تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ

____________________________________

الأعراب غالبا لا ينطوون على الكفر ، وإنما يتخلّفون تكاسلا.

[٩١] ثم بيّن سبحانه أهل الأعذار الذين يسقط عنهم الجهاد بقوله : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) جمع «ضعيف» كالشيخ الكبير ، والضعيف البنية ، والعاجز لعمى أو زمانه أو ما أشبه ـ مما لا يسمّى مرضا ـ (وَلا عَلَى الْمَرْضى) جمع «مريض» وهم أصحاب الأسقام والعلل المانعة عن الجهاد (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) ليست معهم نفقة الخروج وأسباب السفر (حَرَجٌ) ضيق ، فلا جناح عليهم في التخلّف عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) بأن أخلصوا العمل من الفسق ، وكانوا ناصحين في قرارة نفوسهم. وليس المعنى : وجود الحرج لغير الناصح ـ من جهة عدم الجهاد ـ بل المراد : أن عدم الحرج المطلق إنما يترتب على العاجز الناصح ، أما العاجز المنافق فعليه حرج من جهة نفاقه.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) لا سبيل على تعذيبهم ولا جناح عليهم ، فإنهم محسنون في أعمالهم. ولا يخفى أن الآية لا تدل على أن مريد الإحسان لا جناح عليه وإن أساء ، فإن الظاهر منها أن المحسن حقيقة لا جناح عليه (وَاللهُ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم ، فلا يحمّلهم فوق طاقتهم.

٤٤١

لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)

____________________________________

[٩٢] (وَلا) سبيل وجناح (عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) «ما» زائدة تأتي لتزيين الكلام ، أي إذا جاءوك يا رسول الله (لِتَحْمِلَهُمْ) أي يسألونك مركبا يركبون عليه ليجاهدوا (قُلْتَ) يا رسول الله : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) فليس عندي مركب تركبونه (تَوَلَّوْا) أي رجعوا (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً) أعينهم تسيل بالدموع من حزنهم (أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) ينفقونه لأجل تهيئة وسائل الجهاد.

ورد أن سبعة من الأنصار جاءوا إلى الرسول يطلبون منه المركب ليرافقوه في غزوة ، فاعتذر منهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه لا يجد ما يحملهم ، فرجعوا باكين (١). وفيهم نزلت الآية.

[٩٣] (إِنَّمَا السَّبِيلُ) أي السبيل لعقابهم ولومهم (عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ) يطلبون إذنك للتخلّف عن الجهاد والبقاء في المدينة (وَهُمْ أَغْنِياءُ) قادرون على الجهاد ونفقاته (رَضُوا) أي رضي هؤلاء المستأذنون (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) من النساء والصبيان والعاجزين (وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) بسبب نفاقهم (فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) بأن تخلّفهم عن الجهاد يسبب

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٠٤.

٤٤٢

تقريب القران الى الأذهان

الجزء الحادي عشر

من آية ٩٤ من سورة التوبة

إلى آية ٦ من سورة هود

٤٤٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد المصطفى وعترته الطاهرين

٤٤٤

____________________________________

[٩٤] لنذكر طرفا يسيرا من هذه الغزوة «تبوك» من كراس «رسول الإسلام في المدينة» من السلسلة التي وضعناها في قادة الإسلام (١) : لما خرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة استعرض الجيش فكانوا ثلاثين ألفا ، فغمر الجيش الفرح لكثرة عددهم ، لكنهم عانوا في هذه السفرة أشد أنواع الجوع والعطش ، فالمضرة كبيرة ، والحر شديد ، والقلوب متعلقة بالمدينة ، إذ نضجت الثمار ، وحان قطفها ، والمركوب قليل ، حتى أن العشرة منهم كانوا يتناوبون في ركوب جمل واحد ، والطعام قليل جدا ، ففي بعض الأحيان كان نفران منهم يتقاسمان تمرة واحدة شق لهذا وشق لذاك ، وأصابهم أشد العطش فكانوا ينحرون إبلهم العزيزة ، لينقبوا كروشها ، ويشربوا ماءها ، أو يعتصروا فرثها ليشربوا عصيره ثم يجعل ما بقي على كبده ، حتى أن بعضهم رأى الموت بعينيه ، فطلبوا من النبي الاستسقاء ، فدعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رافعا يديه إلى السماء. قال الراوي : فلم يرجعوا حتى هطلت السماء بمطر غزير.

