تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي

____________________________________

فنزلت : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) على هؤلاء الكفار (آياتُنا) المنزلة في القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات (قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) أي لا يؤمنون بالمعاد ، فإن المؤمن بالمعاد يرجو فضل الله سبحانه ، فمن لم يرج فليس بمؤمن ، لتلازم الرجاء والإيمان : (ائْتِ) جئ يا محمد (بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا) القرآن الذي تلوته (أَوْ بَدِّلْهُ) فاجعله على خلاف ما تقرأه ، والفرق بينها : أن القرآن الثاني غير مرتبطة مطالبه بالقرآن الأول ، بخلاف «بدله» فهو هو ، لكن مع التبديل كأن يقول ـ عوض (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١) ـ : «إنكم وما تعبدون من دون الله زينة الجنة» مثلا. وقد ظن أولئك الجهلة أن القرآن أمثال أشعار العرب التي يتمكن الشاعر أن يقول شعرا آخر ، أو أن يبدل جزءا من الشعر فيجعل مكانه جزءا آخر.

(قُلْ) يا رسول الله لهم : (ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ) أبدل القرآن (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) من ناحية نفسي ، فإنه معجز وذلك بيد الله وحده ، يقال : «فلان تلقاء فلان» أي بحذائه وإزائه (إِنْ أَتَّبِعُ) ما أتبع (إِلَّا ما يُوحى) أي الشيء الذي يوحيه الله سبحانه (إِلَيَ) بلا زيادة ولا نقصان (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) بتبديل كتابه أو تغييره ، أو

__________________

(١) الأنبياء : ٩٩.

٥٠١

عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)

____________________________________

سائر أنواع المعاصي (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم القيامة ، وأي معنى للتبديل؟ هل لأن القرآن ليس معجزا؟ فليأتوا بمثله ، أم لأن مطالبه وقوانينه ليست مطابقة للواقع أو للحكمة ، فما هو نقدهم فيه؟ وهل المعاند يكتفي بالتبديل؟ إن كلامهم كان لمجرد العناد ، وهذا مما لا يصغي إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[١٧] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون تبديل القرآن : ليس أمر تلاوته ، ولا أمر إنزاله بيدي ، إن جميع شؤون القرآن بيد الله سبحانه ، فهو الذي أنزله ، وهو الذي أمرني بتلاوته ، وقل لهم : إني قد لبثت فيكم قبل نزول القرآن عمرا كاملا أربعين سنة ، ولو كان القرآن مني لكنت أقرأه وأعلمه قبل نزوله ، إن عدم قراءتي له من قبل ، وعدم بيانه سابقا ، دليل على أنه ليس من عندي وليس بيدي حتى أتمكن من تبديله وتغييره (لَوْ شاءَ اللهُ) أن لا أتلوه (ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) فإنه هو الآمر بتلاوته عليكم وتبليغكم به (وَلا أَدْراكُمْ بِهِ) أي لو شاء الله أن لا تعلموه ، ما أعلمكم به ، وذلك بعدم إنزاله أصلا. فبيده وحده إنزال القرآن (فَقَدْ لَبِثْتُ) مكثت وأقمت بينكم و (فِيكُمْ عُمُراً) أربعين سنة (مِنْ قَبْلِهِ) من قبل قراءتي للقرآن وتلاوتي له ، فلو كان مني لكنت قرأته من قبل ، فإنه أي فارق في كلامي قبل ادعائي للنبوة وبعد ادعائي لها. وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلم بكلام بينهم قبل النبوة فلم يكن يشبه كلامه القرآن أصلا (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وتتفكرون في هذه الحقيقة

٥٠٢

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ

____________________________________

الواضحة ، فكيف تطلبون مني أن أبدل القرآن.

[١٨] إذن ، لم يبق أمامي في باب تبديل القرآن إلا أن أخترع قرآنا من نفسي ، وهذا مما لا يمكن أبدا (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) أي لا أحد أكثر ظلما من إنسان تجرّأ على الله سبحانه (كَذِباً) بأن نسب إليه كلاما ليس من كلامه ، أو حكما ليس من حكمه ، فكيف أعمل أنا هذا بأن أخترع قرآنا ثم أنسبه إلى الله تعالى؟! (أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) كما تعملون أنتم حيث تكذبون آيات الله وتقولون : أنها ليست من الله ، فكلا الأمرين افتراء عليه ما ليس منه ، وسلب عنه ما هو منه (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) لا يفوزون بخير الدنيا ولا سعادة الآخرة ، فإن الله سبحانه بالمرصاد للمجرم ، خصوصا الاجرام بهذا الحد من الجرأة عليه سبحانه.

