تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا

____________________________________

ضدكم وإن اختلفوا. وبهذا المعنى ورد : «الكفر كله ملة واحدة» (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إن لم تفعلوا ما أمرتم به من ولاية المؤمنين ، واعتبار الكفار كلهم ملّة واحدة ، بأن عاديتم المؤمنين أو واليتم الكافرين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) لأن في ذلك تعزيزا للكفر وإذلالا للإسلام ، وقد دلّ منطق التاريخ أن كل وقت اتخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء ، ضعفت شوكتهم وذهبت ريحهم ، وبالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء ، واتخذوا سائر المسلمين أولياء ، قويت شوكتهم وهبت ريحهم.

[٧٥] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته وتطبيق حكمه (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) من أهل المدينة الذين أعطوا المسلمين مأوى ونصروهم على أعدائهم (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) لقيامهم بجميع شرائط الإيمان (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) من الله لذنوبهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي مع الكرامة في الدنيا وفي الآخرة ، فإن المؤمنين إذا ما عملوا بشرائط الإيمان تمّت عليهم بركات من السماء والأرض.

[٧٦] (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) في المستقبل ـ حتى لا يظن أن الأمر تمّ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ (وَهاجَرُوا) والهجرة باقية مهما كان الإنسان في دار

٣٦١

وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)

____________________________________

الكفر مما لا يتمكن معه من إظهار معالم الإسلام (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) ولو بنحو المعية المعنوية بأن كان جهادهم مع المؤمنين وفي جماعتهم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) في الأجر والثواب وخير الدنيا (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) أي ذوو الأرحام والقرابة (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) أي في حكم الله. وهذا أخص من الحكم الأول ، فالقريب المسلم الجامع للشرائط أولى بقريبه المسلم الجامع للشرائط من البعيد المسلم الجامع للشرائط في جميع الجهات التي منها الإرث. ويفهم من الآية أن الأقرب من الرحم أولى من الأبعد (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فما يذكره من الأحكام إنما هو حسب الحكمة والمصلحة ، لأنه يصدر عن علم واطلاع.

وفي بعض التفاسير : إن هذه الآية نسخت الآية السابقة (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فإن كان هناك دليل صحيح في الدين يدل على ذلك فهو ، وإلا فظاهر الآيتين غير متناف حتى نحتاج إلى القول بالنسخ ، والله العالم (١).

__________________

(١) راجع تفسير القمي : ج ١ ص ٢٨٠.

٣٦٢

(٩)

سورة التوبة

مدينة / آياتها (١٢٩)

تسمى هذه السور ب «سورة براءة» لأنها تبتدئ بهذه الكلمة ، كما تسمى بالتوبة ، لكثرة اشتمالها على مشتقات هذه الكلمة. ولم تبتدئ هذه السورة ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأنها نزلت لإعلان الحرب على الكفار والمنافقين ، وذلك ينافي «البسملة» التي تحمل في معناها الرحمة والسلام. ولما اختتمت سورة الأنفال بعلاقة المسلمين بعضهم مع بعض ابتدأت هذه السورة بعلاقة المسلمين بالكافرين.

٣٦٣

بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ

____________________________________

[١] (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي هذه براءة ، على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو «براءة» مبتدأ خبره «إلى الذين». ومعنى البراءة : انقطاع العصمة ، يقال : «برأ يبرأ من فلان» إذا قطع ما بينهما من الصلة. والمعنى : أن لا عصمة بين المسلمين وبين الذين عاهدوهم من المشركين ، فقد كان بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين المشركين معاهدات ، لكنهم غدروا ، ولذا أجّلهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة أشهر ، فمن كان له معاهدة أعلمه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه يبقى على المعاهدة إلى أربعة أشهر ، ثم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب عليه فليتخذ حذره.

ولم يكن هذا نقضا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل نقضا منهم ، ولذا قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) (١). وقد شاء الله سبحانه أن يطهر الجزيرة التي أصبحت عاصمة الإسلام عن رجس الشرك والنفاق لتتوحد فيها الكلمة ويكون للمسلمين دولة مرهوبة الجانب ليفرغوا إلى الروم والفرس.

