تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

آية الله السيد محمد الشيرازي

تقريب القرآن إلى الأذهان - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠١

فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى

____________________________________

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي ألقى في قلبه ما سكن به ، وعلم أنه سبحانه ينصره عليهم (وَأَيَّدَهُ) أي قوّى الرسول ونصره (بِجُنُودٍ) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) أي ما رأت الكفار إياها ، بمعنى عدم كونهم أجساما حتى يروا.

ورد أنه كان رجل من خزاعة يقال له «أبو كرز» اقتفى مع المشركين أثر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى وقف بهم على الغار فقال لهم : هذه قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي والله أخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي والله أخت القدم التي في المقام ، وقال : هذه قدم أبي قحافة أو ابنه ما جاوزوا هذا المكان ، إما أن يكونوا قد صعدوا السماء أو دخلوا في الأرض. وجاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار وهو يقول لهم : اطلبوه في هذه الشعاب ، وكانت العنكبوت نسجت على باب الغار ، وأرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب فقال سراقة وكان مع الكفار : لو دخل الغار أحد لانكسر حتما البيض وتفسخ بيت العنكبوت. ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : «اللهم أعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله وجعلوا يضربون يمينا وشمالا حول الغار ويئسوا أخيرا فرجعوا (١).

(وَجَعَلَ) الله تعالى (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وكيدهم للرسول وشوكتهم (السُّفْلى) إذ تحطمت وفشلت فكانت في الدرجة السفلى

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب : ج ١ ١٢٧.

٤٠١

وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)

____________________________________

(وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) المرتفعة المنصورة ، وهذا إخبار بأن كلمته وقوله دائما يكونان كذلك. ومن الواضح في التاريخ أن كلمة الله عالية وأنصارها الأعلون ، وإن كانت الغلبة لكلمة الكافرين ، حتى إن الناس لو كانت سيوفهم مع السلطات الباطلة كانت قلوبهم مع أهل الحق ورأوا أن الحق عندهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) غالب (حَكِيمٌ) في تدبيره.

[٤١] (انْفِرُوا) من «نفر» إذا خرج مسرعا ، أي اخرجوا إلى الجهاد (خِفافاً) جمع «خفيف» (وَثِقالاً) جمع «ثقيل» ، والخفة تطلق على قليل العيال ، قليل السن والنشيط ، وقليل المشاغل ، كما أن الثقل عكس ذلك كله ، والمراد : جاهدوا واخرجوا لأجل الحرب كيفما كنتم في خفة أو ثقل (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) والمجاهدة بالمال : بذله في سبيل إعلاء كلمة الإسلام ، والمجاهدة بالنفس : الذهاب للحرب (فِي سَبِيلِ اللهِ) ويسمى جهادا ، لأنه من الجهد والتعب (ذلِكُمْ) ذلك إشارة ، و «كم» للخطاب ، أي أن الجهاد ـ أيها المسلمون ـ (خَيْرٌ لَكُمْ) من تركه ، فإنه فيه عزّ الدنيا وسعادة الآخرة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ليس المعنى إن لم تعلموا لم يكن خيرا لكم ، بل المعنى إن كنتم تعلمون ، لعلمتم أنه خير لكم.

[٤٢] كان المنافقون يرجفون بالمسلمين قائلين : «إن السفر بعيد» فإنها كانت مسافة بعيدة بين المدينة وبين «تبوك» فلا تذهبوا إلى الجهاد. فرد

٤٠٢

لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)

____________________________________

عليهم سبحانه (لَوْ كانَ) ما دعوتهم إليه يا رسول الله (عَرَضاً قَرِيباً) أي غنيمة سهلة التناول ، فإن أموال الدنيا تسمى أعراضا باعتبار كونها زائلة فانية (وَسَفَراً قاصِداً) أي سفرا متوسطا في البعد والقرب ، بأن سهل عليهم الذهاب والخروج (لَاتَّبَعُوكَ) لأنه يسهل عليهم ذلك (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) أي المسافة ، فإن الشقة بمعنى القطعة من الأرض التي يشق على إنسان السير فيها لبعدها ، ولذا يأتون بالأعذار الواهية فرارا (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) فإنهم كانوا يحلفون بأنهم لا يقدرون على الخروج لاشتغالهم وأن لهم أعذارا مشروعة (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) هؤلاء المعتذرون باستحقاقهم العقاب في الآخرة ، والنكال في الدنيا ، فإن ترك الجهاد يوجب الذلة والصغار للفرد والجماعة (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في ادعائهم أنهم لا يستطيعون الخروج.