[١٩] ثم بيّن سبحانه آلهة هؤلاء الكفار الباطلة ، فإنهم تركوا الحق واتخذوا الباطل (وَيَعْبُدُونَ) يعبد هؤلاء الكفار (مِنْ دُونِ اللهِ) أي غير الله. وهذا يجتمع مع الشرك ومع الكفر (ما لا يَضُرُّهُمْ) ضررا من قبلها (وَلا يَنْفَعُهُمْ) فإن الأصنام جمادات لا تضر ولا تنفع ، والعذاب للشرك إنما هو ضرر يتوجه إليهم من عملهم الباطل ، كما أن بعض المنافع المادية لسدنة الأصنام ومن إليهم إنما هي من الأشخاص الباذلين والناذرين لا من قبل الأصنام ، ثم إن كونها «لا تضر ولا تنفع» أبلغ في الردع عن عبادتها ، لأنه لا تجوز العبادة حتى بالنسبة إلى من

٥٠٣

وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)

____________________________________

يضر وينفع كعبادة الملوك الذين بيدهم الضر والنفع ظاهرا. أو المراد النافع والضار حقيقة ، وليس في الكون نافع أو ضار في الحقيقة إلا الله سبحانه ، فإنه هو الذي خلق المنافع والمضار وأمكن كل شيء من الإتيان بمقتضاه.

(وَيَقُولُونَ) أي يقول المشركون وهم الذين يعتقدون بالله وبالصنم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) فإنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عنده سبحانه (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء الكفار : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ) أي هل تخبرون الله سبحانه ـ على نحو الاستفهام الإنكاري ـ (بِما لا يَعْلَمُ) فإن الله سبحانه لا يعلم كون الأصنام شافعة ، فكيف تنسبون إليه أنه تعالى جعل الشفاعة لها ، و «لا يعلم» من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فإنه إذا لم يكن موضوع للعلم ، لم يكن علم. فهل يعلم هؤلاء الكفار ما لا يعلمه الله سبحانه (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ويخبرونه بما لا وجود له؟ ويخترعون الشفاعة لما لم يجعله الله سبحانه شفيعا (سُبْحانَهُ) منزّه عن ذلك (وَتَعالى) إنه أعلى وأجل (عَمَّا يُشْرِكُونَ) من أن يكون له شريك ، و «ما» إما مصدرية ، أي عن شركهم ، فهو منزّه عن شركهم وأجلّ منه. وإما موصولة ، أي عن الأصنام التي يشركونها مع الله ، فهو منزّه عن المثل ، وأعلى وأجل من أن يكون في عداد الأصنام.

[٢٠] وقبل أن يستعرض القرآن سائر أقوالهم السخيفة ، يبيّن أن الشرك

٥٠٤

وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ

____________________________________

عارض على البشر ، وإلّا فالفطرة السليمة تدل على التوحيد ، فإن الجهاز الموحّد المنظّم يدل على إرادة موحدة ورئيس واحد (وَما كانَ النَّاسُ) بفطرتهم وأصلهم (إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً) موحدة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه» (١) ، (فَاخْتَلَفُوا) بأن بقي بعضهم على التوحيد ، وانحرف بعضهم نحو الشرك.

(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بأن قالها وقرّرها بأن تكون الدنيا دار امتحان ، فيكون الناس فيها مختارين مطلقي السراح مهما شاءوا اعتقدوا ، ومهما أرادوا عملوا ، حتى يكون الجزاء عدلا واستحقاقا ، لا محاباة واعتباطا (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي حكم الله بينهم في هذه الدنيا بأن يهلك المشركين ويذر الموحدين (فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والشرك ، أو المراد : لقضي بينهم بأن أجبر الجميع على التوحيد ، لكنه ((لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢).