هذا بالإضافة إلى الإشاعات التي ملكت القلوب ـ وإن سارت بأجسامها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أنه لا بد وأن تقضي جيوش الروم الهائلة المنظمة على الجيش الإسلامي ، فلا يبقى منه أحد ..

وسار الرسول حتى وصل «تبوك» وقد كان «هرقل» وزع رواتب سنة كاملة على جيشه ، كما وزع أموالا طائلة على القبائل التي استخدمها لقتال المسلمين ، وهم لخم وجذم وعاملة وغسان وغيرها ... وقد أتت الروم أنباء هائلة عن جيش المسلمين ، مما رأوا أن

__________________

(١) للمؤلف.

٤٤٥

____________________________________

من الصالح عدم دخولهم في قتال لا يعرف مصيره ، وقد كان الروم شاهدوا في حرب «مؤتة» قتال المسلمين ، فإذا لم يتمكن جيشهم ، وعدده «مائتا ألف» من جيش «مؤتة» الذي كان بقيادة جعفر عليه‌السلام وعدده «ثلاثة آلاف» فكيف يقاوم جيشهم جيش الإسلام كله وهم لا يعلمون عدده من الكثرة بقيادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولذا قرروا انسحاب الجيش ، فانسحبوا قبل الاصطدام بجيش المسلمين.

وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «تبوك» فلم يلق جيشا ، فاستشار أصحابه في غزو بني الأصفر ـ أي الروم ـ والرجوع إلى المدينة؟ فأشاروا على الرسول بالرجوع ، فبقي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك عشرين يوما ، وعقد الاتفاقيات مع الزعماء والقبائل ، فأرسل إلى أصحاب أيلة : «يوحنا بن روبة» بالإذعان للمسلمين أو الغزو؟ لكن «يوحنا» كان رجلا حكيما ، فاختار الإذعان ، وتم الاتفاق بإعطائه الجزية للدولة الإسلامية ، وعدم التعرض للدعوة الإسلامية ... وعقد الصلح بين المسلمين وبين أهل «جرباء» وهي قرية في منطقة «عمان» بالبلقاء ، من أراضي الشام ، على مثل المصالحة مع صاحب أيلة ... وعقد الصلح بين المسلمين وبين أهل «أذرح» قرية أخرى قريبة من الجرباء بمثل مصالحة الجرباء .. وتم الصلح بين المسلمين وبين «الأكيدر» ملك «دومة الجندل» على بذل الجزية وعدم التعرض للمسلمين.

وانتظر الرسول جيوش الروم لكنها لم تزحف ، فأخذ الجيش الإسلامي طريقه إلى المدينة بعد ما أمن الحدود الشمالية ، وصارت له منعة وقوة ، وفتحت مجالات الإسلام في القلوب والمدن والقرى ، وإذا بالمدينة تشاهد غبار جيش الإسلام المنتصر على الإمبراطورية

٤٤٦

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ

____________________________________

يبدو في الأفق البعيد ، ويقترب رويدا رويدا ، وإذا بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزحف بهذه الجيوش المنتصرة في هيبة الرسالة السماوية ، ويلتقي الإمام بالرسول تلاقي الأخ بأخيه في فرح وسرور ، فقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خلّف عليا في المدينة لئلّا يفسد المتخلفون الجو ، كما كانوا قد تآمروا ، وهناك قال له : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (١) ، ويجيء المتخلفون عن الجيش ، ليعتذروا عما تقدم منهم من تفريط ، ويطهروا آثامهم السالفة بالتوبة والندم (يَعْتَذِرُونَ) أي يعتذر المتخلفون من المنافقين الذين كان عددهم ثمانين ، وقد تخلفوا في المدينة خوفا ونفاقا ، وإرادة للتآمر على الرسول ، وقلب أوضاع المدينة (إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) من غزوة «تبوك» بأعذار كاذبة باطلة لا حقيقة لها ولا واقع ، كما هو شأن المنافق في كل زمان (قُلْ) يا رسول الله لهم : (لا تَعْتَذِرُوا) فإن اعتذاركم لا يفيدكم ، فإنا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) أي لن نصدقكم في ما تقولون (قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ) أخبرنا الله عز اسمه (مِنْ أَخْبارِكُمْ) وأعلمنا حقيقة أمركم ، وأنكم لم تخرجوا نفاقا وجبنا لا لعذر مشروع.

