانعها عالم قدير ، وليس هو إلا الله سبحانه.

(وَقَدَّرَهُ) أي قدر القمر (مَنازِلَ) بأن جعل له منازل ، ينزل في أحدهما بعد الآخر حتى يكمل الدور ، وقوله «قدره» إما بحذف «اللام» أي «قدر له» ، وإما مجاز لعلاقة الحال والمحل ، فقد نسب ما للمحل إلى الحال. وإنما قدره منازل (لِتَعْلَمُوا) بالقمر ومنازله (عَدَدَ السِّنِينَ) فإن السنة تتكون من اثني عشر شهرا ، والشهر لا يكون إلا بحركة القمر من منزل إلى منزل (وَالْحِسابَ) حتى تعرفوا أي يوم أول الشهر وأي يوم آخره ، وتضبط بذلك الحسابات والمواعيد. وقد كان القمر والشهور خير وسيلة للعالم والجاهل للضبط والتقدير ، أما سائر الحسابات فهي غير محسوسة بالإضافة إلى كونها خاصة بالعالم.

٤٩٣

ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)

____________________________________

(ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ) الخلق من سماوات وأرض وشمس وقمر ومنازل (إِلَّا بِالْحَقِ) فلم يكن الخلق لهوا وعبثا لا طائل فيه ، فإن فيه دلائل على الوحدانية والصفات الأزلية ، كما أن فيه الحساب والميقات والمنافع للخلق (يُفَصِّلُ) الله سبحانه (الْآياتِ) الدالة على وجوده ويبيّنها آية آية (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيعطون كل آية حقها ، أما الجهّال فإنهم معرضون عن الآيات ((وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) (١).

[٧] ثم بيّن سبحانه آية أخرى من الآيات الدالة على وجوده مما هو ظاهر للعيان ويعرفه كل إنسان (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) والمراد ب «الاختلاف» إتيان أحدهما خلفة للآخر ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) (٢). ولعلّ تقديم الليل ، لأن الظلمة هي السابقة على النور ، فقد قالوا : إن النور والظلمة «عدم وملكة» ومن المعلوم تقدم العدم على الملكة ذاتا (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ) من أنواع الكواكب والنيازك والشهب والسحاب والأمطار والرياح وغيرها (وَالْأَرْضِ) من أنواع الجبال والمعادن والمياه والنباتات والحيوانات والإنسان وغيرها (لَآياتٍ) أي أدلة دالة وبراهين ساطعة على وجود الله سبحانه وصفاته ، من العلم والقدرة والإرادة والحياة وغيرها (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الانزلاق في مهاوي السفاسف

__________________

(١) الأنعام : ٢٦.

(٢) الفرقان : ٦٣.

٤٩٤

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)

____________________________________

والخرافة ، كما أن فيهما آيات لمن يتقي عصيان الله سبحانه. وإنما خصّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[٨] ثم ذكر سبحانه جزاء الذين لا يقتنعون بهذه الآيات ، وينكرون المعاد المستلزم لإنكار المبدأ (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لقاء الله ، والمراد ب «لقائه» لقاء الجزاء المقرّر لهم من عنده ، فإن الله سبحانه منزّه عن المكان ، وإنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمراد ب «لا يرجون» لا يتوقعون ، وإنما جيء بهذا اللفظ لأن كل معتقد به يرجو ثواب الله سبحانه ، فإن الإنسان بطبعه يرجو نوال الكريم. وهذا كناية عن عدم الإيمان ، فإن الذين لا يؤمنون لا يرجون المعاد (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي الحياة القريبة ، فإن «دنيا» مؤنث «أدنى» أي اختاروا هذه الحياة ، فصرفوا همّهم في عمارتها ، ولا يعملون إلا لها (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي سكنوا إليها وركنوا لها. وهذا من عجيب الأمر : كيف يركن الإنسان إلى دنيا يعلم بفنائها السريع ، ويشاهد كل يوم كثرة من الأموات؟! (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) دلائلنا التي أقمناها على التوحيد وسائر شؤون المبدأ والمعاد ، من الأدلة الكونية وغيرها (غافِلُونَ) فلا يتأملون فيها ولا يعتبرون بها.

[٩] (أُولئِكَ) الذين تلك أوصافهم (مَأْواهُمُ) أي مستقرّهم ومرجعهم (النَّارُ) إليها يصيرون بسبب ما (كانُوا يَكْسِبُونَ) من أنواع الكفر والمعاصي.