[٢١] (وَيَقُولُونَ) أي يقول هؤلاء الكفار : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ) أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (آيَةٌ) معجزة خارقة كمعاجز عيسى وموسى عليهما‌السلام (مِنْ) طرف (رَبِّهِ) فقد كانوا يقترحون خوارق أخرى ، وكان ذلك منهم تعنّتا ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ١٨٧.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

٥٠٥

فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا

____________________________________

إذ يكفي في الدلالة الخارقة دلالة القرآن العظيم المعجزة الباقية ، لكنهم لم يكونوا يذعنون لها (فَقُلْ) يا رسول الله : (إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) إن الآية الخارقة التي تطلبونها غيب خارق لقوانين هذا الكون ، وإنه بيد الله سبحانه ليس بيدي ومن عندي ، وهو أعلم بالمصالح ((وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١) ، فإن المتعنّت لا يريد إلا اللّجاج لا الحجة والاقتناع حتى يسير الإنسان حيث إرادته ، إنه لو أراد الاقتناع والدلالة لكفته هذه المعجزة العظيمة ، فهو كمن يأتي بإمضاء الرئيس ، ثم يقول الناس له : «جئ بإمضاء آخر حتى نقبل قولك» (فَانْتَظِرُوا) المستقبل حتى ترون هل يأتي الله سبحانه بما تطلبون (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وهذا الجواب فيه شبه تهديد ، كما تقول للمجرم : اصبر حتى نرى العاقبة.

[٢٢] ثم بيّن سبحانه أن الطبيعة البشرية إنما تطغى إذا رأت نفسها غنية غير محتاجة ، أما إذا وقع الإنسان في أزمة وشدة ، فهو يلوذ بالله ويتوسل إليه ، وهذا دليل على ما كمن في فطرته من التوحيد والاعتراف بالألوهية (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) «الإذاقة» تستعمل بمعنى الذوق باللسان ، كما تستعمل بمعنى الإدراك مطلقا ، وهذا هو المراد هنا ، فإن الرحمة ليست خاصة باللسان (مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) من شدة أو فاقة أو اضطراب أو غيرها (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) فإنهم حيث رأوا الشدة

__________________

(١) الأنعام : ١١٠.

٥٠٦

قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

____________________________________

كانوا جديرين بقبول الحق ، واتباع الرسل ، والأخذ بالأحكام ، لكن طبيعتهم العاتية حيث ترى غناها بسبب الرحمة التي ذاقتها ، ترجع إلى إنكار الآيات ، والاحتيال والمكر لإخمادها وإنكارها ، وقد كانت عادة البشر هكذا مع الأنبياء ، فقوم فرعون كلما أصيبوا بمكروه جاءوا إلى موسى عليه‌السلام يسألونه الكشف عنهم حتى يؤمنوا ، فإذا أذاقهم الله الرحمة ، وكشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه ، وأخذوا يمكرون بموسى ، ويحتالون لإخماد آيات الله سبحانه ، وهكذا سائر الأنبياء والمصلحين مع أممهم ، إلى هذا اليوم.

(قُلِ) يا رسول الله ، لمثل هؤلاء : لا تفعلوا ولا تمكروا ف (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) فإن مكر هؤلاء لا يصل إلى أعماق الحياة ، بخلاف مكره سبحانه وعلاجه للأمر ـ لأن المكر هو : التدبير الخفي ـ فإنه يصل إلى أعماق الحياة ، ولذا تكون جذور دعوات الأنبياء أعمق وأسرع في نفوس الناس من مكر الماكرين وإنكار الملحدين وتشكيك المشككين (إِنَّ رُسُلَنا) أي الملائكة (يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) أي ما تدبرون خفية ضد الدين وأهله ، ثم تجزون على ذلك.

[٢٣] ثم ضرب سبحانه مثلا لطبيعة الإنسان العاتية التي تتضرع عند الشدة ، وتنسى عند الرخاء (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) فإن مشي الحيوان ، والمركبة ، وغيرها ، إنما هو حسب تكوين الله سبحانه ونظامه الذي جعله للحياة وإلا لم يتمكن الإنسان من السير ولو خطوة واحدة (وَالْبَحْرِ) بسبب الفلك ونظام عدم غرق ما وزن الماء أثقل منه ـ كما