وفي بعض التفاسير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى المسلمين أن يكلموهم أو يجالسوهم ليذوقوا وبال أمرهم ، ولئلّا يتجرأ أحد على خرق أوامر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣١ ص ٣٦٦.

٤٤٧

وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ

____________________________________

الله والرسول (١).

(وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سينظران في المستقبل إلى أعمالكم الدالة على نفاقكم وعدم صحة أعذاركم ، فإن عمل الإنسان في المستقبل دليل على عمله في الماضي ، فعمله بعضه من بعض (ثُمَّ تُرَدُّونَ) أي ترجعون (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) في الآخرة ، والمراد بذلك : التهديد ، وفي الآخرة سيحاسبكم الله على أعمالكم التي صدرت منكم ، كما يقول الحاكم للمجرم : «سترد إليّ» يريد تهديده بالعقاب (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم الله سبحانه (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) فيجازيكم عليها.

[٩٥] وجاء رئيس المنافقين «عبد الله بن أبي» حالفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يتخلّف بعد هذه الغزوة ، وطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرضى عنه (سَيَحْلِفُونَ) سيقسمون (بِاللهِ لَكُمْ) أيها المؤمنون (إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ) إذا رجعتم إليهم ووصلتم إلى المدينة (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) لتصفحوا عن جرمهم ، ولا توبّخوهم على ما صدر منهم (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) إعراض ردّ وإنكار ، لا إعراض صفح. ومن البلاغة التشابه في اللفظ والاختلاف في المعنى.

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١٠٦.

٤٤٨

إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ

____________________________________

(إِنَّهُمْ رِجْسٌ) أي نجس ، والمراد نجاسة باطنهم ، فهم كالشيء المنتن النجس الذي يلزم الاجتناب عنه ، وإلا أصاب الإنسان قذره ونتنه (وَمَأْواهُمْ) مصيرهم (جَهَنَّمُ) فهي مستقرّهم (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) من النفاق والآثام.

[٩٦] (يَحْلِفُونَ لَكُمْ) يحلف هؤلاء المنافقون لكم أيها المسلمون ، يريدون بذلك تقوية أعذارهم وتصديقكم لهم (لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) طلبا لمرضاتكم حتى يؤمّنوا سعادتهم الدنيوية بينكم (فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ) مجاملة ، أو لعدم علمكم بواقعهم النفاقي (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله سبحانه ، ثم لم يرجعوا عن نفاقهم ، قد علقت الآثام بقلوبهم فهي رجس نجس ، والمراد : أن الواجب عدم إظهار المؤمنين الرضا عنهم ، بعد ما علموا أن الله غير راض عنهم.

[٩٧] وبعد ما ينتهي الكلام حول الكفار والمؤمنين والمنافقين من أهل المدينة ونحوها ، يأتي دور ذكر الكفار والمؤمنين والمنافقين من أهل البوادي ، فإن لأهل البوادي لونا خاصا يميّزهم عن أهل المدن «فالأعراب أشد كفرا» لكفارهم ، (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً) لمنافقيهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) لمؤمنيهم.

(الْأَعْرابُ) يقال : رجل أعرابي ، إذا كان ساكنا في البادية سواء

٤٤٩

أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ

____________________________________

كان عربيا أو أعجميا ، ويقال : رجل عربي إذا كان من العرب سواء سكن البادية أو المدينة (أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) لأنهم حيث كانوا من أهل البادية سرت فيهم جفوة الصحراء وقساوة الجهل ، فكفرهم ونفاقهم أشد من كفر كفّار أهل المدن ونفاق منافقي أهل الحضر ، لبعدهم عن الحضارة والعلم والآداب (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي أنهم أحرى وأولى بعدم العلم بالفرائض والسنن وسائر الحدود التي أنزلها الله سبحانه على رسوله ، وإنما قال : «حدود» لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام ، ولذا كثيرا ما يعرف الناس الأحكام ، لكنهم لا يعلمون حدودها ، أي خصوصياتها وميّزاتها ، حتى لا يدخل فيها شيء ليس منها ، ولا يخرج منها شيء هو منها (وَاللهُ عَلِيمٌ) بهم وبأحوالهم (حَكِيمٌ) فيما يأمر وينهى بالنسبة إليهم. وفي الآية دلالة على ذم بقاء الإنسان أعرابيا ـ ساكنا للبادية ـ.