٤٩٥

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ

____________________________________

[١٠] هذا هو الكفر ، وهذا مصيره ، فلننظر إلى الإيمان ومصيره (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالله ورسله واليوم الآخر وصدقوا بما جاءت به الأنبياء (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي الأعمال الصالحة ، فإن المحرمات لا تصلح لبناء فرد أو مجتمع أو دنيا أو آخره ، بخلاف الواجبات والمندوبات والمباحات فإنها تصلح لذلك (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) بسبب إيمانهم إلى الجنة في الآخرة ، وإلى كل خير في الدنيا ، فإن الإيمان مفتاح كل سعادة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) أي تحت أبنيتهم وأشجارهم ، أو من تحت أنفسهم ، باعتبار أن ماء النهر أسفل من الإنسان إذا مشى على الأرض (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) بحيث يتنعّم الإنسان فيها بجميع أنواع النعم ، من أمن ورفاه وصحة وعلم ولذة وغيرها.

[١١] (دَعْواهُمْ) أي دعاء المؤمنين ، فإن الدعوى قول يدعى به إلى أمر (فِيها) أي في تلك الجنات : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) «سبحان» مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : أنزّهك تنزيها ، يا الله ، فإن «الميم» في «اللهم» بدل من حرف النداء «يا» (وَتَحِيَّتُهُمْ) «التحية» مصدر من باب التفعيل ، بمعنى التكرمة ، مشتقة من : «أحياك الله» (فِيها) أي في الجنات (سَلامٌ) من الله لهم ، ومن الملائكة بالنسبة إليهم ، ومن بعض المؤمنين لبعض ، وفي الدعاء : «حينا ربنا بالسلام» (١). والمراد

__________________

(١) مستدرك وسائل الشيعة : ج ٩ ص ٣٢٠.

٤٩٦

وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ

____________________________________

بـ «السلام» السلامة من الآفات والمكاره ، فإن الجنة هي دار السلام التي لا مكروه فيها أبدا. ومن ذلك سلام الإنسان لبعض حيا أو ميتا ، فإن سلامة الحي من المكاره هنا ، وسلامة الميت من المكاره هناك ، وهو دعاء ، أو تفأّل ، أو رجاء ، بمعنى : «اللهم سلّمه» ، أو : «أتفأّل لك السلامة» ، أو : «أرجوها لك». (وَآخِرُ دَعْواهُمْ) أي آخر كلامهم الذي يتكلمون به (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهم بين تسبيح وتسليم وتحميد.

[١٢] إن حكمة الله سبحانه اقتضت بقاء الإنسان في الدنيا حتى يبلغ الأجل المضروب له سواء كان صالحا أو طالحا ، فالخيّر والشرير اللذين سبق الكلام حولهما لا بد وأن يتمّا مدتهما المقرّرة لهما ، وإن كان بعض الناس يستعجلون الشرّ بدعائهم ، أو بأعمالهم (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) من الموت والمرض والفقر مما يستحقّون بأعمالهم أو بدعائهم ، فإن بعض الناس إذا غضب دعا على نفسه وعلى بعض ذويه بالهلاك والأمراض ونحوهما (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) أي كما يعجّل سبحانه لهم إعطاء الخير الذي يستحقونه بأعمالهم ، أو بدعائهم (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي لفرغ من إهلاكهم ، ولم يكن على وجه الأرض إنسان ، والمعنى : لفرغ من أجلهم ومدّتهم المضروبة للحياة ، وإذا انتهت مدّتهم هلكوا ، كما قال سبحانه : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ

٤٩٧

فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً

____________________________________

عَجُولاً) (١) ، فحيث اقتضت المشيئة الإلهية بقاء الإنسان مدة في الدنيا (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) من الكافرين الذين لا يعتقدون بالمعاد (فِي طُغْيانِهِمْ) عن الحق وترفّعهم عن الإيمان (يَعْمَهُونَ) «العمه» هو العمى ، وشدة الحيرة ، فلا نقضي أجلهم بل نمهلهم إمهالا. وهذا الإبقاء إنما هو ليزيد عذابهم حيث طغوا وأعرضوا عن الإيمان بعد ما رأوا الآيات الدالّة عليه.