٥٠٧

حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ

____________________________________

بيّن في قانون أرخميدس ـ (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فكأن الإنسان سار من بلده في طريق البحر حتى ركب في السفينة لإرادة الذهاب إلى مقصد من مقاصده البعيدة (وَجَرَيْنَ) أي جرت السفن ، فإن «الفلك» يأتي مفردا وجمعا بلفظ واحد (بِهِمْ) أي بالناس (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) لينة يستطيبونها ، لأنها تجري نحو المقصد في رخاء وهدوء (وَفَرِحُوا) الراكبون (بِها) أي بهذه الريح. فهم في أمن وفرح وسير نحو المقصد بارتياح ، وإذا بهم (جاءَتْها) السفينة (رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة الهبوب ، هائلة هائجة ، فأخذت السفينة في الاضطراب والإشراف على الغرق من الترنّح الشديد الذي يصيبها بسبب تلاطم الأمواج (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) من الأطراف الأربعة ، فإن الرياح إذا توجهت نحو الماء رفعت منه أجزاء كثيرة ربما صارت كالجبل العظيم ، وهذا هو الموج ، والأمواج تسير بسير الهواء ما دامت تنفخ فيها وتسيّرها ، فإذا اضطربت الرياح وهبت من الجهات المختلفة جاءت الموج من كل مكان ، وإذا بالسفينة في وسط الأمواج ترتفع مرة وتنحدر أخرى ، وتميل ثالثة ، وتقع من علو دفعة ـ إذا تلاشت الأمواج تحتها ـ رابعة ، وهكذا .. فتصبح :

كريشة في مهب الريح طائفة

لا تستقر على حال من القلق

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي أحاطت بهم الأمواج بحيث تغرقهم

٥٠٨

دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)

____________________________________

فلا نجاة من الهلكة ، وحينئذ حيث رأوا الهلاك (دَعَوُا اللهَ) وتضرعوا إليه ، وانقشعت عن عيونهم غواشي الشهوات والأنانيات ، وظهرت فطرتهم صافية (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد ، بحيث يجعلون الدين له ، وينقطعون عما سواه ، قائلين : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا) يا رب (مِنْ هذِهِ) الشدة والورطة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) المعترفين بك وبفضلك وإحسانك فإن الشكر يستلزم الإذعان والتوحيد.

[٢٤] (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) أي خلّصهم من تلك الأهوال (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) أي يظلمون أنفسهم وغيرهم ، فإن من لا يسير على منهاج الله سبحانه لا بد وأن يكون ظالما باغيا (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فإن ظلم الظالم يعود وباله عليه (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أن بغيكم إنما هو ما يتمتّع به في الحياة الدنيا ، وذلك منقطع لا يبقى ، فإن الإنسان إنما يبغي لأمور دنيوية ، ولا فائدة فيما لا بقاء له ولا دوام (ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم ومصيركم (فَنُنَبِّئُكُمْ) نخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهذا تهديد بأنهم سيجازون بأعمالهم السيئة ، كما تقول للمجرم : «سأخبرك بأعمالك» تريد جزاءه

٥٠٩

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها

____________________________________

على تلك السيئات التي صدرت منه.

[٢٥] ولما ذكر سبحانه أن الظلم إنما هو متاع الحياة الدنيا ، بيّن فناءها ، وأنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان لما يفنى ولا يبقى (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي شبه الحياة القريبة في سرعة فنائها وزوالها (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) وهو المطر (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فإن النبات يمتص الماء حتى ينضر ويزدهر وينمو (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ) من الثمار والبقول ونحوهما (وَالْأَنْعامُ) كالحشيش والقات وغيرهما. ولعل الإتيان بهذا التفصيل للتناسق بين المثال والممثل له فكما أن الماء يختلط بالأجناس العالية من النبات ـ وهو مأكل الإنسان ـ والأجناس السافلة ـ وهو مأكل الحيوان ـ كذلك الحياة التي يفيضها الله سبحانه على الكون تختلط بالأشياء الراقية كالإنسان والجواهر ، وبالأشياء المنحطة كالمدر والحجر وغيرهما.

(حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) «الزخرف» كمال حسن الشيء ، يقال : «زخرفته» أي حسنته ، فإن المطر لما ينزل من السماء يظهر ريع الزروع والكروم ونضارة النباتات والأشجار (وَازَّيَّنَتْ) أي تزينت الأرض بالنبات الزاهي والزرع النضر ، وأصل «ازينت» تزينت من باب «التفعل» قلبت «التاء» «زاء» وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن.

(وَظَنَّ أَهْلُها) أي أهل الأرض (أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) لزعمهم

٥١٠

أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)

____________________________________

أنهم هم الذين أوجدوها بجهدهم ، وزيّنوها بصنعهم ، وأنهم مالكوا الأمر فيها ، فلا يتمكن أحد من تغييرها وتحريرها. وكذلك الإنسان دائما يظن أن ما يجري في الكون مما له دخل فيه ، إنما هو بصنعه وإرادته ، فإذا بنى دارا زعم أنها صنعه ، وإذا جرت سفينته في الماء ظن أنها منه ، وهكذا ، والحال أن الإنسان ليس إلا جزءا صغيرا متوسطا في سلسلة العلل. فقبله ، الأرض التي منها أدوات البناء وبعده الصورة التي هي من الله سبحانه ، وبها البقاء للدار ، وهكذا بالنسبة إلى السفينة وسائر الأشياء.