[٩٨] (وَمِنَ الْأَعْرابِ) منافقون وهم (مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ) في سبيل الله (مَغْرَماً) «المغرم» هو الغرم ، وهو نزول نائبة بالمال ، فهم يظنون أن ما أنفقوه في سبيل الله من جهاد أو غيره غرامة لحقت بأموالهم ، حيث لا يرجون خيره وثوابه ، ولا يصدّقون بما قال الله والرسول في سبيل بذل الأموال وأجرها (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) أي ينتظر بكم صروف الزمان وحوادث الأيام ، فقد كان هؤلاء المنافقون ينتظرون الانكسار والذلة والفقر وما أشبه للمؤمنين. وسميت الحوادث السيئة بالدوائر ،

٤٥٠

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)

____________________________________

لأن الفلك يدور ، فإذا دار جاء بالمكروه ، ولذا يقال لمن يراد تحذيره : «لا تغفل من دوران الفلك».

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) هذا دعاء على أولئك الأعراب المنافقين بأن تدور الدائرة الآتية بالعاقبة السيئة عليهم ، لا على المؤمنين (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالهم النفاقية (عَلِيمٌ) بضمائرهم ونواياهم ، فيجازيهم عليها.

[٩٩] (وَمِنَ الْأَعْرابِ) قسم طيّب وهو (مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيعتقد بما جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحوال المعاد (وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ) فيعلم أن إنفاقه يقرّبه من الله سبحانه ، فإن «قربات» جمع قربة ، وهي الأعمال الخيرة التي تورث قرب العبد من الله سبحانه قربا تشريفيا (عِنْدَ اللهِ) فهي تبقى عنده سبحانه لا تضيع ولا تذهب عبثا ، كما كان يظن بعض المنافقين الذين يتخذون إنفاقهم مغرما. (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) أي يبتغي بما ينفق دعوات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يدعو له بالخير ، فإن «الصلاة» بمعنى العطف والرحمة والدعاء ، فهو عطف على «قربات» (أَلا إِنَّها) أي نفقاتهم (قُرْبَةٌ لَهُمْ) موجبة لقربهم إلى ساحة رضا الله سبحانه ، فلهم ما ابتغوا ، ويبشّرون بحسن العاقبة (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) فتغمرهم الرحمة في الجنة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لذنوبهم (رَحِيمٌ) بهم

٤٥١

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ

____________________________________

يتفضّل عليهم بالرحمة والرضوان.

[١٠٠] وبعد ذكر أقسام من أهل البلاد وأهل البادية ، يبيّن سبحانه أحوال الأمة بصورة عامة ، وأن فيهم المؤمن والمنافق والكافر ، وأن لكلّ درجات ومراتب (وَالسَّابِقُونَ) إلى الإيمان والطاعة (الْأَوَّلُونَ) بالنسبة إلى غيرهم ، وإن كان فيهم الأول فالأول (مِنَ الْمُهاجِرِينَ) المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة (وَالْأَنْصارِ) للإسلام وهم أهل المدينة الذين سبقوا إلى الإيمان والنصرة (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) أي بالإيمان والطاعة ، فإن الاتّباع يلزم أن يكون لشيء (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ومعنى رضاه أنه أكرمهم وأوجب لهم الخير والجنة (وَرَضُوا عَنْهُ) فهم فائزون بشرف الرضا ، ومن دخل قلبه الرضا عن الرب ارتاح واطمأن (وَأَعَدَّ) الله (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) لا زوال لهم عنها ، ولا تغيّر لها عنهم (ذلِكَ) الرضوان والجنة (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والفلاح الذي يصغر دونه كل شيء ، وإنما فضّل الله السابقين لما تحمّلوه من المشاق والأتعاب في نصرة الدين والجهاد في سبيله.