[١٣] إن الإنسان الذي لم يتأدب بآداب الله سبحانه كثير التناقض ، فبينما تراه يستعجل الشر ، تراه لا يطيق أقل مس من الشر ، حتى أنه إذا أصابه ذلك جعل يدعو الله في كل حالاته لكشفه عنه (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) مجرد مسّ وعبور عليه (الضُّرُّ) مشقة من مشقات الدنيا في نفس أو أهل أو مال أو نحوها (دَعانا) لكشفه وإزالته ، في حال كونه نائما (لِجَنْبِهِ) مضطجعا (أَوْ قاعِداً) في حال قعوده (أَوْ قائِماً) في حال قيامه ، والظاهر أن «أو» هنا بمعنى «الواو» ، فإنها تأتي بمعناها ، قال ابن مالك :

خير ، أبح ، قسم ، بأو ، وأبهم

واشكك ، وإضراب بها أيضا نمي

وربما عاقبت الواو إذا

لم يلف ذو النطق للبث منفذا

__________________

(١) الإسراء : ١٢.

٤٩٨

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

____________________________________

(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ) وأزلنا البلاء الذي توجّه إليه (مَرَّ) في طريقه السابق ، بدون أن يغيره إلى طريق الدين والحق (كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) كأن لم يسألنا إزالة ضره ، فهو لا يعرف الرب بعد إزالته. إنه يمرّ بدون أن يتوقف ليشكر ، أو يتذكر ، أو يعتبر ، (كَذلِكَ) بمثل هذه الطبيعة المنحطّة التي تتضرّع إلى الله في الضراء ، وتنساه في السراء (زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إن المسرفين الذين أسرفوا في الحياة الدنيا والركون إليها ، ولم يجعلوا للآخرة خط رجعة إليها ، لو وقفوا وتأملوا وشكروا ، ارتدعوا عن أعمالهم الباطلة ، لكنهم يمرّون بلا شكر وتدبّر ، ولذا زيّن الشيطان في نظرهم قبح أعمالهم ، فإن الإنسان إذا تدبر عرف الحسن من القبيح ، أما إذا ركب هواه وسار لا يلوي على شيء ، لا يرى أعماله القبيحة إلا حسنة.

[١٤] فما ذا كانت عاقبة المسرفين؟ إن السياق يستعرضها بالنسبة إلى الأمم السابقة ، لتعتبر هذه الأمة (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ) جمع «قرن» ، وهو أهل كل عصر ، سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض ، ومنه «القرن» بمعنى الشجاع المقابل لأنه مثل الشجاع الآخر (مِنْ قَبْلِكُمْ) بأنواع العذاب (لَمَّا ظَلَمُوا) أنفسهم وغيرهم ، وأسرفوا في الركون إلى الدنيا (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي الحجج والأدلة ، فإن الهلاك إنما

٤٩٩

وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)

____________________________________

يكون بعد إتمام الحجة ، أما مجرد الظلم بدون إتمام الحجة ، فإنه لا يوجب هلاكا ـ عند الله سبحانه ـ قال : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١) ، (وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي أن هلاكهم بعد العلم بأنهم لا يؤمنون أبدا ، فهم ظالمون قد تمت عليهم الحجة ، ولا يؤمنون بعد ذلك (كَذلِكَ) أي كما جازينا أولئك القرون لمّا ظلموا (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) من جميع الأمم.

[١٥] (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ) يا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو أيها البشر المتأخرون عن أولئك (خَلائِفَ) جمع «خليفة» نحو : طرائق جمع طريقة (فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) من بعد أولئك القرون ، فإنكم خلفتموهم في الأرض ، وصرتم خلفا لهم (لِنَنْظُرَ) أي نرى ، والمراد : الرؤية العلمية ، أو الرؤية حقيقة ، فإنه سبحانه ناظر لأعمال العباد (كَيْفَ تَعْمَلُونَ) هل تعملون الصالحات أو السيئات ، كأولئك القرون؟ وإنما نريد النظر للاختيار والجزاء.

[١٦] ثم بيّن سبحانه بعض أعمال هؤلاء المشابهة لأعمال أولئك القرون الظالمة. فقد ذكر بعض المفسرون أن جماعة من المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومناة وهبل ، وليس فيه عيبها ، أو بدّله وتكلم به من تلقاء نفسك (٢).

__________________

(١) الإسراء : ١٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٥ ص ١٦٦.

٥٠٠