(أَتاها) أتى تلك الأرض المزخرفة بالزرع والنظارة (أَمْرُنا) أي عذابنا من برد أو ثلج أو عاصفة أو جراد أو نحوها (لَيْلاً أَوْ نَهاراً) وهذا يدل على كمال القدرة ، فإنه لا يخشى من أحد ولا يمنعه وقت يقظة الناس كما لا يمنعه حراس الليل (فَجَعَلْناها حَصِيداً) جعلنا تلك الأرض حصيدا أي محصودة ، مقلوعة ذاهبة (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ) لم توجد ولم تكن (بِالْأَمْسِ) من قبل ، من «غني بالمكان» بمعنى أقام به ، ومنه «المغنى» بمعنى المنزل (كَذلِكَ) بما فصلنا هذا المثال وأوضحناه (نُفَصِّلُ) سائر (الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في أدلة الله سبحانه ، فالحياة الدنيا ، كماء المطر والدنيا كالمزرعة ، فإن الحياة تختلط بماهية الأشياء ، وإذ نرى الحياة مزدهرة ، والأسواق عامرة ، والأرض مخضرة ، والناس في أمن ورفاه ، وأخذ وعطاء ، وفي هذه الغمرة من الحسن والازدهار ، وإذا بأمر الله سبحانه يأتي إما بسبب أرضي

٥١١

وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا

____________________________________

كالخسف ، أو بسبب سماوي كالصيحة والبرق والقذف ، أو كالأمراض الفتاكة ، أو كالوسائل الهدامة من الآلات الحربية المفنية ـ كالقنابل وغيرها ـ فيجعلها حصيدا لا حياة فيها ولا حركة ، ولا عمارة ولا حضارة .. أليس الأمر كذلك؟ وأليس يكفي هذا دلالة على وجود الله وقدرته؟ فكيف يتكبر الإنسان ويعصي ، ويطغى ويكفر؟

[٢٦] هذه كانت حالة الدنيا فهي دار تغير وزوال ، وفناء واضمحلال (وَاللهُ يَدْعُوا) الناس (إِلى دارِ السَّلامِ) التي يكون كل شيء فيها سالما عن التغير والآفات ، وهي الجنة ، فإنه سبحانه يحرّضهم للعمل ، فهذه الدار لتلك الدار ، و «السلام» و «السلامة» بمعنى واحد ، كالرضاع والرضاعة (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إما المراد بالهداية : معناها العام ، ف «من يشاء» هم جميع الناس ، وإما المراد بها : معناها الخاص ، أي الألطاف الخاصة ، ف «من يشاء» هم الذين اتخذوا مناهج الأنبياء ، فإنهم مختصون بتلك الألطاف المؤدية بهم إلى جنات النعيم.

ومن المحتمل أن يراد بالهداية : معناها العام ـ وهي إراءة الطريق ـ ويكون «من يشاء» خاصا بمن تمّت لديه الحجة ، فإن كثيرا من أهل البلاد البعيدة لم تبلغهم الدعوة ، وكذلك من مات في الفترة بين الرسل ونحوهم ، وأولئك الذين لم تبلغهم الدعوة ، إنما يمتحنون يوم القيامة ، كما يقتضيه العدل ، ودلّ على بعض موارده الدليل.

[٢٧] تلك حال الدنيا الزائلة وهذه حال الآخرة الباقية ، فلننظر إلى أحوال أهل تلك ، وأهل هذه بين الأمرين ، ف (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) الاعتقاد ،

٥١٢

الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ

____________________________________

وأحسنوا العمل ، بأن آمنوا وعملوا الصالحات (الْحُسْنى) أي الحالة الحسنى ، فإنهم يجزون بإحسانهم إحسانا (وَزِيادَةٌ) فضل من الله سبحانه ، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، كما قال سبحانه في آية أخرى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (١) ، (وَلا يَرْهَقُ) «الرهق» لحاق الأمر ، ومنه «راهق الغلام» إذا لحق بالرجال ، ويستعمل اسما من «الإرهاق» وهو أن يحتمل الإنسان ما لا يطيقه ، أي لا يلحق (وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ) أي غبار وسواد (وَلا ذِلَّةٌ) انكسار وانهزام ، فليست كوجوه أهل المعاصي التي يظهر عليها أثر العذاب الجسدي بالقتر ، وأثر العذاب النفسي بالذلة ، بل وجوههم نضرة ، كما قال سبحانه : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٢) ، (أُولئِكَ) الذين أحسنوا (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) رفاقها وملاكها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون أبدا ، لا خروج لهم منها ، ولا تغيّر لها بهم.