[١٠١] (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ) أي في أطراف بلدكم (مِنَ الْأَعْرابِ) الساكنين في البادية ، أي بعضهم (مُنافِقُونَ) يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر

٤٥٢

وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

____________________________________

(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) أيضا منافقون (مَرَدُوا) أي تمرّنوا حتى صاروا ماهرين (عَلَى النِّفاقِ) وذكرهم بهذه الصفة للإشعار بخطرهم ، فإن المنافق الماهر أكثر خطرا من غيره من المنافقين (لا تَعْلَمُهُمْ) أي لا تدرك حقيقة نفاقهم ولا تعرف أشخاصهم ، وهو تقرير لمهارتهم فيه ، بحيث يخفون عليك حتى أنك لا تعلم ذلك. وهذا لا غضاضة فيه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعلم الغيب إذا شاء الله. ومن المعلوم أن الله إذا لم يشأ تعليمه بشيء لم يعلمه. ومن المحتمل أن يكون لفظة «لا تعلمهم» استعملت بقصد التهويل من نفاقهم ، فإن مثل هذا اللفظ يستعمل بقصد شيء آخر غير معناه ، فيقال : «أنت لا تعرف زيدا كيف يحسن» يراد بذلك أنه كثير الإحسان.

(نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) ونعرف حقائقهم (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) لعلّ المراد : مرّة في الدنيا بالتضييق عليهم وعدم هدوء بالهم ، كما قال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١) ، ومرّة في القبر (ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) هو عذاب النار في الآخرة.

[١٠٢] (وَآخَرُونَ) من أهل المدينة ومن الأعراب حولها (اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) فقد جاء بعض المتخلّفين معتذرين إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عما صدر منهم من التخلّف ، وكانوا سبعة ندموا على قعودهم وتخلّفهم عن

__________________

(١) طه : ١٢٥.

٤٥٣

خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

____________________________________

الجهاد في غزوة تبوك لما بلغهم ما نزل في المتخلفين ، فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد ، فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلّى ركعتين ـ وكانت هذه عادته إذا قدم من السفر ـ فلما رآهم موثقين سأل عنهم ، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتى يحلّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أقسم أني لا أحلهم حتى أؤمر فيهم. فنزلت الآية ، فأطلقهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا بعد ما فكّهم : هذه أموالنا ، وإنما تخلفنا عنك بسببها ، فخذها وتصدق بها وطهّرنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» ، فنزلت ((خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ..) (١).

(خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ) عملا (آخَرَ سَيِّئاً) فإنهم كانوا يقيمون الصلاة ويأتمرون بأوامر الرسول لكنهم تركوا الجهاد في تبوك (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) وإنما قال : «عسى» ليكونوا بين الخوف والرجاء (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) بالناس يتفضّل عليهم بالرحمة.

[١٠٣] (خُذْ) يا رسول الله (مِنْ أَمْوالِهِمْ) أي أموال هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا (صَدَقَةً) هي بعض أموالهم ، ولذا جاء ب «من». والظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي من الزكاة. وقد قال المفسرون : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ ثلث أموال التائبين وترك لهم الثلثين (٢) (تُطَهِّرُهُمْ) تلك الصدقة عن دنس الذنوب

__________________

(١) التوبة : ١٠٣.

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠١.

٤٥٤

وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣)

____________________________________

والخطايا ، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة ، وتطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي ، فإن للذنوب نجاسة ، والصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة ، لأنها موجبة للغفران وحتّ الآثام (وَتُزَكِّيهِمْ بِها) «التزكية» هي التنمية أي توجب لهم النمو ، وذلك أعم من النمو الخلقي والخلقي وسائر أقسام النمو ، وسميت الزكاة زكاة ، لأنها توجب نمو صاحبها ، أو المال المزكّى ، و «تزكيهم» خطاب ، بخلاف «تطهّرهم» المحتمل للأمرين.

(وَصَلِ) يا رسول الله (عَلَيْهِمْ) على معطي الصدقة ، والمراد ب «الصلاة عليهم» الدعاء لهم ، فإن الصلاة عبارة عن الدعاء ، فإن صاحب الصدقة إذا دعا له الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جبرا لما يحسّ به من ألم فقد المال (إِنَّ صَلاتَكَ) عليهم (سَكَنٌ لَهُمْ) أي موجبة لسكون خاطرهم وهدوء بالهم وارتياح نفوسهم.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أتاه آت بالصدقة قال : «اللهم صلّ عليه» (١).

