تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

____________________________________

آلهة (إِنْ يَتَّبِعُونَ) أي ما يتبع هؤلاء المشركين (إِلَّا الظَّنَ) الحاصل لهم بالتقليد والعادة (وَإِنْ هُمْ) أي ما هم (إِلَّا يَخْرُصُونَ) يحدسون حدسا بلا علم ولا يقين.

[٦٨] إن الله سبحانه هو مالك من في السماوات ومن في الأرض ، ومالك الأصنام ، كما أنه هو الذي جعل الأنظمة الكونية ، التي لا تزال تتكرّر على الناس كل يوم ، بكل جمال وإتقان (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي لسكونكم عن أتعاب النهار (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي جعل النهار مضيئا تهتدون بسببه إلى حوائجكم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الجعل (لَآياتٍ) حجج (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) سماع تفهّم وتعقّل ، أما من لا يسمع ولا يصغي إلى الحق ، فإن تلك الآيات لا تفيده.

[٦٩] وحيث بيّن سبحانه عقيدة المشركين وزيف عقيدتهم وبيّن الأدلة على بطلانها ، عطف الكلام حول عقيدة أخرى غزت الأدمغة كثيرا ، وهي عقيدة اليهود والنصارى وبعض آخر ، من أن الله له ولد (قالُوا) قال الكفار : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) قال أهل الكتاب بأن عزير والمسيح أبناء الله ، وقال الكفار بأن الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) أسبّحه تسبيحا ، وأنزّهه تنزيها من هذه الكذبة (هُوَ الْغَنِيُ) فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد ، ولو على نحو التبنّي (لَهُ) تعالى (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي

٥٤١

الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا

____________________________________

الْأَرْضِ) فمن يملك كل شيء لا يمكن أن يكون له ولد ، إن الولد جزء الوالد فلا يكون مملوكا له (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) أي ما عندكم دليل يدل على هذا الاعتقاد وأنه سبحانه اتخذ الولد (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فتنسبون إليه أمرا بدون علم ويقين ، فإنهم لم يكونوا على علم بأن له ولدا. وهذا استفهام توبيخي.

[٧٠] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بأن ينسبون إليه أنه اتخذ شريكا أو اتخذ ولدا (لا يُفْلِحُونَ) أي لا يفوزون بالنجاة والسعادة لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقال في آية أخرى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) (١).

وقد دل التاريخ على صحة ذلك الإخبار ، فقد وقعت في العالم المسيحي والعالم اليهودي على طول الخط مجازر مدهشة ، فهم من عصر ظلامهم إلى عصر نورهم ـ هذا القرن ـ في حروب طاحنة عجيبة لا تبقي ولا تذر ، وألوف القصص شاهدة على ذلك ، منها ما ذكره «سلامة موسى» في كتابه «حرية الفكر» : أن حربا وقعت بين قسمي المسيحيين ـ الكاثوليك والبروتستانت ـ وذهب ضحيتها أربعة عشر مليون من البشر ، في ألمانيا وحدها.

[٧١] لهم (مَتاعٌ) قليل (فِي الدُّنْيا) يتمتعون أياما قلائل (ثُمَّ إِلَيْنا

__________________

(١) الكهف : ٥.

٥٤٢

مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ

____________________________________

مَرْجِعُهُمْ) رجوعهم ، أي إلى حكمنا وجزائنا يكون مصيرهم (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ) الدائم (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) بسبب كفرهم.

[٧٢] لقد سبقت الإشارة في هذه السورة إلى الأمم السابقة وأنهم لما كذبوا الرسل ذاقوا وبال أمرهم ((وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (١) ، وسبقت الإشارة إلى أن لكل أمة رسول ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢). وهنا يأتي البيان ليبين بعض تلك القصص اعتبارا وتذكرة (وَاتْلُ) أي قص يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) على هؤلاء الكفار (نَبَأَ نُوحٍ) أي خبر نوح النبي عليه‌السلام (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ) شقّ وصعب عليكم (مَقامِي) إقامتي بين أظهركم فاستثقلتموني (وَتَذْكِيرِي) وعظي وتبييني لكم (بِآياتِ اللهِ) حججه ودلائله الدالة على وجوده وصفاته وسائر ما يرتبط به من النبوة والمعاد (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) في زجركم وما تنوون إيقاعه علي ، فإني متوكل على الله في جميع أحوالي ، وأتوكل عليه في هذه الخصوصية أيضا.