[٤٣] استأذن جماعة من المنافقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تركهم الخروج إلى تبوك ، فأذن لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول وكلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقا فاستحقوا العقاب.

__________________

(١) النجم : ٤ و ٥.

٤٠٣

عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣)

____________________________________

ومن البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد وهو يريد إفهام غيره ، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر ، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال ، تقول له ـ معاتبا ـ وأنت تريد إفهام الآخذ : لم أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك ولكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة ، وهذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل ، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهرا غضبك عليه ، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ ، كما تقدم في قصة موسى وهارون عليهما‌السلام.

وهذا هو المعنى من قول الإمام الرضا عليه‌السلام في جواب أسئلة المأمون عن عصمة الأنبياء. وأنه كيف قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عفا الله عنك ..» ، هذا مما نزل ب «إياك أعني واسمعي يا جارة» (١).

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) يا رسول الله. إنه لا يريد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعل خلاف الأولى ، حتى يستحق العفو أو العتاب ، بل يريد إفهام المتخلفين أنهم فعلوا فعلا قبيحا حتى إن الإذن لهم في القعود يستحق العفو (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في البقاء وعدم الخروج إلى الجهاد (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في أنهم لا يستطيعون الخروج (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) أي حتى تعلم وتميّز بين الصادق والكاذب ، وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يميّز ويعلم ، كيف وأحدنا يعلم الصادق والكاذب من أصحابه وأصدقائه؟ لكن هذا الكلام لتنبيه المتخلفين الكاذبين ، وأنه عرف كذبهم وسوء قصدهم.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٨٣.

٤٠٤

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ

____________________________________

[٤٤] (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صادقا ، كيف والمؤمن يعلم أنه سواء غلب أو غلب كان له الأجر العظيم والعاقبة المحمودة عند الله سبحانه ، ولذا لا يطلب الإذن في التخلّف (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) في أن يجاهدوا ، والمعنى لا يستأذنوا للتخلّف في أمر الجهاد ، لا أن المعنى لا يستأذنون للجهاد (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) الذين يتقون عصيان الله ، ويعملون حسب أوامره.

[٤٥] (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) ويطلب إذنك في القعود عن الجهاد (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صادقا عن عقيدة ورسوخ (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) أي شكّت ، من «الريب» بمعنى التردّد ، أي شكّوا في صدق الأمر وحقيقته (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ) وشكّهم حول المبدأ والمعاد (يَتَرَدَّدُونَ) فتارة ترجح عندهم العقيدة ، وأخرى يرجح عندهم الإنكار. ولهذا فإن هؤلاء لمّا لم يستيقنوا يستأذنوك للتخلّص من الصعوبة.

[٤٦] ثم بيّن سبحانه علامة نفاقهم وأنهم امتازوا عن المؤمنين بأن لم يستعدوا للجهاد فقد نووا من أول الأمر عدم الخروج (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) إلى الجهاد ، كما أراد سائر المؤمنين (لَأَعَدُّوا لَهُ) للجهاد

٤٠٥

عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ

____________________________________

(عُدَّةً) أهبة ، فإن العدة والأهبة والآلة نظائر (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) الانبعاث هو الانطلاق بسرعة في الأمر (فَثَبَّطَهُمْ) أي أوقفهم عن الجهاد بالتزهيد فيه فرغبوا عنه (وَقِيلَ) القائل هو الله سبحانه ـ بلسان الحال ـ أو إخوانهم المنافقون : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) النساء والصبيان والعجزة الذين بقوا في المدينة ولم يخرجوا للجهاد.