[٢٨] (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) أي عملوها ، وغالبا يأتي «الكسب» بالنسبة إلى السيئات للدلالة على صعوبة السيئات بخلاف الحسنات ، وذلك واضح لأن السيئات لها التواءات توجب الصعوبة لمكتسبها فمثلا الزواج فيه سهولة اطمئنان النفس إلى دار ، وأهل ، وأولاد ، وقلوب تحنو عليه ، ومستقبل يقوم به النسل ، وذكر جميل وسيادة. والسفاح بالعكس من كل ذلك ، بالإضافة إلى صرف المال والطاقة لقلب خاو

__________________

(١) فاطر : ٣١.

(٢) المطففين : ٢٥.

٥١٣

جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)

____________________________________

وعمل مذموم ، وهكذا. وليس المقصود أن الحلال بلا صعوبة ، وأن الحرام بلا لذة ، وإنما المقصود أن الحلال دائما أهنأ وأسهل من الحرام ، فإنه سبحانه خلط الحرام باللذة القليلة ، والحلال بالتعب اليسير ، ليختبر ويمتحن ، فلو كان الحلال بلا تعب لم يكن الآتي به ممدوحا ، ولو كان الحرام بلا لذة لم يكن التارك له مستحقا للأجر والثواب.

(جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) لا يجازون بأكثر من عملهم ، إذ الجزاء بالأكثر ظلم قبيح ، و «جزاء» مبتدأ خبره «بمثلها» ، والجملة خبر لقوله : «الذين كسبوا» والعائد محذوف أي «لهم» ونحوه (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) تلحقهم ذلة نفسية ، فإن الإنسان المعذّب يحس في نفسه ذلة وانهزاما (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) ليس يحفظهم عن العذاب اللاحق بهم حافظ من قبل الله ، أو المراد : لا ينجيهم من عذاب الله حافظ ، وهم بالإضافة إلى العذاب والصعوبات ، فإن الدم يحترق في الجسد ، وينقلب أسودا ، فيظهر لونه على الجسم لشفافية الجلد (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) فكأن الليل صار قطعا بسواده الشديد ، فأغشيت وجوههم بقطع منه ، قطعة فوق قطعة حتى لا يرى فيها أثر النور والضياء ، فهم في عذاب البدن ، وذلة النفس ، وسواد الوجه (أُولئِكَ) الذين كسبوا السيئات (أَصْحابُ النَّارِ) رفاقها والملازمون لها والمعرّفون بها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دائمون أبد الآبدين.

٥١٤

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨)

____________________________________

[٢٩] قد كان أولئك الكفار والعصاة في الدنيا لهم آلهة وأصدقاء ، فأين ذهبت آلهتهم وأصدقاؤهم؟ وهل أنقذوهم وشفّعوا فيهم؟ إنهم هناك انقلبوا أعداء بعد ما رأوا العذاب (وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) أي نجمعهم (جَمِيعاً) بلا استثناء أحد ، وهو يوم القيامة (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) بالله ، بأن جعلوا له شريكا : الزموا (مَكانَكُمْ) لا تبرحوا حتى تجازون بأعمالكم (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) أي كونوا جميعا في مكانكم حتى تعطون الجزاء. وإضافة الشركاء إليهم باعتبار أنهم اخترعوها ، وجعلوها شركاء الله سبحانه (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) أي ميّزنا وفرّقنا ، والمراد : التفريق بينهم في السؤال ، فهناك سؤال عن المشركين ، وسؤال عن الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) الأصنام وغيرها من المعبودات التي عبدوها ، مخاطبين للكفار : (ما كُنْتُمْ) أيها المشركون (إِيَّانا تَعْبُدُونَ) إما المراد أنهم عبدوا الأهواء والشياطين ، وإما المراد نفي ذلك ، مريدا به نفي العلم بعبادتهم. وهذا أيضا يصح بالنسبة إلى من لا يعلم ، كالأصنام التي لا تعقل ، فإنها ينطقها الله سبحانه هناك ، أو أنهم يكذبون للتخلص من التبعة حتى لا يقال لهم : لم رضيتم بعبادة هؤلاء لكم؟ كما يكذب المشركون هناك قائلين : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١).