فلا يقال : مفهوم الشرط : عدم توكلّه في صورة عدم الشرط؟

__________________

(١) يونس : ١٤.

(٢) يونس : ٤٨.

٥٤٣

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ

____________________________________

الجواب : إن القضية سالبة حينئذ بانتفاء الموضوع. أي أنه إن لم يكبر مقام نوح عندهم لم يكن خوف منهم حتى يتوكل عليه‌السلام ، على الله سبحانه للتوقي من خوفهم.

(فَأَجْمِعُوا) أيها الكفار (أَمْرَكُمْ) حولي (وَشُرَكاءَكُمْ) أي تعاونوا مع الذين اتخذتموهم شركاء لله سبحانه ، واعزموا على أمر واحد (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) لإيذائي (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) غمّا وحزنا ، بأن تتردّدوا فيه ، ويكون لكم وجه الخلاص مني (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) انهضوا لتنفذوا تدبيركم علي (وَلا تُنْظِرُونِ) لا تمهلونني حتى أفكر ، وحتى أجمع قراري لمقابلتكم.

قال نوح عليه‌السلام هذا لهم على وجه التحدّي وبيان أنهم لا يتمكنون من القضاء عليه وإن جمعوا كل قواهم وتشاوروا فيما بينهم واتحدت كلمتهم وأسرعوا في تنفيذ كيدهم نحوه ، فإنه مستعصم بالله ومستنصر به ، وجميع القوى لا تتمكن أن توصل إليه سوء. وهذا أدل دليل على وجوده سبحانه ، وإلا لتمكن أولئك الكفرة من القضاء عليه. وهذا كما تقول أقوى الدول لأضعف الحكومات : «افعلوا ما شئتم واجمعوا أمركم وأسرعوا في تنفيذ خططكم فإنكم لا تتمكنون من شيء».

[٧٣] (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الحجج والآيات ولم تقبلوا نصحي وتذكيري ، فأنتم وشأنكم ، إن تولّيكم لا ينقص أجري وثوابي (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) حتى ينقص بإعراضكم ، كالمعلم الذي إذا أعرض

٥٤٤

إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ

____________________________________

التلاميذ عنه نقص أجره. والحاصل : إن أعرضتم عن قبول قولي لم يضرّني لأني لم أطمع في مالكم حتى يفوتني المال بتولّيكم عني ، بل يعود ضرر تولّيكم عليكم (إِنْ أَجْرِيَ) أي : ما أجري (إِلَّا عَلَى اللهِ) سبحانه (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين يسلمون أمورهم إلى الله سبحانه ، فإني ماض في رسالتي ، مصمم على تبليغي ، وإن توليتم وأعرضتم.

[٧٤] (فَكَذَّبُوهُ) فكذّب أولئك الكفار نوحا عليه‌السلام ، وقالوا : أنت لست بنبي وأنكروا المبدأ والمعاد (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ) من المؤمنين (فِي الْفُلْكِ) أي في السفينة (وَجَعَلْناهُمْ) جعلنا نوحا عليه‌السلام والمؤمنين معه (خَلائِفَ) خلفاء في الأرض بعد أولئك الكفار الذين أغرقوا (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) فقد أمطرت السماء وتفجّرت العيون حتى أخذ الماء كل ما في الأرض ، وهناك هلك الكفار أجمع (فَانْظُرْ) يا رسول الله ـ والخطاب لكل من يصح منه النظر ـ والمراد ب «النظر» العلم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) الذين أنذروا ولم ينفع فيهم الإنذار. وقومك هؤلاء يا رسول الله مثل أولئك ، إن كذبوا وأرادوا القضاء عليك نصرناك عليهم وأهلكناهم.