إن أمر الجهاد كان متوجها إليهم مع صفاء النية وخلوص القصد ، أما أنهم نافقوا وكانوا لو خرجوا ألقوا التشويش والاضطراب ـ كما هو شأن المنافق في كل حركة ـ بالنميمة بين المسلمين ، وكان الضرر في خروجهم أكثر ، فالأحرى أن لا يخرجوا ، فالله سبحانه كره ذهابهم للغزو لهذه الجهة فلم يوفّقهم للجهاد. وقد مرّ مكررا أنه تصحّ نسبة الفعل إليه سبحانه باعتبار أنه لم يزل العائق تكوينا ، كما يقال : «إن الملك عوّق ذهاب الجيش ولم يدعهم يذهبوا» ، فيما إذا لم يزل العائق أمامهم.

[٤٧] ثم بيّن سبحانه سبب كره الله انبعاثهم بقوله : (لَوْ خَرَجُوا) أي خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد (فِيكُمْ) أي في ضمنكم أيها المسلمون (ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) «الخبال» هو الفساد ، أي كان خروجهم معكم سببا للفساد والاضطراب ، فإن المنافق دائم النقد للحركات ، كثير التخذيل مما يوجب فسادا واضطرابا وتشويشا (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) «الإيضاع» الإسراع في السير ، و «الخلال» بمعنى «البين» ، أي أسرعوا

٤٠٦

يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)

____________________________________

في الدخول بينكم بالفساد والنميمة والإفساد (يَبْغُونَكُمُ) أي يطلبون لكم (الْفِتْنَةَ) واختلاف الكلمة والانشقاق ـ كما هو شأن المنافق ـ (وَ) يكونون (فِيكُمْ) أيها المسلمون (سَمَّاعُونَ لَهُمْ) يسمعون أقوال الكفار ـ المفهوم من الكلام ـ فيصبح هؤلاء المنافقون جواسيس وعيونا للكفار ، أو المراد : إن كانوا معكم كان من المؤمنين البسطاء أشخاص يسمعون لأولئك المنافقين ، فعدم مجيئهم كان أنفع لكم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالنفاق وعدم الخروج ، فيجازيهم بما عملوا.

[٤٨] (لَقَدِ ابْتَغَوُا) وطلب هؤلاء المنافقون (الْفِتْنَةَ) والفساد بين المسلمين (مِنْ قَبْلُ) في أحد وفي حنين وعند الثنية عند رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجة الوداع حيث أرادوا قتله ودبروا مؤامرة خبيثة لتشتيت شمل المسلمين (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) «التقليب» تصريف الشيء على غير وجهه ، فقد احتال المنافقون لأن يقلبوا وحدة المسلمين تشتتا ، وصفاءهم كدورة (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) الظفر الذي وعد الله سبحانه (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) دينه والإسلام وحقيقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَ) الحال أن (هُمْ كارِهُونَ) لمجرد الحق وظهور أمر الله ، فإن يثيروا الفتن الآن بالنفاق ، فقد كانوا سابقا كذلك ، فلا يهمّك أمرهم يا رسول الله ، ولا تعيرهم وبالا.

٤٠٧

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩)

____________________________________

[٤٩] (وَمِنْهُمْ) أي من المنافقين المتخلّفين في غزوة تبوك (مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي) يا رسول الله في التخلّف (وَلا تَفْتِنِّي) لا توقعني في الفتنة ، بأن تأمرني فلا ألبّي الطلب ، أو المراد : لا تفتني ببنات الأصفر.

فقد ذكر المفسرون : أن رسول الله لما استنفر الناس إلى حرب الروم في تبوك قال : انفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر ، فقام جد بن قيس أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله ائذن لي ولا تفتني ببنات الأصفر ، فإني أخاف أن أفتتن بهن ، فقال : قد أذنت لك ، فنزلت الآية. ويسمّى الروم بنوا الأصفر ، لأن حبشيا غلب على ناحية الروم وكان له بنات قد أخذن بياض الروم وسواد الحبشة فكنّ صفرا لعسا ـ كما عن الفراء ـ.