__________________

(١) الأنعام : ٢٤.

٥١٥

فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)

____________________________________

[٣٠] ثم يستشهد المعبودون بالله سبحانه في أنهم لم يكونوا يعلمون بعبادة المشركين لهم (فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي يكفينا شاهدا وفاصلا للحق (بَيْنَنا) معاشر المعبودين (وَبَيْنَكُمْ) أيها المشركون (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ) أيها المشركون لنا (لَغافِلِينَ) «إن» مخففة من المثقلة ، وحذف اسمها ، وهو ضمير الشأن أي يشهد الله : أنه كنا غافلين عن عبادتكم لنا ، فإنا لم نعلم بذلك ، فكيف نرضى به؟ ولا إثم علينا من هذه الجهة. وهذه حجة قوية على المشركين في الدنيا ، فإنهم يعبدون ما لا يعلم شيئا من عبادتهم ، وهل يصلح للعبادة ما هذا شأنه؟! [٣١] (هُنالِكَ) في ذلك الموقف الرهيب موقف الحشر (تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي تختبر كل نفس أعمالها التي أسلفتها وقدمتها ، فإن الإنسان في الدنيا لم يختبر أعماله ، ولا يعلم الصالح والفاسد منها إلا قليلا ، إلّا إذا كان متّبعا للأنبياء فيعرف قيمة الأعمال ، فمثلا لا يعلم الإنسان في الدنيا قيمة الصدقة ، إذ لم يختبرها حتى يعرف ما الثمار الكثيرة المترتبة عليها ، كما لا يعرف مقدار ضرر الشرك وما أشبه (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) أي ارجعوا إليه ، إلى ثوابه وعقابه ، وحسابه وجزائه (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي ضاع وبطل عن نصرتهم وشفاعتهم وإنقاذهم (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي الأصنام والمعبودات الباطلة التي كانوا يفترون على الله سبحانه بكونها شركاء له.

[٣٢] ثم يستدل سبحانه على كونه الحق وأن سواه باطل بما يشاهدونه في

٥١٦

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)

____________________________________

حياتهم اليومية (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ) ويعطي أرزاقكم (مِنَ السَّماءِ) بإنزال المطر (وَالْأَرْضِ) بإخراج النبات ، وهكذا يشمل الرزق طيور السماء وأسماك الماء وحيوانات الصحراء ، أو هو أعم من ذلك ومن سائر الأشياء التي يستفاد منها كالدور والقصور ، والمراكب والملابس ، وغيرها (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) فإن من وهبهما وأبقاهما ليس إلا الله سبحانه ، وهو القادر على أن يسلبهما (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) كالنباتات من الأرض ، والإنسان والحيوان من المأكولات الميتة ، أو ما أشبه ذلك (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) كالثمار والحبوب من النباتات ، والجنين الميت من المرأة الحية ، أو ما أشبه ذلك (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أمر السماء والأرض بانتظام الحركات وتسيير الأجهزة ، على وجه الحكمة والصلاح.

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ) يفعل كل ذلك ، فإنهم بصفتهم مشركون كانوا معترفين بالله ، حيث لم تكن الأصنام وما أشبهها تقدر على هذه الأشياء الكبيرة ، فلا بد وأن يعترفوا بأنها من الله سبحانه وحده ، لا شريك له في ذلك كله (فَقُلْ) يا رسول الله لهم : (أَفَلا تَتَّقُونَ) في جعلكم الشريك له بغير علم ، أفلا تخافون عقابه وعذابه في شرككم بلا حجة ولا برهان؟.

٥١٧

فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ

____________________________________

[٣٣] (فَذلِكُمُ) أي ذاك الموصوف بتلك الصفات ـ أيها المخاطبون ـ فإن «كم» للخطاب (اللهُ رَبُّكُمُ) وإلهكم (الْحَقُ) الذي خلقكم ورزقكم ولا يستحق العبادة أحد سواه (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) استفهام تقريري ، أي ليس وراء الحق إلا باطل ، فالله الحق ، ودونه باطل (فَأَنَّى) إلى أين (تُصْرَفُونَ) يصرفكم الشيطان والأهواء ، فتعدلون عن الحق وهو الإله الواحد إلى الآلهة المتعددة.