[٧٥] (ثُمَّ بَعَثْنا) أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد نوح عليه‌السلام (رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ)

٥٤٥

فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)

____________________________________

كإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام وغيرهم (فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحة والأدلة على المبدأ والمعاد والتكاليف (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) فقد كانت تلك الأقوام مثل أسلافهم لا يؤمنون بالحق الذي كذبت الأسلاف به ، فإن المكذبين لهم طبيعة واحدة ، ومن قبيل موحّد ، كما أن المؤمنين من قبيل واحد ، ولذا صح نسبة ما للأسلاف إلى الأخلاف ، كما نسب سبحانه ما صدر من أسلاف اليهود إلى أخلافهم الذين كانوا في زمن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) إن طبعنا على قلوب الذين يعتدون ويتجاوزون الحق ، إنما هو بعد ما أغلقوا هم قلوبهم عن قبول الحق ، واعتدوا عن سنن الحق.

[٧٦] (ثُمَّ بَعَثْنا) أي أرسلنا (مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد أولئك الأمم والرسل (مُوسى وَهارُونَ) أخا موسى عليهما‌السلام (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أشراف قومه أو كلّهم ، فإن «الملأ» اسم للأشراف ، لأنهم يملئون القلوب هيبة ، والأنظار زينة ونظارة (بِآياتِنا) أي أرسلناهما مع أدلتنا الدالة على صدق دعواهما من المعجزات والخوارق (فَاسْتَكْبَرُوا) عن الانقياد لها والإيمان بها (وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) قد أجرموا وارتكبوا الآثام والمعاصي.

٥٤٦

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا

____________________________________

[٧٧] (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) جاء فرعون وقومه المطالب الحقة التي كانت (مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا) الذي جئتما به من الخوارق والمعجزات (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) سحر واضح ، لا حقيقة له وإنما هو شيء يجعلنا نتخيل الأمور على غير واقعها.

[٧٨] (قالَ مُوسى) عليه‌السلام لهم : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ) سحر؟ وقد حذف محكي القول لدلالة الكلام عليه ، وذلك لنكتة أدبية هي أن تبقى النفس منتظرة فتذهب كل مذهب ، تعظيما لتشنيع القائل ، أو المراد من «أتقولون» : أتعيبون وتطعنون في الحق؟ (أَسِحْرٌ هذا) هل هذا الذي جئت به من الخوارق سحر؟ وكم من فرق بين السحر والمعجز ، فالسحر شيء ضعيف له سبب خفي يتمكن أن يفعله أي واحد ولا يقترن بالتحدي ، بعكس المعجز في كل ذلك (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) لا يظفرون بمرادهم تماما ، فإنه تمويه وتزييف للمستضعفين ، ولذا لم يوجد ساحر تمكّن من تكوين أمة وكانت له سيادة ورفعة.

[٧٩] (قالُوا) أي قال فرعون وملؤه لموسى عليه‌السلام : (أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) على نحو الاستفهام الإنكاري ، أي : هل جئتنا يا موسى لتصرفنا ـ من «لفت» بمعنى صرف ـ (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من عبادة الأصنام والملوك ، وترشدنا إلى عبادة الله؟ إن هذا لا يكون (وَتَكُونَ لَكُمَا

٥٤٧

الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ

____________________________________

الْكِبْرِياءُ) السيادة والسلطة. فإنهم قالوا : إن موسى وهارون إنما ساقهم إلى هذه الدعوة إرادتهما أن يكونا سيدين ملكين على الناس ، فهما من طلاب العظمة والسلطة (فِي الْأَرْضِ) أرض مصر وما حولها (وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي بمصدّقين في دعوى النبوة.

[٨٠] (وَقالَ فِرْعَوْنُ) لملئه : (ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) بالسحر ، بليغ في عمله ، لأواجه موسى به ، فإنه قد عجز عن دحض حجته ، فأراد الاستعانة بالسحرة ليقابل موسى بالمثل فتبطل حجته عليه‌السلام في زعمه.