[٢] (فَسِيحُوا) أيها الكفار (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) معنى «السيح» السير ، يقال : «ساح» إذا سار على مهل. أي : أنتم في مهلة بأن تسيروا آمنين وتتصرفوا في حوائجكم بكل تأن وطمأنينة إلى أربعة أشهر من ابتداء الإعلان ، وهو من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر ، فإذا

__________________

(١) التوبة : ٤.

٣٦٤

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)

____________________________________

انقضت هذه المدة فليس لكم عهد ولا أمان ، والمحاربة معكم لا تعتبر غدرا ومباغتة (وَاعْلَمُوا) أيها الكفار (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تتمكنون من أن تعجزوه وتغلبوه ، بل هو القادر على أن يخزيكم بأيدي المسلمين ، فلا تفكروا في محاربة المسلمين (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) «الخزي» النكال ، أي أنه سبحانه ينكل بهم وينتصر عليهم.

روى المفسرون أنه لما نزلت سورة براءة دفعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي بكر ليذهب إلى الحج فيقرأها على المشركين ، فلما مضى بعض الطريق جاء جبرئيل عليه‌السلام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له : إن السورة لا يبلغها إلا أنت أو رجل من أهل بيتك ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا أن يخرج ويأخذها من أبي بكر ، فرجع أبو بكر وذهب علي عليه‌السلام وقرأ السورة على الكفار في منى ثلاثة أيام ، يوم العاشر من ذي الحجة ، والحادي عشر ، والثاني عشر منه ، فكان يخرط سيفه ويقول : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، ولا يدخل البيت إلا مؤمن ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كانت بينه وبين رسول الله مدة فإن أجله إلى أربعة أشهر (١).

ولما أعلم الكفار بذلك ، أظهروا تبرؤهم ، فلم تبق صلة بينهم ، وقد كان هذا العمل خطرا ، حيث أن الكثرة الغالبة من الحجاج كانوا مشركين ، فالاصطدام بهم بهذه الصورة الخشنة كان مظنة الإيقاع بالإمام عليه‌السلام لكن الله سبحانه عصمه عن ذلك ، وقد كان نزول سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة ، بعد فتح مكة ، وفي العام القابل حج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة الوداع ، ولما أن رجع عن الحج نصب عليا

__________________

(١) راجع بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٦٦.

٣٦٥

وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣)

____________________________________

خليفة في غدير خم ، وقبض في شهر صفر من تلك السنة.

[٣] (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي إعلام منهما (إِلَى النَّاسِ) من المسلمين والمشركين (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر ، مقابل الحج الأصغر الذي هو العمرة ، وسمي بالأكبر لأن أعماله أكثر ، وإنما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر لأن طواف الحج الذي هو أعظم أعماله يأتي فيه ، ويحتمل أن يراد بذلك جميع أيام الحج ، كما يقال : يوم الجمل ، ويوم صفين ، ويراد به الحين والزمان الذي وقعت فيه هذه الحوادث. والمعنى أن الله ورسوله يعلنان في هذا الوقت (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا علاقة له بهم ، ولا عهد له معهم (وَرَسُولِهِ) أيضا بريء منهم. وقد تقدم أن ذكره سبحانه هو الأصل ، وذكر الرسول للاحترام ولأنه المنفّذ المواجه (فَإِنْ تُبْتُمْ) أي رجعتم عن الشرك أيها المشركون (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في دنياكم حيث تسودون وتبقون مرفهين (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الإيمان وبقيتم على الشرك (فَاعْلَمُوا) أنكم في معرض عقاب الله وعذابه و (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تتمكنون من أن تعجزوه وتغلبوه ، بل هو ينتصر عليكم ويهلككم ويخزيكم (وَبَشِّرِ) يا رسول الله (الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في الدنيا والآخرة. وتسمية الإنذار بشارة ، من باب الاستهزاء ، وذكر الضد

٣٦٦

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ

____________________________________

مكان الضد ، كما يسمى الزنجي : كافورا ، والأعمى : بصيرا ، ولبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة ، فإن الكفار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب ونكال.