ثم إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جزى هذا الرجل بصنيعه فقد قال لبني سلمة : من سيدكم؟ قالوا : جد بن قيس إلا أنه بخيل جبان. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأي داء أدوى من البخل ، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور (١).

(أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) إنهم أظهروا بتخلفهم الفرار عن الفتنة ، فقد سقطوا في الفتنة بتخلفهم عنك وعصيانهم لك ، فإن الإذن عن كره كعدمه (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) تحيط بهم فلا مخلّص لهم منها. ولعل هذا التعبير بمناسبة أنهم أظهروا الفرار من الفتنة ، لكن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٩٣.

٤٠٨

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١)

____________________________________

المنافق لا يفرّ من فتنة إلّا ويسقط في فتنة أخرى ، لأنه من أهل النار وهي محيطة به ، فكيف يفر منها.

[٥٠] وكيف يكون هؤلاء المنافقون مسلمين ، والحال أن صفاتهم صفات الكافرين (إِنْ تُصِبْكَ) يا رسول الله (حَسَنَةٌ) تصل إليك غنيمة أو خير (تَسُؤْهُمْ) أي يحزن المنافقون من أجلها (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) شدة وآفة في النفس أو المال أو غيرهما (يَقُولُوا) المنافقون : (قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أخذنا حذرنا من قبل وقوع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في هذه البلية (وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة. وقد كان من عادة المؤمنين عكس ذلك ، فإنهم إذا رأوا الرسول في شدة اجتمعوا حوله ليواسوه بأنفسهم.

[٥١] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء : (لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) فلم يكن ما أصابنا شر لنا ، كما زعمتم ، بل إن الله سبحانه كتب هذه البلايا لنا لأن ترفع درجاتنا في الآخرة ، وينصرنا على أعدائنا في النهاية ، ونحن مسلمون لأمر الله منقادون لإرادته (هُوَ مَوْلانا) أولى بنا من أنفسنا ، فما كتبه لنا كان لخيرنا وصلاحنا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بأن يكلوا أمرهم إليه ، ويرضوا بقضائه ، فليس ذلك إلا للخير والسعادة.

٤٠٩

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ

____________________________________

[٥٢] (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (هَلْ تَرَبَّصُونَ) «التربص» الانتظار ، أي : هل تنتظرون (بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إما النصر والظفر وخير الدنيا ، وإما الشهادة في سبيل الله وفيها خير الآخرة ، فلا يعود تربّصكم بشر لنا أو خير لكم (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) ننتظر أن تقعوا في أحد الشرين (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بأن تهلكوا فتعذّبوا في الآخرة (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن ننتصر عليكم فتصبحوا أذلاء في الدنيا خاسرين مقهورين (فَتَرَبَّصُوا) أي انتظروا. وهو تهديد في صورة الأمر كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١) ، (إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) أي منتظرون ، حتى نرى لمن العاقبة الحسنة ، ولمن العاقبة السيئة.

[٥٣] قد كان بعض المنافقين عرضوا أموالهم لمساعدة المجاهدين في «تبوك» لينجوا بذلك عن الذهاب بأنفسهم ولا يقعوا موقع لوم المسلمين بأنهم نافقوا ، ولم يشتركوا في الجهاد مع المجاهدين ، لكن الله سبحانه أخبر عن نيتهم وأن إنفاقهم لا ينفع شيئا (قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : (أَنْفِقُوا) أموالكم للجهاد (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) طائعين أو مكرهين (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أي إن أنفقتم طائعين أو مكرهين

__________________

(١) فصلت : ٤١.

٤١٠

إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)

____________________________________

لا يتقبل الله منكم الإنفاق. فاللفظ أمر والمعنى الشرط.

ثم بيّن السبب بقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين عن طاعة الله سبحانه ، والفاسق لا يتقبل منه الإنفاق ، لأن قبول الأعمال مشروط بالتقوى وهو منفي عنهم ، قال سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١).