[٨١] فجمعوا له السحرة من كل مكان ولما (جاءَ السَّحَرَةُ) جمع «ساحر» نحو : كهنة ، وطلبة ، جمع «كاهن» و «طالب». وجاء موسى عليه‌السلام في محضر فرعون والناس (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فإنهم كانوا يلقون حبالا وعصيّا من أيديهم على الأرض فيظهر للناس أنها حيّاة وأفاعي ، وقد أرادوا بذلك بيان أن عصيّ موسى عليه‌السلام أيضا من هذا القبيل ، وإذا بطلت هذه المعجزة تمكنوا من الخدش في سائر المعجزات التي أتى بها ، بأنها أيضا أقسام من السحر. و «ألقوا» ليس أمرا بالسحر ، بل بيانا لبطلانه.

[٨٢] (فَلَمَّا أَلْقَوْا) ألقت السحرة ما معها من الحبال والعصيّ (قالَ مُوسى) عليه‌السلام لهم : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) «ما» مبتدأ و «السحر» خبره ،

٥٤٨

إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)

____________________________________

يعني : إن الذي جئتم به هو السحر ، وليس السحر ما جئت به كما قلتم. (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) يظهر بطلانه للناس (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) فالله سبحانه لا يبقي على عمل يراد به إفساد الدين بطابع الإصلاح ، ولا يمضيه ، بل يبيّن بطلانه ويظهر زيفه.

[٨٣] (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) أي يظهر الله سبحانه الحق للناس ويحقّقه ، حتى يرون أنه حق وأن ما عداه باطل (بِكَلِماتِهِ) التكوينية وهي «كن فيكون» (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أن يظهر الحق ويتبيّن زيف الباطل. وقد تحقّق ما قاله موسى عليه‌السلام فألقى عصاه ـ وقد صارت ثعبانا عظيما ـ فأكلت كل تلك الحبال والعصي ، وخرّ السحرة ساجدين ، وبطل كيد فرعون ، بل ظهر كون الحق مع موسى عليه‌السلام وأنه نبيّ مرسل.

وهنا أمر لا بد من التنبيه عليه هو : أن القرآن إنما يأخذ موضع العبرة من القصة ، ولذا نجده في كل مناسبة يذكر طرفا خاصا منها. ففي مقام يذكر أول القصة ، وفي مقام وسطها أو آخرها ، وفي مقام يطرحها باختصار ، وفي مقام بتفصيل ، حسب اختلاف المقامات. فإذا كان الحديث حول عاقبة المجرمين ، ذكر غرق فرعون ، وإن كان حول غلبة رسل الله بالحجة ذكر غلبة موسى في إلقاء عصاه ، وإن كان حول العاقبة الحسنة للمؤمنين ذكر نجاة بني إسرائيل من مصر. وغالبا يخصّ الموضع المراد من القصة بجمل قصيرة من سائر مواضعها تحفظا على الربط والسياق.

وقد أكثر سبحانه من القصص المرتبطة بالأمم الموحّدة الباقية ،

٥٤٩

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)

____________________________________

والأمم المشركة والملحدة الباقية ، لتكون لهم عبرة ، أما تفصيل قصص قوم لوط وشعيب وإلياس ـ مثلا ـ فليس من البلاغة ، أما قصة موسى وعيسى فلا بد من تفصيلهما لأنهما صاحبا شريعة يتمسك الناس بها إلى يوم الوقت المعلوم ، وهكذا بالنسبة إلى الاحتجاجات مع الملحدين والمشركين ، فقد بقي أكثر أهل العالم ملحدين مشركين طول الخط حتى يوم الناس هذا.

[٨٤] (فَما آمَنَ لِمُوسى) ولم يصدّق دعوته وما جاء به (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي جماعة من الشباب ـ لا الكهول والكبراء ـ والضمير في «قومه» إما راجع إلى «فرعون» أي من قوم فرعون ، أو راجع إلى موسى عليه‌السلام أي : من بني إسرائيل ، فإنهم كانوا من أقرباء موسى عليه‌السلام لأن الجميع كانوا من أولاد يعقوب عليه‌السلام. وكان إيمانهم (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ) فقد كانوا يخافون بطشه ونكاله ، (وَمَلَائِهِمْ) أشرافهم وكبرائهم ، أن يؤذوهم و (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أي يعذبهم فرعون ويصرفهم عن دينهم (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ) قاهر متكبّر وسلطان (فِي الْأَرْضِ) فيقدر على ما يريد من التنكيل والعقاب (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) الذين أسرفوا وتجاوزوا الحد في الطغيان ، فقد أسرف في القتل والظلم ، وادّعى الربوبية.