[٤] ثم استثنى سبحانه من براءته من المشركين وانتهاء معاهدتهم إلى أربعة أشهر ، المعاهدين الذين وفوا بالعهد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أيها المسلمون معهم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) بل بقوا أوفياء على عهودهم (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي لم ينضموا إلى أعدائكم حتى يكونوا ظهيرا لهم عليكم (فَأَتِمُّوا) أيها المسلمون (إِلَيْهِمْ) وإنما قال : «إليهم» كأن الإتمام يبتدئ من المسلمين وينتهي إلى أولئك (عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) المضروبة لهم ، فهم في مدة عهدهم آمنون لا يحاربون (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون نقض العهد.

وقد كان جماعة من المشركين كذلك بقوا أوفياء على عهودهم كبني كنانة وبني حمزة ، وقد كانت مدتهم تسعة أشهر ، وكأهل هجر والبحرين وإيلة ودومة الجندل الذين كانت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم مصالحات.

[٥] (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي مضت الأشهر الأربعة التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها ، والتي تنتهي بانتهاء عشرة أيام من ربيع الأول. ومعنى الانسلاخ : المضي ، كما ينسلخ الجلد عن الشاة ، فتبدو

٣٦٧

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ

____________________________________

عارية ظاهرة ، تشبيها للأشهر الحرم بالجلد الواقي لما بعدها من الأيام (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فقد رفعت الهدنة والعهد بما نقضوا من العهود. وليس المراد قتل كل فرد فرد ، بل المراد وقوع المقاتلة ، وأنهم في حكم المحارب ، والمراد من «حيث وجدتموهم» أينما كانوا في حلّ أو في حرم ، فإن الحرم محترم لمن احترمه ، أما من لم يحترمه فليس بمحترم فيه (وَخُذُوهُمْ) أي خذوا من تمكنتم من أخذه ، والأخذ للقتل أو الحبس أو الاسترقاق (وَاحْصُرُوهُمْ) امنعوهم عن التصرف في حوائجهم و (اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) كل محل للرصد والتطلع كقلل الجبال ، والمضايق ، وقوارع الطرق (فَإِنْ تابُوا) عن كفرهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي التزموا بشرائط الإسلام ، فإن إظهار مجرد الإيمان بدون الرضوخ للأحكام والاستعداد لامتثال أوامر الله والرسول ، لا يعدّ إلا لقلقة لسان (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) دعوهم يتصرفون في البلاد ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، لأنهم أصبحوا من زمرتهم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم يتفضّل عليهم بلطفه.

[٦] (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذي أمرتك بقتاله بعد انسلاخ الأشهر الحرم (اسْتَجارَكَ) أي استأمنك ، بأن طلب الأمان منك ليسمع دعوتك

٣٦٨

فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

____________________________________

(فَأَجِرْهُ) وأعطه الأمان (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) وحيث أن كلام الرسول هو الوحي ، كما قال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، كان كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام الله تعالى (ثُمَ) إن أسلم ، كان له ما للمسلمين ، وإن لم يسلم ف (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي أرجعه إلى محل أمنه ، بأن يكون في حمايتك حتى يبلغ مكانه ، لئلّا يغدر به في الطريق ، وهذا كان كافرا حربيا ، بعد عدم قبوله الإسلام إلّا أنه حيث جاء لغرض صحيح ، لا يجوز قتله حتى يبلغ مأمنه (ذلِكَ) الأمان لمريد فهم الإسلام بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) حقيقة الإسلام ، فهذا الأمان سبب لدخول بعضهم في الإسلام.

[٧] ثم بيّن سبحانه وجه تبرؤ الرسول من العهود بعد أربعة أشهر بقوله : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وقد غدروا وظاهروا الأعداء ، وهل العهد يبقى مع ذلك؟ وقد كان ضرب المدة أربعة أشهر من سماحة الإسلام ، وإلّا فقد استحق الغادرون أن يجهز عليهم فور غدرهم (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) معهم (عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فإنهم لم يغدروا ، وكان استثناؤهم وحدهم دون سواهم ، وقد كانوا كثيرين ـ كما عرفت ـ لأنهم «الفرد» الظاهر السابق إلى الذهن ، والمراد بأولئك : هم قبائل بكر ،

__________________

(١) النجم : ٥.