[٥٤] (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) : أيّ شيء منع قبول إنفاقهم والإثابة عليه؟ إنه كفرهم (إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ) فإن الكفر الباطني مانع عن قبول الأعمال ، وإن أظهر الإسلام (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى) متثاقلين ، فإن المؤمن حيث امتلأ إيمانا يقدم على الطاعات بكل شوق ورغبة ، بخلاف المنافق الذي لم يذعن قلبه لشيء ، فإنه لا يأتي الصلاة وسائر الطاعات إلّا متثاقلا كسلانا فإنه يريد بذلك إراءة الناس (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) للإنفاق ، لأنهم لا يدفعون المال عن عقيدة وإخلاص ، وإنما يدفعون للتستر بالإسلام والتحفّظ على أنفسهم من ألسنة المؤمنين ، لئلّا يظهر ما ينوون من الكفر والنفاق.

__________________

(١) المائدة : ٢٨.

٤١١

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)

____________________________________

[٥٥] (فَلا تُعْجِبْكَ) يا رسول الله (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين وأولادهم ، ولا تنظر إليهم بعين الإعجاب ، فإن الأموال والأولاد قد تكون نعمة وخيرا حينما يشكر الإنسان وجودها ويصبر ويحتسب لفقدها ، أما إذا لم تكن كذلك ، فهي بالعكس تصبح وبالا على الإنسان (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) بهذه الأموال والأولاد (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) فإن النفس غير المطمئنة تكون دائمة القلق على مصير الأموال والأولاد لأنها دائمة الخوف عليهما ، أما المؤمن فإن بقيت أمواله وأولاده شكر وإن ذهبت صبر ، وعلم أن ذلك موجب للأجر والثواب ، فلا يكون خائفا قلقا.

قال أحد الكافرين : إن أعجب ما رأيت من شيخ مسلم أنه كان صاحب أغنام تعدّ بالألوف وكان جميع كيانه بها وإذا به يفاجأ ذات يوم ـ وأنا عنده ـ بأن يخبره آت قائلا : إن الأغنام ذهب بها السيل ، قال : وكنت أترقب انقلابا في حال الشيخ الذي ذهب كل كيانه بذهاب أغنامه ، وإذا به يقول : «إنا لله وإنا إليه راجعون ، وماذا نصنع؟ نتوكل على الله ، ونصبر ، فهو خير للصابرين» وكأن أمرا لم يحدث.

(وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ) تهلك وتذهب بالموت بصعوبة ، فهم قد عاشوا في الدنيا بصعوبة وقلق ، وها هم يموتون ، وحينما تريد أرواحهم أن تخرج ، تخرج بصعوبة ، فيموتون بكل صعوبة (وَهُمْ كافِرُونَ) فقد عاشوا أشقياء ، وماتوا أشقياء ويحشرون أشقياء إذ ماتوا كافرين. ثم إن جملة «تزهق» إما استئنافية ، وإما عطف على «ليعذبهم». وإرادة الله

٤١٢

وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)

____________________________________

ذلك ، إنما كانت بسبب أنهم أعرضوا عن الحق فتركهم الله سبحانه في كفرهم. وهو معنى إرادته أن يموتوا كافرين.

[٥٦] وقد كان هؤلاء المنافقين يريدون اللعب على حبلين ، فحيث أن السلطة بيد المسلمين يريدون إرضاءهم بإظهار أنهم منهم ، وحيث أن قلوبهم كانت منكرة كانوا مع الكافرين باطنا وعملا ، لكن الله سبحانه أبدى نواياهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) يقسمون بالله إنهم مثلكم في الإيمان والإخلاص (وَما هُمْ مِنْكُمْ) ليسوا مثلكم (وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) من «فرق» بمعنى خاف ، أي يخافون ويجتنبون القتل والقتال ، وكيف يكون من يجبن مثل غيره من المسلمين الأقوياء القلوب؟!