والسر في هذا أن الأنبياء دائما يأتون إلى الناس عزّل بلا سلاح ومال ، والملوك الذين هم ضدّهم مزوّدون بالأمرين ، والناس بحاجة

٥٥٠

وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)

____________________________________

إلى المال ، كما أنهم يخافون من القوة ، لذا تجبرهم الطبيعة على عدم الاعتناء بالأنبياء وإن كان الغالب أنهم يصدقونهم قلبا ، كما قال ذلك الشاعر للحسين عليه‌السلام : «قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية» ، وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (١). ومن ذلك نرى أن الملوك إذا قبلوا الدين دخل فيه أتباعهم.

أما سر أن الأنبياء عزّل هو أن يكون في الدين صعوبة ليكون المؤمن مستحقا للأجر والثواب ، وهذا هو سر فضيلة السابقين إلى الدين ، لأنهم يلاقون من الصعوبة ما لا يلاقيه غيرهم.

[٨٥] (وَقالَ مُوسى) لقومه المؤمنين به : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) إيمانا صادقا راسخا (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) فوّضوا أموركم إليه (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أي إن كنتم منقادين لله ، فإن «الإسلام» هو الانقياد عملا ، كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢) ، فالإيمان هو الاعتقاد ، والإسلام هو التسليم ، وبينهما عموم من وجه ، فكم من معتقد لا يسلم ، وكم من مسلم لا يعتقد.

[٨٦] (فَقالُوا) أي قال قوم موسى : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) فوّضنا أمورنا إليه واثقين بنصرته لنا (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) فنكون امتحانا

__________________

(١) النمل : ١٥.

(٢) الحجرات : ١٥.

٥٥١

وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ

____________________________________

للكفار ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (١). فإن الكفار يمتحنون ويفتنون بالمؤمنين ، ومعنى دعائهم : أن لا يسلّط الكفار عليهم ، حتى يبتلوا بهم ، ويكون الكفار ممتحنين بسبب هؤلاء.

وقد روي عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنهما فسرا الآية بأن معناها : لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا (٢).

[٨٧] (وَنَجِّنا) خلّصنا (بِرَحْمَتِكَ) بفضلك (مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) أي فرعون وملأه.

[٨٨] (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ) هارون ، لما قرب الأمر ، وأردنا نجاتهم من أيدي فرعون وقومه (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) يقال : «تبوأ بيتا» أي اتخذ بيتا ، من باب «باء» بمعنى «رجع» ، فإن الإنسان يرجع إلى بيته كلما خرج ، ولذا يسمى البيت «مبوأ». أي اجعلا لبني إسرائيل المؤمنين بكم في مدينة مصر بيوتا خاصة بهم (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) قال سعيد بن جبير إن معناه : اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أديموها وواظبوا على فعلها. ولعلّ هذين الأمرين باتخاذ البيوت بتلك الكيفية وإقامة الصلاة ، أن الأول لجمعهم في محل واحد بعضهم قبال بعض فلا يكونوا منتشرين هنا وهناك ،

__________________

(١) الفرقان : ٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢١٦.

٥٥٢

وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ

____________________________________

وذلك التكتّل والتنظيم مهم جدا في جمع الأفراد بصبغة واحدة ، ولنشر الأخبار ، وتنفيذ الأوامر فيهم بسرعة. كما أن إقامة الصلاة وتوثيق الصلات بالله سبحانه تولد فيهم طاقة روحية ونشاطا ، وتزكّي نفوسهم استعدادا لمقاومة القوم وعدم تأثير دعايات الكفار فيهم. ومن المعلوم أن تزكية الروح لها أكبر الأثر في الانتصار والثبات (وَبَشِّرِ) يا موسى (الْمُؤْمِنِينَ) بالله ربك ، بأنه سوف يفرّج عنهم.