والظاهر تحقق الصلاة بكل لفظ أفاد الدعاء ، نحو : «بارك الله لك أو آجرك الله» أو ما أشبه ، كما أن الظاهر من السياق والتعليل أن الحكم عام لا يخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك لأن لنا برسول الله أسوة حسنة ، فما دل على الخصوصية استثني ، وما لم يدل بقي على عموم الأسوة (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالك وأقوالهم (عَلِيمٌ) بصدقاتهم وما نووه

__________________

(١) راجع مجمع البيان : ج ٥ ص ١١٨.

٤٥٥

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ

____________________________________

من النيات الصالحة.

[١٠٤] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أي : ألم يعلم هؤلاء المتصدقين ، أو الناس جميعا؟! وهذا تحريض للناس على التوبة والتصدق ، لا لأولئك التائبين الذين أرادوا أن يتصدقوا. فلا يقال : أنه لا مجال لمثل هذا الاستفهام إلا للمنكر ، فلا يحسن أن يقول الإنسان لمريد الحج : «ألا تعلم أن للحج ثوابا عظيما» ، بل إنما يحسن قول ذلك لمن يريد الحج. وإنما جاء الاستفهام في سياق قصة التائبين لإعطاء الصدقة للمناسبة (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فلا صغار في التوبة حتى يأنف الإنسان من الإنابة ، إن طرف القبول هو الله العظيم الشأن ، وهذا أمر طبيعي ، فإن الإنسان لا يكره الاعتراف لدى العظيم ، وإنما يكرهه لدى الحقير (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) أي يقبلها ، فليس الآخذ هو الفقير حتى لا يهتم الإنسان بشأنه ، وإنما هو سبحانه ، وذلك يوجب الإعطاء بكثرة واحترام ، لا بقلة وإهانة ، كما هو الطبع البشري في إرادة إعطاء الشيء لمن دونه.

وفي الخبر : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل» (١) ، وهذا على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس ، مبالغة في الأمر.

(وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) كثير قبول التوبة ، إما باعتبار الأفراد ، وإما

__________________

(١) فقه القرآن : ج ١ ص ٢٢٢ ..

٤٥٦

الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ

____________________________________

باعتبار كل فرد حيث أن الإنسان لو عصى ألف مرة وفي كل مرة تاب قبلت توبته ، إذا كانت توبة نصوحا (الرَّحِيمُ) الذي يرحم العباد ويتفضّل عليهم.

[١٠٥] وبمناسبة أن الله يقبل التوبة ويأخذ الصدقة ، مما يدل على أنه سبحانه مطّلع على الأعمال ، يأتي السياق لبيان أن كل الأعمال كذلك ، وليس ذاك خاصا بالتوبة والصدقة ، وإن الاطّلاع ليس خاصا بالله سبحانه بل الرسول والمؤمنون أيضا مشاركون له سبحانه في الاطّلاع على أعمال الناس ، وإن كان هناك فرق بين الاطّلاعين ، فالله سبحانه يعلم كل شيء من كل أحد ، والرسول والمؤمنون مطّلعون بقدر ما يريد الله سبحانه.

(وَقُلِ) يا رسول الله للناس عامة : (اعْمَلُوا) ما شئتم من خير وشر ، إن كان المراد صبّ الكلام على أن عملكم سوف يرى ، لأنه حينئذ تجرد الصيغة عن معنى الأمر ، أو المراد : اعملوا الأعمال الحسنة (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) يعلمها سبحانه ، ولعلّ دخول «السين» لأن الرؤية إنما تكون بعد وجود العمل (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) وذلك واضح لا يحتاج إلى التأويل ، أرأيت أن الناس يعلمون الخير من الشر كما يعرفون مقادير الأشخاص في أعمالهم ، منتهى الأمر أن الله سبحانه يعلم الخفايا بالتفصيل ، والمؤمنون يعلمون بالإجمال.

وربما يقال : إن دخول «السين» لتوحيد السياق بين الله والرسول والمؤمنين ، حيث أنهم لا يرون العمل إلا بعد زمان من وقوعه ، كما

٤٥٧

وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ

____________________________________

ربما يقال : إن الإتيان بهذه الآية عقب الآية السابقة لإفادة أن التوبة المجردة لا تنفع وإنما اللازم تصديقها بالعمل.