[٥٧] (لَوْ يَجِدُونَ) أي لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء (مَلْجَأً) حصنا ، ويسمّى الحصن بذلك ، لأن الإنسان يلجأ عند الخوف إليه (أَوْ مَغاراتٍ) جمع «مغارة» ، من «غار يغور» إذا دخل ، ومنه «الغار» بمعنى النقب في الجبل (أَوْ مُدَّخَلاً) من «ادّخل» أصله أو «تدّخل» من باب الافتعال قلبت تاؤه دالا ، وجيء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن ، والمراد به النفق وشبهه ، أي : لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء محل فرار سواء كان حصنا أو غارا أو ثقبا في الأرض (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ) أي فروا منكم ومن القتال إلى ذلك المخبأ (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) من

٤١٣

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ

____________________________________

«الجموح» بمعنى المضي مسرعين بحيث لا يردهم شيء.

[٥٨] (وَمِنْهُمْ) أي من المنافقين (مَنْ يَلْمِزُكَ) يقال : «لمز الرجل» إذا عابه ، قال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) ، (فِي الصَّدَقاتِ) أي في تقسيم الصدقات وهي الغنائم وما أشبهها ، مما فرضه الله سبحانه لإقامة المصالح ، أي يطعنون عليك في تقسيمك (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا) وقالوا إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل وأعطى الحق في موضعه (وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) يغضبون ويعيبون ، فليسوا معترفين بك وأن أعمالك إنما تصدر عن الوحي ، بل هم طلاب دنيا.

ورد أن هذه الآية نزلت لما جاءت الصدقات وجاء الأغنياء وظنوا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسمها بينهم ، فلما وضعها في الفقراء تغامزوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمزوه وقالوا : نحن الذين نقوم في الحرب وننفر معه ونقوّي أمره ، ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه ولا يغنون عنه شيئا.

إنهم قالوا هذا القول وطعنوا في الرسول ، لا حبا للعدالة ، بل غضبا لأنهم لم ينالوا منها.

[٥٩] (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) أي ما أعطاهم الرسول بحكم

__________________

(١) الهمزة : ٢.

٤١٤

وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ

____________________________________

الله سبحانه (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ) كافينا (سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فإن لم يقسم لنا من هذه الصدقة قسم لنا من غيرها (وَرَسُولُهُ) ذكر الله لأنه الآمر ، وذكر الرسول لأنه المقسم والمعطي (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) نرغب إليه ونطلب منه سبحانه أن يوسع علينا. أي «لكان خيرا لهم» هذا هو جواب «لو» فإنه حذف للدلالة على العموم والتوسعة ، فإن المذكور إنما هو لفظ واحد بخلاف المحذوف ، ولذا قالوا : إن حذف المتعلق يفيد العموم.

[٦٠] ثم بيّن سبحانه مصرف الصدقات ، وأنها يجب أن تصرف في المصارف المذكورة لا أن تعطى للأغنياء والطامعين (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) المراد بالصدقات الزكاة ـ كما أجمع المفسرون عليه ـ وهي تؤخذ بنسبة العشر ونصف العشر وربع العشر ، من أموال تسعة ، بعنوان الوجوب ، ومن غيرها بعنوان الاستحباب ـ كما فصّل في الفقه ـ والأموال التسعة هي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب. بشرائط مخصوصة ، وتعطى لثمانية أصناف ، منهم :

الفقراء الذين لا يجدون قوت سنة لأنفسهم ولعيالهم حسب شأنهم ، لا قوة ولا فعلا.

(وَالْمَساكِينِ) وهم أسوأ حالا من الفقير ، كأن الفقر أسكنه

٤١٥

وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ

____________________________________

الأرض فلم يقدر على التحرك ، وحيث أنهم في المجتمع صنفان متمايزان ، إذ هناك صنف تعسّرت أموره وإن كان ظاهره لا بأس به ، وصنف داخل في العجزة كالعميان والزمنى ومن إليهم ، ذكرهم سبحانه صنفين ، وإن كان الميزان في الصنفين واحدا ، وهو عدم تمكنهم من مؤونة سنة فعلا وقوة.