[٨٩] (وَقالَ مُوسى) مخاطبا لله سبحانه : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ) أي أعطيته والأشراف من قومه (زِينَةً) يتزيّنون بها من الملابس والمراكب والمساكن وغيرها (وَأَمْوالاً) يديرون بها شؤونهم ويتعاظمون بها على غيرهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإنها توجب الإغراء في هذه الحياة بالنسبة الى الغير ، كما توجب الكبرياء بالنسبة الى أصحابها. وكان ذكر هذه الجملة للتضرع إليه سبحانه ببيان كونهما صدا للدعوة هنا ـ في هذه الحياة ـ كما يقول الطالب شاكيا إلى مدير المدرسة : «إنك جعلت فلانا مراقبا في المدرسة ، وهو فاسد» يريد بيان الضراعة في أن كونه في المدرسة يسبب الفساد.

(رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) «اللام» للعاقبة ، كما قال سبحانه : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (١) ، أي أن عاقبة إعطائك

__________________

(١) القصص : ٩.

٥٥٣

رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨)

____________________________________

المال لهم إضلال الناس عن دينك وطريقك وشريعتك (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) «الطمس» محو الأثر ، وهنا بمعنى «الضرب» ولذا عدّى ب «على» أي اضرب عليها وامحي أثرها ، حتى لا تكون سدا في طريق الدعوة.

وهل كان دعاؤه عليه‌السلام بمسخها كما ذكر جمع من المفسرين ، أو ذهاب البركة وإفنائها تدريجيا؟ احتمالان.

(وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أبلغ بهم إلى غاية الشدة والقسوة التي يستحق بها العقاب ، لانقطاع كل رجاء في إيمانهم ، فإن الكافر لا يهلكه الله سبحانه إلا إذا انقطع كل رجاء ـ حسب الظاهر ـ عن قبول الحق ، فكان هذا دعاء لسرعة إهلاكهم ، بذكر السبب.

ومن هذا القبيل دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام لزيادة شقوة ابن ملجم ، فإنه دعاء بالخلاص من القوم بذكر السبب ، وحيث أن الأمر كائن لا محالة ، فالدعاء بتقديمه ليس خلافا لموازين الدعاء إذا كان فيه فائدة مهمة.

(فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) المؤلم الموجع ، أي أنهم يلازمون عدم الإيمان إلى رؤية العذاب ، وفي ذلك الوقت لا ينفع الإيمان لأنه إيمان إلجاء لا إيمان عقيدة. ومن المعلوم أن استحقاق العقاب والثواب إنما هو بالعمل المنبعث عن العقيدة. وربما يحتمل أن المراد ب «اشدد» اتركها حتى تتشدد وتتصلب ولا تلطف بها ألطافك الخفية ، فيكون كقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ

٥٥٤

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ

____________________________________

فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (١) ، المراد به تركهم حتى يضلوا.

[٩٠] (قالَ) الله سبحانه في جواب دعاء موسى وهارون عليهما‌السلام : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) في طمس أموال فرعون وقومه والتشديد على قلوبهم (فَاسْتَقِيما) في الإرشاد والتبليغ والدعوة إلى الله سبحانه.

روي عن الصادق عليه‌السلام : «أنه كان بين قول الله عزوجل : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) وبين أخذ فرعون ، أربعين سنة» (٢).

(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) في الضجر من طول المدة ، وعدم الوثوق والاطمئنان بوعد الله سبحانه ، فإن لله في أحكامه مصالح لا يتضجّر منها إلا الجاهل ولا يستبطئ وعوده إلا المستعجل.

[٩١] وجاء الموعد وخرج بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه‌السلام ووصلوا إلى البحر وانفلق الماء عن طريق لهم وجاء فرعون بجنوده ليدركهم ويأخذهم وينكّل بهم ، وتوسط قوم موسى البحر حتى دخل قوم فرعون ولما أن خرج موسى وقومه توسط البحر فرعون وقومه وإذا بالماء ينطبق عليهم ويغرقون جميعا (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) أي مع جنوده (بَغْياً وَعَدْواً) إنما اتّبعوهم ليبغوا عليهم (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ) أدرك فرعون

__________________

(١) الزمر : ٢٤.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ص ١٢٧.