٣٦٩

فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً

____________________________________

بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو حمزة ، فقد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ـ اليوم الذي عاهد رسول الله قريش قرب الحرم ـ وهؤلاء لم ينقضوا العهد ، فأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإتمام مدتهم وفاء للعهد (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أي مدة استقامة المشركين الذين لم ينقضوا العهد معكم ، بأن لم تظهر منهم أمارات الغدر والخيانة (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) وابقوا على عهدكم معهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتقون نقض العهد وخلف الوعد.

[٨] (كَيْفَ) يكون للمشركين عهد ، وتتورعون عن قتالهم (وَ) الحال أنهم (إِنْ يَظْهَرُوا) ويظفروا (عَلَيْكُمْ) ويتمكّنوا منكم (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) أي لا يحفظوا ولا يرعوا فيكم قرابة ولا عهدا ، فإن «الإل» بمعنى القرابة ، و «الذمة» بمعنى العهد ، أو «الإل» بمعنى الحلف ، أي تذهب المحالفات والعهود بمجرد أن يتمكن هؤلاء منكم (يُرْضُونَكُمْ) هؤلاء المعاهدون (بِأَفْواهِهِمْ) فيتكلمون بكلام الموالين (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) حبكم وولاءكم ، بل هي مليئة بغضا وعداوة (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) خارجون عن العهود والمواثيق ، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الحق.

[٩] (اشْتَرَوْا) هؤلاء الناكثون بمقابل آيات (اللهِ) التي كان المفروض الإيمان بها (ثَمَناً قَلِيلاً) فقد أعرضوا عن الدين في مقابل دنيا قليلة

٣٧٠

فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا

____________________________________

زائلة تحفظوا عليها (فَصَدُّوا) أي منعوا الناس (عَنْ سَبِيلِهِ) أي سبيل الله تعالى (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس عملهم ذلك.

[١٠] (لا يَرْقُبُونَ) لا يراعون ولا يحفظون (فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) وهذا تأكيد لما سبق ، أي أنهم لا يراعون قرابة المؤمنين ولا عهدهم ، بل إن ظفروا بهم قتلوهم وانتقموا منهم (وَأُولئِكَ) الكفار الناقضون للعهد (هُمُ الْمُعْتَدُونَ) المجاوزون للحد ، حيث لم يراقبوا العهود.

[١١] (فَإِنْ تابُوا) عن الكفر وقبلوا الإسلام (وَ) خضعوا لأوامره بأن (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) بالنسبة إلى من تمكن منها فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) أيها المسلمون ، لهم ما لكم ، وعليهم ما عليكم (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) نميّزها ونبيّنها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لأهل العلم ، فإنهم هم الذين يستفيدون منها لا الجهلة الذين لا يعرفون شيئا.

[١٢] (وَإِنْ نَكَثُوا) أي نقضوا (أَيْمانَهُمْ) أي عهودهم والأيمان التي حلفوها بعدم الاعتداء عليكم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) معكم ، وهذا كالتذكير ببشاعة عملهم ، وإلا فكل نكث يكون بعد العهد (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي أخذوا يقدحون ويعيبون دينكم (فَقاتِلُوا) أيها

٣٧١

أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ

____________________________________

المسلمون (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) «أئمة» جمع إمام ، وهم قادة الكافرين ، وإنما خصّهم بالذكر لأنهم المضلون لأتباعهم الذين إن استأصلوا ذهبت شوكة الكافرين.

ويستفاد من الآية : أن الأولى قصد مراكز انتشار الكفر ومعادنه (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي أن أئمة الكفر لا يحفظون العهود والأيمان ولا وفاء لهم بها (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم لكي ينتهوا عن الكفر.

[١٣] ثم حثّ سبحانه المؤمنين بقتالهم بقوله : (أَلا تُقاتِلُونَ) أي هلّا تقاتلون (قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ونقضوها ، وهذا لا ينافي قوله : «لا أيمان لهم» فإن معنى ذلك : أنهم لا يحفظوها ، ومعنى هذا أنهم عقدوها. والحاصل أنهم عقدوا الأيمان ولكن نقضوها (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) حين تآمروا في دار الندوة لإخراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة. ولعل ذكر ذلك مع أنهم همّوا بقتله أيضا ، أوقع في النفس ، وأبلغ في التحريض والحث ، لأن الإخراج الذي قصده المتآمرون كان أسوأ من القتل ، فإنهم قصدوا إخراجه حتى يموت في بيداء خالية من الماء والطعام ، أو المراد بالإخراج : إخراجه من بين أظهرهم بالإثبات أو القتل أو النفي (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فإنهم ابتدءوا بقتال المسلمين وإيذائهم والصد عن سبيل الله.