ولعل وجه تقديم الفقراء : أن إعطاءهم من الزكاة أبعد في النظر ولذا جيء بهم أولا ، تداركا لهذا البعد ، كما أنك إذا أردت أن تعدّ من أتاك تذكر الأبعد في نظر السامعين ، كما أن ذكر المساكين مع أنهم داخلون في الفقراء لعلة ، وذلك لدفع احتمال أن مثل هؤلاء لا بد وأن يعيشوا على إحسان المحسنين من الذين يتصدقون بالصدقات المستحبة لدفع البلاء ، كما جرت العادة ، لا أن يكون لهم رزق في خزينة الدولة.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) أي الذين يعملون لأجل جمع الزكوات ، وجبايتها ، ولو كانوا أغنياء فإنهم يأخذون حق العمل ، ولفظة «على» لأجل أن العامل يقتطع من أموال الناس ، فهو شبيه بالضرر ، فإنه يعمل لأجل الفقير ، على الغني.

(وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) أي الكفار الذين يراد تأليف قلوبهم بالمال ليميلوا نحو الإسلام أو نحو المسلمين ، فإن الأموال تقرّب الناس إلى الناس ، وتقرّب الناس إلى الأديان والمبادئ ، وكذلك المسلمون الذين أسلموا ولكن لم يدخل الإسلام في قلوبهم فيعطوا من الزكاة لتقوى عقيدتهم ، ويستحكم إسلامهم.

٤١٦

وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)

____________________________________

(وَفِي الرِّقابِ) جمع «رقبة» والمراد بها : الإنسان ، فإن الرقبة تستعمل في الإنسان بعلاقة الجزء والكل ، كما أن «العين» تستعمل في الجاسوس بهذه العلاقة ، والمراد بهم : العبيد الذين هم تحت الشدة ، يشترون من الزكاة ويعتقون ، وكذلك العبيد الذين كاتبوا مواليهم ولم يقدروا على دفع تمام مال الكتابة.

(وَالْغارِمِينَ) جمع غارم ، من «غرم» بمعنى استدان ، والمراد بهم : الذين اقترضوا ثم أنفقوا المال في غير معصية ، ومن غير سرف ، فإنهم يعطون من الزكاة ليؤدّوا ديونهم ، أو تدفع ديونهم منها ولو بعد موتهم.

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) وهي جميع مصالح المسلمين التي من أظهرها : الجهاد لإعلاء كلمة الله.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع به في سفره ، يعطى من الزكاة ليرجع إلى محله ، وإن كان في بلده غنيا. (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي افترض الله سبحانه تقسيم الزكاة بهذه الصورة فريضة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بحاجة خلقه (حَكِيمٌ) فيما فرض عليهم ، وعلى من فرض. والكلام حول الزكاة طويل ، راجع «عبادات الإسلام» (١) حتى تعرف بعض أحكامها.

[٦١] كان الكلام حول المنافقين وعلامات النفاق وبعض ما صدر منهم مما

__________________

(١) للمؤلف.

٤١٧

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ

____________________________________

يدل على انحرافهم ونفاقهم ، فمنهم من يلمز النبي في الصدقات ، ومنهم من يؤذي النبي ، ومنهم من يخشى أن تنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة ، تفضحه وتبين نفاقه (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) إيذاء بالقول ، فقد كان عبد الله بن نفيل منافقا ، وكان يقعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسمع كلامه ثم ينقله إلى المنافقين وينمّ عليه. فنزل جبرائيل عليه‌السلام وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبر المنافق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك فحلف أنه لم يفعل فقبل منه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ حسب الظاهر ـ ونهاه أن يقعد مع أصحابه من بعد ، فرجع إلى أصحابه وقال : إن محمدا «أذن» أخبره الله أني أنمّ عليه وأنقل أخباره ، فقبل ، وأخبرته : أني لم أفعل ، فقبل ، فأنزل الله هذه الآية : (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي يستمع إلى ما يقال له ويقبل ، ولا فطنة له بأن يميّز بين الصحيح من الكلام والسقيم.