٥٥٥

الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)

____________________________________

(الْغَرَقُ) أي وصل إليه الماء ليغرقه (قالَ) فرعون للتخلص من الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا) الإله (الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) يعني الله سبحانه ، فقد كان إلى ذلك الحين ينكره ويدعي الربوبية (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إني أسلم له. لكن إيمانه كان للتخلص والنجاة ، بالإضافة إلى أن الإيمان لا ينفع إذا عاين الإنسان الموت كما قال سبحانه : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (١).

[٩٢] ولما كان هذا الكلام قال له جبرائيل : (آلْآنَ) تؤمن على نحو الإنكار ، فإن هذا الإيمان عن إلجاء واضطرار (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) ذلك بترك الإيمان وفعل المعاصي والفساد في الأرض (وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بظلم الناس والتعدي عليهم وإطفاء نور الأنبياء إلى غير ذلك.

روي عن الصادق عليه‌السلام قال : «ما أتى جبرائيل رسول الله إلا كئيبا حزينا ، ولم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون ، فلما أمره الله بإنزال هذه الآية (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، نزل عليه وهو ضاحك مستبشر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أتيتني يا جبرائيل إلا وتبيّنت الحزن من وجهك حتى الساعة. قال : نعم يا محمد! لما أغرق

__________________

(١) النساء : ١٩.

٥٥٦

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً

____________________________________

الله فرعون قال : «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه ، ثم قلت له : «ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين» وعملت ذاك من غير أمر الله عزوجل ، ثم خفت أن تلحقه الرحمة من الله عزوجل ويعذبني الله على ما فعلت. فلما كان الآن وأمرني الله عزوجل أن أودي إليك ما قلته أنا لفرعون ، أمنت وعلمت أن ذلك كان لله تعالى رضى» (١).

[٩٣] (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) إن الناس غالبا لا يصدقون بموت العظماء ، فكيف بمن ادّعى الربوبية وكان الناس يعبدونه. ولذا لما أخبر موسى عليه‌السلام أن فرعون أغرق ، لم يصدقه الناس ، ولذا اقتضت حكمة الله سبحانه أن ينجي فرعون ببدنه ، بأن ألقى بدنه الذي لا روح فيه على الساحل حتى رآه الناس. ولذا قال سبحانه «اليوم» أي يوم غرقك ننجيك يا فرعون ببدنك فقط ، فلم يذهب مع الماء ليضيع جسمه ، ولا أكلته الأسماك (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ) من الناس (آيَةً) علامة على قدرة الله سبحانه ، وأنه لم يكن فرعون إلها ، فإن الإله لا يموت ولا يغرق. والخطاب إما حقيقي بأن خوطب به فرعون وهو حي ، أو موجه إلى الناس يراد به إعلامهم بمصير كل ظالم ، فالخطاب من قبيل خطابات العقلاء لما لا يعقل ، كقول الشاعر :

أيا شجر الخابور ما لك مورقا

كأنك لم تجزع على ابن طريف

وقوله :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٣ ص ١١٧.

٥٥٧

وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ

____________________________________

أيا جبلي نعمان بالله خليا

نسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) غافلون عن التفكير في أدلتنا ودلائلنا.