إن كل هذه الأمور الثلاثة مما يبيح لكم قتالهم ، فلماذا

٣٧٢

أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا

____________________________________

لا تقاتلونهم أيها المسلمون؟ (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي هل تخشون هؤلاء الكفار أن تصيبكم منهم أذية؟ (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) فإنكم إن تركتم قتال هؤلاء عذّبكم الله سبحانه ، فهو أحق بالخشية من هؤلاء (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالله وبما جاء به الرسول ، أما غير المؤمن فلا يعتقد بعقاب الله سبحانه ولذا لا يخشاه.

[١٤] (قاتِلُوهُمْ) أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون ، إن تقاتلوهم (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) بالقتل والأسر (وَيُخْزِهِمْ) أي يذلهم ويحطّم شوكتهم (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) حتى تكون كلمتكم هي العليا وتكون الغلبة لكم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) فإن صدور المؤمنين كانت ممتلئة غيظا وكمدا ، وكل من انتصر شفي صدره وذهبت فرحة النصر بغيظه.

[١٥] (وَيُذْهِبْ) الله (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) الذي تجمع فيها من كثرة ما رأوا من الاضطهاد والظلم (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من هؤلاء الكفار إذا آمنوا مع فرط تعدّيهم وعتوّهم ، فإن الإسلام يجبّ ما قبله (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالمصلحة حيث يأمركم بقتال هؤلاء ، فلا يأمر اعتباطا (حَكِيمٌ) فأمره عن حكمة ودراية.

[١٦] (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) «أم» أداة استفهام وعطف ، فقد عطفت هذه

٣٧٣

وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)

____________________________________

الجملة على قوله : «ألا تقاتلون» أي : هل ظننتم أيها المسلمون أن تتركوا آمنين في دياركم من دون أن تكلّفوا الجهاد في سبيل الله سبحانه؟ (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) «لمّا» حرف نفي مع تقريب وقوع الفعل الذي لم يقع بعد ، أي لم يتعلق علم الله سبحانه بالمجاهدين ، فإنه لم يصدر منكم جهاد ، حتى يكون علم الله واقعا خارجيا ، فإن العلم إنما يكون خارجيا ، إذا وجد متعلقه ، فإذا علم الإنسان أن زيدا سيجيء غدا ، يقال : لمّا يعلم فلان مجيء زيد ، بمعنى أنه لم يقع متعلق علمه (وَ) لمّا يعلم الله الذين (لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) «الوليجة» هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره ، كأنه يلج فيها بسره ، فإن حبّ الشخص لا يمتحن في أيام الرخاء ، وإنما يمتحن في أيام الشدة والبلاء ، فالصديق لا يتّخذ غير صديقه وليجة ، بخلاف ضعيف الصداقة.

ولذا نرى أن كثيرا من المسلمين اتخذوا الولائج ، وبدت ضمائرهم السيئة عند الجهاد (وَاللهُ خَبِيرٌ) أي عليم (بِما تَعْمَلُونَ) أيها المسلمون. والحاصل أنه لا بد من امتحانكم أيها المسلمون بالجهاد ليتبين المجاهد منكم من غيره ، ويتبين الذي يخلص في النية لله والرسول ، من غيره.

[١٧] روي أن المسلمين عيّروا أسرى بدر ، ووبّخ علي عليه‌السلام العباس بن عبد المطلب بقتال رسول الله وقطيعة الرحم. فقال العباس : تذكرون

٣٧٤

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

مساوئنا وتكتمون محاسننا. فقالوا : أولكم محاسن؟ قالوا : نعم ، إنا نعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني (١). فنزلت هذه الآيات : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) سواء المسجد الحرام أو غيره حال كونهم (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي حال شهادتهم بكفر أنفسهم ، فكيف يجتمع الإذعان لله والكفر بآياته ، إنك إن أهنت شخصا وعمّرت داره كان تعمير داره سيئة لا حسنة ، فكيف يمكن الافتخار بأنه من المحاسن؟ ومعنى «ما كان» : أنه ليس لهم ذلك. ولعلّ وجه الارتباط أنه لمّا نهي المشركون عن زيارة البيت بيّن سبحانه السبب ، بأن الشرك وعمارة المسجد ـ ماديا ومعنويا ـ لا يجتمعان.