[٣٤] (كَذلِكَ) الذي تقدم من قيام الأدلة عند هؤلاء المشركين على التوحيد ، ومع ذلك لا يقبلون النتيجة ويجعلون مع الله شركاء (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) ثبتت ، ووجبت كلمة الله وحكمه والعلم الأزلي (عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) وخرجوا عن طاعة الله الواحد إلى طاعة الأنداد وعبادة الأصنام (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) هذا بدل من «كلمة ربك» أي أن الله سبحانه علم من الأزل أن هؤلاء لا يؤمنون ، ولم يكن ذلك لأنه لم تتم الحجة عليهم ، بل لأنهم فسقوا ، وخرجوا من توحيد الله إلى الشرك.

[٣٥] ثم ذكر سبحانه حججا أخرى على التوحيد ونفي الشريك (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) أي الذين جعلتموهم شركاء لله ، فإنهم لما كانوا مختلقين ، كانت نسبتهم إلى مخترعيهم أولى من نسبتهم إلى الله سبحانه ، فلم يقل تعالى «شركائي»

٥١٨

مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي

____________________________________

(مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بالإيجاد (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فانيا كما كان ، أو يعيده بعد الموت إلى الحياة. وحيث لا يحير هؤلاء جوابا ، إذ لا تفعل شركاؤهم ذلك ، ويفحمون بهذا الاحتجاج (قُلْ) يا رسول الله في الجواب : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إن ذلك خاص به لا يتمكن أحد من هذا العمل سواه (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي إلى أين تصرفون عن الحق؟ من «أفك» بمعنى : انقلب وانصرف عن الحق.

[٣٦] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المشركين : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الأصنام التي جعلتموها شركاء كذبا وزورا (مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) أي إلى الرشد والصلاح كي يتنعم عبّادها بما فيه خيرهم وسعادتهم ، وحيث أنهم لا يتمكنون من الإجابة بالإثبات ، وإلا طولبوا بالدليل. ولا يخفى أن هذا الاحتجاج كان مع عبّاد الأصنام ، لا مع عبّاد المسيح عليه‌السلام ونحوهم (قُلْ) يا رسول الله في الجواب : (اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) فإنه هو الذي أنزل الشرائع وأرسل الرسل لهداية الناس من الظلمات إلى النور ، وتعليم طرق الصلاح والرشاد والسعادة.

ثم يتوجه هنا سؤال يدخل فيه جميع الآلهة حتى عيسى عليه‌السلام في زعم عبّاده (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) ويرشد إلى الطريق السوي ، وهو الله سبحانه (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) ويأخذ الإنسان بأوامره ونواهيه (أَمَّنْ لا يَهِدِّي)؟

٥١٩

إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً

____________________________________

أصله «يهتدي» من باب «الانفعال» ، قلبت «التاء» «دالا» وأسقطت همزة الوصل من أوله ، لنقل حركة التاء إلى الهاء ، فصار «هدّى» «يهدّي» والمعنى : هل الله أحق بالاتباع أم من لا يهتدي (إِلَّا أَنْ يُهْدى) فمن يحتاج إلى الاهتداء لا يصلح أن يتخذ ربا ، فالمسيح عليه‌السلام وإن كان نبيا عظيما إلّا أنه ينطبق عليه هذا الوصف ، إذ لا يهتدي إلا بهداية الله سبحانه. أما الأصنام فهي أبعد ، إذ أنها جمادات لا تهتدي حتى إذا أرادوا هدايتها.

وكأن القرآن جرى في هذا الاحتجاج مجرى المسلّم من خصمه ببعض مقدماته ليرد عليه حتى على ذلك الفرض ، والمشركون كانوا قد فرضوا عقلا للأصنام وأنها تشعر (فَما لَكُمْ) أيها المشركون ، والمعنى : ما هو سبب قولكم بغير الحق ، وأنتم تعلمون (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بأن هذه الأصنام آلهة بعد ما قامت الحجة على بطلانها.

[٣٧] (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي أن أكثر هؤلاء المشركين إنما يتبعون الظنون في اعتقادهم بألوهية الأصنام ، فإنهم لا يتيقنون بذلك جزما ، إنما رأوا آباءهم عبدوها ، فظنوا بصحتها تقليدا ، والحال (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فإن الظن ترجيح أحد الطرفين ، وهذا ليس بواقع ولا معذّر ، أما أنه ليس بواقع ، فلأن الواقع لا يتبع أداء الأشخاص ، وأما أنه ليس بمعذّر فلأن العقلاء الملتفتين لا يعتمدون عليه في الأمور المهمة ، وهذا بخلاف القطع فإنه إن حصل من

٥٢٠