وما ورد في بعض الأخبار : أن المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم‌السلام (١) فهو من باب المصداق الظاهر ، وإلا فالعموم على حاله ، كسائر الآيات العامة التي لها مصاديق ظاهرة.

(وَسَتُرَدُّونَ) أي ترجعون بعد موتكم (إِلى عالِمِ الْغَيْبِ) ما غاب عن الحواس (وَالشَّهادَةِ) ما يشهده الإنسان أي يحضره ، وهو كل ما يدرك بالحواس الظاهرة ، أي سترجعون إلى عالم السر والعلانية (فَيُنَبِّئُكُمْ) أي يخبركم للجزاء (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير أو شر.

[١٠٦] كان المتخلفون عن غزوة تبوك بين منافق معتذر ، ومنافق غير معتذر ، ومخطئ معترف (وَ) هناك (آخَرُونَ) من المتخلفين (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) أي مؤخّرون موقوفون ، من «أرجأ» بمعنى «أخّر» فلم يكن هذا القسم منافقا ، ولا مخطئا ، بل إنما تخلّف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير ، ولم يكن قبل نزول الآية قد بتّ في أمرهم بشيء بل كان موكولا إليه سبحانه ، إما يعذبهم بتوانيهم ، وإما يتوب عليهم بسبب أنهم لم ينافقوا ولم تدنس قلوبهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) لعصيانهم وتخلفهم (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) لنقاء قلوبهم (وَاللهُ عَلِيمٌ)

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ٣٤٧.

٤٥٨

حَكِيمٌ (١٠٦)

____________________________________

بنياتهم وسبب توانيهم عن غزوة تبوك (حَكِيمٌ) فيما يفعله بهم من العذاب والتوبة.

لكن الله سبحانه تاب عليهم أخيرا ، وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى في آخر السورة (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) (١) وكان من قصتهم ما ذكره المفسرون حيث قالوا : قد كان تخلف عن رسول الله قوم منافقون وقوم مؤمنون مستبصرون لم يعثر عليهم في نفاق وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، فلما تاب الله عليهم قال كعب : ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك وما اجتمعت لي راحلتان إلا في ذلك اليوم فكنت أقول : أخرج غدا ، أخرج بعد غد ، فإني قوي ، وتوانيت وبقيت بعد خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما أدخل السوق ولا أقضي حاجة ، فلقيت هلال ومرارة وقد كانا تخلّفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق ولم نقض حاجة ، فما زلنا نقول : نخرج غدا وبعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فندمنا ، فلما وافى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلناه نهنّئه بالسلامة فسلمنا عليه ، فلم يرد علينا السلام وأعرض عنا ، وسلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام.

فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا ، وكنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد ولا يكلمنا ، فجاءت نساؤنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلن : قد بلغنا سخطك على أزواجنا أفنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن ، فلما رأى كعب وصاحباه ما حل بهم

__________________

(١) المستدرك : ج ٧ ص ١٢.

٤٥٩

____________________________________

قالوا : ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إخواننا ولا أهلنا فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى «ذناب» جبل بالمدينة فكانوا يصومون وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم ، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة يبكون بالليل والنهار ، ويدعون الله أن يغفر لهم ، فلما طال عليهم الأمر قال كعب : يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله وسخط علينا إخواننا وسخط علينا أهلونا ، فلا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه.

فبقوا على هذا ثلاثة أيام كلّ منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه ، فلما كان في الليلة الثالثة ورسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله ، وهو قوله سبحانه : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ ..) فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يبشرهم ، وجاءوا مسلّمين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد بان السرور في وجهه الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتصدق كعب بثلث ماله شكرا لله تعالى (١).

وفي بعض الأحاديث : انطباق الآية على مثل «الوحشي» قاتل حمزة عليه‌السلام حيث أسلم بعد الجريمة ، فإنه مرجأ لأمر الله إما يعذبه وإما يتوب عليه (٢).

[١٠٧] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة أخرى من المنافقين الذين ارتبطت

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠٢.

(٢) راجع الكافي : ج ٢ ص ٣٨١.

٤٦٠