(أُولئِكَ) الذين كفروا (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت فلا قيمة لحسناتهم التي يزعمون أنها حسنة ، فإن الحسنة لا تقبل إلّا مع الإسلام والإخلاص (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أبد الآبدين ، بمعنى أنهم لو ماتوا كافرين لم تنفعهم الحسنة في نجاتهم من النار.

[١٨] (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) بناءها وإقامة العبادة فيها (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بأن أقرّ بالوحدانية واعترف بيوم القيامة ، إنه هو الذي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ٦٣.

٣٧٥

وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

____________________________________

يجوز له تعمير المسجد ، وهو الذي يقبل منه (وَأَقامَ الصَّلاةَ) بمعنى التزم بشرائع الإسلام ، فإن الاعتراف اللفظي بدون الخضوع والانصياع لأوامر الإسلام لا يعدّ إلا لقلقة لسان (وَآتَى الزَّكاةَ) بالنسبة إلى من وجدها (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي خشية من نوع الخشية التوحيدية ، فإن المشرك يخشى من إلهين ، والمؤمن يخشى من إله واحد. وليس النفي مطلقا كما هو واضح ، قال سبحانه بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَتَخْشَى النَّاسَ) (١) ، (فَعَسى أُولئِكَ) أي لعلّ الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والتزموا بشرائطه (أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) أي في زمرتهم ، وإنما قال «فعسى» لأن المرء لا يعرف مستقبله ، فربما كان مؤمنا عاملا ، ثم ينقلب كافرا ، فلا يكون من المهتدين ـ بما للكلمة من معنى ـ.

[١٩] (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) «السقاية» مصدر سقي الماء ، و «الحاج» بمعنى القاصد إلى مكة ، بعد ما كان في اللغة بمعنى مطلق القصد (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) تعميرا بالبناء ، أو بالعبادة ، والأول هنا أقرب (كَمَنْ آمَنَ) الاستفهام إنكاري ، وفي الكلام حذف تقديره «أهل سقاية» أي ليس الساقي العامر للمسجد الحرام كالمؤمن (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وذلك لأن الإيمان هو أصل الفضائل ، أما السقاية والعمارة

__________________

(١) الأحزاب : ٣٨.

٣٧٦

وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)

____________________________________

فهما أمران شكليان ، إذا لم تنضم إليهما روح الإيمان لن ينفعا شيئا (وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) لإعلاء كلمته سبحانه (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أولئك وهؤلاء (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) فإن من ظلم نفسه بالكفر لا يكون مهديا ، فلا يكون عمله عن اهتداء حتى يترتب عليه فضل.

روي أن العباس وشيبة أنهما تفاخرا ، فمر بهما أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فقال : بماذا تتفاخران؟ فقال العباس : لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد ، سقاية الحاج. وقال شيبة : أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه‌السلام : استحييت لكما ، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا. فقالا : وما أوتيت يا علي؟ قال : ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله ورسوله ، فقام العباس مغضبا يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال : ادعوا لي عليا فدعي له ، فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما حملك على ما استقبلت به عمك فقال : يا رسول الله صدمته بالحق فمن شاء فليغضب ومن شاء فليرض. فنزل جبرائيل عليه‌السلام فقال : يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول : اتل عليهم (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..). فقال العباس : إنا قد رضينا «ثلاث مرات» (١).

وقد كانت سقاية الحاج عبارة عن تهيئة دلاء وأواني قبل الموسم فتملأ ماء من بئر زمزم ، فإذا جاء الحجاج سقوا منها ، حيث أن البئر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٦ ص ٣٩.

٣٧٧

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)

____________________________________

كانت لا تتحمل اجتماع خلق كثير عليها.