(قُلْ) يا رسول الله لهؤلاء المنافقين : إني (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن كما قالوا ، ولكن ليس كما قصدوا ، فإن «الأذن» قد يكون في سماع كلام الشر في أحد ثم يرتّب الأثر عليه ، وقد يكون خيرا ، يسمع الكلام ولا يكذّبه ، ولكنه لا يرتّب ما على المجرم من العقاب ، كيف يمكن أن يعاب عليه فعله هذا؟! لكن المنافق هو الذي يرى الإحسان ـ حتى بالنسبة إلى المنافق ـ إساءة.

(يُؤْمِنُ بِاللهِ) إيمانا من القلب ، ويعلم أن الله سبحانه صادق (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لنفع المؤمنين ، وفرق بين «الإيمان به» إذ معناه تصديقه ، و «الإيمان له» ، أي يرتب الأثر الذي هو نافع للمؤمن ، سواء

٤١٨

وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١) يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ

____________________________________

اعتقد بذلك أم لم يعتقد. فقد اعتقد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحة كلام جبرئيل المنزل من قبله سبحانه ، كما رتّب أثر الصحة لنفع ذلك المؤمن ـ المنافق ـ حيث لم يعاقبه. ولا يخفى أن «الإيمان» له إطلاقان : إطلاق على كل مؤمن مقابل الكافر ، وهو من أظهر الإسلام ، وإن لم يدخل في قلبه ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) (١) ، وإطلاق على المعتقد في مقابل المنافق ، كما قال سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٢) ، والمراد هنا : الإطلاق الأول.

(وَ) هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ولو إيمانا ظاهريا ، حيث أنه هداهم للأصلح بحالهم في الدنيا ، أما المؤمن الحقيقي فإنه سعد بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دنيا وآخرة (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) بالقول أو العمل ، لا يظنون أنهم فاتوه حيث لم يعاقبهم وقبل عذرهم ، فلم يرتّب على أذيتهم شيء ، بل (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) مؤلم موجع في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلأن إيذاء الرسول له أثر وضعي يوجب الخسران والخزي ، وأما في الآخرة فله عذاب أليم في النار.

[٦٢] (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي يحلف هؤلاء المنافقون (لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) حيث أنكم تقبلون عذرهم إذا أقسموا بالله بأنهم لم يقولوا ما قالوا ، ولم يفعلوا ما فعلوا (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أي يرضوا كل واحد

__________________

(١) النساء : ١٣٧.

(٢) الحجرات : ١٥.

٤١٩

إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ

____________________________________

منهما ، بالإيمان الصحيح وعدم الإيذاء واقعا ـ مما يريدون ستره بالحلف ـ أما الترضية الظاهرية للرسول ، فإنها لا تنفعهم في الباطن والواقع (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) واقعا ، والمعنى : إن كانوا مؤمنين واقعا لعلموا أن مرضاة الله والرسول أولى من الترضية الظاهرية.

[٦٣] (أَلَمْ يَعْلَمُوا) أليس يعرف هؤلاء المنافقون (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ) «المحادّة» مجاوزة الحد بالمشاقة والمخالفة (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) فإن علموا ذلك فكيف يحادّون الله والرسول بالنفاق وإيذاء الرسول (ذلِكَ) الخلود في النار (الْخِزْيُ) أي الهوان (الْعَظِيمُ) الذي لا خزي فوقه.

[٦٤] (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) أي يخافون ويخشون (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) من القرآن (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) أي تخبرهم بنفاقهم ، فتكون فضيحة لهم ، وقوله «تنبئهم» لإفادة أنهم كانوا يخفون نفاقهم ، فكأنهم لا يعلمون. وإنما السورة المنزلة تخبرهم حسب تظاهرهم بالنفاق.

ورد أنه لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «تبوك» قال قوم من المنافقين فيما بينهم : أيرى محمدا أن حرب الروم مثل حرب غيرهم ، لا يرجع منهم أحد أبدا. فقال بعضهم : ما أحرى أن يخبر الله محمدا بما كنّا فيه ، وبما في قلوبنا ، وينزل بهذا قرآنا يقرأه الناس ـ قالوا هذا

٤٢٠