[٩٤] (وَلَقَدْ بَوَّأْنا) مكّنا (بَنِي إِسْرائِيلَ) بعد نجاتهم من فرعون وقومه ، وخروجهم من مصر (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) مكان ثبات وأمن ، فإن المكان المتزلزل الذي لا يستقر فيه الإنسان هو مبوأ كذب ، إذ لا وجه له واقع ، فهو يحكي عما لا يكون ، إذ ظاهره الاستقرار وباطنه الانفلات والانقلاب. فقد مكّنهم سبحانه من الشام وبيت المقدس (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) بعد ما كانوا في أرض مصر متزلزلي المنزل حيث يضطهدهم فرعون ، ولم يكن لديهم ما يأكلون حتى صفرت أيديهم من المال ، لكن لم يبقوا على تلك الحالة ، فإنهم لما طال عليهم الأمد اختلفوا ، ولم يكن اختلافهم عن جهل فإنهم ما (اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) وعرفوا كل شيء ، بل اختلفوا حسدا واستعلاء ، كما هو شأن كل أمة ، أنهم يتّحدون ما داموا قلة مضطهدين ، فإذا كثروا وأمنوا وأثروا اختلفوا على المال والجاه وما أشبههما. (إِنَّ رَبَّكَ) يا رسول الله (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فقد أحيلوا إلى المحكمة الكبرى حيث لم يرضخوا لأحكام الله في الدنيا ولا ترافعوا إلى أنبيائه ليبيّنوا لهم الحق من الباطل (فِيما كانُوا فِيهِ

٥٥٨

يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ

____________________________________

يَخْتَلِفُونَ) من الأصول والفروع. وقد روي أنهم انقسموا إلى إحدى وسبعين فرقة.

[٩٥] وبعد تمام قصة موسى عليه‌السلام وفرعون ، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعرف الذين يشكّون ، أنهم في شكّهم على غير حق بعد إقامة الحجة ، وكثيرا ما يوجه الخطاب إلى أحد ما ، ليعرف غيره قصد المتكلم على نحو «إياك أعني واسمعي يا جارة». ومن المحتمل أن يكون الخطاب لكل من يلتفت إلى هذه القصة ، كما ذكر علماء البلاغة أن الخطاب في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) (١) ، متوجه إلى كل من يأتي منه الرؤية.

(فَإِنْ كُنْتَ) يا رسول الله ، أو إن كنت أيها السامع. وهذا لا ينافي قوله (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إذ يستعمل ذلك بالنسبة إلى كل من أمر بتبليغه ، كما قال سبحانه : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (٢) ، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) (٣) ، باعتبار أن الغاية من الإنزال هم.

(فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) من العقائد الحقة والقصص السالفة (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) فإنهم في واقع أمرهم يعترفون بكل ذلك وإن أنكره بعضهم عنادا وحسدا ، فإن الكتب السالفة كانت تدل على كل تلكم الأصول وحقائق هذه القصص (لَقَدْ جاءَكَ

__________________

(١) السجدة : ١٣.

(٢) الطلاق : ١١.

(٣) الأنبياء : ١١.

٥٥٩

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)

____________________________________

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) يا رسول الله ، أو أيها السامع ، فإن القرآن وما يشتمل عليه من الأصول والأحكام والقصص كله حق لا مرية فيه (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) «الامتراء» طلب الشك مع ظهور الدليل ، وهو من «مرى الضرع» إذا مسحه ليدر ، ولا معنى لمسحه بعد درّه الحليب.

ولا يخفى أن مثل هذا الكلام ، إنما يفيد التلقين والإيماء ، فإن المطلب إذا ألقي على النفس قبلته. فلا يقال : ما فائدة هذا الكلام؟ إذ المخاطب إن كان شاكا لا يزول شكه بقولك : «لا تشك» ، وإن لم يكن شاكا كان مثل هذا الكلام معه لغوا ، كما أنه لا تنافي بين (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) وبين (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) فإنها بمعنى : «إن كنت في شك فاسأل حتى يزول الشك ولا تبقى فيه إلى الأبد».

[٩٦] (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي لا تكن في جملة المكذبين بأدلة الله وحججه التي أقامها على توحيده وسائر صفاته وأحكامه (فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم إذ هم صرفوها واشتروا بذلك العذاب والنكال.

[٩٧] وبعد وضوح الحجة وظهور المحجة وقيام الأدلة على ما أنزل على الرسول فما هو سبب إصرار قوم على الكفر والتكذيب؟ إنهم حقت فيهم كلمة الله ، فقد بيّن سبحانه سابقا أن من أعرض عن الحق بعد وضوحه لا بد وأن يقسو قلبه حتى أنه لو رأى كل آية لا يؤمن ، فقد

٥٦٠