[٢٠] (الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وبرسوله (وَهاجَرُوا) من مكة إلى المدينة لأجل الإسلام (وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بأن تحملوا المشاق (بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) فبذلوا المال والنفس لإعلاء كلمة الله سبحانه (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) من الذين لم يفعلوا ذلك ، وإن سقوا الحجيج وعمروا المسجد (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون المفلحون.

[٢١] (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أي من عنده. والإتيان بكلمة «منه» لتعظيم قدر البشارة (وَرِضْوانٍ) أي رضاه سبحانه عنهم ، وهو أعظم بشارة ، فإن الإنسان إذا علم أن الملك ـ مثلا ـ راض عنه كان مرتاح الضمير مسرور الخاطر ، أما إذا علم أنه غاضب عليه كان بالعكس ، وإن أغدق عليه في العطاء (وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها) أي في تلك الجنات (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم لا يزول ولا يتحول.

[٢٢] (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) فالجنات والنعيم كلاهما خالدان إلى ما لا نهاية (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فليرغب الراغبون فيه.

[٢٣] وحيث ذكر سبحانه وجوب الجهاد في سبيله ، والهجرة من دار الكفر لأجله ، بيّن أنه يجب أن يتجرّد الإنسان من أقرب العلاقات إلى نفسه

٣٧٨

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣)

____________________________________

لأجله تعالى فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) بأن تتولّونهم ولاء صادرا من الأعماق ، وإن استحبّت معاشرتهم في الظاهر لقوله سبحانه : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (١) ، (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ) أي آثروا الكفر واختاروه (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي الآباء والإخوان (مِنْكُمْ) فيقدّم ولايتهم على ولاية الله والرسول والمؤمنين (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين ظلموا أنفسهم حيث أوجبوا لها خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

وفي بعض الأحاديث : إن الآية وردت في «حاطب بن أبي بلتعة» (٢) فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أراد فتح مكة ، أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى يفاجئ المسلمون الكفار ولا تراق الدماء ، فكتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأطلع الله رسوله بالخبر ، فوبخ حاطبا ثم عفا عنه ، وأرجع الرسول الذي كان بيده الكتاب ، فكان كما أراد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عدم وصول الخبر إليهم ، وقد قال حاطب معتذرا أن له أهلا في مكة فخاف أن تكون الدائرة على المسلمين ، فيكون له يد على الكفار ، ويسلم أهله من عقابهم وعذابهم.

[٢٤] ثم بيّن سبحانه ميزان الإيمان الصحيح ، وأنه لا يكون إلا بأن يرجّح

__________________

(١) لقمان : ١٦.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ٣٠.

٣٧٩

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي

____________________________________

المؤمن كفّة الإيمان على جميع الشؤون والاعتبارات (قُلْ) يا رسول الله للمسلمين : (إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) واللفظان يشملان الأجداد والأحفاد (وَإِخْوانُكُمْ) الأعم من الأخوات (وَأَزْواجُكُمْ) اللاتي عقدتم عليهن (وَعَشِيرَتُكُمْ) أقاربكم غير من ذكروا ، كالأعمام والأخوال ومن أشبههما (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) جمعتموها وكسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) تخشون أن تكسد ولا تدار ، إن اشتغلتم بطاعة الله سبحانه (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها) بأن تحبون المقام فيها ، سواء كانت بلادا أو بيوتا (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ) وأقرب إلى نفوسكم (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) من طاعته وطاعة رسوله (وَ) أحب إليكم من (جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي سبيل الله ، فإذا دار الأمر بين ترجيح رضاه سبحانه أو رضا رسوله وبين ذلك المحبوب لديكم من مال وقرابة قدمتموه عليها (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا. وهذا تهديد ، أي انتظروا العقاب فإنكم لستم من الله في شيء. وكيف يدّعي الإنسان الإيمان وهو يقدّم تلك الأمور على أمر الله تعالى (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فإنكم لا خير فيكم ، وإنما يأتي بأمر الله غيركم ، كما يقال : «إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك ليفعله» ، فإن الله سبحانه غني عنكم فهو القادر على أن ينفذ أوامره بواسطة أناس غيركم (وَاللهُ لا يَهْدِي

٣٨٠